الفصل الحادي عشر

شخصية الأشخاص الثنائيي اللغة وأفكارهم وأحلامهم ومشاعرهم

ذكرتُ في الفصل الثالث كيف يتعامل الأشخاص الثنائيو اللغة مع العمليات العقلية المكتسبة، مثل العدِّ والصلاة وتذكُّر أرقام الهاتف وغيرها. سنستعرض في هذا الفصل بعض الموضوعات الأخرى التي تظهر عادةً عند الحديث عن الأشخاص الثنائيي اللغة؛ فهل يغيِّرون شخصيتهم عندما يغيِّرون لغتهم؟ وما اللغة التي يفكِّرون أو يحلمون بها؟ وكيف يعبِّرون عن مشاعرهم؟ إن مثل هذه الأسئلة مثيرة للاهتمام، وكذا إجاباتها.

(١) شخصية الأشخاص الثنائيي اللغة

في مقال نُشِر في ٢٤ يونيو عام ٢٠٠٨ بعنوان «بحث: يمكن لتغيير اللغات أن يغيِّر الشخصية أيضًا»، أعلنت رويترز عن بحثٍ زعم أن «الأشخاص الثنائيي الثقافة الذين يتحدثون لغتين قد تتغيَّر شخصيتهم دون وعيٍ عند تغيير اللغة التي يستخدمونها.»1 كانت وكالة الأنباء العالمية هذه تؤيد ببساطة بهذا الخبر مفهومًا خاطئًا راسخًا منذ وقت طويل، وهو:
خرافة: توجد لدى الأشخاص الثنائيي اللغة شخصيةٌ مزدوجة أو منفصمة
ما الأدلة التي تدعم هذا الرأي؟ قبل وصف الدراسة التي ذكرَتْها رويترز، دَعْنا نستعرض ما قاله بعض الثنائيي اللغة عن هذا.2 كتب لي شخص ثنائي اللغة في الفرنسية والإنجليزية ذات مرة يقول:

أنا أعلم أنني أصبح أكثر عدوانيةً وأكثر تهكُّمًا عندما أتحدَّث بالفرنسية، كذلك أصبح أكثر تعسُّفًا وتعصُّبًا عند الدفاع عن ادِّعاءاتي.

وقال أحد ثنائيي اللغة في اليونانية والإنجليزية:

عندما أتحدَّث بالإنجليزية، يكون كلامي مهذبًا للغاية وبنبرة هادئة، وأقول دومًا: «من فضلك» و«أستميحك عذرًا». أما عندما أتحدَّث باليونانية، فيصبح حديثي أسرعَ، وتنمُّ نبرة صوتي عن القلق، وأتحدث بطريقة غير مهذبة إلى حدٍّ ما، ولا أستخدم أيًّا من سمات حديثي بالإنجليزية.

أخيرًا، كتب لي أحد الأشخاص الثنائيي اللغة في الروسية والإنجليزية:

وجدتُ أنني عندما أتحدَّث بالروسية أشعر بأني مهذب و«رقيق» أكثر. أما عند الحديث بالإنجليزية، فأشعر أنني أصبح أكثر «قسوةً» و«عمليةً».

من ثَمَّ، نرى أن كلًّا من الشخصين الثنائيَّي اللغة في الفرنسية والإنجليزية، واليونانية والإنجليزية، يشعر بأنه يصبح أكثر عدوانيةً وتوترًا عند الحديث بالفرنسية أو اليونانية، على التوالي، مقارَنةً بالإنجليزية، أما الشخص الثنائي اللغة في الروسية والإنجليزية، فيشعر برقةٍ أكثر عند حديثه بالروسية.

أشارت الكتابات في هذا المجال إلى الانطباعات المشتركة لدى الأشخاص الثنائيي اللغة هؤلاء وغيرهم؛ فقد لاحظ روبرت دي بيترو، العالِم اللغوي الذي كان هو نفسه ثنائيَّ اللغة في الإنجليزية والإيطالية، أن أسلوب صاحب أحد محلات الجزارة الموجودة في واشنطن، الذي كان أمريكيًّا من أصل إيطالي، كان يختلف مع تغييره اللغة التي يستخدمها؛ فقد كان أسلوب تعامُله رسميًّا إلى حدٍّ ما عند حديثه بالإنجليزية، بينما كان يُلقِي الدعابات وأحيانًا حتى يغازِل النساء الشابات بلطفٍ عند حديثه بالإيطالية.3 وقال تشارلز جالهر، أحد الخبراء في شئون شمال أفريقيا، إنه عندما يتسامر الأشخاص الثنائيو اللغة الفرنسيون الذين من أصل عربي، مع أصدقائهم الفرنسيين؛ تختلف شخصيتهم تمامًا عن تلك التي تظهر عند حديثهم بالعربية.4
أجرت عالِمة النفس سوزان إرفين بعضَ الأبحاث المثيرة للاهتمام في بداية حياتها العملية على هذا الموضوع بالتحديد؛ فعرضت في إحدى دراساتها بطاقات اختبار تفهم الموضوع — وهي بطاقات تعرض صورًا ذات محتوًى غامض — على أفراد ثنائيي اللغة في الفرنسية والإنجليزية عاشوا في الولايات المتحدة ١٢ سنة في المتوسط. أجرت الاختبار عليهم في جلستين، واحدة لكل لغة، تفصل بينهما ستة أسابيع، واكتشفت وجودَ تأثيرات واضحة لِلُّغة على ثلاثة متغيِّرات: العدوانِ اللغوي تجاه الأقران، والاستقلاليةِ أو الانعزال، والإنجازِ. على سبيل المثال: قالت سيدة ثنائية اللغة عن البطاقة نفسها في جلسة اللغة الفرنسية:

أعتقد أن الزوج يريد أن يتركها لأنه عثر على امرأة أخرى يحبها أكثر … أنا لا أعرف خطأ مَن هذا، لكن بالتأكيد يبدو عليهما الغضب.

وقالت في جلسة اللغة الإنجليزية:

لقد قرَّرَ الحصول على تعليم جيد … فسيستمر في العمل والذهاب إلى الكلية في المساء لبعض الوقت … سوف يحصل على وظيفة أفضل وسيصبحان أكثر سعادةً، وستكون زوجته قد ساعدَتْه طوال الطريق.

لاحظَتْ إرفين أن الصور في اللغة الفرنسية عبَّرت عن موضوعات مثل العنف والكفاح من أجل الاستقلالية، بينما في الإنجليزية بَدَا أن الزوجة تدعم زوجها.5 في دراسة أخرى طلبت إرفين من سيدات أمريكيات من أصل ياباني إنهاءَ الجُمَل التي أعطتها لهن بعبارات من كلٍّ من اليابانية والإنجليزية؛ ووجدت أن النهايات جاءت مختلفة تمامًا، وفقًا لِلُّغة التي استخدمْنَها؛ على سبيل المثال: في الجملة التي بدأت ﺑ «عندما تتعارض رغباتي مع مصلحة أسرتي …» أكملتها إحدى المشاركات باليابانية: «… أكون في هذا الوقت في قمة تعاستي»، بينما كانت نهايتها بالإنجليزية: «… أفعل عندها ما أريد.» وفي حالة الجملة التي بدأت ﺑ «يجب على الأصدقاء الحقيقيين …» كانت التكملة اليابانية: «… مساعدة بعضهم بعضًا»، والإنجليزية: «… التزام أقصى درجات الصراحة.»6
بعد مرور ما يقرب من أربعين عامًا، أجرى ديفيد لونا وزملاؤه الدراسات التي وردت في خبر وكالة رويترز. على الرغم من التشابه الكبير بينها وبين دراسات إرفين، لم تُذكَر دراسات إرفين على الإطلاق، وهو أمر مؤسف لأن إرفين قدَّمت تفسيرًا معقولًا لجميع النتائج التي حصلت عليها. في دراسات لونا طُلِب من مجموعة من الطالبات الثنائيات اللغة الأمريكيات اللاتي من أصل إسباني تأدية عدة مهام. في إحدى الدراسات كان عليهن وصف إعلانات مستهدفة بإحدى لغتَيْهن أولًا، ثم بعد ستة أسابيع باللغة الأخرى. كانت هذه الإعلانات تحتوي على صور لسيدات، وطُرِحت عليهن أسئلة مثل: «ماذا تفعل السيدة الموجودة في الإعلان؟» و«ما الذي تشعر به؟» وهكذا. اكتشف لونا وزملاؤه أنه في جلسات اللغة الإسبانية، نظرت المشاركات إلى السيدات اللاتي ظهرن في الإعلانات على أنهن أكثر تمتعًا بالاكتفاء الذاتي (أيْ يتمتعن بالقوة والذكاء والاجتهاد والطموح)، بالإضافة إلى الانفتاح؛ أما في جلسات اللغة الإنجليزية، فعبَّرْنَ عن وجهات نظر تقليدية أكثر عن المرأة تعبِّر عن عدم استقلاليتها وتمحور اهتمامها حول الأسرة. وفي دراسة أخرى، كان على المشاركات القيام بمهمة تصنيف في مدة محددة، أظهرَتْ أن العلاقة بين فئة «الذكور» و«عدم الاستقلالية» من ناحية، وفئة «الإناث» و«الاكتفاء الذاتي» من ناحية أخرى، كانت أقوى في الإسبانية عنها في الإنجليزية، وبذلك يصبح لدينا دليل على صحة نتائج الدراسة الأولى.7
إذًا هل يعني هذا وجود هويتين لدى الأشخاص الثنائيي اللغة كما يشير عنوان بحث لونا «شخص واحد وهويتان»؟ أم أن خبر رويترز الذي نشرته بناءً على هذا البحث — الذي مفاده أن الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يتحدثون لغتين قد تتغيَّر شخصيتهم دون وعي عند تغيير اللغات المستخدمة — كان صحيحًا؟ هل يمكن أن يوجد قدر من الصحة في المثل التشيكي «تعلَّمْ لغةً جديدة تحصل على روح جديدة»؟ تجدر بنا الإشارة أولًا إلى أن الأشخاص الثنائيي اللغة الأحاديي الثقافة غيرُ معنيِّين بأيٍّ من هذا الكلام، على الرغم من أنهم قد يمثِّلون الغالبية العظمى من الثنائيي اللغة في العالَم. في الواقع، في كثير من الدول الأفريقية والأوروبية والآسيوية يتسم الناس بكونهم ثنائي اللغة أو متعددي اللغات، بينما يكونون أعضاء ثقافة أساسية واحدة فقط. لكن ماذا عن الأشخاص الثنائيي اللغة الثنائيي الثقافة؟ أشرتُ، منذ أكثر من خمس وعشرين، في أول كتاب لي عن الثنائية اللغوية، إلى أن ما يراه الناس على أنه تغيُّر في الشخصية هو ببساطة تحوُّل في التوجُّهات والسلوكيات بما يتوافق مع التحوُّل في الموقف أو السياق، بعيدًا عن اللغة.8 فعليًّا، كان المشاركون الثنائيو اللغة والثقافة في هذه الدراسات المتعدِّدة يتصرفون وفقًا لثنائيتهم الثقافية؛ من حيث التأقلم مع السياق الذي يجدون أنفسهم فيه (انظر الفصل السابق). في الواقع، قالت سوزان إرفين في أول دراسةٍ لها في هذا السياق (١٩٦٤)، أمرًا مشابهًا:
من الممكن أن يرتبط تغييرُ اللغة بتغيُّر الأدوار الاجتماعية والتوجهات العاطفية. فنظرًا لأن المرء يتعلَّم كل لغة ويستخدمها عادةً مع أشخاص مختلفين وفي سياق مختلف، فقد يرتبط استخدامُ كلِّ لغة بتغيُّر في عدد كبير من السلوكيات.9
وكما رأينا في حديثنا السابق عن وظائف اللغة، يستخدم الأشخاص الثنائيو اللغة لغاتهم لأغراض مختلفة، وفي مجالات حياتية مختلفة، ومع أشخاص مختلفين. تتطلَّب عادةً جوانبُ الحياة المختلفة استخدامَ لغات مختلفة. وتؤدي السياقات والمجالات الحياتية إلى مواقف وانطباعات وسلوكيات مختلفة، وما يراه الناس على أنه تغيُّر في الشخصية نتيجةً لتغيُّر اللغة، قد لا تكون له أية علاقة باللغة في حد ذاتها. في الواقع، عندما سألتُ بعض الأشخاص الثنائيي اللغة الآخَرين، قالوا التفسير الصحيح بالضبط لهذا؛ فقال شخص ثلاثي اللغة في الفرنسية والفلمنكية والإنجليزية:

أنا لا أعرف حقًّا إذا ما كانت شخصيتي تتغيَّر عندما أغيِّر اللغة التي أستخدمها. والسبب الأساسي في عدم المعرفة هذه هو أنني أستخدم اللغتين في مواقف مختلفة، ومن ثَمَّ يجب عليَّ التصرُّف على نحوٍ مختلف، حتى إنْ كنتُ أستخدم اللغةَ نفسها.

كما أشار بوضوح هذا الشخص الثلاثي اللغة، فإن المواقف المختلفة تجعل المرء يتصرَّف على نحوٍ مختلف، سواء أكان يستخدم لغة واحدة أم عدة لغات. فكِّرْ في أسلوب حديثك مع أقرب أصدقائك، والسلوك والشخصية اللذين تتبنَّاهما معه، وفكِّرْ كيف يتغيَّر هذا في أكثر تعاملاتك رسميةً، مثل التعامُل مع مدير مدرسة، أو مع شخصية لها سلطة دينية، أو مع صاحب العمل. توجد طريقة أخرى لاختبار هذا تتمثَّل في ملاحظة الأشخاص الثنائيي الثقافة الأحاديي اللغة؛ فعلى الرغم من أن لدى هؤلاء لغة واحدة، فإنهم على الأرجح يتصرَّفون تمامًا مثل الأشخاص الثنائيي الثقافة الثنائيي اللغة، وبذلك يثبتون أن تغيير اللغة ليس هو ما يحثُّ على حدوث تغيُّرات في السلوك والمواقف.

نذكر إفادةً أخيرة لسيدة ثلاثية اللغة في الألمانية السويسرية والفرنسية والإنجليزية:

عندما أتحدَّث بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية مع أختي لا تتغيَّر شخصيتي. ومع ذلك، بناءً على المكان الذي نكون فيه، قد تكيِّف كلٌّ منَّا سلوكَها مع مواقف معينة نجد أنفسنا فيها.

بعبارة أخرى، يدفع كلٌّ من البيئة والمستمعين معًا الأشخاص الثنائيي الثقافة الثنائيي اللغة إلى تغيير مواقفهم ومشاعرهم وسلوكياتهم (بالإضافة إلى اللغة)؛ ولا يكون هذا نتيجةً لتغيير لغتهم في حد ذاته. إن هذا الكلام لا يمثِّل خبرًا مذهلًا، جديرًا بأن تنشره رويترز، لكنه هو الأقرب إلى الحقيقة.

(٢) تفكير الأشخاص الثنائيي اللغة وأحلامهم

يوجد سؤال يُطرَح دومًا على الأشخاص الثنائيي اللغة، وهو: ما اللغة التي يفكِّرون بها؟ طرحتُ هذا السؤال في دراسة صغيرة أجريتُها على ثنائيي وثلاثيي اللغة، وكانت الإجابة: «بكلتا اللغتين» (بنسبة ٧٠ في المائة).10 لكن قبل أن نحاول فهم هذه النتيجة، يجب أن أؤكِّد على أن التفكير يمكن ألَّا يرتبط عادةً باللغة؛ فعندما يسير الناس في الشارع أو يركبون حافلة أو يركضون في الأدغال، قد لا تكون أفكارهم بلغة محددة، سواء أكانوا أحاديي أم ثنائيي اللغة. فقد اعترف الفلاسفة وعلماء النفس منذ وقت طويل بأن التفكير يمكن أن يكون بصريًّا مكانيًّا، أو يحتوي على مفاهيم غير لغوية. رأى بعض العلماء مثل ستيفن بينكر وجيري فودور أن لدينا ما يُسمَّى ﺑ «لغة التفكير» (وتُسمَّى أيضًا «اللغة العقلية»)، وهي لغة ظهرت قبل ظهور اللغات؛ بمعنى أنها ظهرت قبل تحوُّل التمثيلات التي نفكِّر فيها إلى الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية، على سبيل المثال. يرى بينكر وفودور (لكن يوجد معارضون لهذا الرأي) أن اللغات الفردية لا تتدخل فعليًّا إلا في مرحلة متأخرة، عندما نخطط للحديث أو في مرحلة الحديث الداخلي الصامت؛ وحينها نصبح أحيانًا مدركين لِلُّغة التي نفعِّلها.
أما الإجابة المذكورة سابقًا (بكلتا اللغتين) فلا تثير الدهشة، نظرًا لأن الأشخاص الثنائيي اللغة الذين سألتُهم قد وضعوا على الأرجح في حسبانهم «المناجاة الداخلية» أو «الحديث الداخلي» عند إجابتهم عن سؤالي. ونظرًا لأن الحديث (في هذه الحالة الحديث غير الشفوي) يُستخدَم عادةً في مواقف مختلفة، ومع أشخاص مختلفين، ولأغراض مختلفة (انظر الحديث عن مبدأ التكامل)، فإن إجابتهم تكون منطقيةً للغاية. ومن ثَمَّ، إذا فكرتُ في شيء أريد كتابته في هذا الكتاب، بعد مرحلة «لغة التفكير» (أو اللغة العقليَّة)، فإن هذا سيكون بالإنجليزية؛ لأنني سأكتب هذا الشيء بهذه اللغة. أما إذا فكرتُ في قائمة التسوُّق، فإن هذا سيكون بالفرنسية؛ لأنني أعيش في منطقة تتحدَّث بالفرنسية. وإذا فكرتُ في شيء قاله لي أحد الأصدقاء ذات يوم، فإن هذا سيكون باللغة التي استخدمها هذا الصديق عند حديثنا معًا. كتبَتْ لي عالمةُ اللغة أنيتا بافلينكو تقول في هذا الشأن: «بهذه الطريقة، فإن التفعيل المتعلق بالسياق يؤثِّر في اختيار لغة «الحديث الداخلي».»11

لا يختلف الوضع في حالة الأحلام. في الدراسة الصغيرة التي أجريتُها، قال عدد كبير من ثنائيي وثلاثيي اللغة (نحو ٦٤ في المائة) إنهم يحلمون بإحدى لغتَيْهم، بناءً على طبيعة الحلم (هذا بالطبع عند استخدام لغة في الحلم). مرةً أخرى، يُطبَّق مبدأ التكامل في هذه الحالة؛ فبناءً على الموقف والشخص اللذين نحلم بهما، سنستخدم لغةً معينةً من اللغتين أو كلتَيْهما؛ على سبيل المثال: أخبرني شخص ثنائي اللغة في الفرنسية والإنجليزية في الولايات المتحدة ذات مرة، أنه حلم بقرية صغيرة يعرفها جيدًا في الجزء الذي يتحدَّث بالفرنسية في سويسرا، لم يذهب إليها منذ سنوات عديدة؛ التقى في حلمه بأحد سكان هذه القرية وتحدَّث معه بالفرنسية.

أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في أحلام الأشخاص الثنائيي اللغة، هو أن بعضًا منهم قال إنه رأى نفسه يتحدَّث بطلاقة إحدى اللغات في الحلم، بينما هو في الواقع لا يجيد هذه اللغة إلى هذا الحد. وورد عن عالِم اللغة فيروبوج فيلدومك أن شخصًا ما متعدِّد اللغات يتحدَّث بعض الروسية لكن ليس بطلاقة، حلم أنه يتحدَّثها بطلاقة، لكنه عندما استيقظ أدرك أن هذا كان في الواقع خليطًا من التشيكية والسلوفاكية، مع قليلٍ من الروسية، ولم تكن إجادة منه للروسية على الإطلاق. أضاف فيلدومك أنه ورد عن آخَرين من ثنائيي اللغة استخدامُهم لتداخلات لغوية في أحلامهم، وهي انحرافات في إحدى اللغات نتيجة لِلُغة أخرى، على الرغم من أنهم نادرًا ما يفعلون هذا في اليقظة.12 صحيح أن بعض الأشخاص الثنائيي اللغة يحرصون على إبعاد التداخلات اللغوية عن أحاديثهم اليومية، لكن في أثناء النوم يصبح المخُّ في حالة من الاسترخاء، ويَدَع اللغةَ الأخرى تتسلَّل كما يحلو لها.

(٣) مشاعر الأشخاص الثنائيي اللغة

أحد الجوانب المعقدة للغاية والمثيرة للاهتمام في الثنائية اللغوية هو أسلوب تعامُل الأشخاص الثنائيي اللغة مع المشاعر بلغاتهم:

خرافة: يعبِّر الأشخاص الثنائيو اللغة عن مشاعرهم بلغتهم الأولى، التي عادةً ما تكون لغةَ والدَيْهم
على الرغم من هذا المعتقد الراسخ (لكن الخاطئ)، فإن الأمور لا تكون بمثل هذه البساطة؛ بدايةً، لقد نشأ بعض الأشخاص الثنائيي اللغة وهم يتعلَّمون لغتَيْن في وقت واحد، ومن ثَمَّ أصبح لديهم أكثر من لغة أولى واحدة يمكنهم التعبير بها عن مشاعرهم. وبالنسبة إلى الغالبية العظمى من الأشخاص الثنائيي اللغة الذين اكتسبوا لغاتهم تباعًا؛ اللغة الأولى، ثم بعدها بعدة سنوات اكتسبوا لغة أخرى، فإن النمط لا يكون واضحًا. قضت أنيتا بافلينكو، وهي شخص متعدِّد اللغات، سنواتٍ عديدةً في البحث في موضوع علاقة المشاعر بالثنائية اللغوية، وألَّفَتْ كتابًا حول هذا الموضوع، وخلصت فيه إلى ما يلي:
حاولتُ تدمير خرافةِ وجودِ علاقةٍ بسيطة وملموسة ويمكن وصفها بسهولة بين لغات ومشاعر المتحدثين الثنائيي اللغة والمتعدِّدي اللغات، وإظهار أن هذه العلاقة يتفاوت شكلها من شخصٍ لآخَر، وحتى من مجالٍ لغوي لآخَر لدى الشخص نفسه.13
هذا لا يمنع أن بعض الأشخاص الثنائيي اللغة يفضِّلون التعبير عن مشاعرهم بلغتهم الأولى؛ التي عادةً ما تكون لغتهم السائدة. فكِّرْ في جميع الأشخاص الثنائيي اللغة الذين عاشوا في المكان نفسه طوال حياتهم، والذين يستخدمون لغتهم الأولى مع أسرهم وأصدقائهم، والذين تعلَّموا لغتَيْهم الثانية والثالثة في مرحلة المراهقة، والذين يستخدمون هاتين اللغتين في عملهم بالأساس. من المنطقي أن يعبِّر هؤلاء عن مشاعرهم بأكثر لغة استخدامًا بالنسبة إليهم، وهي لغتهم الأولى. لكن كما كتبت بافلينكو، من السذاجة افتراض أن هذه الفئة الأخيرة من الثنائيي اللغة تكون لديهم روابط عاطفية مع لغتهم الأولى فقط، وأن مثل هذه الروابط لا توجد مع لغاتهم الأخرى.14
على سبيل المثال: قد يقرِّر بعضُ الأشخاص الثنائيي اللغة الذين تعرَّضوا لإحدى التجارب القاسية بلغتهم الأولى، عدمَ استخدامها فيما بعدُ عندما يصبحون في موقفٍ يمكنهم فيه ذلك. تستشهد بافلينكو بما ذكرته مونيكا شميد، وهي عالِمة لغة أجرَتْ لوقت طويل أبحاثًا على نسيان اللغة، وقد ذكرَتْ زوجين تعرَّف أحدهما على الآخَر في ألمانيا قبل الحرب مباشَرةً، قبل أن يهاجِرَا، وبسبب الضغط النفسي الذي عاشا فيه في أثناء الحرب، لم يتحدَّثا الألمانية — وهي لغتهما الأولى — أحدهما مع الآخَر، طوال زواجهما الذي استمَرَّ أكثر من خمسين عامًا، ولا حتى فيما بينهما.15 توجد أيضًا حالة المؤرخة والمؤلفة جيردا ليرنر، التي انضمَّتْ إلى المقاوَمة المناهِضة للنازية في النمسا، قبل أن تهاجر في عام ١٩٣٩ وهي في التاسعة عشرة من عمرها؛ وبمجرد استقرارها في الولايات المتحدة رفضَتِ استخدامَ لغتها الأولى؛ فقد كانت تنفر منها بشدة، ولم تتصالح مرةً أخرى مع اللغة الألمانية إلا بعد مرور ما يقرب من ثلاثين عامًا.
حتى إن لم يمر الأشخاص الثنائيو اللغة بتجربة قاسية بلغتهم الأولى، فإنهم قد يفضِّلون استخدام لغتهم الثانية على لغتهم الأولى في التعبير عن مشاعرهم. جاءت الإفادة التالية على لسان سيدة ثنائية اللغة في الإنجليزية والفرنسية، نشأت في إنجلترا وانتقلت إلى فرنسا في سن الحادية والعشرين:

أحد الأمور التي تُشعِر المرء بالتحرُّر أن يتحدَّث بلغة ليست لغته الأم؛ لأنه يصبح من السهل عليه الحديث عن الموضوعات المحظورة، فأجد أنه من السهل الحديث عن أي شيء يتعلَّق بالمشاعر بالفرنسية، بينما أعجز عن الحديث في موقف عاطفي بالإنجليزية، فأجد أن المحتوى العاطفي للكلمات يكون أكبر بكثير.

فسَّرت لي هذا بأن طفولتها الإنجليزية كانت تخلو من المشاعر، وأنها لم تكتشف معنى الحب إلا باللغة الفرنسية. قالت لي في نهاية حديثها: «ربما أتمكَّن يومًا ما من قول الكلمات الإنجليزية I love you (أنا أحبك).» تقدِّم لنا إحدى الإفادات الأخرى المثيرة للاهتمام الكاتبةُ الثنائية اللغة نانسي هيوستن؛ تتحدَّث فيها عن طريقة حديثها مع طفلتها الصغيرة ليَّا، التي وُلِدت بعد تسع سنوات من انتقال هيوستن إلى باريس. كانت تمر بفترة تشهد استخدامًا قويًّا لِلُّغة الفرنسية، وتزوَّجت من شخص ثنائي اللغة في البلغارية والفرنسية كانت تتحدَّث معه بالفرنسية. كتبت هيوستن تقول إنها بدأت تتحدَّث مع طفلتها ليَّا بالإنجليزية، لكنها ببساطة لم تستطع الاستمرار؛ إذ كانت الذكريات والمشاعر التي يحركها هذا الحديث شديدةً للغاية بحيث لم تستطع الاستمرارَ في التحدُّث بالإنجليزية. (فقد مرَّتْ هيوستن بوقت عصيب للغاية في طفولتها؛ فعندما كانت في السادسة من عمرها عاشت تجربةَ ترْكِ والدتها لمنزل الأسرة.)16
يذكر كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة من الفئة الأخيرة هذه، أنه من الأسهل عليهم السبُّ بلغتهم الثانية؛ فكتبت لي السيدة الثنائية اللغة في الإنجليزية والفرنسية المذكورة آنفًا قائلةً:
أستطيع السبَّ بسهولة أكبر بالفرنسية، ولديَّ كمٌّ أكبر من المفردات «السوقية» … واكتشفتُ أن أسلوبَ استخدامي للفرنسية يؤثِّر بالتدريج على طريقة استخدامي للإنجليزية؛ وأستطيع الآن أن أقول shit وfuck off.
تحلِّل هيوستن، التي كانت رسالتها للماجستير عن المحظورات اللغوية وكلمات السب، هذه الظاهرة التي تعرَّضت هي نفسها أيضًا إليها في خلال سنوات حياتها الأولى في باريس، فكتبت تقول:
بوجهٍ عام كانت اللغة الفرنسية من وجهة نظري، أقلَّ إفعامًا بالمشاعر، ومن ثَمَّ أقل خطورة، من لغتي الأم؛ فقد كانت تتسم بالبرودة وكنتُ أتعامل معها ببرود … وعلى الرغم من وجود هذه الميزة، لم تكن تخلو من العيوب. إلى حدٍّ ما، كنتُ أشعر بحرية كبيرة عند التحدث باللغة الفرنسية، فلم تكن اللغة تؤثِّر فيَّ؛ فلم تكن تتحدَّث إليَّ أو تغنِّي لي أو تهزني أو تصفعني أو تصدمني أو تخيفني بشدة؛ فقد كانت محايدةً تجاهي.17
عندما يتعب الأشخاص الثنائيو اللغة أو يغضبون أو يتحمسون، عادةً ما يتحولون لاستخدام اللغة التي تعبِّر عن مشاعرهم، سواء أكانت لغتهم الأولى أم الثانية. إليك ما قاله لي شخص ثنائي اللغة في البرتغالية والإنجليزية:

إذا حدث شيء يثير غضبي، وإذا سمحتُ لنفسي بالتعبير عن بعضٍ من هذا الغضب، فإنني أستخدم البرتغالية دون شكٍّ، بصرف النظر عن السياق أو الموقف.

تشير بافلينكو إلى أنه في بعض الأحيان عندما يشعر الأشخاص الثنائيو اللغة بغضب حقيقي، يفقدون الاهتمام بحدوث تواصُل حقيقي، وقد يستخدمون لغةً لا يستطيع شريك حياتهم أو أبناؤهم فهمها؛ فيمكن لهذا أن يعطيهم إشباعًا عاطفيًّا حتى إن لم تكن الكلمات مفهومةً.18
قد يتسبَّب الضغط العصبي في حدوث تداخلاتٍ لغوية، ومشكلاتٍ في العثور على الكلمة المناسبة، وتبديلٍ لغوي غير مقصود. إليك هذه التجربة الشخصية: عضَّني ذات مرة سمكُ الراي اللاسع بينما كنتُ أسبح في مياه ضحلة في كاليفورنيا؛ شعرتُ بألم شديد وكنتُ أنزف بشدة، ونظرًا لأنني كنتُ بصحبة مجموعة تتحدَّث بالإنجليزية، أذكر أنني أخذت أتحوَّل بين الإنجليزية والفرنسية؛ فقد استخدمتُ الإنجليزية لأطلب منهم أخذي إلى الطبيب، وقلتُ بعض الكلمات الفرنسية لتساعدني في التعبير عن ألمي وتخفيفه. وفي بعض المواقف العصيبة جدًّا يمكن إقصاء إحدى اللغات بالكامل؛ إليك ما كتبه إليَّ ذات مرة أحدُ الأشخاص الثنائيي اللغة في اللغتين الإنجليزية ولغة الإشارة الأمريكية:

تعرَّضتُ ذات مرة لأحد المواقف المؤثرة للغاية ولم أستطع الكلام، لكنْ كان الموجودون معي يفهمون لغة الإشارة؛ فقد كانوا أيضًا ثنائيي اللغة؛ لذا تحدثتُ إليهم بلغة الإشارة وتواصلنا باستخدامها.

تكون اللغة المستخدمة في العلاج النفسي كذلك كاشفة للغاية. يحكي بول بريستون كيف أخبره خمسة أشخاص ثنائيو اللغة في اللغة الإنجليزية ولغة الإشارة الأمريكية، أجرى مقابلات معهم، بأنهم يشعرون بالكبت في جلسات العلاج النفسي؛ لأنهم لا يستطيعون التعبير بالإنجليزية عن بعض الأشياء التي يريدون قولَها فعلًا بلغة الإشارة.19 وتقول نانسي هيوستن إنها مقتنعة بأنها لم تستطع إنهاء تحليلها النفسي لأنه أُجرِي بالفرنسية، وهي اللغة التي كانت تُشعِرها بالأمان في ذلك الوقت، والتي كانت عند استخدامها تجعل اضطراباتها العصبية تحت السيطرة.20
من ثَمَّ، توجد علاقة معقدة وشخصية للغاية أيضًا بين المشاعر والثنائية اللغوية التي لا توجد لها قواعد محددة؛ فيفضِّل بعض الأشخاص الثنائيي اللغة استخدامَ إحدى اللغات، ويفضِّل البعض استخدامَ اللغة الأخرى، ويستمر آخَرون في استخدام كلتا اللغتين. كتبت بافلينكو عن عاداتها تقول:
أرتبط بكل لغة، على نحوٍ مختلف، بروابط لا أستطيع التخلُّص منها؛ ومن ثَمَّ، لا يَسَعني يوميًّا إلا أن أستخدم كلًّا من الإنجليزية والروسية عند الحديث عن المشاعر؛ فأهمس لشريك حياتي الذي يتحدَّث بالإنجليزية I love you (أنا أحبك). وأقول بلطف لجدتي التي تتحدَّث بالروسية وأنا أحدِّثها في الهاتف: Babulechka, ia tak skuchaiu po tebe (جدتي، أشتاق إليك كثيرًا).21

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤