الفصل الثاني

١

في العاصمة الكبيرة لمقدم الشتاء..

الشمس ينتظرها النهار لتبدِّد بقية الظلام وتسمح للناس أن ينالوا من الدفء ما يزيل رعشتهم، والطرق يتسابق فيها الذاهبون إلى عملهم، والمدينة تستيقظ كلها بعد الليل الطويل قضاه الكثير من أحيائها تحت السواد، لا يخفّف من وطأته نجم ولا مصباح، ولا يقطع من صمته إلا صوت الخفير يزعق به الوقت بعد الوقت، فيتسلّل وسط الأزقة لمن بعده ومن بعده، ويعلن في هاته الظلمات الدامسة الأمن والسلام — في تلك الساعة التي تدخل الحياة فيها مع النور إلى الوجود يستيقظ حامد من نومه الهادئ لا تشوبه أحلام ولا يعتاده إلا السكون. ثم بكل تؤدة يرتدي لباسه ويخرج لعمله غير مفكر فيما سوى ذلك العمل يجدُّ فيه سعيدًا به، فإذا جاء الليل قضى سمره مع إخوته يتحدثون في شتى المسائل تأتي تباعًا ولا رابطة بينها، يقولونها ويسمعونها من غير تكلف، ويضحكون مسرورين باجتماعهم سعيدين بحياتهم، ثم إذا راح إلى مرقده جاءت إلى رأسه خيالات وأفكار شتى لا صلة تجمعها، وتخيل أمامه في ظلام الليل وجوه معارف يتصور في بعضها من السماحة وفي الأخرى من الجد وفي غيرها من الجمال أو المهابة أو ما تنم عنه من الإخلاص أو الذكاء. ثم بين هذا الجمع الكبير يذهب إلى نوم هادئ هنيء يقضي فيه كل ليلة. وتأتي أحيانًا بين هاته الأحلام التي تساوره فكرة الزواج.. وما كان يدري لم وهو في سن لا يسمح لنفسه فيها أن تشتغل بمسألة ما أبعد أوان تحقيقها بعد. لكنه لم يكن يجد وسيلة أخرى يرضي بها قلبه ويستحضر بها إلى رأسه خيالات الحب والسعادة التي تلازم الشباب، كما أنه كان كذلك يصور في السواد الذي أمامه صورة صاحبته التي يحب، ويضم هاته الصورة أحيانًا إلى صدره. وما كان ليقدم على ذلك لولا أن قدّر فيها الزوجة المستقبلة.

لكن الأيام المملوءة بالعمل الجد، وأحلامه الطويلة للمستقبل، جعلت تقضي على هذه الفكرة رويدًا رويدًا، وأصبح الوجود الذي كان يتخيله من قبل معطرًا بالزهور وبسكرات الحب وجودًا هادئًا ساكنًا ألذّ ما فيه العمل والفكر، وانهمك بكله في مطالعات مختلفة بلغت منه وأخذت فؤاده. وصار للأشخاص والأفكار والأماكن التي يعيش بينها مكان من خياله احتلّ مكان الصور القديمة الأولى، وقرأ فيما قرأ كتبًا عن المرأة والزواج بعثت إلى نفسه عقيدة جديدة تخالف وتضادّ العقيدة الأولى، فأصبح يرى أيام الزوجية أيامًا ذابلة لا طعم لها ولا لون، وأن حمقًا من الناس أن يقدروا لها أية سعادة أو لذة.

وصار يقلب في رأسه لعله يجد زوجين ممن يعرف أعطتهما الصلة الرسمية من الهناءة ما كانا يريدان من قبل، فلا يجد إلا ما يزيد اعتقاده قوة، ولا يرى في تلك الرابطة إلا قيدًا من قيود العادة يضع الناس أنفسهم فيه، لأنهم يرون غيرهم يسبقونهم إليه: آباءهم وأجدادهم ومعاصريهم الأغنياء والفقراء والعلماء والجهال، ويتوارثون هاته العادة، وقد أعطاها طول الزمن من القداسة ما يعطي كل قديم، وأصبح الناس من البله بحيث يظنونها حسنة من الحسنات.

لهذا أصبح ذكر حامد لعزيزة ينقص من يوم ليوم، فإن جاءت إلى حلمه لم يجد إلى جانبها ما يثير حواسه أو يعيد أمامه ساعة ماضية.. لم يجد إلا فضاء يتوه فيه، وحيرة تعتريه، فيداخل نفسه شيء من الهم ولكنه يقنعها بالنسيان ويرضيها بلا شيء. وإن ذكر زينب ذكر معها تلك الخلوات اللذيذة وسط الطبيعة العظيمة تحيطهما بشجرها وغدرانها، ويسعدهما الطير بنغماته العاشقة كلها الغرام والصبابة تصل ما بينهما وتزيد معنى حياتهما.

•••

رجع حامد من عمله يومًا، وترك ملابسه ولبس جلابية بيضاء وطاقية بيضاء كذلك، فتلك عادته ما دام في الدار وبينما هو جالس يفكر ويشرب قهوة جاءه بها خادمه إذا جماعة من إخوانه يدخلون وكلهم يضحكون مرة واحدة.. وفي نفس واحد قالوا معًا: السلام عليكم.

– عليكم السلام.. خيرًا.. جرى إيه.. يا ولد اعمل كمان قهوة.

– تعرف احنا تقابلنا احنا الأربعة بالمصادفة.. فقلنا والله لازم نشوف حامد نضايقه شوية. يا أخي انت الأيام دي فيلسوف. تحب تفضل وحدك. لا تشوف حد ولا حد يشوفك.. على إيه ده كله.. اسمع.. مدرتش.. أسعد أفندي حايجوز بكره.. تجي معانا الفرح؟

– حايجوز بكره؟ ليه؟ مسكين!

– نعم.. اتفلسف يا سيدي.. ليه؟. والله يا بخته.

ولم تك إلا لحظة حتى دخل الولد بصينية القهوة عليها خمسة فناجين فأخذ كل من الأصحاب فنجانًا، وأخرج علي أفندي سيجارة من جيبه وأشعلها، فطلب الشيخ خليل أن يدخن هو الآخر، فلم يكد علي أفندي يمد إليه يده بصندوق السجاير حتى اختطفه منه حسنين وقال: أعوذ بالله! المشايخ دول طول عمرهم شحاتين.. يا شيخ خليل انت مالك ومال الدخان؟.. روح اتنشق!

فهاجت هذه الكلمة الشيخ الذي أخذ يدافع عن النشوق بكل قواه، وأطلق لبلاغته العنان، فلم يترك تشبيهًا يصح أن يشبه به هذا المسحوق الأسود حتى جاء به، ولا مجازًا ولا استعارة ولا كناية حتى استعملها.. وليبرهن لهم بعمله على صدق قوله ضرب بيده في جيبه وأخرج علبة صغيرة سوداء دقّ على غطائها بسبابته ثلاثًا، ثم فتحها بتؤدة وسكينة، وأخذ قليلًا بين أصبعيه، ثم أمال رأسه قليلًا، وبوسطى أصابعه أقفل إحدى طاقتي أنفه واستنشق بالأخرى، فشد النشوق إلى خياشيمه. وبعد أن أعطى الطاقة الثانية حظها رد العلبة إلى مكمنها، ثم استخرج منديلًا أزرق أمسكه بين يديه وأعده ليستعمله عند الحاجة إليه.

ولقد كان حامد ساكتًا تلك المدة ملقيًا ببصره للأرض، فلما أحس بالسكينة ترجع إلى القوم، لم يستطع إلا تكرار تلك الفكرة التي ملأت رأسه: إذن سيتزوج صديقنا أسعد غدًا.. مسكين..

فقاطعه علي أفندي قائلًا: وأي سبب يجعلك تعدّه مسكينًا؟

وتنحنح الشيخ خليل ثم قال: قال عليه الصلاة والسلام: «تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة»..

هنالك كأنما أطلق حامد من عقال. قال: لماذا يتزوج الناس؟ لأنهم يبتغون السعادة في الزواج.. يجدون حياة الوحدة ثقيلة على نفوسهم، فيريدون أن يستبدلوا بها حياة أخرى، ويظنون أن حياتهم الجديدة ستكون خيرًا لهم. فإذا مضت الأيام الأولى حين يكونون تحت تأثير الوهم، وتجلت حقيقة ما صنعوا ندموا ولات ساعة مندم.

لقد فتشت فلم أجد فيمن أعرف من نال من الزواج ما كان يحلم به من سعادة. وكل ما يعمل الشريكان إهباط السعداء من ملكوت سعادتهم إلى شقاء لا محيص منه.. لو رأيت الأبناء وهم يعانون أنواع الآلام من يوم يولدون أفلا ترحمهم وتنعي مولدهم؟! ثم هم ليسوا بعد ذلك أقل شقاء.. يخبرنا آباؤنا والمسنون أن أيامنا خير الأيام، وأن الشباب ربيع الحياة. فإذا كنت أنا في ربيع الحياة، وفي عيشي من المرارة ما أقاسي، فبالله كم أكون تعسًا في أيامي المقبلة؟ وإذا كان يأتي على الشباب ساعات يتمنى فيها الفناء أفلا تكون أيام الكبير ولياليه مملوءة كلها بهاته الأمنية؟ أم هم يقولون لنا هذا لنعترف لهم بالشجاعة ونحمدهم عليها؟

قال حامد ذلك بنغمة محزونة تفيض أسى وألمًا. فكان أسرع الحاضرين إجابة حسنين. قال: يظهر لي يا صديقي أننا نحن الذين أفسدنا على أنفسنا طعم العيش، وقلبنا كل السعادات التي على الأرض شقاءً وبؤسًا، بل إني لأحسب أنك تستطيع أن تكون سعيدًا من أول أيامك إلى آخرها إذا كنت في قوم لهم من الإحساس ويدينون بعادات غير ما يدين به قومنا من التخلي عن الوجود وإهمال كل شيء والنظر إلى ما حولنا بعين جامدة لا تتأثر، وبقلب بارد لا يأخذه الجمال أيًّا كان إلى الهيام به. نعيش بعيدين عن كل شيء ونخشى كل شيء فننكمش عن اجتلاء ما يحيط بنا وتبقى نفوسنا تتآكل أجزاؤها ويرسم ذلك على وجوهنا البائسة علامات الحزن والشقاء. ثم نحن مع ذلك نرى فيما سوى هذا خروجًا إلى دائرة الغيّ والضلال.

قد أكون معك في أن الزواج عندنا غير منتج سعادة نحلم بها. ولكن لكل على ما أعتقد أن ينزع إلى غير ما يراه قومه متى ثبت عنده أنه على الحق. ولو كان الناس يبقون على سنة من قبلهم، فهل ترى العالم يتقدم خطوة إلى الأمام؟

على أن ذلك لا يمنعني أن أقول لك إني على غير رأيك، وأحسب صحيحًا ما يعتقده الناس في الزواج من أنه عماد السعادة، وأحسن ما أنتجت عقولنا لحفظ النوع في أضمن ما نرجو له من الهناءة.

تصور تلك الحال التي تريد أن ترى الناس فيها! تصور أبناءً ضعافًا لا يعرفون آباءهم، ونساء لا يجدن من يعولهن أيام ضعفهن المطلق وسط مدنيتنا الحاضرة الكثيرة الحاجات والمطالب! تصور كذلك الرجل اللاهث راجعًا من عمله يريد عزاء في كلمة صديق أو محب فلا يجد إلا أمثاله المكدودين اللاغبين والنسوة في الجانب الآخر من الجمعية مشغولات بالعمل لعيشهن ولعيش أبنائهن! وإني لأحسبك بعد ذلك قائلًا معي أنْ لا سعادة للرجل من غير امرأة تحبه وتكون إلى جانبه، ولا سعادة لها هي الأخرى إلا في جوار رجل يحبها ويصطفيها.

وإن ما وصلت إليه الإنسانية لا يسمح لها بشيء من ذلك التغير الذي تطلبون.. وموقفها اليوم عمل قرون وقرون. عمل ملايين فائتة من السنين.. ولن تقدروا على إنكار ما لذلك الماضي بصوابه وأغلاطه من الأثر كما لا تقدرون منه على شيء.. وكل ما في يدنا اليوم أن نعمل لتغيير بعض عاداتنا فندخل للصلة بين الرجل والمرأة الهناء الذي ينقصها.

ذلك هو الصحيح وهو الممكن. وكم يجد الناس في العائلة من الهناءة لو عقلوا معناها! وكم تقدّم لهم يومئذ من السرور والسعادة مما لا يتصورونه اليوم.. ألأن هذا المعنى مفقود عندنا تظن يا صديقي أن كل عائلة كعائلتنا ظاهرة التخاذل والبؤس..

العيش عندنا شقاء ومرارة، ولكن ذلك لفساد تربيتنا.. هل تحسب الشاب الذي يشغل نفسه بكبير الأمر وهو في السادسة عشرة من عمره إلا عجوزًا في العشرين! فإذا ما جاءته زوجة طفلة لا تعرف من الوجود إلا حيطان دارها، لم يكن بينهما عن الصلة إلا ما يقضي به الحديث «تناكحوا تناسلوا».

العائلة العائلة! لو تحقق معناها للمسنا السعادة بأيدينا ورتعنا في سعة منها كل أيامنا.. ولكن وا أسفا فأنَّى هي؟!

ليحب جماعة الشبان، وليعبدوا من يحبون، ولا يعطوا أنفسهم لتوافه يكبرون أمرها، فالمستقبل الطويل ينتظرهم بأثقال من العمل لا يعرفون في شبابهم مبلغها.. وإنهم من بعد ذلك لواجدون في تلك الأيام المملوءة بالمتاعب والأعمال ما يخففها عنهم وينسيهم ألمها …

علي أفندي: سيتزوج أسعد أفندي غدًا كما تزوج آلاف من قبله وكما ستتزوجان أنتما يومًا ما. صوّرا كما تشاءان الزوجة التي يريد كل منكما! اجعلاها مثال الكمال والجمال! اخلقا منها أمامكما ملكًا كريمًا! هي ستكون امرأة كالأخريات، وستكونان بعد زواجكما لا سعداء ولا أشقياء … ستكونان ككل الناس.. وإذا قصرتما بعض الشيء من أجنحة خيالات الشباب وعشتما في عالم الواقع رأيتما صحة ما أقول … عرفت في الزمن الماضي ابنة كانت خادمة في أحد المطاعم في فرنسا.. وبعد شهور غبتها ورجعت لم أجد هذه الخادمة.. فلما سألت عنها قيل لي إنها تزوجت بفتى كان خادمًا في قهوة.. وماذا كان سبب زواجهما؟ أنهما ضما ما وفر كل واحد منهما، وتمكنا بذلك من فتح دكان كانا يشتغلان فيه مستقلين وبربح أكثر.. وفي أريافنا يتزوج الناس كل يوم لا ليعيشوا سعداء ولكن لتكون مع الرجل امرأة تعينه في حياته وتشاطره متاعبه، ويهون بذلك كل على صاحبه قسمًا من هذه المتاعب.. ومن الخطأ أن تعتقدا أن أهل الطبقات الأخرى ينالون من الزواج أكثر من هذا.. وإذا شاءت المصادفة مرة أن أحدهم أحب زوجته وأحبته وعاشا بذلك في النعم فهذا استثناء وقلَّ أن يدوم..

في تلك الساعة، وقد ابتدأ الليل يدخل من حيث كانت تدخل الشمس، والغرفة يهجرها الضوء قليلًا قليلًا، والمآذن يكسوها الضباب قد ارتقى جوفها المؤذنون، ثم في لحظات ارتفع صوتهم يقطع الصمت والسكون، رفع حامد حاجبيه وبنغمة محزونة هادئة قال: وهل أحلام الحب أكثر تحقيقًا من أحلام السعادة في الزواج؟

•••

بعد ذلك الحديث ودّع حامد أصدقاءه إلى الباب، ورجع مهمومًا مثقل الصدر مشتّت الخاطر، وجلس يحدق إلى لوحات في غرفته تمثل الأهرام وغيرها من الآثار العتيقة الخالدة تعاقبت عليها الأجيال وهي جديدة أمام عين كل جيل جديد.

بقي محدقًا إليها وإن اشتغلت أفكاره بعيدًا عنها، ثم ألقى برأسه فأسنده على يده وراح في نسيان طويل أخرجه منه أن نودي للطعام.

وجاءت ساعة نومه، فتمطّى في مضجعه، وذهب خياله إلى أحلام لا حدود لها، وأقفل عينيه يريد النوم، فلم يجد إلى النوم سبيلًا، بل فتحهما واسعتين تحدقان وسط الظلمة الحالكة. وطال به الوقت كذلك، فقام ففتح ستار النافذة، فأطلّ منها وسط حندس الليل الدامس إلى سماء لا نجم فيها تزيد الليل دجنة، وألواح الزجاج الباردة لا تنمّ عن شيء مما وراءها، فأسند إليها جبينه المحترق، ووقف يفكر ويستعيد أمام نظره ماضيه الطويل.

وسمع في ذلك السكون حركة الهواء تتزايد في الخارج، ثم سقط المطر تدفعه الريح فيسمع على الزجاج صوته المنتظم يهدأ آونة حتى يكاد يكون همسًا، ثم تسوقه ريح عاصفة فترتفع نقراته المتوالية.. والظلام حالك دائمًا.

جعل يسمع كل تلك الحركات الدائرة في الخارج، قطعت عليه أحلامه لحظة، ثم عاوده هاجس من أيام الزمن القديم والسعادة التي قضاها قبل يأسه يسبح منها في بحر لا شاطئ له، وتلك الساعات التي نعم فيها بجوار زينب أو بخيال صاحبته.. ولو تحقق الخيال أفلا يكون أسعد في لقياه بهاته الثانية منه بلقيا تلك العاملة الجميلة، وتكون خلواتهما كلها سرورًا وهناء؟ ألا إنهما ليكونان سعيدين كل السعادة.. ولكن هل لذلك من سبيل؟

بقي هكذا يناجي نفسه أمام سواد الليل العظيم يشتمل في دجنته الكون النائم الهادئ، والمطر متتابع لا ينقطع تتسلى به آذان ذلك الساهر في أحلامه، وحوله في الغرف المجاورة كل مرتاح البال ذاهب في نومه. ثم بعد أن أفرغت السماء جعبتها تبين حامد من الزجاج شعاعًا ينساب في الظلمة الدامسة.. ثم تقشّع السحاب بطيئًا بطيئًا، وأسفر عن القمر مريضًا ناحلًا، ظهرت تحت نوره المحيطات القريبة والسطوح يلمع عليها ماء المطر. وعاود السكون كل شيء فلم يعد يسمع صوتًا ولا يميز حركة. وكأن ذلك أحدث وحشة في نفس حامد، فانقلب إلى مرقده، وقضى بقية ليله بين أحلام لا تنتهى.

وأصبح وقد نسى ذلك كله، وراح إلى عمله على عادته، ورجع منه في موعد رجوعه. وهكذا تقلبت الأيام واحدًا بعد واحد، والشتاء يتقلص يومًا بعد يوم، وساعات النهار بدأت تأخذ بحقها من الليل والجوّ المعتدل دائمًا يبعث إلى النفس النشاط والسرور، فحيث تكون ترى وجوهًا ضاحكة قانعة وحركة كبيرة دائمة. والوجود يتقدم نحو الربيع، فبدأ يزول عنه القطوب، والأشجار الكبيرة تقوم في بعض شوارع العاصمة الهائلة ارتفع فيها ماء الحياة! وتستعد لكسائها الجميل الجديد، وحامد يعاوده الذكر للأيام القديمة أحيانًا، ثم ينسى ذلك كله، ولا يبقى له في نفسه من أثر.

ولما تزوجت زينب وبلغه ذلك دعا لها في نجواه بالتوفيق لما تحبّ وترضى، وأمّل لها سعادة تتعزى بها عن الأيام وطولها، عن تلك الحياة المتشابهة، حياة مصبحها كممساها تسيل خرساء عليها أثر العفاء، وإن هي إلا أطلال أيام الشباب المملوءة بالقوة والجمال والحب والخيال والأحلام اللذيذة والولوع بكل شيء والغرام بما يحيط بنا وما يدور حولنا ننتقل منها إلى هدوء وسكون وما يسمونه رزانة وعقلًا، ثم يخالط وجودنا في أعماقه شيء من الحزن الساكن، ونستسلم للقضاء، وننظر بعيون «باهتة» إلى الزمان الذي يمر أمامنا نرتب ساعاته حتى يهون علينا قطعها، ونبقى هكذا دائمًا حتى يأتي اليوم الذي لا تكون الحياة فيه إلا غرفة انتظار ننتقل منها فوق طائر يحملنا على جناحه إلى غيب الفناء.

تذكر حامد تلك الفتاة ونظراتها، وتمنى لها السعادة والهناء.

وجاء الربيع، وضحك الكون، وطال النهار، وازّين الشجر، والشمس قويت بعد ضعف الشتاء، وأصبح يدخل إلى كل شيء سرور ينعشه ويجعله باسمًا بعد القترة التي كانت عَلَتْه، والزهور يفوح عطرها، ويرسل في الهواء موجات الطيب، ويبعث إلى الصدور تلك الرائحة الزكية التي لا نقدر أمامها دون أن نذهب في سكرات السعادة فرحين بما يحيط بنا، ويلفنا من الحب بعذب نسيمه كل ما تنبت الأرض أو يتحرّك في الجو.. وجعل حامد يخرج إلى الضواحي حيث الطبيعة نظمتها يد الإنسان فأعطتها رواء وبهجة حرمتها تلك الوحشة اللذيدة التي توجد في البكر من الأشياء، فيسير إلى جانب النهر الكبير تنقلب موجاته هادئة ساكنة تتبع مع التيار سابقاتها جئن جميعًا من هناك، من الأبعاد القاصية النائية نسمع عنها، ثم ينسبن حتى يضعن في المالح العظيم. وإلى جانبه على الشاطئ تمتد الحدائق وأرضها الخضراء وأشجارها اليانعة.

قابل حامد مرة أحد أصدقائه، وبقيا يسيران يتمتعان بعطر هذه الجزيرة البديعة نظمتها يد الظلم أيام الاستبداد، ثم تمتعنا بها نحن حفدة المظلومين. سارا يتحدثان وسحرهما الحديث عن وقتهـما. وبقيا كذلك حتى مالت الشمس نحو المغرب، فألهبت زجاج النوافذ المقابلة، وتغطى النهر بلون وردي جميل. ومن الجهة الثانية تبين الشفق يطوق الأفق، والقرص الذهبي وسط ذلك ينحدر مسرعًا إلى مغيبه، ئم أضيئت من بعد ذلك الأنوار ترقص على سطح الماء جذلة بهواء تلك الساعة حين تتمخض الطبيعة عن الليل وتهبط من بوادر الظلام لجة عظيمة تتوه فيها المودات ويسري النسيم إلى الصدور وتنتعش به القلوب والنفوس والأرواح، وتحس بالسرور والطرب يداخلها وترتسم على الثغور ابتسامة الرضا والنعيم.

هنالك رجعا على أعقابهما وهما أشد ما يكونان جذلًا وقد وقر في نفس حامد أن في جمال الطبيعة ما يسلي عن كل جمال، وإن أذكى الربيع في نفسه غرضها من الوجود مع محبوب تفنى فيه ويفنى فيها.

٢

كانت زينب في دار زوجها تقطع من عمر الزمان، تتجاذبها العوامل، وتلعب بنفسها الوجدانات، ويتنازعها الإحساس والواجب. وهي تلتمس بتلك النفس البسيطة العاملة هدى في طريق الحياة الجديدة تتخبط فيه على غير علم. والتمست غير سبيلها الأول فلم تجده أحسن من سابقه ولا ألين ملمسًا.

انتقلت من دار أبيها إلى دار زوجها، ووجدت نفسها وسط هاته العائلة التي تخالف الأولى في طبقتها ووجودها ومعيشتها كل المخالفة، وألقيت عليها الأحمال التي كانت تحملها أم حسن، وأصبحت بين عشية وضحاها ربة بيت طويل عريض هي القائمة بالأمر فيه تدبر وترى من شأنه، وأختا زوجها تساعدانها كما كانتا تساعدان أمهما من قبل، وإن أصبحتا تريان في زينب من تعتمدان عليها في كثير ومن تستطيعان إلى جانبها أن تتذوقا من الراحة ما لم يكن يسمح لهما به من قبل.

وأحست بالوحشة لأول يوم حين وجدت نفسها غريبة بين متعارفين، عندهم من العقائد العائلية القديمة والأوهام، ويحفظون من الحوادث والحكايات، ويذكرون جميعًا أيامًا يعدونها ذات أثر أو مبدأ تاريخ، ما يزيد في وجوه الشبه يينهم، ويربطهم معًا برباط العائلية. لذلك كان خادمهم أقرب إليهم من العروس الجديدة. فإذا جلسوا يتحادثون اضطرت هي أن تلزم الصمت، وإن تكلمت فبأوجب الواجب، وإن رجعت إلى وحدتها راجعها من آلامها ما يزيد حزنها.

وإذا خلا بها حسن وجعل يخاطبها فيما يخاطب به الشاب الفتاة أو الزوج زوجه وجدت كلامهما ذابلًا باهتًا. وجدته كلامًا مصنوعًا يجيء به موقفهما، ولا توحي به القلوب أو تدفع إليه الإحساسات الهائجة التي تريد أن تظهر ولا يمكن حبسها. ولكنها مضطرة أن تجيب على القول بمثله، وترد على كل ما تسأل عنه بما حفظته من الناس.

غير أنها شعرت أن موقفًا كهذا لا ينتج إلا الشقاء والبؤس، وأن الواجب أن تنسى الماضي الذي قضته قبل زواجها، وتتعزى عنه بكل ما يحيط بها. يجب أن تحب زوجهـا وتدعوه بذلك ليحبها ويعيشا في سعادة لا تقل عن سعادتها أيام كانت ترى إبراهيم وتجد فيه رسول الهناء، وإلا فهي باقية بين أيدي الضيق غير بالغة في حياتها سوى الأسى والألم. ومهما بقي في صدرها لإبراهيم من الحب فقد قدرت أن خير ما ينفعها أن تتناساه حتى يجيء يوم يصبح حبهما صداقة لا يأخذها عليهما أحد.

•••

وانخرطت في أعمال العائلة الكبيرة وأخذت القسم الأكبر منها على عاتقها. فهي تقوم حين تبدأ السماء يقظتها فتجهز بعض أمرها، ثم تخرج مع أوليات النور والنسيم البليل وبتلك الخطى الهادئة المرتبة تقطع طريقها إلى «الموردة» فتملأ جرّتها وترجع لمرة ثانية وثالثة. ويكون ذلك شأنها ما دام الصيف يسعدها بغدرانه المترعة بالماء وسحره البديع وشمسه المنعشة تحبو من مرقدها تطرد الظلام والفجر، فإذا ما انعكست آية الوجود وحكم الشتاء وبرده القارس وليله الطويل وغاض الماء انقلب ترتيبها إلى آخر قد يكون أكثر من الأول راحة وسعادة.

وانقضت شهور من أوائل أيام زواجها نجحت مدتها في تناسي حبها. فلما آن للربيع أن يتنفس عن الصيف، وطال النهار، رجع الفلاح يقضي نهاره بين زروعه عاملًا، ويذهب له بالغداء بعض أهله — أمه أو أخته أو زوجه إن لم يكن قد جاء معه به في الصباح — وتجيء معه القيلولة التي يرتاحون فيها تحت ظل وارف الشجر الكبير. وجعلت زينب على عاتقها أن تذهب كل نهار بغداء حسن، وتجلس معه قليلًا بعد أن يتناوله، ثم ترجع هي إلى الدار وهو إلى عمله. غير أن النشوة التي داخلت كل الوجود ورفعت من نفس الكائنات والأشخاص ابتدأت تهيج من نفسها السواكن، وتثير لواعج أشواقها. فلما تقدم الربيع وجاء شهر الحب والهيام والجنون: الشهر الذي تلبس فيه كل الموجودات جدد ثيابها الزاهية، وتلمع الشمس على الورق الأخضر، وتبعث من شعاعها إلى القلوب والنفوس والأفئدة ما يخرجها من الجمود والاستكانة التي كانت تغمرها أيام الشتاء، وتقدم الطبيعة ما فيها وما عليها أمام الناظر مما يصبح معه محتاجًا إلى الحبيب حاجته إلى الحياة؛ في ذلك الفصل العاشق — لما جاء شهر مايو وزينب تقطع طريقها بين الخضرة والزهو، ونبت القطن كله الحياة النضرة يفتح أوراقه الجديدة ويضم إليه الهواء والنور والشمس والليل والنجوم — لم تستطع هي الأخرى أن تبقي على ذلك العهد القديم، وأن يكون قلبها أصمّ دون أصوات تناديه طالما أعرض عنها فجاءت له من الربيع بشفيع يرققه ويفتحه لقبولها.

ولكنها جاهدت وجاهدت بكل قواها ضد كل ما يهجس بنفسها، وأرادت أن تقنع من بين الموجودات بحسن. بذلك الذي أعطاه الله إياها وأعطاها إياه، وأقامت حربًا عوانًا على ما يمكن أن يثنيها عما تريد، وأملت فيها نصرًا وفوزًا.

وحسن في كل تلك المدة أملك لنفسه زمامًا يعيش معها كما يعيش كلّ الأزواج مع زوجاتهم، ويحس لها في نفسه بالميل، وإن لم يخلُ من الأثرة وحب السلطان عليها مما جاءه بالوراثة عن آبائه وأجداده، وبما أعطاه القانون والشرع من القيام عليها. وإن لم تكن النعومة النسائية وتلك الفطرة الرقيقة التي جبل عليها الجنس الناعم وما يسيل في خلقهن من اللطف مهما تكن تربيتهن لها عليه ما لها على الرجال جميعًا من سلطان يستعبدهم أمامها.. وأكثر من هذا فإن حياة الزوجية المتشابهة الفاقدة كل شهية، الناقصة من جميع نواحيها. جعلته جامدًا في كل ما بينهما. وتعاقب الأيام يزيد حياتهما تشابهًا، ويبعث إلى نفسه هدوءًا واستكانة، ويدخله إلى دائرة كل أمثاله من بني طائفته، يبيتون مسرورين ما داموا يجدون في زوجاتهم الخادم المطيع لهم، والعامل الدائب في عائلاتهم، ويلقونها — كما يقولون — تحت أرجلهم قائمة بشأن الدار والغيط معًا.

وأمه قد وجدت في زينب محقق آمالها التي طالما طوت ونشرت أمام خليل، ومن رفعت عن عاتقها أحمال أعمال ما كان أكثرها مضايقة لها في سنها المتقدمة. وزاد سرورها أن رأت في زوج ابنها ما تريد من طيبة وطاعة، وانتقلت بأمانيها خطوة إلى الأمام، فصارت تقدر لحفدتها وتنتظرهم، وتحلم بذلك اليوم حين تحمل ابن حسن على كتفها وتغني له حتى ينام، كم تجد من السرور أن ترجع مع طفلها إلى الطفولة التي هجرت من زمان، وكم لتلك الكلمة التي تقولها بملء قلبها — هوه — وتمدها وتكررها لتذهب بالصغير البريء إلى عالم الراحة والسكون، كم لها عندها من القيمة وكم تأملها وتتمناها!

وخليل مسرور كل السرور، لأنه رتب حسابه بحيث لا يكون عليه دين مطلقًا، ومن غير أن يبيع شيئًا من أرض داير البلد، ويعد في نفسه أن قد أتم عملًا كبيرًا سهل الله له فيه أحسن السبيل.

٣

جاء الربيع، وجاء معه بأحلام كثيرة تناوبت نفس زينب، وجعلتها شديدة الإحساس بوحدتها في هذه الحياة الجديدة، حياة الزوجية المتشابهة. فكلما مرت تحت الأشجار اليانعة بأوراقها الزاهية وزهورها الجميلة، وسمعت أغاريد الطير الفرح سمعت دائبًا في قلبها صوتًا يناديها ويذكرها بماضي أيامها.. لكنها تحس بنفسها اليوم أسيرة خرجت من حريتها الأولى، ولم يبق لها أن تتصرف في قلبها، ولا أن تصرفه عن زوجها. غير أن القلب أعظم من أن تملكه، وهو حرّ بالرغم منّا يعطي نفسه لمن يشاء، ثم يتركها لذلك الموهوب ولا يرجع مهما ناديناه ومهما تضرعنا له. وأخيرًا نرضى بعجزنا ونقنع بالحياة التي أراد لنا، وتجيئنا مع هذا الرضا سعادة عظمى نمرح منها في جو عظيم.

وكادت زينب تصل إلى هذا الموقف أمام نفسها، وترجع باحثة عن إبراهيم الذي كان يبحث عنها فتفرّ منه، ترجع إليه فترمي بنفسها بين ذراعيه، ويرجعان معًا إلى السعادة التي كانا فيها قبل زواجها. وما دمنا نصل من الحياة إلى السعادة فمن الجنون أن نبقى حيث نحن خيفة اعتقاد قديم أو عادة عامة. إذ ما دامت السعادة أقصى ما يأمل الفرد في الحياة، وما دام قد وصل إليها، وما دام هو الذي يتمتع ببقائها ويتألم إن حرم منها — وغيره ليس له شيء من ذلك كله — فما أجدره بأن يحتفظ بكل ذرة من الهناءة يصل إليها برغم أنف أي إنسان!

هذا ما يملي به العقل الأناني الأثر. لكننا أكثر الأحيان ترانا مضطرين إلى ألّا نسمع لقوله. وبالرغم منا يتسرب كلام الناس إلى نفوسنا فيفسد علينا سعادتنا ويقلبها شقاء، ويضطرنا لترك أسبابها.

خشيت زينب ذلك، وجعلت تتقلب في نفسها إحساسات مضطربة تهزّها.. هل تذهب لإبراهيم تحت جناح الخفاء فتستسمحه عما سبق من هجرها إياه؟.. نعم نعم. يجب أن تفعل. لم يبق على ما تحملت من الشقاء صبر.. لكن كيف يمكن أن تفكر في هذا وفيه من الغدر بزوجها ونكث ما تحمل له من العهد وهي زوجة، وتلك الخطوة التي دخلت بها داره على هذا الاعتقاد وضعت في عنقها من الواجبات ما إن حاولت التخلص منه حاولت القضاء على شرفها وعرضها. وما كانت لتقدم على احتمال فظاعة ذلك الجرم وتميت من ضميرها كل حياة، وتقضي فيه على كل إحساس!

.. ألا ما أقسى أباها! سلك بها ذلك المسلك الخشن واضطرها لموقفها الحاضر تكاد تصعق دونه!.. وهل لمكره كلمة أو عليه واجب أو حملت ذمته عهدًا؟! فإذا كانت قد جاءت لحسن كرهًا فهي بريئة من كل عهد، ولا بأس في خلوتها بإبراهيم تضم صدرها لصدره يقبلها وتقبله، وتدخل إلى حياتها التعسة لحظات هناءة تسترقها خفية من الأيام التي ترقبها. وليت شعري إذا كنا نقضي كل أيامنا تحت حكم الزمان القاهر وظلمه وحمقه، ونحسب لكل دقيقة أكبر الحساب، ونؤنب نفوسنا ونقرعها لغير سبب، فهل للحياة مع ذلك من طعم؟ وهل تستحق أن تعاش!؟

في تلك الساعة التي تجتمع فيها بصاحبها القديم وتبثه كامن أشواقها وتحكي له عناءها الطويل الذي قاست من يوم زواجها كم يكون تأثرهما؟ وهل يغيب صوابهما ويفقدان رشدهما متعانقين ويضيعان معًا في عالم كبير بين السعادة الحاضرة وذكرى ألم الهجران؟!..

.. ولكن هاته العين الكبيرة التي ترقبهما من السماء أهي مباركة لهما في هنائهما أو ساخطة إن خانا عقدة كانت فيها يد الله، غاضبة عليهما منتظرة بهما تلك الأيام القصيرة على الأرض لتحاسبهما يوم تجزى كل نفس بما كسبت؟ هاته العين المحيطة بالوجود لا تخفى عليها خافية، ولا تغفل عما في السماوات وما في الأرضين، أتراها ساهية عنهما، تاركة لهما العنان يمرحان في حين صاحب زينب يجد ليطعم نفسه ويطعمها عاملًا لسعادتهما معًا؟

.. ولكن هذا الإله العادل الرحيم يعلم شقاءها الذي احتل نفسها، ولم يبق لها من أثر السعادة التي كانت ترجو في الزواج. هو العليم بماضي أحلامها وآمالها، فإذا كانت الأيام قد خيبت ظنونها وقضت على تلك الخيالات التي كانت تملأ رأسها، فهل تلقى جزاء ذلك؟!

وهكذا بقي قلبها الرقيق يتقلب مع إحساساتها المتخالفة؛ فطورًا يبحث عن السعادة يبتغيها في قلب آخر عزيز عنده محبب إليه يكنّ لزينب من الهوى مقدار ما تكنّ له، ويحوي من نار الوجد ما يقيمه ويقعده، وتارة يدخل عالم الاعتقاد والتسليم حيث رسم القدر خطة الحياة للناس إلى لا نهايات الزمان البعيدة — إلى ذلك الوقت الذي لا نكيفه حين يصبح كل شيء كأول خلقه. وأخيرًا رأت أن الحياة الكالحة التي تعيش اليوم غير ممكنة الاحتمال، ورأت سوء ما عملت حين صمت أذنها دون كل نداء من إبراهيم. ومرت أيام وهذا الرأي يقوى في نفسها حتى كان يوم السوق، وقد خرجت كعادتها مع أخت زوجها، ورأت إبراهيم هناك يشتري بعض ما يلزمه، ففاتحته التحية، وسلمت عليه بيدها. فلما أعطاها يده ضغطتها حتى علته الدهشة من هذا السلوك الذي لم يكن منتظرًا … لمَ تمد يدها تسلم عليه؟ ليست هذه عادتها معه ولا هي عادتها مع أحد. ولم تضغط يده؟

هنالك نظر لها يريد أن يسترحمها، فأجابته بنظرة نمّت عن كل أحلامها وما دار في الأيام الأخيرة في نفسها.

رجع إبراهيم معهما، وجعل يكلمهما طول الطريق بحديث معتاد مبتذل، ويحكي لهما أقاصيص لا يعجز عن أن يدخل بينها ما يفهم به زينب مقدار شوقه لها والانفراد بها. وزينب تحدق إليه أحيانًا كأنها تريد أن تلتهمه بعيونها تارة، وتصعّد الزفرات أخرى كأنما تتحسر على حاضر حياتها وتجيبه بكلمات تنم عن عميق ألمها وشديد تعسها.

وأخت زوجها لا تفهم شيئًا من كل ما يفهمانه.

وقطعوا القسم الأكبر من الطريق، ثم مرّوا بمزرعة من مزارع السيد محمود، هنالك قال إبراهيم: وبكره نشتغل هنا..

واستمر الثلاثة في طريقهم، وأخذوا بأهداب الحديث، والمتحابان يتذاكران خلسة ماضي حياتهما، ويتمنيان خلسة كذلك وقتًا آخر مثله. فلما اقتربوا من البلد افترقوا، واتخذ إبراهيم طريقه لداره وهو أسعد ما يكون يهنئ نفسه برجوع زينب إليه، وينتظر أن يراها غدًا عند هاته المزرعة التي سيشتغل فيها، وتكون وحدها، ويبثّها شوقه، ويرجع لها وترجع له بالرغم من حسن الذي خان صداقته.

أما هي فرجعت إلى الدار حيرى تنظر لكل ما حولها ولا تدري أي لون يتخذ أمام عينها. أهو ذلك اللون الضاحك البديع الذي عرفت أيام أحلامها الأولى حين كان الوجود يعشقها وكانت تعشق الوجود؟ أم أنه اللون الكالح الذي أقذى عيونها أيام آلامها؟ ولم يحلُ لها من بعد أن تبقى مع أهلها تحدثهم عما رأت في السوق وما عملت، بل فضلت أن تنفرد في غرفتها علها تجد في الوحدة ملجأ من حيرتها. لكن الوحدة في أغلب الأحيان تزيدنا حيرة وتبعث إلى نفوسنا قلقًا ووجلًا. لذلك لم يكد يجيء العصر حتى نزلت تفتش عن جرّتها لتتخذها حجة تخرج بها لتذهب فتفتش عن إبراهيم حيث يكون، ولتستعيد معه سعادة حرّمتها من قبل على نفسها، ثم أذكى الربيع نارها في صدرها ودفعها إلى طلبها من جديد.

.. نعم، تجده وتعطيه نفسها، وتذوق وإياه تلك اللذة التي ذاقت من قبل. ولذة الهوى والاستسلام للمحب ما أحلاها!

.. نعم، زينب ما أحلاها لخليّ لا زوج له. لمن يملك بيده كل نفسه يعطيها لمن يشاء. ولا جنة تحوي اللذة التي يحويها الحب والاستسلام للمحب. ولكنها خيانة وغدر من زوجة يثق بها زوجها.

نزلت وهذه الأفكار تردّد نفسها في صدرها. ومرت بالجامع يعمره مصلو العصر، ثم بوسط البلد، ثم اختطت بعد ذلك سكة الترعة قد ابتدأ يعمرها النساء كما زادها حركة الراجعون من السوق فرادى وجماعات من بلدها ومن البلاد المجاورة، وهم ما بين شاب من شبان الفلاحين فارغ اليد، وآخر محمل حماره من عزاله ولوازم غيطه، وثالث من تجار السوق وقد وضع خرجه فوق بغله وأمسك عمود الخيمة بيده واعتلى الدابة وحملهـا.. وقلائل من النساء اضطرهن كساد سلعهن للبقاء طويلًا حتى يبعنها، وملأت زينب أدوارها والوقت لا يزال نيرًا، ثم رجعت إلى الدار ولم تتم شيئًا مما دار بأحلامها، وبدأت ترتب للعشاء وتنتظر مجيء خليل من الجامع، وحسن من الغيط حيث كان ينكش مع «التملي».

أما خليل فلم يبطئ في رجوعه إذ ما لبث الإمام أن سلم حتى قام إلى باب الجامع وارتكن قليلًا ليرتاح ثم خرج ولا يزال الضوء بين الأثر، والأشجار تلعب الريح بأوراقها لم يجلل رأسها السواد بعد، والآفاق البعيدة كأنما تموج بسكان الأرض، والسماء قد تدثرت بغطاء الليل النازل وإن لم تخف عن النظر في تلك البقية من رسم النهار اختط العجوز طريقه جادًا في التسبيح حتى لقي صاحبًا من أمثاله عجنوا الدهر وخبزوه، والآخر آت من الغيط يريد أن يقضي ركعات المغرب في المسجد قبل عشائه. لم يستطع الرفيقان إطالة الكلام في أمر الدودة وما يسمعانه من ظهور آثارها في بلاد المركز، والاستعاذة بالله من شرها وأذاها، لذلك كان خليل في داره قبل عادته، وحسن قد وجد ساعة غطست الشمس، أنه لم يبق أمامه إلا ستة خطوط فلم يرض أن يتركهـا ليرجع مرة أخرى في الغد، وبالرغم من ضجر «التملي» معه لم يستطع هذا الأخير أن يترك صاحبه وحده، فاضطر للجد معه حتى انتهيا منها وآية الليل تكاد تكون محت كل أثر للنهار. فلما فرغا أدلجا ما بين المزارع السوداء التي تنتظر القمر المختبئ وراء الستار لم يجيء دوره بعد، وقد سبقته النجوم واحدًا بعد الآخر يأخذ كل مكانه، وهما يتحدثان بصوت خافت وقد ذكراهما الآخران ما سمعا عن أخبار الدودة، وجعلا يأسفان على من أصابتهم بشرها. فقال حسن: ومتى انتشرت لا تنفع فيها نقاوة ولا شيء أبدًا. كل يوم يزيد عن يوم. إياك يا شيخ ربنا يبعث يومين حر يهلكوها ويريحوا الناس من أذيتها.

وبعبارات تشفّ عن الألم لما يصيب الناس من هاته الآفة اللعينة جعل يذكر مع صاحبه أضرارها ورذائلها. وقطعا الطريق الطويل في هذا الكلام وأمثاله، والليل قد انتشر على الأرض، والسكة ساكتة لا حركة عليها تأخذ راحتها بعد ما حملت ساعة المغرب من الراجعين لدورهم أناسًا ودواب وأشياء يحملها هؤلاء وأولئك، والهواء الجميل ينعش صدريهما ويتمتعان بلذته ورقته. فلما وصلا كانا أقرب للعشاء منهما إلى المغرب، وخليل جالس ينتظرهما تائهًا في أفكاره، قد غاب عن الوقت المسرع في مسيره. فسلما عليه وقصا عليه سبب تأخرهما، ونادوا بالطعام فجيء لهم به، فأكلوا جميعًا طعامهـم البسيط، ثم أخذوا من بعده بعض ما اشترته زينب من السوق من الفاكهة، فلما فرغوا منه سأل حسن زوجه عما قضت فيه نهارها، فسكتت مبهوتة لهذا السؤال على غير العادة ثم أجابت: أهو زي كل سوق..!

حقًّا ذلك شيء يستدعي الدهشة والاستغراب! أي جديد يمكن أن يعلم هو بحصوله حتى يسألها اليوم عما لم يسألها عنه من قبل؟ وهل تغير على الأرض من أمر أو حدث من حادث؟ أو أنه يعلم خافية الأنفس واطلع على الغيب فعرف ما دار بينها وبين إبراهم؟ وماذا دار بينهما؟ إن هو إلا بعض معروف القول مما تخاطب به أي إنسان تقابله! وهل حسن يعلم ما في نفسها؟ وإن كان يعلم فلم غدر بإبراهيم في طلب يدها والسعي لزواجها؟ هل تلك عهود الإخوان وما يجمل أن يكون بينهم من الرابطة؟ أما كان الأجمل به أن يسعى جهده في ضمها لإبراهيم حتى تذوق شيئًا من السعادة إن كان في الحياة سعادة!

ذلك السؤال لم يقصد حسن به شيئًا إلا استفهامًا عاديًّا لا يهمه بمَ أجيب عليه، حل من نفس زوجه مكانًا وأعطته من الأهمية ما لم يقصد هو أقلها. لذلك لم يعبأ بتلك الدهشة التي أجابت بها، وكل ما ظنه أنها متهيجة الأعصاب لبعض أمر المنزل، أو لتأخره في رجوعه، أو سوى ذلك مما لا يقلقه ولا يستدعي منه التفاتًا، وجعل يتكلم في أشياء أخرى، ثم يرتب مع تمليهم ما سيعملانه في الغد بعد أن انتهيا من سقية القطن ونكش الجانب الذي لم يشرب منه.

غريب أمر هذا الوجود المملوء بالأسرار والخفايا لا نطلع منه على قليل، ولا نعرف من مكنونه يسيرًا، ومع ذلك نحسب أنا نلمّ بكل ما يدور فيه، ونعتقد أن قد أوتينا من العلم حتى نرى ما يجول بالخواطر ويجيش بالصدور. وبرغم إقرارنا كل يوم بعجزنا أمام خفاياه فلا يمنعنا ذلك من تقدير ظهورها واضحة أمامنا، فنبني على هذا الظن النتائج ونرتّب الأعمال ونشكل المستقبل بما يهدينا له حدسنا، فإن أخطأ ما حسبنا قلنا من جديد إن الغيب لا يدلنا عليه، وإن أسعدتنا المصادفة وأصبنا كما تفعل كثيرًا مع حسني البخت قلنا هذا عليم بذات الصدور.. ذلك شأن زينب.. حسبت في سكوت حسن بعد جوابها المقتضب وتحويله الكلام إلى شيء آخر دليلًا على علمه بكل شيء واطلاعه على ما جلَّ ودقّ من أجزاء نفسها، وأنه لم يبق إلا مداراته والسلوك معه سلوك السائر في قفر خطر يعمل لكل خطوة تقديرًا أن تقع به في مهلكة. وتحوّل ظنها يقينًا في قليل من الزمان، وآمنت أن كل ما تراه حق، وأن غير ما رسمت لنفسها من السبيل مؤدّ لا محالة إلى ما لا تحمد ولا تحب.

وأمسى الليل وجاءت ساعة النوم، واختلى بها حسن في غرفتهما، فجعل يحادثها ويضاحكها، فلا ترد عليه إلا بكلمات معدودة. وفاتت مدة على هذا والمصباح في الركن يضيء المكان بنور قليل تتميز فيه الأشياء والأشخاص، وتترك وراءها خيالات متعددة، وفي الركن الثاني السحارة محملة بهدومها تجعل ركنها دائم الظلمة إن بالليل أو في النهار، فلما فرغ صبره من سكونها وما عليها من علامات الجد. قال: انت يا بت مبوزه كده ليه؟

وارتمى عليها بكله، وجرّها نحوه، ووضع رأسها على ركبته، ومال يقبلهـا! وجعل يدلّلها ويلاطفها، ثم أجلسها إلى جانبه، وضمها إليه، وهي في كل ذلك مستسلمة أعطته زمامها مطيعة كل حركاته لا تعارضه في كل شيء ولا تتمنّع عليه، فإن هو تركها لنفسها رجعت لذلك السكون الذي كانت فيه، وبقيت في ذلك التبلد الذي ينتابنا حين نفقد الثقة بذي سلطان علينا. فانقلب حاله هو الآخر مرة واحدة وعلاه دهش واستغراب مما قد أصابها.

مرت الأيام مسرعة بعد ذلك وكلها تحمل لزينب في طياتها آلامًا ومخاوف شتى، وهي لا تنتظر في الغد إلا وجهًا كاشرًا عبوسًا، زوجها خارج إلى عمله من غير تحية يلقي بها إليها، وأخواته يسرن معها فتحس كأنهن يردن استراق قلبها وما يدب في صدرها، وأمه تكلفها بشيء فتظن أنها إنما فعلت ذلك لإرهاقها، وخليل الرجل الطيب يرجع من الجامع ينادي لطعامه ثم يعاود النداء إن أبطأ فتحسب في ذلك إيلامًا لها وتنغيصًا لعيشتها. وهكذا صارت ترى في كل موجود أنه عدوها الدائب للانتقام منها.

والأيام غريبة الشأن تضيف للمصاب آلامًا على آلامه، ولا تدع له يومًا من غير أن تزيد في اعتقاده بنحس طالعه.

نسيت زينب من جراء أساها ما كان يعاودها من حب مقابلة إبراهيم، ولم يبق لها إلا أن تفكر في ذلك البلاء المحيط بها وترمي به السماء على رأسها من الويل، وجعلها ذلك أشد حيرة في أمرها، وداخلها من الحزن العميق ما رسم على جبينها سيما اليأس، وصارت تذهب في أحلام سوداء الساعات الطوال، لا تحس بما يحيط بها، ولا تنتبه إلى شيء من أمرها. فلما كان في بعض الأيام وقد استيقظت مع الفجر لترى أمر بيتها، وأخذت جرتها إلى الموردة وظلمة السماء لم «تبهت» إلا قليلًا، وتسللت إلى طريقها وحيدة لم تمس السكة قبلها قدم، وسارت بين المزارع لا تزال نائمة نحت غطاء من الطلّ والسواد الذي يغادرها رويدًا رويدًا كلما تقدمت هي إلى غايتها، ووصلت إلى الترعة المترعة بالماء أيام البطالة يتقلب بعضه فوق بعض، ويحرك منه النسيم موجات صغيرة أحيانًا، والشجر الكبير قائم على برَّيها تنسرق الظلمة من بين أوراقه لتترك مكانها النور الوليد، هنالك غسلت الآنية التي معها، ثم ملأتها وأوقفتها على الشط، وارتكنت على الشجرة تنتظر أول قادم لتسأله أن يعين عليها. ولم تمكث طويلًا حتى مرّ سار أهدى تحيته وهو مسرع، ثم آخر عليه علامات الاستعجال نادى هو الآخر صباح الخير، وثالث عدّى القنطرة وعليه «بشته» لم يقل شيئًا. ولكن أين هي تلك المدة لتنادي بواحد منهم؟ أو هي غلبها النعاس فلم توقظها تحيات السارحين؟ أم كسلانة تريد أن تبقى مكانها حتى حين؟ لا هذا ولا ذاك، ولكنها سارحة في لجّة بعيدة القرار، راحلة عن هذا الكون إلى كون ثان تلتمس فيه ماضيها القريب مجسمًا ومضافًا إليه ما تحمل روحها الساذجة من الويلات والأهوال.

صلى حسن الفجر وخرج قاصدًا عمله، فمرّ بها وهي في ذلك الذهول، فسألها ماذا تنتظر؟ ثم أعانها بعد أن علم أنها غير منتظرة شيئًا، ورجعت إلى الدار والأشياء قد بدأت تتميز، والسكة يعمرها السارحون والرائحات للملية. والنهار يطارد الليل العنيد لا يفيده عناده تلك الساعة شيئًا فيطرده ويأخذ مكانه رويدًا رويدًا: ثم رجعت لدورها الثاني وقد «بهت» الشرق مبشرًا بإلاهة النار والنور باعثًا على مجاورات الأفق قبلة الصباح. وكلما تقدمت هي في خطواتها استضاءت السماء، ثم بزغ القرص في لونه الأرجواني الذي ودّع به البسيطة في أمسه الدابر متهاديًا يتسلق العرش العظيم ويرسل على المزارع الهائلة التي تحيط به من كل صوب جلبابًا جديدًا يظهر فيه بهاؤها ورونقها، فغيطان القطن تزهو بخضرتها وزهرها الذي ينضد بساطها السندسي الهائل، وأراضي الغلة في لونها الذهبي البديع اللامع تجعل في الفضاء دفقات النور تزداد سطوعًا كلما ارتقت الشمس في دارتها، والحصيد بشقوقه الواسعة مبهوت أن يرى نفسه أجرد بعد أن كان بالأمس موطن النبات الجميل، وانتظم على الطريق سلك طويل من الأشباح السوداء تعلوها مخروطات الفخار وهن جميعًا يسرعن وعليهن سيما الهدوء والسكينة وجسومهن المصقولة تنساب في جو الصبح الهادئ الذي يموج فيه النسيم، فيبعث إلى رؤوسهن النائمة عالمًا كبيرًا من خيالات لا تنتهي. فإذا وصلن إلى الموردة غسلن جراتهن فملأنها ثم نزلن بعد ذلك ليغسلن أرجلهن، فيكشفن عن سيقان قوية بديعة يخالط لونها الأسمر شيء من التورد وهي ملساء ناعمة.. وهن في حركاتهن وحديثهن ومذاكراتهن أخبار الليل والأمس أقرب إلى الكسالى الراتعات في سعة سعادتهن، منهن العاملات الفقيرات. وهل على تلك الأرض الغنية الكريمة، أرض مصر، من فقيرة يؤلمها فقرها؟

وهكذا كانت زينب كل صباح تستعيد أمام ذاكرتها كل الحوادث التي انتابتها أخيرًا فتتألم ويزيدها كل ما حولها ألمًا.

ثم بدت علامات ذلك كله عليها، ونمّ وجهها عما يداخل نفسها، وأصبحت تلك الزهرة التي كانت تجلوها تذبل قليلًا قليلًا، وثغرها الباسم يخبر بابتسامته عن الاستهزاء بالحياة، وتنظر من تحت جفونها الناعسة نظرة المفجوع إلى الناس والأشياء، وجبينها ذاهل مستغرق في أحلامه.

فلما رأى حسن ذلك منها عرته الحيرة واشتد به الألم.

زوجان يقطعان معًا طريق الحياة المخوف، أحدهما تتقاذفه الأنواء وتلعب به الريح ويعاوده اليأس والأمل، والآخر متعلق به محسّ معه مشرّد البال والخاطر لكل ما يصيبه.

هل في طوق ذلك العامل الذي ظل سعيدًا مع زينب من يوم زواجه أن يأخذها معه في دار السعادة، ويقضيا أيامًا لذيذة ممتعين مما في العيش من مسرات؟ هل يستطيع أن يروح معها إلى حيث لا نشعر بمر الأيام ولا ننظر للوقت إلا مبهوتين لسرعة مسيره ونغيب بروحنا وبجسمنا عن العالم وضجته وجلبته؟

كلا، إنه لا يقدر! هي التي نقلته معها مما كان يتخيل نفسه فيه من السرور إلى حزن مستسلم لا يعرف قراره، وجاءت به معها في عالم المخاوف والآلام …

كان بالأمس يوم السوق مرة أخرى: يوم فرح، كل ينادي فيه بملء صوته ويتغنى في ندائه، وآخرون يسيرون وعليهم علامات الرضا أن أحسوا في جيوبهم ببعض القروش، والسماء ترد النور فتملأ به الجو يرنّ بضجة هؤلاء الناس، والشمس تبعث بأشعتها على الشجر وتسطع على الأرض الحارة التي يمشي فوقها الفلاحون بأقدام ثابتة لا تعرف كيف تتململ.

وكان هناك إبراهيم. ورأته زينب. فلما رجعت عاودتها حيرة. ماذا تعمل؟ هل بقي للعهد الذي بينها وبين حسن من قيمة بعد الذي قدموه لها؟ ثم إن كان زوجها يظن بها السوء لشيء ولغير شيء فأي تغيير على الأرض أو في السماء يحصل إن هي ألقت بنفسها بين يدي إبراهيم فخففت همها؟!.. هي إنما امتنعت من قبل لإرضاء حسن، فإذا كان هو لا يرضى بشكل ما، فما الذي يمنعها من استعادة الماضي اللذيذ القديم؟

… واليوم ساعة المساء رجع حسن بعد المغرب من عمله وتناول عشاءه، ثم خرج مرة أخرى وعاد فإذا هي في الغرفة جالسة وحدها تنظر من المنور إلى السماء ترقب فيها النجوم لا قمر بينها، وعيونها تائهة لا تحقق شيئًا مما أمامها، وظلمة الغرفة يخفف منها قليلًا المصباح قد وضعته بعيدًا عنها، ولم تُبق من نوره، إلا أثرًا، فجلس هو إلى جانبها وأمسك يدها بين يديه.. ثم سألها:

– إنتي مالك يا زينب؟

سألها سؤال صديق يتألم لما فيه صديقه من الأسى، وكلماته الملجلجة قد خرجت من أعماق قلبه تدل على مبلغ تأثره.

أما هي فبقيت لا تتحرك، وكأنها لم تحس بدخوله. بقيت تبعث بنظرة حيرى إلى الليل أمامها وإلى النجوم اللامعة البعيدة، وتقدر للغد الذي سترى فيه إبراهيم.

– انت مالك يا زينب؟.. بس قولي لي يا أختي مالك.. أمي كلمتك.. حد زعلك.. عشان إيه امال مضايقه ومحمله روحك هم الدنيا والآخرة.. إنت عايزة حاجة.. والا تكوني زعلانه مني أنا، إن كان كده يبقى الحق عليه ميت نوبة … يا زينب! بقول إنت مش زي النسوان.. بدنا نرجع نزعل من مفيش.. مش عيب.. إن كان حد كلمك.. أمي، أخواتي.. أنا.. أي حد، يبقى الحق عليه ومعلهش..

ثم أخذ يدها وقبلها مرتين، واستمر يحدّثها مسترضيًا وكله عطف واسترحام، وفي لهجته تلك الرقة التي تأخذ بنفوسنا وتخضع أمامها القلوب القاسية، وهو يظهر ما يكنه لها في نفسه من الميل لها والثقة بها.

إنه من يوم تزوجها سعيد راض يعتقد أنه حاز الدّرة الغالية من بنات البلد، وضم إليه الجمال والرزانة والجد والأمانة.. وما كانت إلا لتزيده اغتباطًا بحسن حظه، فماذا جد حتى يكدر عليه صفوه ويقلق باله؟

ليت شعري أي حادث على الزمان يكون ذلك الذي غيّر نفس زينب وقلبها! ألم يعاهد هو نفسه من يوم بنى بها أن يكون لها محبًا وبها واثقًا؟ أوَلم يحفظ ذلك العهد كأوفى ما تحفظ العهود؟ ثم ألم يكن بينهما ذلك الاحترام المتبادل بين شخصين يحترم كل منهما ذاته؟ فما أصل غضبها..

figure
فجلس إلى جانبها وأمسك يدها بين يديه.. ثم سألها: أنت مالك يا زينب؟

وزينب قد ترقرقت في عينيها دمعة تريد أن تنحدر فتمنعها إباء وعزة، وقلبها داخله حزن قاس، ذلك الحزن الذي يعاودنا حين نحسّ في لحظة واحدة بآلام شتى وبالأسف على جريمة وقعنا فيها ولا نقدر على التكفير عنها.. وزاد في صدرها على حزنه القديم أسى جديد جاء به اعتراف قلبها بما قارفت أمام زوج هذا مبلغ حبه لها وثقته بها. إنه كان حسن النية في كل هذه الأيام الماضية، وهي وحدها الأثيمة الجانية!!

إنها وحدها التي جعلت تنتحل مبررات لما تريد الإقدام عليه، وهذا الزوج البريء الطيب لا يعلم من ذلك شيئًا ولا يظن وجوده، فلم يبق عليها مع هذا إلا أن ترتمي على قدميه طالبة المغفرة، مقرّة له بذنبها، معترفة أمامه بكل شيء.

يا الله! ما أرقّه وأحناه من إنسان! كم في عبارته ما يشف عن بياض قلبه وصفاء باطنه!.. هو الرجل القادر، بيده كل أمرها، ويملك عليها كل شيء، ويقدر بكلمة منه أن يوقعها في شقاء كبير. ومع ذلك هو يستسمحها ويقرّ لها عليه إن كان ثمة شيء منه أو من غيره: يقرّ به عن غير جدال ولا أخذ ولا رد.. أليس من الخيانة والغدر أن تصرف زينب قلبها عنه؟ أليس عارًا كبيرًا عليها أن تفكر في حب غيره؟.. ألا إنه لكاف أن يمحو كل زلة، ولمستوجب للصفح عن كل هفوة ذلك الذي عمل في موقفه هذا! فإذا لم تك هناك زلة ولا هفوة وكان كل ما في الأمر سوء فهم منها جرّها إليه خطؤها وما في نفسها من الشرود أفلا يكون واجبها أن تنصرف لحبه والخضوع له؟ أم تكون من القسوة بحيث لا تسمع لكلماته؟

وبمثل هذه الأفكار ذهبت زينب إلى مرقدها بعد أن أطفأت النور، ولم يبق في الغرفة إلا السواد الحالك. وكلما تمثلت في نفسها ذلك الصوت الدائب أحست بحسن يتقلب قلقًا كأنه غير مستريح البال هو الآخر، فعاودتها الهواجس ونخسها ضميرها. فلما لم تر للنوم من سبيل عليها فتحت باب الغرفة خارجة، فسألها زوجهـا إلى أين تذهبين؟ وعلم أن حر المكان لا تطيق النوم معه، وهكذا قضت ليلها تحت السماء تفتح عيونها للنجوم المشردة لا تدري مقرها وسط تلك الظلمة، ثم تقفلهما فتتخيل أمامها عالمًا كبيرًا مرسومة فيه صفحات الماضي تتوه بينها.

٤

جاء حامد مع إخوته إلى القرية لقضاء إجازة الصيف بعد أن أمضى سنته بين أعماله وأحلامه محاطًا دائمًا بالحيطان القريبة. وكان يخرج أيام الربيع إما إلى شاطئ النهر الكبير يفرّج همه أن يرى المناظر البديعة التي تحيط بالجانبين، أو يأخذ فوق ظهر الماء قاربًا إذا هو رأى الوقت جميلًا، أو يذهب إلى الهليوبوليس يرى فيها الأفق البعيد نازلًا فوق التلال أو مطوقًا الرمل الأصفر بقبته الزرقاء، والهواء الناشف يهبّ لذيذًا يفتح له صدره ويقف ليرى تلك الآفاق البعيدة من الصحراء المحيطة بالواحة الناضرة، ثم يرجع على الطرق «المسفلتة»، وتمر به الغِيد تحت حبراتهن السوداء تبين منها أذرعهن الملفوفة الناعمة، وبراقعهن الشفافة تنم عن أذقانهن الدقيقة أحيانًا، وخدودهن المتوردة في لونهن القمحي الجميل، وعيونهن النّجل قوست فوقها حواجب سوداء تعلوها جباه نقية. ويسير حالمًا ذاهبًا في خيالاته إلا أن يستلفته جمال ما حوله أو الهواء يهبّ فيرفع من أطراف رؤوس الحبر فتصيح بعض الفتيات متلفتة تريد أن تتقي هذا المتحسس.

ويجلس أحيانًا على «الطاولات» الموضوعة إلى جانب الطريق، أو هو يذهب إلى القهوة ينتظر بها، ولا يبعد أن يرى بعض أصحابه فيتحادثون، ويجرّ الحديث ذيوله من موضوع لآخر، ويستنفد الوقت ويضطر الصديقان للرجوع.

وكثيرًا ما كان ذهابه في أحلامه لا يدع له أن يرى كل ما يحيط به. ولقد كان مولعًا بتلك الطبيعة الناشفة التي تحيط بالواحة الناضرة حتى لقد كان يذهب إليها مرات متوالية آخر العام قبل أن يهجر العاصمة، فيمتّع نفسه منها ومن المناظر المدنية التي تحويها ومن تلك الأشكال النسائية المحكمة تنسدل ثيابها دقيقة مع كل أجزاء الجسم قبل أن يذهب إلى المناظر الريفية وثياب الفلاحات المسدولة المستقيمة يظهر من تحتها جلال صاحباتها، ثم ليرجع نحو الساعة العاشرة من المساء و(الترامواي) يشق به الخلاء، والهواء يسري وسط الظلمة ومن تحت نور الكهرباء إلى العربات تكاد تطير في سرعتها.

.. جاء حامد مع إخوته إلى القرية ومكث بها الأسابيع الأولى يذهب أخريات النهار وحده أو مع بعض خلانه إلى المزارع يرى ما فيها، ثم إذا جاء الليل وطلع القمر اصطحب صديقًا له إلى بعض الترع يجلسان على شاطئها في مصلّى مفروش بالحلفاء يهب فوقه النسيم. فإذا ما أخذا حظهما من الجلوس رجعا أدراجهما بتلك الخطى البطيئة اللذيذة فوجدا جرائد المساء قد جاءت وصار الناس ما بين آسف لحادث حدث، أو متألم من ظلم الحكومة وتعسفها قصدًا، أو ضاحك بين أسنانه أن قرئ أمامه تصريح وزير ما أكثر ما صرح. أو متهيج ساخط لما ارتكبه بعض الموظفين الإنكليز من الحماقات، أو متحادثين ينتصر أحدهما لصحفي والثاني لآخر، فيأخذ حامد جريدة يمر عليها بنظره، ولا يبعد أن يطلب بعض الحاضرين إليه أن يقرأ لهم الافتتاحية أو يأخذ رأيه فيما كانوا فيه يختلفون.

فلما كان في بعض الليالي وقد رجع مع مطلع القمر وجد القوم سكوتًا ليس من بينهم إلا من يقص حكاية عما في الغيط ومقدار ما أضر العطش القطن في هاته الأيام الأخيرة.

– والمهندس الله يضره ماسك الميه بيده.. تفتح له إيده تجي الميه تجري.

– أنا والله مش عارف الناس دول ذمتهم إيه.

– هو يا شيخ الناس عاد عندهم ذمة ولا دين، أصحى الكلب بتاع مركزنا ده، واخد دك النهار لما هو طافحه، وأهو طول الدور ده الميه ناشفة.

– لأ.. والمسألة كلها بايظه من مهندس لباش مهندس لمفتش كله خبص في خبص.. يعني أول أول إمبارح انبعث كام تلغراف وكام عريضة وراحوا قابلوا المفتش بالذات.. ولا شيء.. ولا حياة لمن تنادي.

– والله ما يجيب العاتي إلا الفلوس، إحنا عارفين أهل بلادنا ويعني بس ليه.. كان ولا تلغرافات ولا مقابلات والقرشين اللى راحوا فده انحطوا على كمان قرشين وانحطوا في ايد المهندس ودورنا في الدور وفي البطالة زي ما يعجبنا.

قطع حديث القوم دخول السيد محمود، فوقفوا جميعًا، ثم جلسوا وتبادلوا التحية معه، ودخل الخادم بعد ذلك ومعه الجرائد، وتناولها منه حامد ووضعها على «ترابيزه» أمامه، ثم نودي بقهوة فجاءت، وتناولوا الحديث من جديد، فسألوا السيد عن أمر الماء فأجابهم أنه سيصلهم هذه الليلة، وعلى العادة فتحوا الجرائد وقرأوا ما فيها مسرعين.

أما السيد محمود الذي كان مشغولًا طول نهاره مع المهندس وجاء منه بوعد وبتصريح كتابي ليديروا مدة البطالة، فلم يهدأ خاطره أن يبيت في منزله مستريحًا بعد عناء يوم قضاه ما بين سفر ومناهدة طويلة مع ذلك المستخدم الذي هو من أشد طوائف المستخدمين تعلقًا بالحكومة وخدمتها حيث يخيل إليه أنْ لا عمل من الأعمال الحرة في حاجة إليه، وهو مع ذلك أجرؤهم على العبث بقوانينها ولوائحها.

لم يهدأ خاطره أن يبيت في منزله بل أخذ معه صديقًا له وقاما ذاهبين إلى المزارع العطاش المسكينة، فقام حامد معهما وساروا مع القمر حتى وصلوا فوجدوا جماعة المستأجرين نيامًا على شاطئ الترعة ينتظرون قضاء الله وقضاء الحكومة في أرزاقهم وفي عيشهم، وكأنما الآفات الكثيرة التي تنهال عليهم من غير حساب تقذف بها السماء الرحيمة ليست كافية لشقائهم فتتقاضاهم الحكومة الضرائب لتزيدهم شقاء. والبائسون يحسّون بتعسهم هذا، والمسنّون يأسفون على الزمن القديم قليل الحاجات قليل المتاعب، والقمر الناحل في سمائه يبسط عليهم شعاعه الذي طالما التحفوه.. التحفوه من يوم كان عمرهم سبع سنين يحضرون للحصاد، ومن قبلها تجيء بهم أمهاتهم معهن أطفالًا فينزلن لعملهن ويدعنهم لرحمة الرؤوف الرحيم.

فلما مروا بأول تابوت إذا بصاحبه جاثم إلى جانبه مكوم في دفيته فناداه السيد: سالخير يا بو محرم.. اصحى الميه جايه.

فقام أبو محرم العجوز حتى أيس من الحياة وسلم على القادمين يدًا بيد ثم قال: يخي مية ايه عاد.. القطن بقي يا رحمن يا رحيم.. والله كانوا الناس زمان مبسوطين.. كنا نستنى النيلية لما تجي وبعدين نبدر وخلاص تطلع الغلة تتلتل.. حقه وفي التصفية كنا نصيد سمك.. سمك ايه، الدنيا، وليّامدي الواحد ينشف ريقه على ما يحصلوه حبة منه … اللي فات باين ما يرجعش..

ثم أعاد حكاية الماضي حين كانوا ينالون كثيرًا من الخير من غير ما نصب ولا لغوب، ولم يتسخط إلا على الكرباج وتشدّد الحكام في الضرائب، وكأن هذا الفاني سيودع الأرض في أيام معدودة يهزأ في لهجة الجاد من دعوى الحكومة الحاضرة إصلاح الحال وتنظيم الري وإسعاد الفقير.

هكذا سار السيد محمود يوقظ الناس واحدًا بعد واحد، فإذا فتحوا عيونهم ورأوا قرار الترعة لا تزال شقوقه واسعة انبهتوا لِمَ يوقظهم المالك في تلك الساعة من الليل، ولكنه لا يلبث أن يخبرهم أن يستعدوا فالماء على وشك أن يصل إليهم.. فلما بلغوا أحد كبار المستأجرين جلسوا عنده وشربوا قهوة معه ولم يتركوه حتى جاءت تباشير الماء تتقلب على الطمي الناشف وتتسرب في الشقوق ثم تسمع بعيدًا بعيدًا.

تركوه إلى قطعة من زراعة السيد محمود نفسه، فيها أرز لم يظهر سنبله بعد. وقد يبست أوراقه من العطش، فلم يجدوا بها أحدًا فنادوا بعامل وبالبهائم من عزبة قريبة، وانتظروا معه حتى مطلع الصبح، وحامد يسير في الغيط من جانب لآخر، ويرى ذلك النبات المائي تنحدر منه الحياة، وتفقد أوراقه الخضراء لونها البديع الزاهي، فتصبح ذابلة باهتة ثم تتحول ناشفة وتسقط إلى الأرض.

فلما أشرقت الشمس أراد السيد أن يرجع إلى البيت وقد اطمأن على الماء وعلى الزرع، ففضل حامد أن يبقى في المزرعة إلى جانب التابوت يزنّ بنغمات متشابهة دائمة تضيع ساعات النهار وسط ضوضاء الوجود، فإذا ما أقبل الليل ودخل الكون إلى سكونه وجدت نفسها، وتقلبت مع النسيم يسمعها المدلج وسط اللا نهائية الهائلة من الأرض المستترة بثوبها الأسود، فيطمئن على البهيمة المجدة في سيرها.

وجاء وقت الظهيرة وقد حميت الشمس وأرسلت على الأرض نارها، وحامد يلعب النوم برأسه الساهر طول ليله قد انزوى في عش هنالك بقي فيه نائمًا مرتاحًا.. ثم فتح عينه فإذا الشمس ساقطة إلى مغربها قد احمر قرصها في آخر السماء الصافية، فلوَّن ما حولها ببعض لونه.. والترعة الصغيرة إلى جانبه يعلو فيها الماء ثانية بعد أن كان قد هبط قبيل الظهر.

تلفت حوله فإذا العامل الذي معه ليس موجودًا، وإلى مسافات بعيدة لا تلمح العين شبحًا، والثور الذي في التابوت يضج مبطئًا، والشمس مسرعة إلى مكمنها، والسماء يقتم لونها رويدًا رويدًا.. وكأن الجو إذ يظلم قليلًا تتسرّب فيه عفاريت المساء والجن الساكنة هذا الفضاء الكبير من الأرض. ثم لمع في السواد بعض النجوم، ولكن الليل المقدم يأتي ولا قمر معه يجعل اللمع غير ذي جدوى، والشياطين تجري في الهواء أمام عيون هذا الوحيد المستوحش، وكأنها تريد أن تدخل العش معه، وينظر فلا يرى إنسًا، ثم وقف الثور وسكت كل صوت حوله، وابتدأ الوجود الأخرس يدوّي والصراصير تصفر فتملأ الفراغ بصراخها، والليل يقدم دائمًا.

أمام كل ذلك تثاءب حامد تثاؤبًا طويلًا دمعت معه عيناه اللتان لا يزال بهما أثر النوم، فأخذ حصاة حذف بها الثور، ثم تمطّى مكانه من جديد.

وعاد ذلك الزنّ المتشابه المتماوت يحيي شيئًا من هذا السكون والموت، والماء ينصبّ في الحوض يلمع في الظلمة أمام عين المتناوم من غير نوم، والسماء تزداد عبوسًا، والنجوم تنظر في لمعانها بعيون ثابتة، والأشباح تزداد تميزًا، والليل يقدم دائمًا.

جاءت لحامد في ذلك الوقت كل الأحلام الفظيعة التي يجيء بها هذا الموقف لمثله، أليس من الممكن أن يفاجئه في هاته الوحدة بعض الذئاب فيناوئه، وينغص عليه سكونه؟ ثم إن جاء شيء من هذا أفيمكن أن يفترس إحدى البهائم التي عنده؟.. وماذا يعمل الآن للتحفظ من كل هذا؟ لا شيء في الإمكان عمله.

استمرت معه تلك الأفكار مدة ظهرت له طويلة لا يعرف مقدار طولها، وهو يجاهد ما استطاع لطردها، ويشجّع نفسه. فلما طال به المقام ورأى أن علقة الثور استحقت، وليس هناك من يغيّر عنه، قام هو لتلك العملية البسيطة، وسار حتى وصل «الطوالة» ليجيء بالثور الثاني فإذا شبح فيها، إذا نائم ذاهب في نومه قد غطى وجهه بمنديل، إذا العامل الذي معه استرق لحظة ليريح رأسه فيها، ولم يجد سريرًا أمهد ولا مكانًا أخفى وأبعد عن الرجل من الطوالة ما دام لا يريد أن يضايق النائم في العش.

أيقظه حامد بيد خفيفة، فسأله صاحبه: هل أخذ عشاءه بعد؟ إذ جيء به من البلد وهو هناك في الركن.. لكن حامد كان مشتغلًا عن هذا بما هو فيه من أحلام فظيعة وما يبصر أمام عينه من أرواح خبيثة، فلما وجد ثانيًا يؤنسه تبدّد ذلك كله وراح يتناول طعامه بعد أن دعا الآخر ليأخذ لقمة معه.

وبعد العشاء ذهب ثانية إلى نومه غير مستطيع أن يثبت أمام ذلك النسيم اللذيذ العذب يدخل إلى القلب والنفس فيحملهما إلى غير عالمنا، ويترك الإنسان سكران خادرًا. وبقي ممتعًا بتلك الراحة الكاملة تحت سقف العش الصغير أقيم له حائطان في جانبي الشمس، وترك الشمال وما حاذاه مفتوحين إلى الخلاء الواسع العظيم. وبقي ممتعًا بتلك الراحة التي نروح فيها بكلنا ونغيب معها عن الضجات مهما عظمت حين نكون منهوكين لاغبين، وأي لغوب أكثر من معاناة الشمس المحرقة تشوي الجلود ثم الساعة المخيفة التي مرت به واقشعر لها بدنه.

فلما نال حظه الكامل من النوم استيقظ رائق البال منشرحًا، وقام فجلس إلى جانب التابوت الدائم الزنّ تحيط به الظلمة التي تغطي كل شيء، وخيمة الليل مبذورة فيها النجوم لا تزال بلونها الذي تركها به ساعة العشاء. وبدأ حديثه مع العامل الواضع «بشته»١ فوق رأسه المغمض عينه يسارق النوم وتأخذه سنة يبقى فيها ما دام الثور دائرًا، فإذا هو وقف طارت سنته ونادى به أن يسير، ثم رجع لها من جديد. بدأ معه حديثًا استمر بضع دقائق، ثم راح العامل في دنيا غير الدنيا، وإن بقي أحيانًا يؤمن على قول حامد ﺑ (هه) ينطقها من غير ما علم ولا إدراك.

والسماء تلمع بكواكبها قد ابتدأت «تبهت» لمشرق القمر الذي ظهر نصفه ناحلًا متورد اللون كأنه خجل من تأخره، ثم تجلى رويدًا رويدًا، وانجلت طلعته فبعث على البسيطة بشيء من شبه النور لمعت تحته المزروعات القريبة بعد أن كانت سوداء قاتمة، والنسيم يتهادى في الفضاء الهائل فتنام تحته النباتات سكرى بلذاته وبالماء يجري تحتها، والحيوان الدائر في التابوت يستمر بلا انقطاع ويدع لصاحبه الراحة في سِنته. وتبقى هذه الموسيقى المتشابهة التي تملأ آذان الليل تتبعه في مسيره ودوراته. وحامد في صمته مستأنس بكل تلك الموجودات يتلفّت يمنة ويسرة، فيرى الآفاق القريبة والترعة قد انطرح على مائها النور الجديد تتقلب موجاته الضئيلة سائرة مع التيار.

•••

طال به السكون، فابتدأ يفكر فيما حوله: كم وراء الأفق من عجائب يحار دونها الذهن! كم هناك من حيوانات وأشياء لا عدد لها هو على قربه منها جاهل أمرها كل الجهل! والتوابيت البعيدة لا يكاد يتميز صوتها لبعدها. ماذا يعمل الناس عندها؟ أهم سكوت ذاهبون في أحلامهم؟ أم يعملون مجدين لإحياء زرعهم؟ لا بد أن يكون في يد كل منهم طنبور صغير يديره فيساعد به صديقه الحيوان ويضاعف العمل ويربح الوقت، والوقت من ذهب..

وهناك قريبًا منه أشياء لا يعرفها، موجودات تتمتع بالنسيم والماء وبهدأة الليل وستاره مثلما يتمتّع. ثم عوالم السماء!.. ما أغرب هاته النجوم اللامعة تبسم لنا عن نفس طيبة؟ هل هاته الأشياء الصغيرة شهدت مبدأ الخلق وتبقى إلى آباد لا نهاية لها، في حين نمر نحن في فترة من الزمن قصير أجلها؟ ومع هذا العمر الطويل هي متواضعة لطيفة، وكأنما علمها تعاقب الأيام أن من الحمق تعاظم من يسير تحت سلطان كل ما حوله من صغيرة وكبيرة!.. أليس عجبًا أن تمسك نفسها هكذا في الفضاء وهي ثابتة غير ذات حركة، أم تتهادى مبطئة مبطئة؟!

ثم ماذا تحت الأرضين؟ من يدري؟ تحتها أجداث الأموات وحفر الأحياء تحتها جذور الشجر وأصول النبات! تحتها سكون الموت وضجة البراكين! تحتها ما لا نعلم.

والقمر ما أشد نحوله! لا بد أن يكون صحيحًا أنه مسكون بأحياء، وأن يكون هؤلاء كلهم عشاقًا مغرمين، وأن يكونوا من الهيام بمن يحبون بحيث يصبحون أشباحًا فانية ويبعثون على كوكبهم ذلك النحول الذي يعلوه.

وبقي بعد ذلك محدقًا بعيون ثابتة إلى الكوكب المضيء يناجيه ويسائله، وهذا الأخير يتخطى في السماء خطاه البطيئة الهادئة.

ثم «بهتت» السماء مرة أخرى وكادت تغيب النجوم، فعلم حامد أن الصبح صار قريبًا، فقام يسير وسط المزرعة يرى مقدار ما سقاه الماء منها. ووصل إلى حد الشارب من الأرز، فوقف ونظر إلى ما أمامه وإلى ما خلفه ثم إلى السماء فإذا هي تظلم من جديد. تظلم تلك الظلمة التي تجيء لحظة ما بين الفجرين. ثم انجلت فرجع هو إلى عشه ونادى بالعامل معه أن يوقد نارًا يسخنون عليها بعض ما عندهما من العيش ليتناولا لقمة الصباح.

وهناك بعيدًا عند الأفق ابتدأت الشمس تبعث برسلها. وهما قد انتقلا للمصلّى وجلسا فيه ساكتين لا يتكلمان. وحامد محدق لذلك الشرق البديع تسيل سماؤه ذهبًا ويعانق بكله النباتات التي عنده. ثم ظهر القرص كبيرًا يتهادى بين الأرض والسماء كأنه في مهده تهزّه الملائكة ولا يزال عليه غطاؤه المتورد. وجعل ينكشف رويدًا رويدًا، ويعتلي الطبقات مسرعًا أولًا ثم على مهل، ويرسل حوله من ناره ونوره ما يذيب كل ما يحيط به، ويبدلها بدفقات من النور تبيض لها زرقة السماء.

وهكذا جاء النهار بضجته وصياحه وتقدّم حتى إذا أذن وقت الزوال انزوى حامد في عشّه وأخذ راحته، ولم يستيقظ إلا عند المغيب.

مرت ليلته كما مرت الأولى، وكل الفرق بينها أن القمر تأخر نصف ساعة عن مشرقه بالأمس.

وليال وأيام تمر وحامد كلما اختلى بالليل وضمه لصدره نسيمه العذب بخيالاته وأحلامه إلى أشياء عدة: فمرة للسماوات والأرضين وأخرى للناس البعيدين عنه وراء، الأفق، وثالثة للعجماوات الخرساء وما تكنه في صمتها وسكوتها من السر العجيب. وقد اعتاد زنّ التابوت أن يحيي بعض الشيء الموت المحيط به، يرنّ في جوف الليل القاتم، فيؤنس الجالسين حوله، كما ألف الوحدة والبعد عن الناس.

فلما كان في بعض تلك الليالى، والقمر قد صار في ربعه الأخير وهو يحدق إليه، ويرى ذلك النير البديع ذاهبًا إلى فنائه، ثم ينتظر من بعده هلالًا جديدًا، إذا نغمة عذبة تشق الهواء لتطرب أذنه، رنة محزونة تسري على موجات النسيم إلى مسمعه، صوت رخيم يمتد فيملأ الخليقة النائمة أحلامًا: إذا «سلامية»٢ يقلب عليها إبراهيم أصابعه هناك عند التابوت البعيد، وكأنه يشكو للقمر وجده.

كم في تلك النغمة المحزونة من المعنى! وكم تكن من الجوى والشكوى!.. إن في رأس صاحبها تلك اللحظة لعالمًا كبيرًا أجمل كثيرًا من عالمنا ينادي إليه صاحبته، عالمًا طاهرًا تطير فيه الأرواح أزواجًا يتضامّ كل اثنين منها بعضهما إلى بعض ويتعانقان؛ عالمًا فيه تلك اللذة الملائكية السامية نصل إليها حين نرقى إلى علو، كما نجيء بها إلى جانب اللذائذ الأرضية الأخرى حين نريد أن نستكمل كل الشهوات.. لذة القبلات.

نعم هي القبلة، علم الإخلاص ودليل الود.. معها تسيل الروح تنضم للروح، هي صوت القلب والنغمة الثائرة من بين أوتاره؛ هي تلك اللحظة التي ننسى فيها أنفسنا من أجل محبوب جميل. بالله أي شيء ذلك الإحساس الذي يعرونا حين يصعد الدم إلى خدود الحسناء التي نحب ساعة نقبلها، وكأنها تقول في استسلامها بين أيدينا: أنا لك.. ألا أكون أنا الآخر لها؟ ألا أسجد أمامها؟ ألا أموت من أجلها؟.. قبلة الحب هي اللذة.. هي السعادة.. هي الحياة!..

لما سمع حامد هاته النغمة أنصت طويلًا، وقد تاه عن وجوده، وغابت عنه أحلامه، وراح يهتزّ تحت أثرها، وتلعب نفسه فتنقلها من الأسى إلى الاستسلام إلى اليأس، ثم إلى الأمل الطويل العريض.. وبقي هكذا حتى بدت تباشير النهار.

وبعد أيام أصبح الماء بالراحة، وامتلأ به الرز وترعرع واخضر وتكاثر وصار من اللازم خفه.

جاءت البنات والأولاد للخفّ، جاءوا جميعًا مع وابور الصبح ومع كل شرشرته، فكشفوا عن سوقهم، ونزلوا هم الآخرون بين البنات، وابتدأوا عملهم سكوتًا، وحامد يتبعهم بعينه أو يذهب سائرًا وراءهم فرحًا بتلك الخضرة الجميلة العزيزة عنده وقد سهر عليها ليالي تباعًا، ثم تقدم الوقت قليلًا، وقد ابتدأوا يتكلمون، واستحث العامل المكلف بهم إحدى البنات فنظرت إليه متعجبة منكرة قوله وأجابت: «هو أنا ساكتة».

ومرة أخرى استحث غيرها، وابتدأ بعد ذلك يضحك منهم ومعهم، وهكذا جاءهم السرور الذي يلازم هاته الجماعات دائمًا عند العمل. وحامد — وإن لم يوغل معهم فيه — لم يكن على الحياد تمامًا، بل كان يجيء مع أحد الطرفين فيعينه على صاحبه. وكم كان يحس ذلك المنصور في نفسه من الفرح لا لأنه انتصر على صاحبه — وذلك في الواقع لا قيمة له عنده — ولكن لأن «سي حامد» جاء في جانبه! وتقضّى أول يوم على هذا، ولم يكن فيه ما يستحق الذكر، إلا أنهم ساعة المقيل جعلوا إحدى البنات ترقص أمامهم.

وفي اليوم الثاني كانوا أصرح في حديثهم وأقرب لما تمليه عليهم إحساساتهم، يضحكون عن قلب طيب ونفس خالصة. بل لم تكن إحدى البنات — وقد أحست في نفسها أنها أجملهن لتدع حامدًا يضحك منها من غير أن تجيبه بشيء أو ببعض شيء. فلما كانوا في ظهر اليوم الثالث وقد جلسوا بعد طعامهم وجلس حامد مرتكنًا في الطوالة يحدثهم، قام بعض الفتيات وجلسن في الجانب الآخر من ذلك المكان الظليل. وقامت تلك الفتاة فجلست إلى جانب حامد كتفًا لكتف، وجعلت تكلمه وتضاحكه والبنات يرمقنها شزرًا ويتهامسن. فلاحظهن حامد في همسهن، وقدّر ما دار في نفوسهن، فمال إلى جارته وقبّلها، فنظرت إليه مختلطة كأنما تسأله ما هذا؟.. والبنات كلهن حدقن إلى الاثنين وقد علاهن الاستغراب.. فلم يمهلها هو في تلفتها حتى قبلها في خدها الثاني.. فدفعت به بعيدًا منكرة عليه عمله، وضحك كل من حولهما. فلما رجع إلى مكانه وعاوده سكونه ارتمت هي عليه مدعية أنها تجازيه فضمها إليه وقبلها ثالثة.. وكلما تركها جاءت نحوه تجره بيديها وتميل عليه تريد أن تناله بجزائها، وقد علا الدم إلى خدودها فأعطى سمرتها القمحية ذلك اللون الوردي العاشق المعشوق.. وحامد مثلها قد تغير لونه لا يني حين ميلها عليه عن تقبيلهـا أو ضمها لصدره.. ثم البنت يكاد يضيع رشدها في يده قد استسلمت له وإن ادعت أنها تدفعه.

وأخيرًا جاء موعد العمل، وقام كل منتظمًا في صفه وبيده شرشرته، وتبعهم حامد خطوات، ثم وقف بعيدًا عنهم، ورجع إلى نفسه يسائلها: أي جنون ذلك الذي أصابه؟!

وجاءت عليهم ساعة كانوا فيها جميعًا أشد صمتًا من العالم الأخرس الذي يحيط بهم. وتلك الفتاة خادرة خائرة مفككة الأجزاء غائبة الرشد، تائهة عما حولها، تعمل في الخف غير محسة بعملها ولا ترى شيئًا من تلك النظرات، يوجهها لها المحيطون بها، مصحوبة بابتسامة حقد من البعض واستهزاء من الآخرين واتقدت غيرة في صدور الفتيات وتخفضت جفونهن.. والجميع سكوت في صمت.

أي شيء ذلك الذي عرى حامد؟ وأي جنّة أصابته؟ هل هو ذلك الإنسان العاقل القويّ الإرادة؟ ومهما يكن في تلك السذاجة الريفية التي تجعل الفلاحة في بساطتها ذات جمال أمام العين والحواس وتعطيها في حركاتها الوحشية ما يلفت النظر، مهما يكن فيها من الجذب فهل من مقامه أن ينزل إلى ما نزل إليه؟.. ما المرأة إلا شيطان رجيم وحبالة منصوبة يتهافت عليها الرجال المساكين وهم عنها عمون! هي الشر المحض، وكامن فيها السوء كمون الكهرباء في الأجسام متى لامسها الرجل أثارت حولهما هي وهو ما لا يعرف فرمت به الأرض وحطت من كبريائه وعظمته.

جاءت هاته الأفكار إلى نفس صاحبنا وهو في طريقه إلى البلد بعد أن قضى أسابيع تحت السماء الصافية، أو في عشه الصغير، وقد ترك الغيط بمن فيه بعد ساعة من انتهاء المقيل، وجاشت نفسه وهانت عليه دمعته يريد أن يكفّر عن خطيئته. إنه عاش السنين وكل أحلامه طاهرة نقية. أفينقضها في لحظة ويأتي عليها من غير ما روية ولا تفكير؟ أينزل من تلك السماء العالية، سماء العفة حيث الملائكة الأبرار إلى مستوى الناس الذين لا يفكرون؟ وهل يكذب ما يعرف الناس جميعًا عنه من الاستقامة والدين في ساعة من زمان ومن غير ما سبب؟ ثم كل ذلك مع من؟! مع فتاة عاملة بسيطة! ويل له من مجازف إلى حتفه رام بنفسه إلى التهلكة.. وويل للنساء جميعًا يقذفن بنا من حالق عزتنا وعظمتنا ثم لا نكسب معهن إلا ضياع قوتنا وأنفتنا ومالنا! بل ويل للوجود الذي رتب العالم بهذا الترتيب المنكود!

فلما وصل إلى ترعة في طريقه رمى بملابسه إلى البر ونزل إليها يطّهر من رجسه ويستغفر الله من زلته ويرمي عن نفسه ذلك الدنس الكبير.. وكلما رأى امرأة سائرة استعاذ بالله من شرها، واستنجد الملائكة الأبرار ضدها، وكلم السماء بصوت عال يصعد إليها وسط سكوت الهواء وسكونه.

وقضى بقية نهاره بين أهله المشتاقين إليه ينظرون إلى وجهه وعليه لون الشمس وإلى أذرعه سمراء مفتولة ويسألونه كيف طعم الفضاء فيجيبهم وباله مشتغل ونفسه قلقة لا يدري أية وسيلة يكفر بها عما عمل.

ثم أقبل الليل وراح إلى سريره فإذا أمامه ظلمة حالكة وهواء مختنق! إذا هو لا يجد ذلك الفضاء العظيم يسري فيه النسيم تنتعش له النفوس والأرواح، ولا تلك السماء ونجومها تتلألأ أمام عينه فيحدق إليها طويلًا وكأنه يجد فيها وحيًا ونجوى. ثم القمر لا يملك منه إلا شعاعًا يسري له من النافذة وذلك الصب العاشق مختبئ وراء الحيطان لا يرنو له ولا يكلمه وكل المكان خبيث الطعم ثقيل على نفسه.

أين الترعة وماؤها الجاري؟ أين الآفاق البعيدة شبه المظلمة مع نور القمر؟.. غاب عنه كل ذلك وغاب ما فيه من جمال وسر.

ولم يستطع النوم فجعل يفكر في يومه المدبر آسفًا. ثم انقضت بعد ذلك أيام وهو يذهب إلى المزرعة ساعة الأصيل ويرجع عند الغروب. فلما راجعه الهدوء والسكينة، وجادت عليه تلك الوحدة المطلقة والابتعاد عن عوالم الكون وعن كل الموجودات بما سمح له أن يكون بعيدًا عن كل مؤثر قال في نفسه: ساعة رجعت من الغيط وقد أخذت غدائي هناك كان في البيت هنا فاكهة لذيذة وحلوى فجلست آكل وإن كنت شبعان، وما كان أحلى ذلك الطعام وألذه! ثم شربت من بعدها مرطبات عن غير عطش. وذهب لأقول لعماتي وخالاتي «عواف» بعد غيبتي الطويلة عنهن جميعًا، وعزمن علي بحلو مما عندهن فأطعتهن ووجدته لذيذًا. ولما سهرنا وكان معنا الشيخ سعد وغنى بصوته الحلو وسمعته وجدته لذيذًا. قاتله الله ذلك الرجل! كم هو متقن! وكم ذكرني الشيخ سلامة حجازي حين كانت تتشنج أعصابي وأجلس ساكنًا والناس كلهم مثلي حتى يفرغ الشيخ من دوره وقد عرت الأبدان قشعريرة الطرب مرات فلا يقدرون على أن يحبسوا أنفاسهم دون أن يصيحوا استحسانًا.. كل ذلك كان لذيذًا وحلوًا ولكنه لم يكن بألذ من تلك السويعة التي قضيتها مستوحشًا مع البنت تتعلق بعنقي وتضمني إليها وأضمها إليَّ أقبلها من خدودها المتوردة. كم كان لهاته الساعة من لذة لولا ما تلاها من الأسى! وأدفعها عني فتقبل عليّ وتلصق جسمها بجسمي وهي حلوة الروح، والرائحة، تكاد تأخذني إليها وتفنى فيَّ أو أفنى فيها. ثم نحن جميعًا ثملان بسكرة لذيذة ما أحبها إلينا! وثدياها ناهدان كأن بهما نارًا تتقد، ويرتعشان. وكل ما حولها تفوح منه تلك الرائحة المنعشة المخدرة. ثم ساعة تدني ثغرها إلي تدعي أنها تعضني وتقبلني قبلة لا صوت لها، وجسمها كله في تحلله كأنه يموج فيقلب معه عوالم خفية أحس بها كلي من أطراف قدمي إلى شعر رأسي وتسري لها فيّ رعشة أكاد أتوه معها.. كل هذا كم كان لذيذًا! هو ألذ من كل تلك الأشياء ثم هم علينا يحرمونه. إنني لم أوذِ بذلك شخصًا ولا اعتديت على أحد، وإنما تمتعت به متاعي بما سواه مما أبيح ولا حاجة لي به سوى التلذذ والتنعم.. حقًّا لقد كانت ساعة في العمر لا ينسيها إلا مثلها.. ثم يقال هي عليكم حرام!..

… نعم يا ضلال الشيطان! في أى شر تريد أن توقعني وإلى أي وهدة تريد أن تقذف بي.. كل تلك لذائذ فانية لا طعم لها. نحن بنو آدم بين الملائكة والبهائم، فإما نزلنا لهذه وقنعنا من الوجود بمقنعها، وإما ارتفعنا لمقام تلك ورضينا أن نحرم من الصغائر. وما كنت، وقد بلغت إلى اليوم ما بلغت، لأنهار من أجل فتاة عاملة، مهما بلغ جمالها، أنحطّ إلى أسفل الدركات.

بعد ساعة قضاها بين أسى وألم راح في نومه هادئًا لا يعي. وتوالت الأيام وهو يبيت في الدار محتملًا ضيق تلك الظلمة الكالحة حيث لا ترى عينه نجمًا ولا قمرًا. وكلما دخل إلى نفسه يحاسبها كان معها الشديد العنيد.

وما كان ليلحظ ذلك عليه أحد وقد عرف الناس عنه دائمًا كل ما يطلب من مثله: الجد والاستقامة والدين. حقيقة إنه لم يكن يصلي ولكن ذلك لا يدخل في التقدير العام لأولاد المدارس.

لكن الأيام ينسخ بعضها بعضًا، والغد يحجب الأمس بأكثف الحجب. بذا راجع حامد سكونه الأول المسدول على حياته يتخطى تحت ثوبه الرقيق من كل يوم لغده يين أحلام وآمال وخيالات لا حدّ لها. ولم يبق أخيرًا ما يضايقه إلا الليل وسواده الكالح الديجوري وسكونه العميق الأخرس فكان دائم الإحساس بثقل ظل ما يحيط به؛ إن الظلمة العابسة أو الحيطان أو السقف أو السرير أو ما سوى ذلك مما ينغص عليه أحلامه وأفكاره.

ثم لم يطب له إلا أن يرجع إلى تلك الحياة الطبيعية الحلوة، وصار ينام عند مزرعة من مزارع القطن مرتفعة أرضها لا يصعد إليها ماء الراحة إلا نادرًا فتسقى بطنبور من طنابير البهائم. رجع وليل الصيف دائمًا هو ذلك الليل اللذيذ ذو النسيم العطر والنجوم اللامعة والبدر في زهوته والترعة الصغيرة إلى جانبه يزحم فيها الماء بعضه بعضًا ويعكس نور الساهر من آباد الآباد. واستعاد بذلك عهده القريب وإن لم يتمتع بزنّ التابوت فقد بقي له بدلًا منه رج الطنبور تسمعه ما دمت إلى جانبه، فإن أنت ابتعدت قليلًا غاب عنك وخرس صوت الليل ولم يبق لك فيه من أنيس.

فإذا ما تنفس الصبح رجع إلى أهله بعض ساعة ثم راح إلى الفتيات في خف الرز يتبعهن، وكأن له من وراء تلك الزرعة مغنمًا. وبعد أن انقضى نصف الغيط خفًّا إذا أخت زينب من بين العاملات، تقول إنها لم تحضر من قبل لأنها كانت مشتغلة في بناية في البلد. فلما كان الظهر أخذها حامد إلى جانب يسألها عن أختها وحالها وهل هي مبسوطة في عيشتها وحياتها الجديدة، فتذكرت الفتاة أختها والأيام التي كانت تقضيها معها جنبًا لجنب في مثل تلك الساعة من النهار وتأخذان غداءهما معًا ثم الوحدة التي هي فيها اليوم وكيف تخرج من الدار منفردة، فعراها هم وأسفت على نفسها وعلى الماضي اللذيذ الفائت.

أما هو فاستعاد ذكرى الساعات الحلوة التي قضاها مع تلك الفتاة البديعة التكوين، وراجعه الأسى من أجلها. كم كان لقلبها من التعلق به! وكم كان يحبها! إن ذلك اليوم البعيد صار هناك في ظلمات الفناء، ساعة جلسا إلى جانب الطريق متعانقين، ليوم خالد الذكر دائم الأثر، وليلة رآها حزينة فأصابه القلق والهم من أجلها! يا ترى ما حالها اليوم وما ذكره عندها؟

كم لهاتيك الريفيات المستوحشات تحت سمائهن الرائقة وبين تلك الآفاق الواسعة من الزروع الخضراء النضرة من البهاء والجلال! وكم من سحر للجميلة منهن مفتولة الجسم بارزة النهدين ثابتة الخطى يتهادى جسمها مائجًا في مشيتها ويلعب الهواء بثوبها الأسود الصافي، وكم تكنّ من معنى بديع! ثم هن ربات تلك السذاجة الفطرية الحلوة الطعم تعطيهن مع قوتهن جمالًا وتجعل من سذاجتهن رقة وظرفًا.

كذب تلك الحياة الجد التي يقولون عنها حياة الفضيلة.. هي الموت لا مفر منه يأتينا أول ما نتذوق طعم العيش ويجعلنا نصدق أن الوجود فظيع خير ما نعمل فيه أن نتبتل مبتعدين عنه. ما أنا على ما نشأت عليه؟ وما تلك الحياة التي أقضي إلا حياة راهب طلق الدنيا وطلقته، ثم أدعي مع ذلك أني أتمتع بالعيش ومسراته، بتلك التي يسمونها لذائذ طاهرة.

ترى كيف أنت الساعة يا زينب؟ أتستقبلين الغد مستبشرة به فرحة لمقدمه ويضع زوجك مع الشمس قبلة على باسم ثغرك، أم أنتما تعيشان تلك الحياة الباهتة المتشابهة حياة الزوجية؟ ألا إني لأخشى أن تكوني محزونة بين آلام وشقاء.

أيام قضيناها في أحلام وملذات وإن حرَمَنا من أحسنها تبتلنا. ألا تزال عيناك تحوي ذلك السحر الذي عرفته فيهما، وابتسامتك بين الموجودات الضاحكة تزيد صاحبك سرورًا وسعادة؟!

يالزوجها من فرح سعيد! هو وحده المتمتع بذلك الكون البديع حيث كل شيء جميل، ويضيف إلى سروره ولذته سرورًا ولذة..! هل من مرة أخرى أرى فيها زينب وأعانقها وأقبلها فأعيد حلم الماضي الذي دخل دولة الفناء؟!

هل يأسف ويأسى إذا رأى زينب وعانقها وقبلها؟ هل يذهب كالمحموم ينزل في الماء ليطّهر من رجسه ويصيبه من أجل ذلك ألم يتقطع له نياط قلبه حزنًا على ماضيه المثلوم؟.. كلا.. كلا. إنه ليود من أعماق روحه تلك القبلة التي تثير الماضي الطويل ليس عليهما فيه من شهيد إلا الله وإلا نفساهما!

من يدري، قد تكون نسيتني زينب اليوم وأصبحت عني في شغل! قد لا تعرفني إذا رأتني أكثر مما تعرف أي إنسان في البلد!.. وهل كان بيني وبينها أكثر مما بين أي أحد من إخوتي وبينها. إنها جميلة وفتية وتستحق إعجاب الجميع، فإذا كنت أعجبت بها أكثر من غيري فما كان ذلك ليدعها أن تحسب فيّ صديقًا أو محبًا؟! كنت دائمًا إزاءها المسيطر المالك، واليوم أنا غريب عنها وكل كلام مني فيه شبهة ويمس زوجيتها.

يا أسفا على الأيام الماضية! هل لنا في العيش بعد من مزية؟ وهل مع هاته الآلام التي تحيط بنا أو على الأقل ذلك التخلي عن كل شيء وغضّ النظر عن كل شيء من سبب للوجود؟

ما أقسى هاته الفضيلة التي يحببون إلى قلوبنا! إنها لأقسى من الموت العنيد لا محيص منه.

هأنذا إلى اليوم لم أذق للحياة إلا ذلك الطعم العادي لا هو بالمر تنقبض له النفس ولا بالحلو تسر منه وتفرح له. وما بعد اليوم شر وأضل سبيلًا. أيام باهتة متشابهة تنقضي تحت تصريف الزمان القاسي ثم حفرة تنام فيها النوم الهادئ الطويل.

لقد ودعت الدنيا من يوم ولدت، وما أنا اليوم إلا بعض ذلك الجماد أثارته عاصفة من الأرض ثم يرجع لها ويركز فيها وقد انتقل من سكون إلى سكون ولم يتذوق شيئًا.

•••

في ذلك الحلم الطويل كان حامد ينظر في الفراغ الهائل أمامه يموج بالنور الساطع على السماوات المبيضة تذهب أمام عينيه إلى حيث لا يدري، والهواء لا حراك به يترك الأشجار البعيدة في سكونها المطلق، وأمامه معتدلة قناة الماء تسير وسط الزرع الأخضر تنحدر مع تيارها السريع عيدان الرز الساقطة من الخف، ويلمع عليها شعاع الشمس المحرقة في تلك الساعة من النهار. ثم يتوه الكل عند مسافة قريبة لا يتصورها حامد إلا الفضاء العظيم المخوف.

والعمال والعاملات يجدّون في عملهم ويتحادثون أحيانًا ويضحكون، فتموت أصواتهم حولهم ولا يردّدها مردّد.

ثم راح فاستند إلى العشّ، ووقف يحدق إلى كل ما حوله وهو مشتّت الفكر لا يفكر في شيء ولا يعرف شيئًا، مبهوتة نفسه … وأخيرًا صمم أن يرجع إلى البلد في تلك الساعة.

ورنا ببصره فإذا الجميع بعيدون عنه في آخر المزرعة من الجهة الأخرى، وبعضهم قد جلس على الجسر، فعمد نحوهم، فإذا هم انتهوا من ذلك الجانب وسيذهبون للجانب الآخر، فتركهم وأخذ طريقه إلى البلد بعد أن أوصى أخت زينب قائلًا في ابتسامته: لما تشوفي أختك سلمي لي عليها.

وبين المزارع المنقطعة لا أحد بها، ولا يسمع فيها حسيس، سار على سكة يظللها الشجر القائم إلى جانب الترعة، فاتقى بظله حر الهجير، ثم اتخذ أقرب الطرق إلى البلد الغارق في ضوء الشمس تظهر البيوت البيضاء القليلة التي به وسط دوره الترابية اللون وكأنها جميعًا أطلال بعض المدن القديمة … ووصل إليه والناس لا يزالون في سنة الظهيرة، ووقف عند الباب ونادى الخادم باسمه فأجابه آخر إنه قد ذهب إلى المحطة، وما كان ليهمه أي شخص يجيب.. إنه يريد قهوة يشربها ليسلي همه سويعة من زمان حتى يقابل بعض إخوته ويجلسون للحديث معًا.. فلما جاءت القهوة إذا بعضهم قد حضر، وكانوا عند الترعة يرقبون النجار يضع التوابيت الجديدة وقد انتهى منها.. بذلك نبهوا على الخادم أن يملأ الكنكة الكبيرة وتناولوا الحديث في أخبار شتى عن البلد وما فيه وكيف يبحث المدينون في هذه الأيام عن وسائل السداد، ثم الفدادين التي ستباع، وانتقلوا من هذا لغيره ولغيره، وأخيرًا تركوا حامدًا مكانه وقاموا كلهم فدخلوا الدار ليروا ما فيها.

أما هو فبقي في مكانه يفكر ساعة في شأنه هو، وأخرى في أمر أهل البلد المساكين لا يقدرون فظائع الدين ورذائله، ولا يفهمون المصائب التي تحيق بهم من وراء ذلك الربا الفاحش الذي يستدينون به.

والشمس لا تزال حارة محرقة في الخارج وإن ابتدأ الهواء يتحرك والأشياء تمد ظلها يلجأ إليه من لا عمل لهم من العاطلين يجلسون فيه يقصون الحكايات ويلعبون الطاولة بقية النهار، والأشجار تتمايل فروعها قليلًا قليلًا، وماء البرك الواسعة قد بقي طول الظهيرة يترقرق ويلمع عليه النور الساطع جاءته موجات خفيفة تتقلب على ظهره. وكلما تقدم الوقت حل الانتعاش محل الموت، ودخلت الحياة جسم الكون، وراجع الوجود شيء من ابتسامته بعد ذلك العبوس الذي يعروه منتصف النهار طول أيام الصيف. وكلما نظر حامد ورأى الأشجار تزداد حركة والنخيل يهتز جريده استبشر بالساعة البديعة ساعة الغروب.

ثم تبين على الطريق بعيًدا بعيدًا راكبًا يلوح عليه أو يسير مبطئًا، فاجتهد أن يتعرف من ذا فلم يقدر.. هذا شكل جديد غير الذي يرى كل يوم.. هذه سيدة ملتفة في حبرتها يسبق الفرس ممسكًا بلجامها خادمهم. من عساها تكون هاته القادمة؟ لعلها بعض معارفهم جاءت لزيارة البيت وتبقى يومًا أو بعض يوم ثم ترجع.

والحبرة مسدولة على أذرعها بانتظام لا يبين من تحتها إلا يداها الممسكتان بالسرع وتلمعان تحت النور الساطع المتلألئ به الفضاء، والفرس تدق الأرض بخطوات مرتبة يهتزّ معها جسم الراكبة متمايلًا فوق السرج. وتقترب رويدًا رويدًا من الدار، وكلما اقتربت زادت تميزًا هي ومن عليها.. ثم صارتا على قيد باع وحامد لا يزال غير عارف من هذه. فلما نزلت وجاء الخادم سأله عنها فإذا بها عزيزة!!

٥

عزيزتي

بقية أمل أضعها بين يديك، ولك الحكم. إما حققتها فجعلت في عيشي سعادة الحياة، وإما أهملتها فحاق بي البؤس. بين يديك روح تصرفينها بكلمة منك فتدفعين بها إن شئت إلى عالم الراضين، أو يقذف بها في سعير الشقاء.. روح طالما تقلبت بين آمال وآلام من أحلامها، وتريد أن تخرج من نومها الطويل إلى اليقظة، فإما متعتها بآمالها، وإما أن تبقى تئن تحت آلامها.

نعم حبيبة! كم ليال قضيتها مع خيالك الكريم يرنو إليّ بعينه ويبسم ويعانقني، ونبيت معًا سعيدين، حتى إذا تركني قلت هل من ساعة في نهار الحقيقة أعرف فيها طعم هذه الخيالات؟! ومن يدري؟ هل أنالها؟

وتنقضي الشهور الطويلة وأنا في انتظار ذلك اليوم المأمول، نجلس فيه جنبًا لجنب لا ثالث معنا. إنني أحبك يا عزيزة، ولكني محروم بائس.

هل أخبرك ما عانيت في حبك؟ هل أذكر لك خفقان النفس واضطراب الفؤاد؟ هل أذكرك بالأيام القديمة حين كنا صغيرين إلى جانب بعضنا؟.. وهأنذا اليوم أحرم مما كنت أنال صغيرًا؟

إنني في انتظار كلمتك وأنت عليمة بمرارة الانتظار. وأقدم لك يا عزيزة حبي وإخلاصي.

حامد

لم يبق لحامد بعد أن رأى صاحبته إلا أن يؤنب نفسه على نسيانه لها كل تلك المدة الأخيرة، ويفكر من جديد في أن ينفرد بها ويفتح لها قلبه. ولم يجد وسيلة إلا أن يكتب كلمة يلقي بها في يدها. فكتب السطور المتقدمة، ووضعها في جيبه منتظرًا أن يراها ليعطيها إياها.

وفي الصباح بعد أن أخذ فطوره مع إخوته قام إلى حيث هي، ودخل بعد أن استجمع كل قواه، وصمم في نفسه أن يعمل كل ما يمكنه للوصول إلى تلك الغاية التي يريد من زمان — من عام أو أكثر — فينفرد بالفتاة ويحدّثها ويقص لها حكاياته الطوال التي تملأ رأسه. ونسي أوائل الربيع حين ضمه لصدره الكون وجماله، وتلك الزهوة التي تلبس كل شيء ويزيّن بها كل شيء. نسي ذلك وراجعه عهده القديم وهواه، ولم يعد يستطيع الصبر على وحدته في حين يتقطع قلبه كل يوم وكل ساعة وكلما ذكرها. وكم سيجد فيها من العزاء عن الأيام وشقائها؟!..

فلما ابتدأ يسلم على الحاضرات بدرته أولاهن ساعة وضع يده في يدها قائلة: أهلًا بفلاحنا..

وجلس فسألته أن يقص عليهن حديثه في الغيط وشغفه به. ألم يك من قبل ذلك المستوكر في الدار لا يعرف عن الزروع والمزارع شيئًا! ثم صار يزورها كما يزورها غيره من إخوته. فما تلك الغية الجديدة من المقام بها واتخاذها سكنًا؟..

أي جواب يجيب به حامد في تلك الساعة؟ أيقول لهن عن وحي النجوم ونجوى القمر؟ أيخبرهن بلذة الفضاء الهائل العظيم؟ أيحكي لهن ما يدور في النفس من آمال وأحلام حين تطلع العين مطمئنة إلى ظلمة ليل الصيف ويسري النسيم ينعش الصدور يحمل معه أصوات الوجود الساكت؟ أيبين عن اللذة الكبيرة التي ينالها الإنسان حين يرى نفسه حرًّا من غير قيد؟.. إنهن لا يعرفن من ذلك شيئًا. وإن كن قد طعمنه في الصغر فقد أنساهن إياه الزمان!.. أيسكت وهو أمام صاحبته ويعتقد أنها تحبه وتنتظر أن تسمع كلماته؟.. أم ماذا؟.. فقص عليهن تلك الليلة حين قام من نومه ولم يجد أحدًا حوله، وطفق يرمي ببصره إلى كل ما يقدر أن يرى فلا يجد مؤنسًا سوى الحيوانات التي عنده، ثم كيف وجد العامل الذي معه نائمًا في الطوالة.. فدارت على الثغور ابتسامة سرور، ورأى عزيزة تضحك. ثم قالت السيدة التي طالبته من قبل بالقصص: مسكين يا حامد..

وابتدأن جميعًا يخرجن من أعماق ذاكرتهن مثل هاته الحادثة مما حصل لهن أو بعض أصحابهن.. وجئن بعد ذلك على مسائل شتى اعتراهن الخوف فيها وانتقلن لحكايات العفاريت:

– وعلى رأي المثل «اللي يخاف من العفريت يطلع له» — قال ديك السنة لما الحاجة مسعده نزلت في الليل لقت في صحن الدار خروف قرونه كبار وفضل يكبر يكبر — يعلى لما سد قدامها السكة.. ولما صبحنا الصبح أتبيه خروف أولاد حسنين.

– وما فضلوا يقولوا لما الواحد يفوت قدام زربية أولاد أم السعد تطلع له العفاريت، وهم لا عادوا بيطلعوا ولا ينزلوا.

وهكذا جعلن يقصصن تواريخ شتى، وحين ظهر العفريت لعمي جاد حارس النخل في هيئة حمار حصاوي ملجم مبردع فركبه العجوز وغرز مسلة في كتفه ثم زار عليه الأسياد في مصر وطنطا والمنصورة. وانتقلن إلى أشكال أخرى من الجن كالنداهة تنادي الناس بأسمائهم فإذا ذهبوا إليها أخذتهم ونزلت بهم في بئر ساقية مهجورة أو نحوها إلا إذا قرأوا عليها «قل هو الله أحد».

واحتل من بعد ذلك موضوع الحديث عفريت الزار — ذلك العفريت النظك تقدم له أبدع الهدايا من أرق السيدات — وشاركت هنا صاحبة حامد الأخريات في الكلام وهو ساكت كل المدة إلا أنه كن يبدي علامات الاستغراب ما بين حين وآخر.

وتقضى وقت طويل في حديثهن هذا، وأراد حامد أن يتركهن فسلم عليهن وخرج وهو مرتاح البال قانع بأن رأى عزيزة تضحك عن طيب نفس، وتحول نظرها نحوه أحيانًا، فإذا ما تقابلت عيونهما خفض هو من نظره واعتقد أنها هي الأخرى يضطرب قلبها وتطوق ثغرها ابتسامة خفية تصحب تلك الرعشة التي تعرونا حين تتقابل نظرتنا مع من نحب أمام ثالث يخيل إلينا أنه عليم بما في نفوسنا دائم الرقابة علينا.

ولكنه لم يعطها الجواب الذي كتب.

أحس به في جيبه بعد خروجه فجلس من جديد يقدر الذي به. أيستطيع أن يعطيها إياه. لكنه حسب أن من العبث محاولة ذلك بنفسه. كيف يمكنه وهي دائمًا مع من هي معهن ويسلم عليها أمامهن جميعًا؟ وإذا كان أكثرهن لا يقرأن فسيثير عمله في نفوسهن شبهات، ويعملن لتعرّف ما في هذا المكتوب، ويتساءلن طويلًا عما يحويه..

ولكن ليس من السهل كذلك أن يسلمه لأحد يعطيها إياه، إذ يقع بذلك في مثل هذا الذي خاف ويفتضح أمره. يعلم الناس أنه يحبّ. سبّة شر سبة وعار كبير.

… حياة كلها ضيق وهمٌّ من أولها إلى آخرها إن لم تحطها بكثير من أحلام وخيالات لا وجود لها في الواقع كانت الحنظل الصديد. وخطوة إلى عالم الحوادث تخرجنا من سعادتنا وتقذف بنا في شقاء لا محيص منه.

مثلي أحرَى به أن يعيش في عالم غير الذي يعيش فيه الناس. قضيت كل أيامي في أمان وآمال، وهأنذا أريد أن أحقّق أحدها فيسقط في يدي. كم أحببت هاته الفتاة! وكم صاحبني ذكرها أيامًا طويلة وشهورًا! وهأنذا لا أجدها ساعة معي وهي مني بمثابة أختي.

ويل للوجود من مرير كله البؤس والأسى! إذا كانت آمال الشباب ضائعة فهل نكسب من آمال المشيب غير الموت الذي يريحنا! غير ذلك الداء الأخير نرجع معه إلى العدم الذي خرجنا منه: عدم الأبدية الخالد.

ولم الجري وراء هاته الأكاذيب؟! لِمَ ذلك الحزن من غير ما سبب؟ إذا كنا حُرمنا التمتع بالحب وملذاته — بذلك الأمل الواسع الكبير — فإن لنا في غيره عزاء. إن لنا في العاملات السافرات يحببننا من كل قلوبهن لكلمة نمنّ بها عليهن أو قبلة نضعها على ورد خدودهن لنعم العوض عن القصيّات عنا، المتحجبات حتى عن حبنا، المتمنعات أن يقلن لواهب قلبه: «إني أحبك».

حقًّا، أليس في بنت الطبيعة العذبة المفتولة الجسم القوية تنفذ بساذج نظراتها المستعطفة إلى سواد القلب ما ينسينا هاتيك المصونات في خدورهن؟ جهل بجهل، والأولى عركت الأيام وعركتها، ونضارة بدل ذلك الشحوب الذي يصيب ربات الخدور، وكرم وحلاوة نفس، وإلى جانب ذلك كله العفة الموروثة عن الأجيال السالفة إلى ما قبل التاريخ.

وخيّل لحامد في تلك الساعة أن يذهب من غير مهل إلى الغيط ينتظر المقيل ويضحك الفتيات كلهن حتى ينتقم لنفسه من كل المحجبات.

ولكن ما ذنب صاحبته أمامه؟ هل هي التي حجبت نفسها؟ هل رضيت الذلة التي رميت بها مع كل بنات جنسها إلا بعد أن مهدت لها من يوم ميلادها؟ كم هي في نظراتها له ملئت حبًّا ورقة ذات بهاء يأخذ بنفسه! وإنها لتودّ كل ما يوده هو من التفرد به، وأن تمسك بيديها يديه وتنظر له طويلًا من غير أن يقولا كلمة واحدة. تنظر له تلك النظرة الطويلة التي تحكي كل ما في النفس ولا تصورها الكلمات.

إنها إن تحدق إليه تَعْلُه رعدة وتأخذه الرعشة. إنه ذلك الخائن ودّها، الناكث عهدها، الذاهب يغازل العاملات ويضع أنفته تحت رحماتهن. هو لا يستحق ذلك الإحساس الشريف يملأ القلب عظمة وعفّة وقد دنس قلبه وجسمه.

أَحْرِ به بدل أن ينقم على بريئة شريفة أن يعتزل الناس وينقطع في صومعة حتى يكفّر عن خطيئته ويغفر الله زلته ويستعيد شرفه المثلوم. وليست كل الفتيات تلك العاملة التي تعطيه نفسها وهي مرتاحة لذلك فرحة به. إن من الناس من لا يزال يعرف كيف يحفظ مقامه ويحافظ عل شرفه.

كل ذلك يعني ماذا؟.. أيعني أن هؤلاء المدّعين الكرامة لا يخطئون؟! اللهم إن خطأهم أفظع كثيرًا من خطأ غيرهم وأشنع من كل ما يتصور العقل! وإنما هم قد مهروا في المحافظة على الظواهر وإخفاء ما في نفوسهم، وبرعوا في النفاق أمام الله وأمام الناس، بل أمام أنفسهم، ولو كشفت عن قلوبهم لوجدت العار والخزي دفينًا في أعماقها. أيتها الأيام الظالمة! أما يكفي إيقاعك الفقير في مخالب عدمه وألمه حتى تظهريه كذلك الشقيّ المجرم.

إنسانية ظالمة أروج ما فيها الأكاذيب! إن المصائب يجرّ بعضها بعضًا، فإذا نزلت بشخص لم تبق منه إلا ألمًا وأسى، والناس يزيدونها وطأة ينظرون للمصائب نظرهم للمجرم، ويتأفّفون من عمله وهو خادمهم والساعد الذي به يستندون في مجالسهم القديمة حيث يقضون ساعات هنائهم لا يفكرون.

هي هاته الطائفة العاملة، وإليها نهرع جماعة الشبان، في دعتها ووداعتها ما يغنينا عن ذلك التمنع الذي منيت به السيدات حتى عن أشرف الإحساسات. إنهن هاتيك البنات الساذجات لا يزلن الذكر الخالد للطبيعة الطفلة القديمة حين الناس لا يعملون جهدهم لإخفاء ما يريدون، وإن في قلب الشاب صراحة لا تتفق مع ذلك التكتم المخيف الذي يظن جماعة الأغنياء أن فيه متاعًا، وعنده إقدامًا لا يسير مع إحجام الطبقات العالية وتقاعدها.

الشباب أيام الحرية وعدم المسئولية، فإن أضاعها صاحبها صريعًا بخرافات أيام العجائز، قاعدًا عن أن ينال منها كل ما فيها، ضاع عليه عمره، وقضى على الأرض حياة مكتئبة فاسدة، حياة محملة بهموم من أولها إلى آخرها، حياة خير منها موت عاجل.

… ولكن أنَّى يجد الشاب هذا المتاع في مصر؟ أنىَّ يحل له أن يجد السعادة؟ إنه لمسكين بائس. هو بين اثنين كلاهما شر: إما أن يبقى في ذلك الموت الذي تأتي به لا شك الحياة الموروثة قواعدها المطلوبة منه ومن كل المسنين، وإما أن يرتمي في أحضان الفضلات الفاسدة التي رميت بها هاته البلاد المسكينة من الغرب السعيد المجرم.

نعم. في الأولى موت لا مفر منه. وهل ذلك التبتل الذي تطالب به كل شيء إلا موت. وفي الثانية فساد وضياع.

ويل لك يا حامد!.. أي قضاء رمى بك تلك الرمية العمياء؟ وَما كان خيرًا لك إن بقيت سعيدًا بحياتك الهادئة الأولى؟! وموت في الصغر وموت في الكبر متساويان.. حقًّا!.. خير لي لو بقيت في صومعتي ويقدر الوجود أني لم أولد.

غير أن حامدًا يحب عزيزة ويودّ أن ينفرد بها.

.. ولم لا يبعث بجوابه ضمن أشياء مما تقدَّم لها في يدها، وهي لا شك متى وجدته تحرزت أن يعلم به أحد. وما دامت تحبه فستكتب له وتعين له موعدًا، ومن بعد ذلك يسهل أن يتقابلا ولا يبقى للحرمان الذي يعيش هو وتعيش هي فيه إلا أثرٌ كلما تقادم عهده قلت غضاضته ثم يصبح يومًا لذيذًا يحسان لذكراه بسكرة المقابلة الأولى بعده حين كشف كل منهما لصاحبه عما يكنه له قلبه.

•••

وفي غده نفذ عزمه، ومع بعض ما يرسل لها وضع جوابه، وأخذ الكل صغير من الخدم عندهم لا يعلم طبعًا بشيء مما فيه ووضعه بين يديها. فلما وجدت الورقة أخذتها حتى إذا كانت في بعض خلواتها قرأتها.

كم كان لهذا القراءة عندها من اللذة! وكم وجدت فيها من العذوبة! وأعادت النظر في الجواب مرات، وهي كلما طوته لم تطاوعها نفسها أن تدعه في جيبها فتخرجه وتقرأه من جديد فتهتز نفسها عند آخره، ويأخذ قلبها ذلك الخفقان الذي يصيبنا حين يملأ الطرب جوانحنا كلما جاءت للسطر الأخير.

إنني في انتظار كلمتك، وأنت عليمة بمرارة الانتظار. واقبلي يا عزيزة حبي وإخلاصي.

حامد

لم تأخذ في حياتها جوابًا حلوًا كهذا الجواب، وهل يصل إليها إلا جوابات أختها وكرتات معايدة من بعض صاحباتها.

يا سلام! هل في الوجود ما يسع فرحها. لا. أبدًا، أبدًا. ونسيت الناس وكل شيء ولم يبق لها إلا ذلك السرور الذي امتلأ به كل وجودها، ولم يبق لها من أمنية إلا أن ترى حامدًا وتقبل ما بين عينيه.

ظلت كذلك أمدًا لم يزعجها عنه إلا من ناداها يسألها عن بعض ما في البيت، أو أن تكون مع الستات. وراحت عندهن وهن يحكين حكاياتهن التي لا تنتهي، ويضحكن فتضحك هي الأخرى من كل قلبها تلك الضحكة القانعة الراضية، وقد احتل السرور كل روحها وجسمها وأسلمت له نفسها، وكثيرًا ما كانت تتوه في أحلام سعادتها عما يقلنه، وهي مع ذلك تضحك كلما رأتهن يضحكن غير مبقية للغد شيئًا.

فلما راجعها هدوءُها وسكونها ووجدت نفسها في خلوة من جديد فكرت فيما عسى أن تجيب به حامدًا، وأي شيء تكتب له. وَعَرتْها حيرة طويلة لم تستطع معها أن تجد شيئًا.

ومن نافذة الغرفة العالية جدًّا عن الطريق حتى لا يستطيع المارة أن يروا شيئًا مما في داخل الدار تبينت شمس العصر تنحدر متمهلة وتجلل بنورها فسيحًا من الأرض يفصل ذلك القسم من القرية عن القسم الآخر، وتغطي الأشجار الكبيرة تلعب فروعها مع الهواء، وتبعث على الأرض بظلها الكبير. وعلى مرمى العين تبين المزارع يغطيها الذرة والقطن، وتنساب بينها الطرق المدقوقة العامرة بالفلاحات تلك الساعة ذاهبات للملية وخيالاتهن السوداء تموج في لجة النور بين خضرة الزرع، ويتتابعن في سلك طويل منتظم، وعلى رؤوسهن جرات الفخار إما نائمة في ذهابهن أو هي في جيئتهن معتدلة يلمع الضوء على سطحها المبلول. وهناك من الشباك الثاني يرى الإنسان جماعة المدريين وقد ملأوا الجو بعفارهم وتبنهم حتى سد الفضاء ولم يبق في طوق الناظر أن يتعرف وراءه شيئًا. وعزيزة تحدق مبهوتة إلى تلك الموجودات تائهة عنها ولا تعرف ما ستكتب.

ثم أخذت ورقة وقلمًا تريد أن تحبر بعض كلمات مما في بالها:

أخي حامد:

إنك لا تعلم مبلغ السرور والفرح الذي جاءني به جوابك. وأود لو أراك ونكون وحدنا..

ولكنها رأت ذلك غير كاف للتعبير عن السرور الذي خالجها. هل كلمة بسيطة كهذه تقوم بأداء صورة نفسها زمنًا غير قليل. صورتها مملوءة حبورًا وطربًا وكل وجودها فرح سعيد. وأخيرًا كتبت:

أخي حامد

لا أقدر أن أصف لك مبلغ السرور والفرح الذي جاءني به كتابك. تصور أكبر درجاتهما، فكنت أكثر من ذلك سرورًا وفرحًا. وأودّ أن أراك ونكون وحدنا. وأنت تعلم ما في ذلك من الصعوبة إذ أنا محاطة دائمًا بالستات. وإنها كلماتك انتزعتني سويعة من بينهن، ورجعت إلى نفسي فكنت في مجلسي معهن تائهة عنهن بعيدة أفكر في كلماتك المحبوبة. وانتزعتني بذلك من الألم الدائم الذي يثقلني.

هل تظن يا أخي حامد أنا معشر البنات سعيدات في ذلك السجن العتيق؟ إنكم تحسبوننا دائمًا راضيات، ولكن الله يعلم علقم ذلك الوجود المر الذي نحتمله مرغمين ثم نعوّد عليه قليلًا قليلًا كما يعوّد المريض مرضه وفراشه.

أي فتاة لا تذكر اليوم الأخير من أيام حريتها من غير حسرة إلا جامدة القلب. ألا إنه اليوم العزيز عندي، ما ذكرته إلا وأسفت له. وتلك الساعة الأخيرة من حياتي الحرة الشريفة وأنا أودع أبناء عمي هنا في القرية لأرجع إلى المدينة وأجد قماش حبرتي جاهزًا ينتظرني في البيت! ذلك الثوب الأسود ثوب الحزن والأسى.

ولكني أحمد القدر أن بقي لي في الوجود قلب يحس معي ويحبني. وإنا نحن الضعيفات كما يسموننا في حاجة لما نقوى به. ولنا من ذلك الأمل في الله وفي حب المحبين.

اعذرني إن أطلعتك من خبايا نفسي على ما أنت في غنى عنه. وإنما جرأني على ذلك أخوة ما بيننا وحبي لك وإخلاصك لي.

عزيزة

ياعزيزتي

نعم، إنني أريد أن أراك ونكون وحدنا. تلك أحلامي من عام فائت أريد تحقيقها ويمنعني موقفك عن أن أصل إلى شيء من أملي. وها أنت ذي اليوم عليمة بما في صدري من قلب مملوء بحبك، وأود من كل نفسي تلك الساعة التي نكون فيها معًا ولا ثالث لنا.

لقد أوقعتني بخطابك في حيرة ما أعظمها. كنت ككل الناس أعتقد هناء المحجبات في دورهن، القاعدات لا يعملن شيئًا أو توافه من الأمر لا قيمة لها ويحكين طول نهارهن مثل تلك الأحاديث التي أسمعها أحيانًا منهن. وها أنت ذي تقولين لي إنكن إنما تعوَّدنه كما يعوَّد المريض مرضه.

حقًّا لا بد أن يكون للحسّاسة من السيدات غصّة بسجنها. وإني لآسف معها أكبر الأسف على ظلم حل بها من غير ما سبب. وأسائل نفسي ما هذا القضاء الذي حكم عليهن هذا الحكم القاسي فأرتد على أعقابي غير قادر على جواب أجيب به نفسي.

لتكن إرادة الله ولنعمل معًا للوصول لتلك المقابلة التي نرجو، وطوع أمرك قلبي صرفيه كما تشائين.

حامد

أخي حامد

أخذت مكتوبك. يفكر الستات في الخروج بعد الغد مساء مع عمي إلى الغيط، وإن أنت حضرت اليوم عندنا فهن لا شك داعوك، فهل تجعل من صحبتك أنيسًا لي، ولعل جنح الليل الأمين يساعدنا ويسعدنا. أبحث عن الوسيلة التي تمكننا من غرضنا، وأحسبني واصلة إليها قريبًا. وكل أملي أن السماء التي أعتقدها راضية عما في نفسينا تكون في ذلك نعم المعين.

دعني الساعة في هنائي بالحاضر وحلو كلامك العذب. لا تذكرني الحجاب فذكراه تفسد طعم العيش. ما جلست مرة أفكر إلا عاودتني آلام لا قبل لي بها. لذلك عودت نفسي أن لا أفكر فأقبل قضاء الأيام كما هو من غير ما بحث فيه. إلا أنني أذكر ساعة تقطع فيها قلبى أسى حين استعدت أمامي السبب الذي من أجله يحجبوننا. وقد دخلت خادمتي متهللة فرحة راجعة من الهواء العظيم في المزارع الواسعة وتقول في ابتسامتها: (كم كان حلوًا غروب الشمس هاته اللية). ما لي أنا يا بنية وغروب الشمس وشروقها! قد وجد أهلي في نقوش الحيطان ما يكفيني. يا عدالة السماء؛ هل من أجل هؤلاء السذج خلقت غروب الشمس.. لا لنا؟!

لأترك كل هذا الساعة فذكراه تؤلمني وأنا لا أريد. إن سعادتي بك تمنعني أن أفكر في الألم. والحمد لله قد عودنا عيشًا وأصبحنا أمامه جمودًا!

آه يا حامد! لو تعرف الوحدة التي نشعر بها ونحن بين أهلنا وحيطان دارنا وقلوبنا تتأجج بالنار في صدورنا ونضطر لكتمها وإخمادها حتى تموت، وقد تأكل من وجودنا أعزه وأحلاه!

تعال سريعًا، أو فاكتب لي، فكلماتك الدواء لابنة عم إن أنت تركتها تولاها اليأس.

عزيزة

عزيزتي

بالله لا يدخلن لنفسك شيء من الحزن فذلك يحزنني. كوني سعيدة مقدار ما تشائين. وإني لك الدائم العهد ومن أجلك أعمل المحال لتنفيذ ما تريدين. وأجرؤ هاته المرة فأضع قبلة على ثغرك الجميل.

حامد

أحست عزيزة بتلك القبلة اللذيذة وعراها الذهول، وخيل إليها أن حامدًا أمامها ممسك بيديه يديها ويقبلها. ما أحلى ذلك الحلم الذي حلمته من قبل مرات لأشخاص محبين لا تعرف لهم أسماء ولا أين هم! ذلك الحلم الذي يشغل كل فتاة في وحدتها حين ترى أنها منفردة مهمومة وتريد أن تضم إلى قلبها ولو من الخيال قلبًا يسليه ويعزيه.

ولما فاتت ساعة الظهيرة ذهب حامد إلى حيث صاحبته وسلم. وجلس فأخبره بعض السيدات بفسحتهم التي يريدونها ودعونه أن يكون معهم، فقبل الدعوة متهللًا.

خرجوا جميعًا بعد الغد، حامد وعمه والسيدات، وسار هو إلى جانب جماعة منهن، وعمه إلى جانب، والكل سكـوت أو يهمسون بين شفاههم ببعض الكلمات، ويخبرون عزيزة ببعض مساكن البلد وأصحابها. فلما صاروا بعيدًا عن جدران القرية ابتدأوا يتكلمون بحرية! وصغيرة من بينهم تسير مع كل من الجماعتين قليلًا. والقمر يخطر في السماء كأنه عروس تجلى، ويرسل وسط هواء الليل الساكن الحلو بلجة النور العظيمة يغرق فيها كل موجود. وعلى مقربة تبين الأشجار تحت ضوئه مخوفة قد مدت ظلها الهائل على الأرض فغطت به قطعة ليست قليلة من شجر القطن تحسبه سكران بلذة هاته الساعة البديعة خائرًا تحت سلطان جمالها. والسكة عن جانبيها المصرفان تذهب ممتدة مع البصر حتى يقصر دونها.

ثم افترقوا جماعات فسار عمه مع سيدتين من أخواته، وسيدتان أخريان سارتا وحدهما، وحامد وعزيزة وخالته والبنت الصغيرة معًا. أما عمه فجعل يرى من معه حدود الغيطان وأسماء الملاك والمستأجرين منه. وهما فرحتان جدًّا كلما رأت عيناهما زروع أخيهما وإيجاراته. أما السيدتان الأخريان فكانتا تتحدثان في حديث طويل:

– قال وأم السعد جايه النهاردة تقول إن جوزها كان بيقاتل حسنين أبو مخيمر، قام حسنين ضربه لما طفحه الدم، وعايز حبة مورد علشان يطيب. ياخويه الناس دول حايفضله عبط لإمته! وهو المورد بيطيب الجروح؟

– والنبي يا زمزم يا أختي الناس دول مساكين. ربنا ما يفرجش عليهم بحاجة يكلوها وإلا يشربوها إلا لما يطفحوها دم صبيب لقدام. بالك يا أم أحمد اللي زي ده لو ما كنش ينضرب عمره ما يعرف المورد ده يتاكل والا ينشرب!

ولما رأت خالة حامد أنهم جميعًا سكوت انضمت إلى الست أم أحمد وصاحبتها وسألتهما:

– مين منكم سمع صريخ مراة حسنين أبو مخيمر الليلة.

– حسنين أبو مخيمر! ليه؟

– يوه؟ دا مسك مراته فضل يضرب فيها هيه هيه لما قال بس.. قال يا ستي متقاتل ويّا جوز أم السعد وبيقول (والله إلا هلكته الكلب.. بس إياك عاد هو يفتح حنكه) هي ردت عليه وقالت: (ليه يا شيخ. الطب أحسن) هو سمع كده وعفاريته طلعت (وأنت رخره يا بنت الـ.. جايه وياهم) وشال ايده في الهوا وراح سافخها كف نزلت في الأرض روحها سارقة. وهو من شطارته ينط في بطنها بالرجل ويقول لها (قومي يا بنت الـ.. بلا مكر) قول وبعدين أبصر مين دخل ورشوا على وشها ميه لما صحيت مبهدلة مسكينة بصت له وقالت (طيب يا حسنين برضه معلهش كتر خيرك) ويا عيني خذتها نفسها راحت معيطة. صاحبنا إلا يشيل ايده في الهوا من تاني ويقول لها (برضه بتعيطي يا مره يالايده) وراح سافخها بالكف ومن الناحية التانية وكمان كف ما لحقوا الناس يحوشوا إلا بعد هي ما دبت بالصوت وراحت مرمية خالصة زي اللى حاتموت، وبعدين خدت بنتها وراحت على دار أبوها. ولازم حايقدم بلاغ في حق الراجل أبو مخيمر. يبقى مقدم بلاغين في حقه في ليلة.

– أعوذ بالله. يا اخواتي الناس دول وحوش. لاه. إخص.

•••

وتخلص حامد من الفتاة الصغيرة التي كانت معهما وصار وحده إلى جانب عزيزة، ولكن ماذا عساه يفعل؟ إنه لا يدري ما يقول، وكل ما قدر عليه أن أخذ في يده يدها وقد علته حيرة شديدة، أما الفتاة فلم تفهم لتلك الوحدة من طعم، وودت لو رجع إليهـا من يغيثها منها. أليسا هما اللذين طلبا ذلك، وتفاهما عليه؟ فهل يتركان المصادفة تمر وهما حانقان عليها.

ولكنهما معذوران. إنهما لم يحبا من قبل إلا في الأحلام، ولا عرفا تلك النظرات التي بين المحبين إلا أن يكونا قرآ عنها في بعض الروايات التي تترجم لهما. وإنما يعرفان الحياة الباردة، حياة الجماعة حيث ينقضي الوقت في الهواء، أو حياة الوحدة حياة الخيال حياة الشعر. خير حياة بعد حياة الحب.

بالرغم من ذلك الإحساس في نفوسهما تريثا في مشيتهما حتى بعدا عن الجماعة. وما كان حامد ليترك الوقت يمر وأن يكون التبلد أو الجمود هو كل ما يوحي به الليل الجميل وهواؤه العذب منفردًا إلى جانب محبوبته ممسكًا يدها، فرفع إلى فمه اليد العزيزة ووضع عليها قبلة هادئة ساكنة وقال: إحنا يا عزيزة مش حانعرف نكلم بعض.

فأطرقت هيَ إلى الأرض لا تحير جوابًا، وكأنها تفتش في كل وجودها عن داعية ذلك الانفراد الذي يبغيانه من زمان فلا ترى له سببًا، ثم نادى بهم عمه فلحقه الباقون وخفّف عنها حين جلسوا جميعًا على جسر الترعة مسطوحًا تحت النور، وبينه وبين الماء الذي ينساب وتتلوى على سطحه موجاته — لامعًا عليها عاشق السماوات ببديع صورته — يقوم الحشيش الأخضر نائمًا بعضه على بعض في جوف الليل ومستحمًا بالماء تحته والنور من فوقه. جلسوا يتحادثون وفردوا أمامهم بعض فاكهة وحلوى مما يأكلون، والكون من حولهم ساكن أخرس لا صوت فيه ولا رنين، وكل شيء ممتع بتلك الساعة الهامدة ران بعينيه لعين القمر.

قضوا زمنهم في معروف القول، ثم قاموا والسيدات آسفات على الساعات اللذيذة سريعة المر يرين فيها تحت جناح الليل الموجودات التي لا يعرفن ويسرن بين المزروعات الناضرة لحظات لتضمهن الجدران أشهرًا. وهكذا رجعوا إلى منازلهم والوقت أمسى متأخرًا عن عادتهن.

فلما كان الصباح، وقد قامت عزيزة من مضجعها قضت فيه ليلة ساكنة، ونومًا هادئًا جلست تستعيد لنفسها الليلة الماضية وتلك الساعة التي انفرد بها حامد، وقبلته التي وضعها على يدها لا على ثغرها كما وعد في آخر جواباته. ثم ذلك الذهول الذي كان يصيبها حتى عدت في نفاد تلك اللحظة نجاة من ورطة كبيرة. وبعد أن بقيت مدة ليست بالقصيرة تتأمل في ذلك كتبت لحامد:

أخي حامد

أبعد ليلة الأمس لا تزال تحبني؟ إن قلبي يوحي إلي بمقدار ما بعث به لنفسك سكوتي إلى حد التألم ساعة انفرادنا. وأحس الساعة أني لا أستحق حبك. ما لنا جماعة الدفينات وللحب! إنما نحن في ظلام نتلذذ منه بخيالات لا وجود لها.. وأنا الأخرى لا أريد أن يبقى لي من ذكر عندك. كلا! لا أستطيع أن أحتمل ذلك وأحملك به. إنها لخطيئة أن تحب من ذهب بها أهلوها للدير، ولسنا أقل تبتلًا من هاتيك الراهبات وإن كنا أقل عبادة.

انسني يا حامد إلى الأبد، إنه جنون قام برأسي فكتبت لك في خطاباتي الأولى ما كتبت عن غير قصد من غير أن أفهم ما كنت أقول. لكم جمال الوجود، لكم السماء والزرع والماء والليل والقمر، فاحيوا ممتّعين بهاته الأشياء وذرونا في صوامعنا وسجوننا.

إني يا أخي بحياتي قانعة راضية أو مضطرة لأن أكون.. فدعني دعني.. لست للحب وليس الحب لي.

إليك يا الله أضرع. أنت وحدك الذي تقبل التوبة من التائب. أنت سند الضعيف، وأنا في حاجة اليوم إلى سندك، فاملأ قلبي من حبك أنت وحدك.

ما هذا؟ أي صوت أسمع؟ إن للشيطان الذي وسوس لحواء لسلطانًا على نفس بناتها وإنما يحتمين منه في كنف الرجال.. يالغواية الشيطان! كلا يا رب كلا. إنني لا أريد سواك.

ذرني يا حامد أبكي شبابي لعل ذلك يطهرني عند ربي. إن لنا على صغرنا خطيئات ما أكبرها! فاللهم غفرانك وعفوك.

انسني يا حامد.. انسني.

أختك
عزيزة

عزيزتي

ما هذا الذي أقرأ؟ لمَ كل هذا الأسى؟ ما كنت أحسب أن سيبلغ بك الأمر إلى هذا الحد وأن تعدي في ليلة الأمس داعية لشيء ما. إنما كان سكوتنا من أثر سحر الجمال المحيط بنا يذكي في نفوسنا حبها فلا نقدر على شيء غير السكوت.

تطلبين إليّ محالًا يا عزيزة، وأنا على المحال غير قدير. أيوم أرى أحلامي تتحقق تريدين أنت أن تقضميها قضمًا؟ كلا، بل لننس كل شيء يقف في طريق قلبينا.

الحب أقوى مما كنت أتصور. ليس هو تلك اللذة نتذوقها إن شئنا ونصدف عنها حين نريد، ولكنه سعادة تحتل كل وجودنا فنكون معها ضعيفين لا نقدر من أمرنا على شيء.

إن شئت أنت نسياني فما أنا لأنساك ما بقيت. أنت عندي كل الوجود، ومحال أن ينسى الإنسان كل الوجود.

وكل قبلاتي الحارة على خدك وصدغك، وآمل مغفرتك خطأ الزمان، فأكون معه لك من الشاكرين.

حامد
وبعد أسابيع وصل إلى حامد من مدينة.. حيث مقام عزيزة بعد سفرها هذا الكتاب.

أخي حامد

وداعي الأخير.. يقولون إنهم يحضرون في زواجي ﺑ … وبالرغم من أني لا أريد هذا الزواج وعن ذكري الدائم لك فأنا موقنة أن إرادتهم ستنفذ رضيت أنا أم غضبت. كنت بالأمس أسكب الدمع على شبابي الحاضر أريد أن أهبه لله، واليوم أسكبه على شبابي الذاهب تتخطفه يد الشيطان.

عزيزة

نوته

كل هذه الخطابات منقولة من مذكرات حامد.

٦

– لما تشوفي أختك سلمي لي عليها.

هذه هي الكلمة التي قالها حامد لأخت زينب ساعة أراد أن يرجع إلى البلد. والبنت بكل أمانة أدت الرسالة لأول مرة رأت فيها أختها بعد ذلك.

ما أبعد عهد زينب بحامد الساعة! وما كان أحلى أيامها معه! تذكرت وهي في ألمها وأسفها من يوم خاطبها زوجها بلهجة المستعطف لها أيامًا ماضية قضتها في لذة وهناء إلى جانب أحسن الناس وأحبهم إليها ومن تهبه قلبها راضية لو لم يكن ذلك القلب البسيط الساذج لا يستحق أن يهدى لحامد.

خرجت ذات يوم كعادتها ذاهبة بعشاء حسن الذي يسهر هاته الأيام عند القطن وهي أخلى ما تكون بالًا، وكأن الهموم والآلام والذكر القديم إذا تراكم كله ترك الفؤاد فارغًا، وراحت والشمس في أول توردها والهواء في سكونه يتهادى وسط فضاء الجو والطير تصفر في السماوات. فلما ابتدأ الوقت يمسي والليل يحل محل النهار أخذت بعضها وقامت راجعة إلى البلد.

من يوم أن تسلّم حامد رسالة عزيزة تخبره فيها بشأن زواجها وأنها لن تقدر من الأمر على شيء، تولاه الحزن أولًا، ولكن ما أسرع ما أحس بريح النسيان تهب فتمحو من قلبه كل أثر! من أيام قريبة كان المولع بها يكتب إليها آيات الود ورسائل الحب. وها هو ذا يتركها من خياله كل الترك دون تشبث ولا انتظار ومن غير ما ألم. ولقد وجد هو نفسه من الغرابة في ذلك ما دهش له. لكن دهشته لم تكن أعلق بنفسه من حزنه. ولعل الأحزان الفائقة تثيرها حادثة من الحوادث ويكون لها من الأثر في ماضينا ما يجعلنا نظنها حقًّا، تندثر سريعًا وينطفئ وهجها متى انتهت تلك الحادثة. كذلك لعل حبّ حامد الذي كاد يتلاشى أوائل الربيع الماضي ثم بعثه حضور عزيزة من موته رجع إلى أحضان ذلك الموت من بعد سفرها.

بينما حامد راجع من المزرعة وبيده قيثارة يقلب عليها أصابعه أحيانًا ويدعها ليسلم نفسه لأحلامه أحيانًا أخرى لحق زينب وهي ذاهبة إلى البلد من بعد أن أودعت عشاء زوجها عنده. فلما كان إلى جانبها التفت وعرفها.. إنه من زمان بعيد لم يرها، من نحو سنة إلا قليلًا. كانت ذلك اليوم في ملابس البنات وغدفتها تترك للعيون اجتلاء محياها الجميل. أما الآن فهي في ذلك الشكل الذي يحبه حامد، والذي يعطي سذاجة البنت الريفية حلاوة لا تقدر. هي في ثياب أوسع، وبرقعها المرفوع هذه الساعة فوق رأسها وشاشها الطويل كل ذلك يعطيها مهابة يداخلها شيء من الحزن. فلما تميزها مد يده ليضعها في يدها وقال: أهلًا. سالخير يا زينب. إزيك.

– ازيك أنت. سلمات إن شالله تسلم.

– مش مبسوطة كده. إزاي الحال؟

– حال لبن. كتر خيرك.

يا للغرابة! ما هذه الأجوبة الساكتة المسكتة. ما عهده بزينب كذلك تتجنب حديثه. ولكن لعل في الأمر شيئًا.

وكلما تقدما في سيرهما تقضت باقيات النهار والبدر مستدير قد زاد لمعه في السماء، وإن كان الجو المشغول بجنود النور والليل لا يدع لأشعته أن تلامس الأرض. ولبست الأشجار حلتها السوداء فوق ورقها الأخضر، وتدثرت الأشياء بلباسها الأمين، والسائران قد سكتا لا يقولان كلمة ولا ينبسان بحرف، والهواء يحيط بهما عذبًا سائغًا.

ثم من قلب أحاط به الهمّ وفاض عنه أرسلت زينب بتنهداتها في الهواء لم يصبر معها حامد أن يسألها عن شأنها: إيه؟.. مالك يا زينب؟

– مفيش!

كيف! وهل من الممكن أن يكون ذلك التنهد الصادر عن قلب محزون ونفس كليمة دليل لا شيء؟!! أو أنه الهم يعرونا أحيانًا لغير سبب نعلمه فنحس في قرارة نفوسنا بالألم ويشعر وجودنا كله كأن به ما ينغصه ويفسد عليه لذته! حقًّا لقد يكون في جوار حامد لزينب ما جعلها تأسى لغير شيء … وإذن ألا يكون من واجبه أن يذرها إلى وحدتها حتى يراجعها سكونها؟

والليل يتقدّم ونور القمر يتجلى رويدًا رويدًا على السكة والكون يزيد سكونًا وصمتًا.

وصلا إلى ترعة في الطريق امتدت فوقها قنطرة، وعلى جانب القنطرة مصلّى محاط بالطوف، فسألها إن كانت تنتظره حتى يغسل يديه مما عليهما من أثر الغبار، وأن تريح نفسها قليلًا فتجلس حتى ينتهي.. فكانت أطوع له من يده، وبقيت ثابتة تنظر إلى السماء وتحدد نظراتها نحو القمر، كأنما تريد أن تفهم ما يكنه ذلك الساهر من الآباد البعيدة، وما ينم عنه ذلك الوجه الشاحب، وراحت بخيالها في العالم غير المحدود حيث يظهر كل شيء أمامنا تحيط به سحب شفافة نلهو بها عما تحويه. وما كانت لتفهم أكثر من أي إنسان معنى ما يجول بنفسها، ولا لتعرف غاية خيالاتها، بل هي تجول في عالم واسع تسري فيه أشباح لا تميزها ولا تسمع فيه حسيسًا.

وانتهى حامد من عمله، وقام فوجد زينب في تيهائها تضرب في بيداء أحلامها، فمن غير حركة تنبهها وببطء شديد جلس إلى جانبها، ولف ذراعه حول خصرها، ووضع قبلة على خدها، ثم ضمها إليه وسألها من جديد: أنت مالك يا زينب؟

ولكن زينب اليوم ليست زينب القديمة. ليست هي تلك الطفلة الحلوة تحس في كل شيء بلذة الحياة، وتبعث لمن يسألها هذا السؤال نظرات العطف والثقة. ليست الفتاة العذراء تدفع من يضمّها بيديها لترجع إليه وتعانقه من جديد. ليست البكر الحيية ناعسة الطرف، ثم المعطية نفسها لمحب يريد أن تكون معه في عالم سعيد غير عالمنا!.. ولكنها الزوج المحملة بالمسئولية الناظرة إلى الحياة بعين اليأس المتألم.. هي المرأة المحسة بواجبها نحو رجل ائتمنها..

تخلصت من يده، وبنظرة باردة دعته أن يسيرا معًا في طريقهما، فالوقت ممسٍ وهي لا تحب كذلك أن يراهما في مكانهما أحد.

فتنهد حامد وقال: انت يا زينب نسيتيني ونسيتِ أيامنا اللي فاتت؟

– لا، ما نسيتش. لكن أنا اتجوزت. هه. الأيام اللي فاتت فاتت! يالله نروح.

ثم تنهدت من أعماق قلبها تنهدًا طويلًا، وقامت، فسارا معًا حتى افترقا عند مدخل القرية، وقد لزما السكوت طول الطريق.

فلما وجدت نفسها منفردة عاودها الأسف على الأيام الماضية، أيام كانت بنتًا لا تعرف المسئولية التي تنوء بحملها. أيام كانت ترى في ابتسامة حامد سعادة لا تعادلها سعادة، وتحس كأنه يحمل لها معه هناء يملأ به قلبها كلما قدم عليها آتيًا من البلد.

كذلك ألا تقضي عليها واجبات الزوجية ألّا تكلم إبراهيم إلا كما تكلم كل أجنبي عنها؟ ألا تضطرها أن تنساه من قلبها؟ وألّا تجعل لوجوده من أثر في حياتها؟ ولكن أنَّى لها ذلك وما ذكرته إلا أخذها الشوق إلى عوالم تتوه فيها بين آمال وآلام؟!.. ما كانت تحسب الزواج من قبل فظيعًا إلى هذا الحد لمن يريد أن يقوم بواجبه.

والبدر في السماء يبعث من نافذة الغرفة اللجة الفضية تنطرح على الحصيرة، وزينب محدقة إليه وهو رانٍ لها، عراه الشحوب ويصبّ من رفعته نظرته الرقيقة العذبة إلى قلب الوالهة المسكينة.

فى الرداء الكبير من شعاع القمر التفّتْ زينب رائحة في عالم أحلامها وخيالاتها سارحة بعيدًا عن كوننا وضجته، وقد جاءت على ثغرها ابتسامة كأنها وجدت إبراهيم في ذلك الكون الآخر ينتظرها.

ورجع حامد إلى الدار فكان أول ما وقع عليه نظره كتاب عزيزة الأخير مفتتحًا بوداعها، فوقف يحدق إلى حروفه مبهوتًا ويكرّر قراءته كأن به من مكنون المعنى ما لا ينمّ عنه لفظه، وبعد أن قلب أوراقه مرارًا وضعه مكانه، ثم ارتمى على مقعده، وأخذ كتابًا جعل ينظر في كل صفحة من صفحاته هنيهة ثم يتعداها إلى ما بعدها. وأخيرًا تركه ووقف عند الشارع ينظر إلى المحيطات ويطيل التحديق وسط ظلمة الليل كأنما يناجي الجمادات مما حوله. ولما لم يطق الصبر خرج من جديد، فوجد والده وإخوته ينتظرونه، فأخذ مقعده بينهم وتناول طعامه معهم.

انتهت سهرتهم حوالي الساعة الحادية عشرة على عادتهم بعد أن قرأوا الجرائد وناقشوا ما فيها، فدخل كل إلى غرفة نومه، وراح إلى سريره إلا حامد فقد أمسك من جديد بخطاب عزيزة يحدق إليه، وعليه علامات الأسى والأسف، ويطيل النظر لسطوره من غير أن يقرأ منها كلمة، ثم يرفع رأسه نحو القمر، ويضم المكتوب إلى صدره وعينه كلها الاستعطاف، كأن للقمر من السلطان ما يمكنه من أمله وينيله غرضه، ثم وضع الكتاب أمامه وألقى برأسه بين يديه جالسًا القرفصاء، ووسط ذلك السكوت الأخرس الذي حوله تحدرت من مآقيه دمعة سقطت على ثيابه.

هذه الورقة آخر العهد بعزيزة والليلة آخر العهد بزينب.

كل شيء انتهى في الوجود. كل سعادة غادرت حامد. كل خير يفر من أمامه. مصادفة منحوسة وبخت مائل!

لمَ يا رب كل هذا؟ أي ذنب جناه المسكين حتى يقضي عليه هذا القضاء القاسي؟ إنه رضي بقليل، وقنع أن تكون محبوبته فتاة ساذجة كل عملها القراءة والكتابة وكل خبرتها الصبر على الويلات والخضوع للقوة، وأعجب بجمال خلقتَهُ أمام عينه فتاه في عبادته.

ورفع حامد رأسه وأخذ في يده الورقة مرة أخرى، وتنهد من أعماق نفسه، ثم قام إلى سريره وأطفأ النور، وجعل يعالج النوم، ولكن هيهات أن يطاوع النوم محزونًا. إن هذا السلطان القادر إله السكون والهجود، والرب العدل تتساوى أمامه حظوظ كل من دخل في ملكه يضعف دون الفؤاد المشتت المهموم ولا يصل منه ولا إلى عزائه.

في هذه الغرفة السوداء ظلام كالقار، كل شيء صامت ساكن، وقلب حامد خفاق وفؤاده مضطرب، كل شيء ممتع تحت ستار الحلكة ونفس حامد معذبة مسكينة. وكلما تقدّم الوقت وزاد الوجود همومًا زاد حامد قلقًا وكبر همه ولم يستطع إغماض عينيه. فلما يئس من أن ينام قام ففتح نافذة الغرفة، فاستند إلى حافتها، وبقي من جديد يحدق إلى النجوم اللامعة في ثوب الليل، وقد اختفى القمر وراء المنازل القاصية وهو من حين لحين يمسك ساعته بيده ليرى الوقت فيها، فعلم أن قد بقي على الفجر ساعتان.

ساعتان في مثل هذه الوحدة طويلتان. والملال الذي يصحب الضيق قد أخذ بخناقه، فماذا عساه يفعل؟ أضاء المصباح وجعل يروح ويجيء وسط المكان الضيق فلم يُجْدِه ذلك نفعًا، فهو لا يفكر في شيء، ولكنه مثقل بهموم لا قبل له بها، راح إلى سريره ثانية فلم يسعده الحظ هاته المرة، ولا بمقدار ما أسعده في المرة الأولى، أراد أن يقرأ فلم تطاوعه نفسه أن يفتح كتابًا مما أمامه. أخيرًا فتح بابه وخرج، ولم يسر إلا قليلًا حتى رأى الخفراء على مصطبتهم ممدّدين قد وضع كل بندقيته تحت رأسه وتغطى بدفيته أو ببشته، وأحدهم جالسًا مستندًا على نبوت قد ركزه، فيممهم منتظرًا من يسأله: «مين؟» حتى يجيبه، ولكنهم كانوا جميعًا في لجة القمر غرقى ذهابًا في نومهم، وهذا الجالس يحسبه الإنسان يقظًا وهو أسعدهم بأحلامه وأهنؤهم نعاسًا.

جلس حامد فيما بينهم وأخذ مكانه، فشعر به رئيسهم وقام مذعورًا خيفة أن يكون بعض رجال الدورية، فلما لم يتميز له اللبس العسكري هدأ باله، وفتح عيونه فعرفه ثم نادى: قم يا محمد انت وفرج دوروا في البلد.

فقام فرج مستندًا على نبوته، وسار وصاحبه الثقيل النوم. وقام حامد يدور البلد معهما.

تقدموا في سيرهم إلى جانب المباني، وقد مدت ظلها وإن بقيت سطوحها يلمع على أحطابها الضوء وهم سكوت، فلما وصلوا إلى حوشة نخل تفرق الخفيران عن صاحبهما قائلين: يا لله نشت النخيل.. لازم موقع طيب دلوقت.

فتبعهما حامد وراح هو الآخر يبحث عن البلح الساقط على الأرض، فلم يكد يرى شيئًا، والخفيران انتهيا من مهمتهما فرجعا إليه وأعطياه مما جمعا؛ وسار ثلاثتهم يأكلون ويتحدثون بصوت خافت، ويحكون عن الخفارة أيام الشتاء فرحين، يوقدون النار أمامهم، وينسل واحد إلى بعض المزارع أو الحلل القريبة فيستلّ منها كيزان الذرة يشوونها ويبيتون في مثل هذا وليس عليهم رقيب.

ووصلوا إلى مقثأة، فاتفق الخفيران أن يذهبا إليها فإن كان عندها أحد سألاه منها، وإلا أخذا (زرّين) من جنب السكة. ووجدا عندها مَن أجاب طلبهما (علشان خاطر سي حامد) الذي شرفهم في مثل هذه الساعة من الليل، وهكذا بقوا عنده نحو نصف ساعة ثم رجعوا إلى دورتهم فأكملوها، وكانوا عند المصطبة، والنهار يعبث بظلمة الأفق، والفجر مؤذن أن يلوح، وتركهم حامد إلى غرفته وإلى سريره، وراح في نوم بقي فيه إلى ما قبل الظهر.

استيقظ وقام إلى مكتبه فرأى مرة أخرى كتاب عزيزة.

ألم ينس هاته الفتاة مرات ثم يأتي الدهر يعاكسه بها؟ وها قد أصبح واجبًا ألًا يبقي لها في باله من ذكر، ومع ذلك يبعث كتابها لنفسه ألمًا، ويوقظ همومه وأحزانه! ما باله بها متعلقًا في حين كل جديد من الفتيات ينافسها في نفسه مكانتها؟ ألأنهم كانوا يقولون له وهو صغير: إنه سيتزوجها، يبقى إلى هذه السن وفي رأسه مثل ذلك الجنون، ويحفظ لها عهدًا وموثقًا؟ كم من صغيرات كنّ معه أيام طفولته ومنهن الجميلات! آه.. ولكنهن فلاحات..

«وداعي الأخير يا حامد».. ووداعي الأخير ياعزيزة.

وزينب هي الأخرى تركت حامد.

•••

جلس حامد مع أبيه وإخوته لطعام الغداء، وظلوا من بعده، يتحادثون حتى ساعة الأصيل، ثم تفرقوا، فقام منهم من كان قاصدًا المزارع، وآخرون راحوا يلعبون النرد. وحامد لم ير وسيلة يفرّج بها همومه إلا أن يركب هو أيضًا إلى الغيط على أن يكون وحده، فأمر بحصان أسرج له ثم ركبه وسار.

وصل إلى مزرعة بعيدة استغرق ذهابه إليها ساعة من الزمن، وقد ابتدأت الشمس تضعف، والهواء العذب يحرّك القلوب ويبعث إلى الموجودات حياة ونشاطًا، والطرق الضيقة تنساب بين الأقطان ثم تضيق قريبًا أمام العين حتى ليخيل للناظر أن تلك اللجة الخضراء لا حدود لها مطلوسة بالشجر ليس فيها فرجة أو بينها فاصل. ومن السماء الصافية يهبط سكون هائل يتوج الوجود العظيم.

نزل من فوق جواده، ثم سار أمامه، فتبعه الجواد مطيعًا وديعًا، وبخطى بطيئة تمشّى بين الأقطان ينظر إلى ثمرها وهو على وشك أن ينضج، ثم لم تك إلا لحظات حتى نسي القطن ولوزاته ووسواسه الأصفر الجميل، وذهب في أحلام متشعبة.

والشمس بعيدة تهبط مسرعة علتها حمرة الغروب، وقد توجت السماء والأرض بذهبها، وبعثت للسائر قبلة الوداع. وحامد وحيد على هذا المستوى العظيم من الوجود تحده الآفاق ابتدأ يقربها الظلام منه، وهو مشتت يفكر فيما لا يعرف: في أشياء وأشخاص وأشباح. في عوالم كثيرة فيها حركات وسكون، في موجودات لا يتصور ما هي، ولا يفهم مما فيها قليلًا ولا كثيرًا، وهو يسير والحيوان يتبعه يشدّ لجامه أحيانًا، ويدق الأرض برجله أحيانًا. فلما أفاق حامد لما حوله ورأى مقدم الليل استوى على ظهر الجواد من جديد واستحثه مرة، ثم ترك له العنان.

ولم يبق للنهار من أثر، والجو قطب جبينه، والسماء اختبأت تحت حجاب الليل المقدم، والبدر في وسطها يبعث بنظراته الوالهة إلى العالم التائه في تلك الساعة حين لا نهار ولا ليل ولا نور ولا ظلمة ولا شيء يمكن تمييزه. نظرات تسيل هيامًا وعشقًا لولا قسوة قلب الكون لسال من أجلها أسى وحزنًا.

ذهب حامد في أحلامه، ومد في بساطها ما يحيط به من الهدوء وما يبعث الهواء العذب إلى قلبه، وراح بنفسه سابحًا على موجات النسيم إلى عالم غير محدود حيث نضِيع بكلنا ولا نمسك منه بيدنا فتيلًا.

هكذا قضى طريقه في أحلامه، حتى إذا ما وصل وقابله هواء القرية بما فيه من الخمول والكسل، وما يشغله من ضجة الناس، لم يلبث فيه إلا قليلًا حتى تناول عشاءه، ثم انقلب راجعًا إلى مزرعة القطن ذات طنبور البهائم، وفي يده قيثارته يتسلى بها إذا وجد الضيق إلى نفسه سبيلًا.

وصل إليها فوجد عندها واحدًا من فلاحيهم، وإلى جانبه صغير من أبناء المستأجرين الساهرين هم أيضًا لسقي أقطانهم في الجانب الثاني من الترعة، وما لبث حامد أن جلس حتى قام هذا الصغير ميممًا مزرعته وعلى كتفه بشته يتّقي به برد الليل.

لكن فلاحهم متعهد بتابوت آخر غير الطنبور قريب منهم يسمع زنّه، قد استعانوا به هذا الدور حتى ينتهوا من سقي القطن قبل البطالة ولا يضطر المالك لمرضاة المهندس بعد احتمال متاعبه، فمد حامد بساطًا ينام فوقه حين يحوجه النوم، وسمح للفلاح أن يرقب التابوت وينظر في ترتيب الماء ويترك له الطنبور، وسيناديه ساعة يريد أن ينام.

والمزرعة كلها تموج بنور القمر، والكون ساكن إلا من أحلام الليل. زنّ التوابيت وما يحيط بها من الحركة.

جلس حامد منفردًا يحدق إلى ما حوله وما يحيط به، ينظر إلى الماء يسيل هادئًا في الغدير، والنسيم العذب يحمله إلى خيالات حلوة، ويلبس كل شيء من الموجودات عنده شيئًا من البهاء والجمال، والبدر في السماء يهديه تحيته، ولكن حامدًا عنه لاهٍ لا يلتفت، والفضاء أمامه هائل عظيم.

ثم بعد ساعة قضاها مطرقًا تعاوده أحلامه رفع رأسه إلى البدر الذي لا يزال في عليائه محدقًا إليه، فرنا له حامد طويلًا يناجيه ويستعطفه ويسائله، والكوكب العاشق لا ينفكّ يرسل بنظراته الهائمة التي تبيت الخليقة تحتها والهة تشكو الجوى والوجد.

إيه ملك الليل وزينة السماء! يا مسعد الساهر يقلب في دجى الليل أحلامه، ويرجو في هدأة العوالم ما يسكن شجنه فلا يزداد إلا ألمًا. إيه يا ساهر الآباد تبسم للمحبين وتبعث من نظراتك العاشقة ما يزيدهم صبابة ووجدًا، ومن قبلاتك الحلوة ما ينسيهم الكون هيامًا ولوعة. إيه يا صديق المنفرد وعزاء الوحيد المستوحش. لمَ أنت هكذا شاحب وسط ملكك العظيم! أضناك السهر؟ أم كدّك الوجود والهوى؟

يا بدر.. يا بدر.. ما أحلى طلعتك! ما أحبك لنفسي! يا معشوقي العظيم!.. كم رنوت بعينك إلى عشاق عبدوك في وحدتك، وبعثت لهم من خدرك الرفيع قبلات وصلك فباتوا بلذتها سكارى! كم من زروع باتت في لجتك بليل هنيء هادئ، تميل أحيانًا مع النسيم فتتضامّ وتتعانق وأنت عليها رقيب، والماء في الغدير ينساب إلى جانبها ساهٍ عنها بنعمتك التي أسديتها إياه، واللجين مددته على بساطه.

يا بدر..

ها هم أولاء الأغنياء في نومهم، والفقراء في عملهم، وأنا وأنت وحدنا نتناجى وأستمع وحيك. وها أنت ذا مطلع على قلب يحيط به اليأس من كل جانب، ولم يبق في الوجود من يملؤه ويسعده. يا شفيع المحبين، هل لك في الشفاعة لبائس شقي؟!

وأنت يا ليل، بستارك أستتر. في صمتك أعلن وجدي وشكواي فلا يسمعني سميع. هجرني الناس فهل لي في الأشياء من صديق؟!

خفِّفْ عنك يا حامد، فالخطب أهون من أن يبلغ بك اليأس.. إن فيما حولك من الجماد ما يعزِّي عن بني آدم، وهاته الصوامت أحنى من قلوب الناس القاسية.

بقي حامد بعد ذلك محدِّقًا إلى السماء، ثم أمسك بيده قيثارته، وفي نغمة محزونة — انصبت في جوف الليل المهول — قلّب عليها أصابعه، ونفسه وكل وجوده يسيل مع الصوت ويهتزّ بطيئًا بطيئًا. وعلى هذا النحو قضى ساعة، كل انتباهه تائه هناك في غيابات الوجود المختفي تحت القمر حيث ترنّ أصداء نغمته أو هو يستعيد في صفيره بعض الأغاني والمواويل يوقعها وهو رائح بكله في تلك الساعة ناسيًا كل ما سواها..وأخيرًا وضع قيثارته إلى جانبه وحول نظره إلى الماء جنبه يقدر في ما تحت طيات موجاته، أو هو يفكر في تلك القطيعة بينه وبين عزيزة وزينب معًا، وما أرادها منهم أحد.

كان هناك في الجهة الثانية، مستندًا إلى جذع شجرة، العامل الذي مع حامد، وقد بقي نائمًا من ساعة ابتدأ حامد تسليمه. فلما انتهى منه وسكت كل شيء، صادف ذلك وقوف الثور في التابوت، فانتبه الولد شأن أكثر الناس يبقون في طمأنينتهم وهدوئهم ما دامت المحيطات بهم على ما هي عليه، فإذا ما تغير شيء من شأنها انزعجوا مبهوتين، ولو كان ذلك التغير في صالحهم. انتبه فقام فذهب إلى جهة الطنبور فوجده دائرًا، ووجد حامدًا على مقربة منه جالسًا، فرجع أدراجه من غير أن يزعج السارح في غيابات أحلامه.

والقمر قد ابتدأ ينحدر نحو مغيبه بمقترب الفجر.

لما طال بحامد الجلوس قام فجلس فوق الطنبور، ومن جديد جعل يقلب على قيثارته أصابعه. ومن جديد رجع إلى سكوته، ثم أسند رأسه إلى عمود الطنبور بجانبه، وفي سويعة مملوءة بالأحلام ذهب إلى سكون النوم.

تقضت بعد ذلك أيام. ففي مثل هذا اليوم من الأسبوع الذي بعده بينا حامد داخل في المضيفة إلى غرفة الكتابة إذا الكاتب مهتم يكتب وواحد يملي عليه، ولما سأله عن ذلك، عرف أنه كشف أنفار القرعة. فأخذه في يده وتصفحه. فوجد عليه اسم إبراهيم، ولكنه منفصل بعض الشيء عن أسماء الآخرين، فاستفهم عن سبب ذلك، فعلم أن إبراهيم ذاهب للقبول واللبس.

إذن بعد أيام سيترك إبراهيم البلد إلى حيث لا يعلم. إلى العاصمة أولًا، ثم من بعد ذلك إلى مجاهل السودان وخط الاستواء.

جلس حامد في المساء مع الساهرين ينتظرون الجرائد، فإذا شيخ البلد جالس من بينهم يحكي عن أنفار القرعة. فلما تكلم عن إبراهيم أسف له، لأنه الوحيد الطالع هذه السنة، مع أنه لم يخرج أحد من تسع سنين مضت. وبتجربته الطويلة حكم أنْ سيكون هذا الشاب في فرقة البيادة.

هناك في مجاهيل السودان وخط الاستواء، سيزور إبراهيم جهنم، لا غازيًا ولا فاتحًا، ولكن خادمًا مطيعًا، هناك سيقضي أيامًا حلوة من عمره ثم يرجع ولا فخر له.

عما قريب سيترك قريته التي يحبّ وأهله الذين يحبونه.. سيذر تلك الأراضي الواسعة تغطيها الزروع، يقوم هو بينها ليل الصيف، ويقف مستندًا إلى فأسه يرقب البدر العاشق وسط السماوات. سيخلف وراءه هذه الطرق تنساب إلى ما لا نهاية له، والغدران الصغيرة المتقلّبة الأمواج أيام الإدارة، الناشفة أيام الجفاف.. وسيترك وراءه قلبًا داميًا باكيًا! روحًا كل بقائها على الأرض آمال فيه! فؤادًا كليمًا ونفسًا والهة. سيذر زينب تبكيه. سيذر كل ذلك إلى الصحاري القاحلة المجدبة، ونار تصبها السماء من علوّها تشوي بها الجلود.. إلى عذاب شديد وما هو في ذلك بالغازي ولا الفاتح ولكنه الخادم المطيع!

٧

– أنا مسافر مثل النهارده.

هاته هي الكلمة التي قدر إبراهيم أن يقولها لزينب ساعة قابلها راجعة من الموردة تحمل جرتها مملوءة بالماء. وهاته الكلمة كادت تصعق لها زينب وتقع مغشيًّا عليها.

رجعت إلى الدار متمهلة في طريقها يكاد يغيب رشدها كلما استعادت أمام نفسها هاته الكلمة. ولكنها بالرغم مما عراها من الألم استمرت حتى انتهت من أدوارها المعتادة، ثم رجعت بجرتها فارغة والوقت مؤذن بالمغيب، فركنتها عند حرف الترعة، ونزلت وسط المزرعة حتى قابلت إبراهيم، وهناك سارا معًا حتى جلسا إلى جذع شجرة عند التابوت، واحتجبا بها عن أنظار المارة، وبقيا إلى جانبها سكوتًا هما الاثنان، لا يستطيع أحدهما أن يفتتح الكلام ولا أن ينظر إلى الآخر.

ثم من أعماق قلبه تنهد تنهدًا طويلًا وأخذ في يده يد زينب، ثم أعاد لها كلمته: أنا مسافر مثل النهارده.

لم يبق لهما إلا أسبوع، وبعد ذلك يفترقان إلى أمد طويل، من يدري فقد يكون إلى الأبد. فهل يجعلانه أسبوع سرور ولذة أو هما يقضيانه أسبوع دموع حارة وآلام قاتلة.

ما أبطأ الليل في نزول ستاره. ها هي ذي الشمس قد تركت وراءها نورًا لم يتقلص بعد، والسماء لا تزال زرقتها تلمع أمام العيون.

وسط الكون الأخرس المحيط بهما انحدرت من عين زينب دمعة حارة سقطت على يد إبراهيم الذي لم يتمالك أن طوق بيده عنقها ثم سألها بنغمة محزونة باكية: مالك يا زينب؟

ما لزينب اليوم؟.. ودعها إبراهيم! فأملها في الحياة يتقلص! كم تفعل في نفوسنا الحوادث! وكم يهيج مثل هذا الفراق من الحواس ويضيف إلى ما عندنا أضعاف أضعافه! إنها أحبت إبراهيم كل هاته المدة الطويلة، ومع ذلك جاهدت بكل قواها، وحفظت على نفسها شرفها وعفافها، وقامت بواجب الزوجية مقدار ما استطاعت، ولكنها لا تقدر اليوم أن تبتعد عن إبراهيم. كلا! إنها تريد أن تأخذ منه كل ما تقدر في هذا الأسبوع الباقي. تريد أن تضمه إلى قلبها وتبكي معه. ما أقسى القضاء الذي يجور على فتاة حساسة كزينب، فيعاكسها في كل آمالها، ويقلب عليها الحوادث كلها، ويذرها هكذا بائسة تعيسة ولا يجود عليها بشيء ما، ولا بشعاع من أمنية سعيدة تجعل في عيشها من اللذة ما يحرضها على البقاء.. والليل وحده شهيد على دموعها!

ولكنهما لا يستطيعان البقاء في مكانهما طويلًا، وزينب مضطرة أن تكون في الدار لترى أمر العشاء، فقامت وملأت جرتها ورجعت إلى جانب إبراهيم، والسكة خالية، واتفقا معًا على أن يتقابلا في صباح الغد.

بالرغم من أنه لم يبق لإبراهيم إلا أسبوع على السفر فهو لا يزال يعمل في المزارع أجيرًا كعادته، وإن كان قد انقطع عن سهر الليل. لذلك فموعده مع زينب في الصباح تحت هذه الشجرة التي كانا عندها.

قضت زينب ليلتها ما بين أحلام وآلام، فلما كان الصباح وقابلته قصّت عليه بعض ما رأت. رأته في البراري سائرًا وحده مطرقًا برأسه والليل نازل وقد لبس كسوته السوداء، ثم يحدق إلى ما حوله فإذا هو بعبد أسود عظيم مقبل عليه يحمل له ورقة، فلما رجع بها إلى العساكر وقرأها بعضهم له جعل يبكي ويطيل البكاء، ثم رأت نفسها كذلك مضطجعة وإلى جانبها أمها وأختها وحماتها وحسن وهي في بكاء تضرع إليهم طالبة أن يأتوها بإبراهيم. وكل من حولها هم الآخرون عليهم آثار الجزع. وبعد زمان إذا بها وحدها ليس معها أحد تتلفت فلا تسمع حسيسًا. وأخيرًا راحت في سكون لم تعد تفقه معه شيئًا.

وكلما سمع إبراهيم كلام زينب وصوّر أمام نفسه مصيره هناك في مجاهل البلاد الجهنمية حيث لا يعرف ما سيلاقي وحيث لا يفهم سببًا لوجوده إلا أنه عبد مأمور.. تهيجت نفسه مشمئزة متألمة وحنق ألّا يجد بدلًا نقديًّا يدفعه عن هاته العبودية من غير ما معنى ولا ضرورة! لا يجد ما يشتري به حريته كما يشتريها غيره ممّن يملكون النقد.

هكذا يفهم الناس معنى العدالة. من أجل أني غني أعفى من الخدمة العسكرية عندنا، ولأن آخر فقير يساق برغم أنفه ليقاسي عذابها ويصلى نارها ويرجع منها موسومًا بطابعها.

وظلا معًا حتى اعتلت الشمس السماء، ورجعت زينب للدار حتى تذهب لحسن بغدائه. فلما كان الأصيل وقد ابتدأت النساء الملية، إذا حامد سائر وحده عليه أثر التفكير العميق، فلما رأى إبراهيم قريبًا سلم عليه، ثم وقف وسأله عن حاله وماذا عساه يفكر في سفره، فأجاب الآخر: والله آهو شغل بشغل، ولكن اللى مضايقني إني مش عارف رايح أعمل إيه: يعني يا سي حامد حانفتح بلاد الغرب ولا نخش تونس في الضهر الأحمر. أهو إن كان هناك وإلا هنا الانجليز فوق أكتافنا وهم الحكام.

فقال له حامد: ما علهش أهم شوية أيام وترجع.

ثم تركه وسار، وقد أعجبه جواب هذا الفلاح الساذج. لو أنه ذاهب لغزو وفتح لذهب مسرورًا منتظرًا أن يرجع أوبة الفاتح المنتصر، ويحدث بأعماله وأعمال من معه، ويفتخر بقواد جيشه وضباطه، لكن الحال أنه ذاهب ليقوم بصغائر الخدم تحت إمرة المتحكمين في بلاده.. فما أشد ذلك إيلامًا له! وما أقوى وقعه على نفسه!

ثم جاء إلى فكر حامد أن إبراهيم مخطئ في تقديره قصير النظر فيه. حقًّا إنه اليوم ذاهب لأعمال دنيئة لا معنى لها، ولكنه يمثل على كل حال أمته وجيشها. وإذا لم يكن من الشرف اليوم أن يكون جنديًّا فسيحفظ له الزمان أنه كان الصلة ما بين عظمة هذا الجيش القديمة وعظمته المأمولة المقبلة. لكن إبراهيم الفلاح البسيط لا يفهم من ذلك شيئًا ولا يستطيع أن يفهمه.

وفي سيره المتمهل غاب عن نظر إبراهيم الذي وقف مكانه يرقب الذاهبات والراجعات وينتظر أن يملأ الماء الفردة التي هو بها، ويرسل على كل ما حوله نظرات الوداع الأخيرة، على تلك الأشياء العزيزة عنده والتي ستغيب عنه زمانًا طويلًا.

وكل يوم يلاقي زينب، ويتحالفان أن يبقيا على عهدهما إلى الأبد، أن تحفظ له في قلبها ذلك الحب الذي يملؤه مهما جاءت به الحوادث، وأن يذكرها هو الآخر ولو بين دوي المدافع وأنياب الموت الأحمر. ثم يبقيان معًا في صمت وتستعبر عيونهما وكل يحدق إلى صاحبه حتى يفترقا.

غدًا يسافر إبراهيم. لذلك أعدّ له أصدقاؤه ليلة يقضونها معًا ما بين حديث ولعب. فلم يكد الغروب يجيء حتى ابتدأت ساحة الدار التي انتخبوها لذلك تضوّي بالشبان والفتيات أتوا جميعًا يحيّون صديقهم القديم تحية الوداع، وجاء في مقدمتهم حسن، وعامر، وحسين، وإخوانهم. وبعد أن جلسوا برهة يتحدثون وصل عطية ومعه دربكته فهاص الموجودون، وأفسحوا له مكانًا. ثم استمروا في حديثهم، والليل يغطي بستاره السماء والأرض، ويبعث في الجو بنسيمه العذب، والإخوان كلهم عليهم أمارات السرور والرضا.

والوقت يجري لمستقر له، وهم قد ابتدأوا ينقرون على دربكتهم ويصفّقون ويرقصون كأنهم يستقبلون وافد خير. فلما تقدمت السهرة ابتدأوا يرجعون واحدًا بعد واحد من بعد كلم الوداع لصديقهم المحبوب. وبدل تلك الضجة التي كانوا فيها خيّم على المكان صمت بعثت به هيبة تلك الساعة القدسية حين ينخلع القلب إذ يشعر بما سيكون في الغد، وأكثر إخوانه تعلقًا به قد بقوا حتى الآخر وجلسوا مدة يتذاكرون قديمًا، وينتظرون رجوعه في القريب ثم جاء موعد الفراق فتركوه على أن يروه غدًا على المحطة.

أما حسن فلم يتركه تلك الليلة بل بات معه، وكلما ذكر الواحد أو الآخر من الصديقين الفرقة القريبة الداهمة تحدرت من مآقيه وسط الظلمة الدامسة المحيطة بهما دمعة حارة تنطق وسط الليل الساكن بما يعانيه قلبه. ويفتح إبراهيم عينه يحدق إلى السماء السوداء يشكو لها ما رمته فيه من فقر وما قضت عليه من فراق، ولكن هيهات للسماء في تلك الساعة أن تسمع الشكوى!

إنه فقير، لذلك هو لا يستطيع أن يمسك بيده حريته. لا يمكنه أن يكون مع غيره على بساط من المساواة أو قليل من العدالة. ليست عنده الحرية التي يمسك معها غايته بيده، بل هو مسوق شاء أو أبى إلى موقف هو في أكثر الأمم عزّ وشرف، ولكنه في بعضها صغار وذل. هو في الأكثر دفاع عن الأمة وحريتها ورفع لمقامها أن تمسّه يد، وفي البعض خضوع لمتحكِّم أجنبىّ وخروج على أهله وتسلط فوقهم من غير أن يريدوا عليهم سلطانًا.

ولكن.. هل في الأرض أو في السماء عدالة ما دام الكون قائمًا وحركته دائمة، وما دام فوقه غنيٌّ وفقير وقويٌّ وضعيف؟! إذن فعبث أن يطلب الإنسان العدالة أو يتألم مما يحيق به من الظلم، فهو واقع به ما دام لا يقدر على دفعه، وإنما يتخلص منه في ذلك اليوم الذي تمكِّنه قوته من الاستعلاء على ظالمه.

عبث إذن آلام إبراهيم وشكواه، وليس له إلا أن يصبر تحت تصريف الأقوياء والأغنياء في حياته ورزقه حتى يجد من بني طائفته الفقراء العمال من يتعاون معه على دفع بلوى المجموع والأخذ بالثأر من حكام الجمعية الغاشمين. ليس له إلا أن يبقى ساكتًا حتى يأتي اليوم الذي لا تضيع فيه كلمته من غير أن يسمعها أحد بل تكون حين ينطقها ذات رنين يقرع آذان المتحكمين في رزقه ورزق أمثاله والقابضين على حريتهم جميعًا، يقرعها فتفزع لقرعه وتتجه نحو الصوت فتفهم ما يريد وتجيبه إلى ما يطلب.

ألأن إبراهيم فقير يقضى عليه بالنفي والإبعاد عن أمه العجوز قد مات زوجها، وهجرها أكبر أبنائها اكتفاء عنها بزوجته؟ وعن أصحابه الذين يعبدون منه لطفه ورقته؟ وعن زينب التي ترسل الدمع من قبل أن تفارقه، وعن المزارع الخضراء وقطنها وبرسيمها وأشجارها وجداولها؟.. عن تلك اللا نهايات اليانعة ليقذف به في لا نهايات جهنمية من صحراء قفر لا نبات بها وبين قوم وحوش. ولو ملك عشرين جنيهًا لوفر على نفسه كل ذلك. أي ظلم أكبر من هذا الظلم؟! بل أي عدوان يعادل هذا العدوان؟!

لكن القضاء النازل لا محيص منه، وخير ما يعزى عنه الرضا به ونسيان محنته، كما أنه لا فائدة من التسخط عليه. لذلك مهّد إبراهيم نفسه للعسكرية، وجعل يحلم بما قد يكون فيها من محاسن، وحين يرى البلاد الجديدة وما تقدم بأشكالها المختلفة أمام العين من الفروق الدقيقة ثم طباع هؤلاء المجهولين الذين تحكى عنهم حكايات تكاد تكون حديث خرافة. وتعلم ضرب النار والخروج مع إخوانه وبلدييه بكسوتهم المنتظمة، كل ذلك هون على نفسه بعض الشيء وجعله ينام قبيل الفجر.

وفي صباح الغد اصطحبه حسن إلى داره فودّع عمي خليل وزوجته وبناته في حين ذهب حسن ليغيّر بعض ثيابه ويصلح من أمره. وطلعت زينب مع زوجها للغرفة ثم تركته ونزلت مسرعة وكلها تهتزّ ولا تكاد تملك نفسها ويكاد البكاء يخنقها، وشعرت بمقدار مرارة تلك الساعة القاتلة، ساعة الفراق بين المحبين.

figure

لم يعد سبيل لمرآه بعد هذه اللحظة. لذلك نادت به إلى قاعة في الدار كأنما تريد أن تحدثه في بعض أمرها، وما إن انفردت معه حتى أخذته إليها تعانقه وقد انهلت دمعتها وأحس في وجودها بهزّة الحزن، وراح هو الآخر إلى عالم الآلام. هل يفترقان إلى الأبد!؟ ما أشد تلك الساعة على نفسيهما! وهذا العناق بينهما، عناق الوداع حيث يذهب أحدهما إلى فلوات كلها المخاوف والآخر إلى ما لا يدري، إلى الأبدية والفناء.

خارت كل قواهما فأسند كلٌ رأسه على ركبته ودمعهما يسيل ولا ينطقان. وفي تلك الساعة الأخيرة تجسمت قداسة الوداع وهيبة اللقاء الأخير.. وبقيا على ذلك حتى سمعا صوت حسن نازلًا من فوق فعانقته ثانية وقبلته، وبصوت مختنق يجهش بالبكاء المر قالت له الكلمة الأخيرة: مع السلامة.

ثم بقيت في القاعة والباب مقفل عليها، وحولها ظلمة المكان تترك أحزانها مطلقة العنان، فراحت بكلها تائهة منقبضة الصدر قد أثقلها أسى من ذلك الذي يعتادنا حين تتناوبنا هموم كثيرة لا ندري من أين أتت لأنها آتية من كل مكان!

وأخيرًا، وقد بلغ منها اليأس مبلغه، هزّت رأسها ونظرت بعيونها الملأى بالدمع إلى ما حولها كأنما تريد أن ترى ذلك الأثر الذي خلف إبراهيم مكانه، تلك البقعة الطاهرة المحبوبة التي كان جالسًا فيها لآخر ساعاته معها. ذلك التراب الميمون الذي كان يلامس. فرأت منديلًا محلاويًّا كبيرًا قد وقع منه فانحنت إليه وأخذته فمسحت به دموعها، ثم قبلته مرات ووضعته على قلبها الآسي الحزين.

ومن محاجرها الجميلة تحت حواجبها الدقيقة تساقط الدمع مرة أخرى. ولو أنها نظرت إلى وجهها هاته الساعة في المرآة لأصابها الذهول لما أظهره الألم عليه من الشحوب، وما غادر خدها الأسيل من تورده البديع. لكن أنَّى لها أن تفكر في هاته الساعة في المرآة أو في نفسها أو جمالها؟ إنها نسيت كل شيء إلا آلامها القاتلة.

أما حسن وإبراهيم فقد سارا معًا إلى المحطة حيث وجدا كثيرين ينتظرونهما. وفي تلك اللحظة الباقية على مغادرة صديقه لهم جعلوا يحدثونه، وكلهم آمال طيبة من أجله، ويرجون عودته سالمًا. فلما أحسوا جميعًا بالقطار آتيًا من بعيد سلموا عليه وعانقه بعضهم، وضمه حسن إليه طويلًا. ثم إذا شيخ البلد قد أتى فأخذ نفر القرعة في يده وصعد معه في عربة السكة الحديد فازدحم الجمع على نافذتها. فلما أعلنت القاطرة بصفيرها قيامها ودعوه جميعًا بكلمتهم الأخيرة، وأرسل هو على هاته الأراضي المقدسة المحبوبة نظرة الوداع مملوءة آلامًا وآمالًا.

١  رداء من الصوف يلبسه الريفي في مصر.
٢  آلة موسيقية ريفية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤