مقدمة١

بقلم  محمد حسين هيكل

نشرت هذه القصة للمرة الأولى في سنة ١٩١٤ على أنها بقلم مصري فلاح، نشرتها بعد تردد غير قليل في نشرها وفي وضع اسمي عليها، فلقد بدأت كتابتها بباريس في أبريل سنة ١٩١٠، وفرغت منها في مارس سنة ١٩١١، وكان حظ قسم منها أن كتب بلندن، كما كتب قسم آخر بجنيف أثناء عطلة الجامعة في أشهر الصيف، وكنت فخورًا بها حين كتبتها وبعد إتمامها، معتقدًا أني فتحت بها في الأدب المصري فتحًا جديدًا، وظل ذلك رأيي فيها طوال مدة وجودي طالبًا للحصول على دكتوراه الحقوق بباريس. فلما عدت إلى مصر في منتصف سنة ١٩١٢، ثم لما بدأت أشتغل بالمحاماة في الشهر الأخير من تلك السنة، بدأت أتردد في النشر، وكنت كلما مضت الشهور في عملي الجديد ازددت ترددًا خشية ما قد تجني صفة الكاتب القصصي على اسم المحامي. لكن حبي الفتيّ لهذه الثمرة من ثمرات الشباب انتهى بالتغلب عل ترددي، ودفع بي لأقدم الرواية إلى مطبعة «الجريدة» كي تنشرها، وإن أرجأت نشر اسم الرواية ومؤلفها وإهدائها إلى ما بعد الفراغ من طبعها. واستغرق الطبع أشهرًا غلبت فيها صفة المحامي ما سواها، وجعلتني لذلك أكتفي بوضع كلمتي «مصري فلاح» بديلًا من اسمي.

ولقد دفعني لاختيار هاتين الكلمتين شعور شباب لا يخلو من غرابة، وهو هذا الشعور الذي جعلني أقدم كلمة «مصري» حتى لا تكون صفة للفلاح إذا هي أُخِّرت فصارت «فلاح مصري». ذلك أني إلى ما قبل الحرب كنت أحس — كما يحس غيري من المصريين، من الفلاحين بصفة خاصة — بأن أبناء الذوات وغيرهم ممن يزعمون لأنفسهم حق حكم مصر ينظرون إلينا جماعة المصريين وجماعة الفلاحيين بغير ما يجب من الاحترام. فأردت أن أستظهر على غلاف الرواية التي قدمتها للجمهور يومئذ، والتي قصصت فيها صورًا لمناظر ريف مصر وأخلاق أهله، أن المصري الفلاح يشعر في أعماق نفسه بمكانته، وبما هو أهل له من الاحترام، وأنه لا يأنف أن يجعل المصرية والفِلاحة شعارًا له يتقدم به للجمهور، يتيه به ويطالب الغير بإجلاله واحترامه.

•••

وظهرت طبعة «زينب» الأولى قبل الحرب، وتناولها الكتاب بالنقد زمنًا، ونسبوها إليّ، ورآها بعضهم جديرة بالاعتبار والتقدير، ثم أنست الحرب الناس ما سواها، وأنستني أنا أيضًا قصتي. فلما انتهت الحرب وقامت الحركة الوطنية وظهرت فكرة «المصرية» واضحة محترمة كما صورت لنفسي على غلاف «زينب». ثم لما تركت المحاماة إلى الصحافة، وشغلت بالتحرير وبالكتابة، طلب جماعة من أصدقائي إليّ أن أعيد طبع «زينب» ليطلع عليها ناشئة هذا الجيل الجديد، وليروا فيها قصة مصرية تصف لهم ناحية من حياة بلادهم، وتدلّهم على صور من الجمال فيها لم يسبق الكتّاب إلى وصفها. وترددت في إجابة طلب أصحابي كما ترددت أول مرة في تقديم القصة لطبعتها الأولى، حتى إذا رأيت الأستاذ محمد كريم يطلب إليّ إخراجها على لوحة السينما، ثم رأيت بعد ذلك عنايته بهذا الإخراج، لم يبق للتردد في إعادة الطبع محل. كما لم يبق سبب لمحو اسمي من الرواية بعد أن كتبت الصحف وعرف الناس جميعًا أنها لي.

•••

ولا أريد أن أحكم اليوم على قصة كتبتها في صدر شبابي بأكثر من أني ما أزال أراها تمثل شبابي تمثيلًا صحيحًا، وأن فيها لذلك كثيرًا مما أحب، سواء لأنه دخل عالم الذكرى حتى لأعجز إن حاولت استعادته، أو لأنه يمثل أحلام الشباب وخيالاته مما أبسم اليوم له كما أبسم لما أسمع من خيالات وأحلام لشبان هم اليوم في مثل سني يومئذ، ولأنه بعض عزم الشباب ومضائه، هذا العزم الذي لا يعرف المستحيل، بل يعرف كيف يتغلب على كل مشقة، ويذلل كل عقبة، ويستسهل كل صعب، ويحقق كل خيال، أو لأنه يشدو بموسيقى الصبا الحلوة العذبة المنبعثة من كل موجود في الأرض أو في السماء، والتي تتغنى بأهازيج الحب والوجد كما يعرفها الصبا، خالية من كل ما يفجع، طائرة على أجنحة من الأمل إلى جنات فيحاء كل ما فيها ورد وريحان وحور عين. بل إن لفجائع الشباب لشعرًا له روعته وموسيقاه. هذا وغيره من صور الصبا المرسومة في زينب يمثل شبابي، ولذلك أحن اليوم إليه حنين القلب إلى مثوى محبوب ذهب ولن يعود.

ولعل الحنين وحده هو الذي دفع بي لكتابة هذه القصة. ولولا هذا الحنين ما خط قلمي فيها حرفًا، ولا رأت هي نور الوجود. فلقد كنت في باريس طالب علم — كما ذكرت من قبل — يوم بدأت أكتبها. وكنت ما أفتأ أعيد أمام نفسي ذكرى ما خلفت في مصر مما لا تقع عيني هناك على مثله. فَيعاودني للوطن حنين فيه عذوبة لذّاعة لا تخلو من حنان، ولا تخلو من لوعة. وكنت ولوعًا يومئذ بالأدب الفرنسي أشد ولع، فلم أكن أعرف منه إلا قليلًا يوم غادرت مصر وبضاعتي من الفرنسية لا تتجاوز الكلمات عدًّا. فلما أكببت على دراسة تلك اللغة وآدابها رأيت فيها غير ما رأيت من قبل في الآداب الإنكليزية وفي الآداب العربية. رأيت سلاسة وسهولة وسيلًا، ورأيت مع هذا كله قصدًا ودقة في التعبير والوصف وبساطة في العبارة لا تواتي إلا الذين يحبون ما يرون التعبير عنه أكثر من حبهم ألفاظ عبارتهم. واختلط في نفسي ولعي بهذا الأدب الجديد عندي بحنيني العظيم إلى وطني، وكان من ذلك أن هممت بتصوير ما في النفس من ذكريات لأماكن وحوادث وصور مصرية. وبعد محاولات غير كثيرة انطلقت أكتب «زينب». وبدأتها وأنا أحسب أني سأقف منها عند أقصوصة صغيرة كغيرها من الأقاصيص التي كتبت يومئذ. لكني رأيت نفسي أفسح أمامها مجالها، ورأيت مصر تطوى وتنشر أمام خيالي مناظرها، ورأيتني أشعر بلذّة دونها كل لذة كلما سطرت صورة من صور هذا الوطن الذي أحنّ إليه، ثم راجعتها فرأيتها تترجم عن الحقيقة المرتسمة في نفسي. ولم تمض أسابيع على بدئي الرواية حتى رأيتني اعتزمت إتمامها كما تمت، لأصور فيها حياة الريف المصري أصدق تصوير كنت أستطيعه. والعجيب أن شهوة ملكتني لم أكن أستطيع تفسيرها. ذلك أني كنت أفضل الكتابة في القصة في ساعات الصباح على أثر يقظتي، وكنت إذا بدأت أكتب أسدلت أستار نوافذي فحجبت ضوء النهار، وأضأت مصابيح الكهربا، كأنما أريد أن أنقطع عن حياة باريس لأرى في وحدتي وانقطاعي حياة مصر مرسومة في ذاكرتي وخيالي. أما حين كنت في سويسرا فكثيرًا ما كنت — إذا بهرني منظر من مناظرها الساحرة — أسرع إلى كراسة زينب، فأنسى إلى جانبها منظر الجبل والبحيرة والأشجار تتسرب من خلال أوراقها وغصونها أشعة الشمس أو القمر، لتتلاعب بموج الماء أو لتداعبه، وأستعيد مناظر ريفنا المصري وجمال خضرته الناضرة، فإذا بهري بهذا الريف المرتسم في خيالي لا يقل عن بهري بمناظر سويسرا التي كانت مرتسمة أمام ناظري، وإذا بي أسطر ما يمليه عليّ خيالي قبل أن أكتب شيئًا عما رأيته وكان له في نفسي وفي مشاعري الأثر البالغ.

•••

«زينب» إذن ثمرة حنين للوطن وما فيه، صورها قلم مقيم في باريس مملوء مع حنينه لمصر إعجابًا بباريس وبالأدب الفرنسي. وهي ثمرة الصبا بما للصبا وللشباب من قوة وضعف، وتوثب واندفاع، وشعور سام لا يحدّه مدى، ومخاوف وآمال لا تزال تخالطها آثار السنين الناعمة الأولى، والصبا والحنين للوطن مقدسان.. لذلك رأيت فرضًا علي أن أترك «زينب» في طبعتها الثالثة كما هي يوم كتبت ويوم نشرت طبعتها الأولى ثم الثانية إلا ما كان من خطأ مطبعي أو ما هو في حكمه. ولعلي لو حاولت فيها تحويرًا لما استطعت إلا أن أستطيع استعادة الصبا والحنين. وأنَّى للصبا أن يعود؟! وأنَّى للحنين الأول أن يعاود النفس مثله حنين؟!

١  صدرت «زينب» بهذه المقدمة في طبعتها الثالثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤