ربيعيات

الفاكهة المحرمة

إذا نهيتَ إنسانًا عن الخمر، فشربها للذتها وهو يؤمن بأنها حرام؛ فالمسألة هنا هي مسألة الخمر، والقوة المتمثلة هنا هي قوة الإغراء على الشراب.

أما إذا نهيته عن الخمر فشربها؛ لأنه لا يؤمن بحقك في نهيه وأمره؛ فالمسألة هنا هي مسألة السلطان والرغبة في تحديه، وليست الخمر إذًا إلا مظهرًا للنزاع بين الآمر والمأمور.

والفرق بين تهتك العصر الحديث وتهتك العصر القديم هو هذا: هو أن المُتهتِّك القديم كانت تغلبه لذة الشيء المنهي عنه، أما المتهتك الحديث فتغلبه شهوة التمرد والجموح:

فاكهة الجنة الحرام
ما زالت معشوقة الأنام
تناولوا من جناك حينًا
شوقًا إلى لذة الطعام
واستطلعوا السر منك حينًا
والسر أمنية ترام
وذاق منك التقاة حينًا
ليفثئوا صورة الصيام
وهاجمتك الغزاة حينًا
هجمة صيد أو اغتنام
أما بنو عصرنا فبدع
في غزوهم ذلك المقام
فما ابتغوا لذة ولا هُمْ
طلاب سر أو التهام
لكنهم قاربوك كبرًا
وأولعوا فيك بالملام
تحديَ الحارس المغالي
وشهوة السبق في الزحام

أزهار الذكرى

قطفت أزاهر الذكرى أصيلًا
فصوَّح حسنها قبل العشيِّ
فبِتُّ أضاحك الأفلاك سخرًا
وأرثى للذَّكور وللنسيِّ
إذا ما كان هذا عمر حبي
فيا بؤس الغرام الآدميِّ

•••

وصاح الحب لا تعجل فإني
كما نُبِّئتُ من طفل ذكيِّ
ضع الأزهار في ماء، وجدد
روافدها من الشجر الجنيِّ
تعش ما شئت في حسن نضير
وفي أمن من الهجر الخفيِّ

•••

نعم يا حب أنت على صواب
فيا لك من وليد عبقريِّ
وضعتُ الزهر في الماء المُصَفَّى
وعدت إليه بالرفد الزكيِّ
فرفرف للحياة وطال عمرًا
وطاول عهده عهد وفيِّ
نعم يا حب أنت على صواب
وعندك حكمة الخلد الصبيِّ
فلا ماض يدوم بلا جديد
ولا حيٌّ يعيش بغير رِيِّ
إذا مات الغرام بلا طعام
فتلك طبيعة في كل حيِّ

ابنا النور (الزهر يخاطب الجوهر)

يا جوهر الحسن لا تضعني
لديك بالموضع المهان
فالزهر والجوهر المصفى
صنوان في النور توأمان
أشعة النور في يدينا
وديعة أو وديعتان
لكننا بيننا اختلفنا
يا جوهر الحسن في الصِّيان
تصونها أنت من بعيد
بالسيف والرمح والسنان
ولم تزل في يدي كنزًا
يُصان بالعطف والحنان
ومعدن النور فيَّ حي
وفيك معنى الحياة فان
فيا زمانًا بلا حياة
إنِّي حياة بلا زمان
كلٌّ له من أبيه حظ
ونحن بالحظ راضيان

عودة الكروان

مرحبًا أيها البشير ومرحى
بعد طول السكوت ليلًا وصبحا
جاءنا رائد الكراوين في جنـ
ـح من الغيب يفتح العام فتحا
فإذا الليل خافق، وظلام الـ
ـليل طلق آية الليل فصحى
وغنمنا عامًا من العمر لما
عاد ماضي الربيع والأرض فرحى
والربيع الجديد يدني إلى الما
ضي شبابًا ويربح العمر ربحا
كلما زاد بالمواسم عدًّا
خلته قل بالحياة وصحَّا
فكأن الربيع معنى قديم
في طويل الزمان يزداد شرحا

•••

مرحبًا بالبشير بل ألف مرحى
قد سمعناك فاملأ السمع صدحا
واملأ الليل بالنداء على الحبـْ
ـبِ مُصِرًّا على النداء مُلِحَّا
أنت لا شك موقظ منه وَسْنَا
نًا معيد له إذا ما تنحَّى
قد سمعناك بالقلوب وصدقـ
ـناك فاسبح بحمد دنياك سبحا
لست بالمادح المريب فلولا
فتنة في الحياة ما قلت مدحا

•••

مرحبًا بالذي إذا ارتجل السا
عة أوحى في النظر ما ليس يوحى
المعيد الزمان جيلًا فجيلا
وهو في ضحوة من العمر أضحى
أبدًا مذكري وإن نشأ العام
عهودًا من سالف العمر مرحى
أنت ذكرى وأنت بُشرى فهيها
ت لقلب عن أي نهجيك منحى
لك لمح كالبرق في عالم الصو
ت يشق الظلام جنحًا فجنحا
ويرينا الحياة وهلة حلم
تنجلي عالمًا، وتعبر لمحا
أمة الطير لا عدمنا نصيحًا
منكم يبهج الخواطر نصحا
مؤمنًا بالرجاء يُزجي إلينا
من رجاء ما غاب حينًا وشحَّا
داعيًا للحياة لم يألُ نضحًا
من مزاميرها ولم يألُ نفحا
أنتم من مراجل الشوق فيها
شرر يقدح الضمائر قدحا
تطلبون الجمال كالعاشق المطـ
ـلوب لا كالأثيم يطلب صفحا
كل من بشروا من الناس بالخيـ
ـر عيال على العصافير طلحى
لا ترى الشك في سرور ومنها
كل يوم قتلى شرور وجرحى

•••

زعموا البوم نائحًا ظلموا البو
م فلم يشك في الخرائب برحا١
إنما كان مغرمًا يَتغنَّى
أو مجدًّا يغالب العيش نجحا

فصل الحب

هناك سنبلة في كل نابتة
وها هنا ريشة في كل منقارِ
قضى الزمان حقوق الزهر وابتدأت
حقوق فاكهة تنمي وأثمارِ
فالغصن والطير هبَّا يلقيان معًا
بنيهما بين أكمام وأوكارِ

عزاء

قلت للقلب كيف حسن العزاء
بعد فقد الصحابة الأوفياء؟
قال لي القلب وهو يزعم أن لم
يتبدل شيء من الأشياء
كل شيء كعهده لا جبال الـ
أرض غارت ولا نجوم السماء
قلت يا قلب قد صدقت ولكن
بلغ الصدق منك جهد الرياء
إن يكن ذاك خير ما أنت فيه
من عزاء، فذاك شر البلاء

يومنا

يومنا عاد، فهل تعرفه؟
شد ما رعرعه العام السريع؟
شد ما غذته في نشأته
قبلات تشبع الحب الرضيع
هي تنمي حين تغذو طفلها
وهي تنمي طفلها حين تجيع

•••

سنة كانت ربيعًا كلها
بين روضٍ يتغنى ويضوع
زهرها ناهيك من زهر، فإن
أنبتت شوكًا، يكن شوك ربيع
حبذا الشوك من الحب ولا
حبذا من غيره العشب المريع

•••

غُضَّ عينيك قليلًا واستعِدْ
خطوات العام في الأفق الوسيع
كم ترى من خفقة غَنَّتْ بها
ساعة العمر التي بين الضلوع
كم ترى من قبلة رنت بها
تلكم الساعة؟ قل لو تستطيع!
كم ترى من نشوة حامت بنا
حول عِلِّيين والعرش الرفيع
إن يطل شرح المعاني فاختصر
كل ما فرقت في معنى جميع
هو «حب» فإذا فرقته
فهو ما راع قديمًا ويروع
هو حب واحد لكنه
شائع كالنور من حيث يشيع
لم يكرر قط في ترداده
كل ترداد له خلق بديع
فإذا عشت له عشت به
في بواكير من العيش الينيع
أين يمضي بك يا يومُ السرى
وعنان الحب يا يوم مطيع؟
طفت ما طفت وساقتك لنا
صحبة إن ضاع شيء لا تضيع
وعلى العهد مدى العمر هنا
نحن يا يوم ومأواك منيع
أبدًا نلقاك والحب معًا
ها هنا بين مُضِيٍّ ورجوع

حذار!

قلت للحب تجرد لمحةً
من كناناتك وادخل بسلام
قال لا تخشَ فإني قادم
غير ما عادٍ ولا باغي خصام
ثم أمسينا وبي من طعنه
حرقات داميات وسمام
قلت: من أين سهام مزقت
ذلك القلب فأمسى لا ينام؟!
قال: من ريشي إذا الريش نما
ومن الوهم إذا جن الظلام

•••

يا أمين القلب لا تأمن له
حول مغنانا ولا ترع الذمام
أنت إن عرَّيته من ثوبه
نبتت من جلده تلك السهام
ومن الوهم لديه عدة
قصفت شكتها كل حسام

مرقص الشجر أو جنون الرقص

عجبًا ما لذا الشجر؟
جنَّ أو مسه سكَر!
ودَّ لو يتبع النسيـ
ـم طليقًا من القدر
كل ما فيه راقص
ثائر ثورة الخطر
يترامى مرفرفًا
ذاهب السمع والبصر!
يحسب اللهو فانيًا
أو مجدًّا على سفر
هكذا تصنع الحسا
ن مع اللهو والسمر
إن زهتهن فتنة
قلن للقلب لا ندر
أو تَذَوَّقْنَ لذةً
قلن لا ينفع الحذر

على شاطئ البحر

يا جيرة البحر غوصوا
في كل قاع بَرود
ما البحر عنكم بمغنٍ
على اطراد الورود
جيرانه في احتراق
على اختلاف الوقود
ما بين لمع سماء
وبين لمع خدود
فلا نجوا بقلوب
ولا نجوا بجلود

القمراء

إن في القمراء من سحر الصبا
مسحة تفتن عين الذاكرِ
تلمح العالم فيها مثلما
لاح في عين شباب باكرِ
بين نور كشعاع المختلى
وانتباه كنعاس الخادرِ

إلى ضحية الغيرة

أنتِ مظلومة وما أنا بالظا
لم بل نحن في القضاء سواء
غيرة الحب جرعتنا ظنونًا
لك فيها ولي كذاك شقاء

على البحر

حبذا البحر من قويٌ غرير
كاغترار الصبا بغير حسابِ
نفث النوم في جنوني وزَجَّى
سكرات الأحلام في أعصابي
نمتُ ليلي عليه نومة موتَى
وتيقظت يقظة الأربابِ
أجمع الموت والربوبة تخرج
من معانيهما بمعنى الشبابِ

الشتاء والربيع

كل بادٍ يريد أن يتوارى
في الشتاء المُغلَّف المسدود
كل خافٍ يريد أن يتجلى
في الربيع المزخرف المشهود
هات لي العالم الصريح ودعنا
من حياة خجلَى وطبع برود

في القمر

في الليلة القمراء ما أحلى النظر!
لكل شيء لاح في ضوء القمر
حتى الثرى، حتى الحصى، حتى الحجر

•••

ليست من الآجُرِّ هاتيك البنى
لا بل خيال من ظلام وسنى
كخيلة الأشكال في السحب لنا

•••

أكاد عند رؤيتي طِلَاءها
أرسل عينيَّ لما وراءها
كما تخوض نظرة قضاءها

•••

قد شف بالصخرة مصباح الدجى
فكيف بالنفس وكيف بالحجا
عاش على مر الليالي مسرجا

حيرة

لك الله يا حب من حيرة
تهد القوى وتبُتُّ الأجل
أرى الحيوان سعيدًا به
وإن الشقيَّ به من عقل
أترضاه فوق منال الظنو
ن وما فوقها فهو فوق الأمل؟
وإلا فكيف تطيق الظنو
ن وأهون ما في الظنون الخبل؟

هدية

في الروض رمان وكُمَّـ
ـثرى تغازل منك ثغرا
فيم استبحت ذمارها
فهصرتها بالراح هصرا
أمن القلوب حسبتها
فعلوتها قطعًا وبترا
لا تشك من عدل الجزا
ء إذا أصابت منك ثأرا
جرحتك حين جنيتها
فاعرف لها ذنبًا وعذرا

•••

ثمر الرياض! تعال يا
ثمر الرياض! جُزِيتَ عشرا
آليت لا لُبًّا تركـ
ـت ولا تركت عليك قشرا
خذ هذه؟ خذ تلك؟ ها
ت اللب هات القشر مُرّا
أتعضه شوقًا إليـ
ـه ومهجتي بالشوق حَرَّى
لا غرو تستحلي المذا
ق فأنت بالحلواء أدرى

•••

نعم الثمار أحبها
نظمًا كما اتفقتْ ونثرا
أهديتنيها من ريا
ضك زنت يا روضي فشكرا
فاضت على قلبي هوًى
وجرت على شفتيَّ شعرا

العيش جميل!

صفحة الجو على الزر
قاء كالخد الصقيل
لمعة الشمس كعين
لمعت نحو خليل
رجفة الزهر كجسم
هزه الشوق الدخيل
حيث يممت مروج
وعلى البعد نخيل
قل ولا تحفل بشيء
إنما العيش جميل!

متاع جديد

من جديد المتاع يوم خريف
تحت وهج السماء عاد ربيعا
ومحيا في الأربعين وديع
تحت بث الغرام شب سريعا
نضح القلب بالجمال فسوى
من ثنايا الغضون وجهًا بديعا
ذاك أحلى من الشباب شبابًا
ومنى النفس ما يعز رجوعا
١  البرح: الشدة والأذى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤