الفصل السادس عشر

الجوانب اللغوية للثنائية اللغوية لدى الأطفال

عندما نتحدث مع الآخرين عن الأطفال الثنائيي اللغة، يظهر دومًا عددٌ من الموضوعات، مثل: سيادة إحدى اللغات، والتكيف مع الوضع اللغوي، و«الخلط» بين اللغات. سنتحدث في هذا الفصل عن هذه الموضوعات، وعن كون الأطفال الثنائيي اللغة مترجمين شفويين بالفطرة. وفي النهاية، سنتحدَّث عن طريقة تلاعُب الأطفال الثنائيي اللغة باللغات.

(١) سيادة إحدى اللغات

تظهر عادةً علاماتُ سيادة إحدى اللغات لدى الأطفال الثنائيي اللغة. توجد عدة أسباب لهذا، تتعلَّق بما إذا كان الأطفال يكتسبون اللغتين معًا أم أنهم يتعلمون إحدى اللغات بعد اللغة الأخرى. فعندما تُكتسب اللغتان في وقت واحد، ربما تكون تركيبات لغوية معينة أكثر تعقيدًا في إحدى اللغات منها في اللغة الأخرى، ومن ثَمَّ تُكتسَب بسرعة أكبر في اللغة «الأسهل»، ممَّا يعطي الانطباع بسيادة هذه اللغة لدى الطفل؛ على سبيل المثال: قد يتمكَّن الأطفال الثنائيو اللغة في المجرية والصربية من التعبير عن الموقع باللغة المجرية قبل اللغة الصربية؛ نظرًا لأن التعبير عنه في اللغة المجرية يكون فقط بتصريف الاسم، أما في الصربية فيتطلَّب تصريف الاسم وحرف جر مكاني.1 اكتشفَتْ عالمة اللغة مارلين فيمن أمرًا مشابهًا في حديث رايفو، وهو طفل ثنائي اللغة في الإستونية والإنجليزية؛ إذ كان يميل إلى حذف المقاطع الصرفية المقيدة في الإستونية (نهايات مثل -da أو -ega)، لأن علم الصرف في اللغة الإستونية أكثر تعقيدًا من الموجود في الإنجليزية، واستغرق وقتًا أطول في اكتسابه.2
بخلاف هذه الأسباب التركيبية، ترجع سيادة إحدى اللغات لدى الأطفال الذين يكتسبون لغتين معًا في الأساس إلى مقدار تعرُّضهم لكل لغة؛ فمن الشائع أن يحصل الطفل على مُدْخَلات أكثر في إحدى اللغتين أكثر من حصوله على مُدْخَلات متساوية في اللغتين. رأينا في الفصل الرابع عشر، على سبيل المثال، أن اللغة السائدة لدى هيلدجارد كانت الإنجليزية قبل رحلتها إلى ألمانيا؛ فلم تكن والدتها هي الوحيدة التي تتحدث إليها بالإنجليزية، بل كان أيضًا المجتمع المحيط بها. حدث الأمر نفسه مع ستيفن الذي كانت الجاروية هي اللغة السائدة لديه لبعض الوقت. إن التأثير الأساسي لهذه السيادة، التي قد تتغيَّر، وبسرعة كبيرة في بعض الأحيان، يتمثَّل في أن اكتساب اللغة الأقوى يتطوَّر بدرجة أكبر من اكتساب اللغة الأضعف (فيحدث فصل بين أصوات أكثر، ويُكتسَب المزيد من الكلمات، ويُستنتج المزيد من القواعد النحوية)، ويوجد احتمال أن تؤثِّر في اللغة الأضعف. قال روبنز بورلينج إن ولده ستيفن، على سبيل المثال، كان يستخدم الوحدات الصوتية الخاصة باللغة الجاروية بدلًا من الوحدات الصوتية الإنجليزية عندما يتحدث باللغة الإنجليزية.3 عادةً ما لا يكون التأثير كليًّا، كما حدث مع ستيفن، وإنما يكون تأثيرًا جزئيًّا؛ لذا كانت الطفلة آن الثنائية اللغة في الإنجليزية والفرنسية، التي كانت الإنجليزية هي اللغة السائدة لديها، تترجم حروف الجر المستخدمة مع الأفعال الإنجليزية وتضيفها إلى الأفعال الفرنسية. فتقول على سبيل المثال: Je cherche pour le livre، استنادًا إلى الجملة الإنجليزية I’m looking for the book (أنا أبحث عن الكتاب)، بدلًا من استخدام الصيغة الصحيحة نحويًّا: Je cherche le livre.4
تحدث السيادة اللغوية لدى الأطفال الذين يكتسبون لغتين بالتناوب، على نطاق أوسع من نظرائهم الأصغر سنًّا الذين يتعلَّمون لغتين معًا من البداية؛ نظرًا لأن لديهم في البداية لغة واحدة فقط، وتستمر معهم في أثناء اكتسابهم لِلُّغة الثانية وتحدُّثهم بها. بالطبع لا يتعلق تعلُّم التحدث بلغة ثانية بوجود تأثير مستمر لِلُّغة الأولى؛ فقد عرف علماء اللغة منذ وقت طويل أن بعض عمليات اكتساب اللغة الثانية تُشبِه عمليات اكتساب اللغة الأولى؛ مثل استخدام تراكيب بسيطة قبل أكثر التركيبات تعقيدًا، وتوسيع معنى الكلمات، وتبسيط الجوانب الصرفية، وفرط تعميم القواعد، وتبسيط البنى اللغوية المختلفة، إلى آخِره. لذلك، على سبيل المثال، عندما تقول طفلة صغيرة السن تتعلَّم لغةً ثانية: I taked the bus with Mummy (ركبت الحافلة مع أمي)، فإنها تفرط في تعميم القاعدة العادية لتصريف الفعل في الماضي في اللغة الإنجليزية، وتطبِّقها على الأفعال الشاذة. وعندما يقول طفل صغير يتعلَّم الفرنسية: Moi malade، فإن هذا يكون تبسيطًا للجملة الفرنسية Je suis malade (أنا مريض)، عن طريق استخدام moi بدلًا من ضمير المتكلم المفرد، وحذف الفعل. على الرغم من هذا، تكون اللغة الأولى موجودة طوال الوقت، كما يمكننا أن نراه في التداخلات (أو التحولات) الكثيرة التي يقوم بها الأطفال. عندما كان الفتى سيرل البالغ من العمر عشر سنوات يتعلم الفرنسية، كان يقول جملًا متأثِّرة بوضوح بلغته الإنجليزية؛ على سبيل المثال، كان يقول: Pas toucher mon nez، بناءً على جملة: Don’t touch my nose (لا تلمس أنفي)، بدلًا من: N(e) me touche pas le nez. كان يقول أيضًا: Maintenant dit papa la chanson، بناءً على جملة: Now tell Daddy the song (الآن، قل لأبي الأغنية)، بدلًا من: Maintenant dit la chanson à papa.

من المهم أن ننظر إلى الآليات الموجودة داخل اللغات وبينها (مثل: فرط التعميم، والتبسيط، والتداخل، وما إلى ذلك)، على أنها استراتيجيات يطبِّقها الأطفال ضمن ما يبذلونه من جهد من أجل استخدام لغتهم الأضعف. والحصولُ على مزيدٍ من المُدْخَلات والتقييمات اللغوية من المستمعين، بالإضافة إلى وجود فترات توقُّف في التواصُل من حين لآخَر؛ يساعد الطفل في سرعة اكتساب اللغة الجديدة.

(٢) التكيُّف مع الوضع اللغوي

رأينا في الفصل الرابع أن الأشخاص الثنائيي اللغة يجدون أنفسهم في حياتهم اليومية في مواضع مختلفة على تسلسُل خاص بالمواقف التي تتطلَّب استخدامَ أوضاع لغوية مختلفة؛ ففي أحد طرفَيْ هذا التسلسل، يكون الأشخاص الثنائيو اللغة في وضع أحادي اللغة بسبب حديثهم إلى أشخاص أحاديي اللغة بإحدى لغتَيْهم؛ ومن ثَمَّ يتحتَّم عليهم استخدام اللغة الصحيحة وإقصاء (تعطيل) اللغة الأخرى. وعلى الطرف الآخَر يجد الأشخاص الثنائيو اللغة أنفسَهم داخل وضع ثنائي اللغة لأنهم يتواصلون مع أشخاص ثنائيي اللغة يشتركون معهم في لغتَيْهم؛ فيجب عليهم اختيار اللغة التي سيستخدمونها، ويمكنهم أيضًا استخدام آليتَي التبديل اللغوي والاقتباس إذا كان المستمعون يقبلون هذا السلوك وكان الموقف مناسبًا. يتعلم الأطفال سريعًا معنى الوضع اللغوي، ويبرعون في اختيار اللغة والتبديل اللغوي.

أما فيما يتعلَّق باختيار اللغة، فسأذكر حالة طفلين صغيرين، هما ماريو وكارلا، اللذين اكتسبا الإنجليزية والإسبانية في وقت واحد. يصف والدهما، عالم الأنثروبولوجيا وعالم اللغة ألفينو فانتيني، العواملَ التي وجَّهَتِ اختيارَ طفلَيْه لِلُّغة التي يستخدمانها. كانت تشبه هذه العوامل إلى حد كبير تلك التي توجِّه البالغين؛ على سبيل المثال: عندما كان الطفلان يعرفان مستمعهما، كانا يختاران اللغة المناسبة له، وعندما لا يكون الأمر كذلك، فإن البيئة تكون هي العامل المهم؛ ففي بيئة إسبانية (في المكسيك أو بوليفيا، على سبيل المثال) كانا يستخدمان الإسبانية، وفي بيئة إنجليزية (مثل الولايات المتحدة) كانا يستخدمان الإنجليزية، لكن هذا فقط إنْ كانا يعلمان أن المستمع لا يتحدَّث بالإسبانية. وكان الهاتف والراديو والتليفزيون امتدادًا للبيئة؛ لذا كانا يندهشان للغاية عندما يسمعان صوتًا يتحدَّث بالإسبانية في الإذاعة في ولاية فيرمونت. وإن كانا لا يعرفان المستمع لكنْ تبدو ملامحه «لاتينيةً»، فإنهما يبدآن الحديث بالإسبانية، لكنهما قد يتحولان إلى الإنجليزية إذا لم يُجِب الشخص الآخَر. كذلك كان مستوى طلاقة المستمع أحد العوامل المهمة؛ وأحد الأشياء التي كانا يستطيعان الحكم عليها وهما لا يزالان في سن الرابعة؛ فإذا لاحَظَ ماريو وكارلا أن الشخص كان يستخدم لغته الأضعف في التواصُل معهما، كانا يختاران استخدامَ اللغة الأخرى.5 (فعلى عكس البالغين، لا يكون الأطفال مستعدين للسماح لأحد الأشخاص بالتدريب على لغته الأضعف معهم.) توضح دراسة فانتيني، بالإضافة إلى دراسات أخرى، أن الأطفال الصغار الثنائيي اللغة يطوِّرون سريعًا عمليةَ اتخاذ قرارٍ يكون فيها المستمع هو العامل الأساسي في اختيار اللغة، ويليه الموقف، ثم الهدف من التواصُل. هذا وقد تظهر عوامل أخرى، مثل موضوع التواصل، في وقت لاحق.
يتعلم الأطفال بسرعة إلى أي مدًى يكون سلوك التبديل اللغوي مسموحًا به في عملية التواصل. سجَّلت اختصاصية علم اللغة النفسي إليزابيث لانزا تواصُلَ طفلة ثنائية اللغة في اللغتين النرويجية والإنجليزية في الثانية من عمرها (وتدعى سيري) مع والدتها الأمريكية ووالدها النرويجي، اللذين كانا هما أيضًا ثنائيي اللغة. الأمر المثير للاهتمام أن الأم كانت كثيرًا ما تتظاهر بأنها أحادية اللغة، ولم تستخدم التبديل اللغوي قطُّ مع سيري؛ أما الأب، على الجانب الآخَر، فقد كان يتقبَّل ما تقوم به سيري من تبديل لغوي وكان يتجاوب معه. حلَّلَتْ إليزابيث لانزا ما يحدث من تواصُل بين سيري ووالديها من حيث تسلسل سياق التواصل الأحادي اللغة والثنائي اللغة، وأوضحَتْ بجانب ذلك عدة استراتيجيات خاصة بالوالدين؛ على سبيل المثال: وضعت في الطرف الأحادي اللغة من التسلسل استراتيجيتَي: «الحد الأدنى من الفهم» و«التخمين الواضح»؛ هاتان هما الاستراتيجيتان اللتان استخدمتهما الأم على وجه الخصوص. في الاستراتيجية الأولى، الحد الأدنى من الفهم، يشير البالغ إلى أنه لا يفهم لغة الطفل الأخرى، وأما في الاستراتيجية الأخرى، يطرح أحد الوالدين على الطفل أسئلة يجاب عليها بنعم أو بلا باستخدام اللغة الأخرى. وفي الطرف الآخَر الثنائي اللغة، نجد استراتيجيتين أخريين: «مواصلة الكلام» التي يُسمَح فيها للحوار بالاستمرار (ممَّا يشير إلى أن الشخص البالغ قد فهم العنصر المضاف من اللغة الأخرى)، و«التبديل اللغوي» حيث يستخدم الشخص البالغ أيضًا التبديل اللغوي في حواره مع الطفل (وهاتان هما الاستراتيجيتان اللتان استخدمهما والد سيري). إجمالًا، طوال فترة الدراسة (التي استمرت من سن الثانية إلى سن الثانية والنصف)، نتج عن استخدام هذه الاستراتيجيات نتائج مختلفة للغاية؛ فقد زاد عدد الكلمات التي أخذتها من اللغة الأخرى في حوارها مع والدها، الذي كان يتقبل التبديل اللغوي، مقارَنةً بوالدتها، التي لم تكن تتجاوب معه. ويعني هذا فيما يتعلق بالوضع اللغوي أنَّ سيري كانت على الأرجح تستخدم وضعَيْن لغويين مختلفين مع والدَيْها؛ فقد كانت تميل إلى استخدام الوضع الأحادي اللغة مع والدتها، لكنها لم تستطع قطُّ الالتزام به؛ إذ إنها كانت تستخدم التبديل اللغوي أحيانًا معها، وكانت تستخدم وضعًا ثنائي اللغة مع والدها.6
درسَتِ اختصاصية علم اللغة الاجتماعي إريكا ماكلور التبديلَ اللغوي لسنوات عديدة، وتوجد أمثلة مثيرة للاهتمام إلى حد كبير في أبحاثها المبكرة عن الأطفال الأمريكيين الذين من أصل مكسيكي؛ فبالإضافة إلى ملاحظتها استخدامَ هؤلاء الأطفال التبديلَ اللغوي من أجل مَلْء الفجوات المتعلقة بالمفردات، اكتشفَتْ أيضًا أنهم يستخدمونه من أجل إزالة اللبس أو توضيح ما يقولونه منذ سن الثالثة. اكتشفَتْ كذلك أن الأطفال الأصغر سنًّا كانوا يستخدمون التبديل اللغوي من أجل جذب الانتباه أو الاحتفاظ به، كأنْ يقول أحدهم: Yo me voy a bajar, Teresa. Look! (أنا أنزل، يا تيريزا. انظري!) ويستخدمون التبديل اللغوي من أجل التأكيد، لكن في مراحل عمرية متقدمة، في سن الثامنة أو التاسعة، كما في: Stay here, Roli. Te quedas aquì (ابقي هنا، يا رولي. ابقي هنا). أما حالات التبديل اللغوي التي تحدث في وقت لاحق، فهي تلك التي تُستخدَم من أجل التوضيح والتركيز على شيء معين، مثل: Este Ernesto, he’s cheating (إرنست هذا، يغش).7 تذكر كريستينا بانفي حالات من التبديل اللغوي لاحظَتْها لدى طفلتها أنابيل الثنائية اللغة في الإنجليزية والإسبانية، التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات ونصف سنة؛ ففي إحدى المرات أدركَتْ أنابيل وجودَ بعض الأشخاص الأحاديي اللغة داخل مجموعة الثنائيي اللغة التي تخاطبهم، ونظرًا لأنها تريد إشراكهم في المفاجأة التي تقدِّمها، قالت: Ciérrense los ojos. Close your eyes (أغلقوا أعينكم).8 خلاصة القول، يكتسب الأطفالُ مهاراتِ التبديل اللغوي في مرحلة عمرية مبكرة، ويستخدمونها عندما يكونون في وضع لغوي ثنائي اللغة لسد حاجةٍ لغويةٍ ما، وأيضًا كاستراتيجية للتواصُل.

(٣) «الخلط» بين اللغات لدى الأطفال الثنائيي اللغة

خرافة: الأطفال الذين ينشئون ثنائيي اللغة سيظلون يخلطون بين لغاتهم

يوجد اعتقاد شائع بأن الخلطَ بين اللغات نتيجةٌ للثنائية اللغوية لدى الأطفال. تتمثَّل المشكلة في عدم وضوح معنى كلمة «الخلط». لقد حاولتُ شخصيًّا الابتعادَ عن هذه الكلمة لأن لها أكثر من معنًى؛ فهل نتحدَّث عن التداخلات من قِبَل أطفال لديهم لغة سائدة؟ أم نعني عمليات التبديل اللغوي والاقتباس، أم نعني مجرد تغيير في اللغة الأساسية، لدى الأطفال الذين يكونون في وضع ثنائي اللغة؟ بالإضافة إلى ذلك، تحمل هذه الكلمة دلالة أن اللغة التي يتحدَّث بها الطفل الثنائي اللغة تكون إلى حدٍّ ما مَعِيبةً. في الواقع يوجد عدد من العوامل التي قد يرجع إليها سببُ الوجود الواضح لِلُّغة الأخرى، ولما يحدث من «خلط» نتيجةً لذلك.

كما رأينا، يمكن أن تصبح لغةٌ ما سائدةً لدى الأطفال الثنائيي اللغة (سواء أكان اكتسابهم للغتَيْهم في وقت واحد أو بالتناوب)، كما أن اللغة لديها القدرة على «فرض نفسها» على اللغة الأضعف؛ وقد يأخذ هذا شكلَ تداخلات وأيضًا الاستخدام المباشِر لعناصر من اللغة السائدة من أجل سد فجوات عديدة في اللغة الأضعف (الكلمات، على وجه التحديد). أثبت فريد جينسي وزملاؤه هذا بوضوح في دراسةٍ له راقَبَ فيها خمسةَ أطفال ثنائيي اللغة في الفرنسية والإنجليزية، تتراوح أعمارهم بين ٢٢ و٢٦ شهرًا، نشئوا في بيئة ثنائية اللغة. كانت هناك لغة سائدة لدى ثلاثة أطفال منهم؛ فقد كانت الفرنسية اللغة السائدة لدى أُولي، وكانت الإنجليزية هي السائدة لدى بان وتان. كانت عناصر اللغة الفرنسية واضحة بدرجة كبيرة نسبيًّا في الإنجليزية التي كان يتحدَّث بها أُولي مع والدته التي تتحدَّث بالإنجليزية (فقد كانت الإنجليزية هي لغته الأضعف)، بينما كان العكس صحيحًا لدى بان وتان؛ إذ كان كثير من عناصر اللغة الإنجليزية يظهر في حوارهما بالفرنسية مع والدهما (فقد كانت الفرنسية هي لغتهما الأضعف).9

أما بالنسبة إلى الأطفال الثنائيي اللغة الذين يكتسبون لغةً ما أولًا ثم اللغة الأخرى، فقد رأينا بالفعل أنهم سيمرون بمرحلة تسود فيها إحدى اللغتين لديهم؛ فسيقومون بتداخلات لغوية، وسيُدرِجون عناصرَ من لغتهم الأقوى في لغتهم الأضعف كإجراء لسد الفجوات؛ لكنْ بمجرد تقدُّمهم في اللغة الثانية، يزيد تحدُّثهم بهذه اللغة وحدها، ثم يصبح استخدامهم لِلُّغة الأخرى في الأساس لأسباب تتعلق بالتواصل، في الأغلب عندما يكون الموقف مناسبًا ويكونون في وضع لغوي ثنائي اللغة.

يُعتبَر الوضع اللغوي على وجه التحديد أحد العوامل الأخرى التي يرجع إليها الخلط بين اللغات. أولًا: لم يتضح حتى الآن العمر الذي يبدأ فيه الأطفال التحكم في حركتهم عبر تسلسل الوضع اللغوي، إلى جانب كلامهم الثنائي اللغة. لقد رأينا سابقًا أن هذا الأمر، فيما يبدو، يحدث في وقت مبكر جدًّا، لكن قد توجد فترة قصيرة من التأقلم لا يكون فيها اختيار اللغة وآليات التبديل اللغوي تحت السيطرة بعدُ. قد يحدث تسرب لغوي في هذه المرحلة، ومن ثم يحدث الخلط. ثانيًا: في حالة الأطفال الأكبر سنًّا، لا يكون الوضع اللغوي الذي يكونون فيه واضحًا عند حدوث عملية الخلط؛ فإذا كانوا يتحدثون مع بالغين لديهم معرفةٌ باللغتين اللتين يتحدثون بهما، حتى في حال استخدام لغة واحدة، فلا عجب إذًا من إدخال لغتهم الأخرى في الحوار. فالأطفال عمليِّون للغاية؛ فإذا كان يُفترَض أن يستخدموا لغةً معينة مع شخص بالغ معين، لكنهم يعرفون أنه يتحدَّث أيضًا بلغتهم الأخرى، فإنهم قد يُدخِلون تلك اللغة إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك. بوجه عام، عندما ينشأ الأطفال داخلَ أُسَر يحدث التواصُل اليومي فيها بلغتين، مع حدوث الكثير من التغيير في اللغة الأساسية واستخدام التبديل اللغوي؛ فلا عجبَ أن يتحدث هذا الطفل الصغير بطريقة مماثلة. وكما سنرى في الفصل القادم، فإنه من المهم أن يحصل الأطفال الثنائيو اللغة على مُدْخَلات أحادية اللغة في كلٍّ من لغتَيْهم بينما لا يزالون في سن صغيرة، حتى إن كانوا يتلقَّوْن مُدْخَلات ثنائية اللغة من حين لآخَر. فإن الحديث بلغة واحدة يسمح لهم بتعلُّم أنه يجب على المرء، في بعض المواقف — خاصةً مع الأشخاص الأحاديي اللغة — أن يتحدَّث بلغة واحدة فقط، بينما يمكنه الحديث في مواقف أخرى بكلتا لغتَيْه.

(٤) الأطفال الثنائيو اللغة والترجمة الشفوية

إن أحد الجوانب لدى الأطفال الثنائيي اللغة التي تبهر الناس، وتبهر حتى الباحثين مثلي، قدرتُهم على الترجمة الشفوية منذ سن صغيرة للغاية. لقد رأينا في فصول سابقة أن الترجمة الشفوية مهارةٌ معقدة للغاية، وجميعنا ندرك أن الأطفال ليس لديهم قدرات الترجمة الشفوية الموجودة لدى الكبار، ولا يملكون المفردات اللازمة في اللغتين، ومع ذلك لا تتوقَّف قدرتهم الفطرية في هذا المجال عن إبهارنا أبدًا. يصف بريان هاريس وبيانكا شيروود طفلةً إيطالية صغيرة (يُشار إليها ببي إس)، كانت تترجم شفويًّا بالفعل، قبل أن تبلغ سن الرابعة، بين لهجة أبروتسو (اللغة الوحيدة لوالدتها)، واللغة الإيطالية (لغة والدها، الذي كان يتحدَّث لهجة أبروتسو أيضًا). عندما انتقلَتْ بي إس مع أسرتها إلى فنزويلا وافتتحت أسرتها متجر بقالة، كانت بي إس ترحب بالزبائن بالإسبانية، التي تعلَّمَتْها سريعًا، وكانت تستطيع الترجمة الشفوية للكلام الذي يقولونه لأيٍّ من والدَيْها. هاجرت الأسرة بعد ذلك إلى كندا، وأضافت بي إس، التي أصبحت حينها في الثامنة من عمرها، اللغةَ الثالثة الإنجليزية إلى لغتَيْها الأخريين، واستمرت في ترجمة مكالمات الهاتف والحوارات والرسائل والبريد ومقالات الصحف وبرامج التليفزيون لوالدَيْها تحريريًّا وشفويًّا. وفي حالة برامج التليفزيون كانت إما تستخدم الترجمة الشفوية التتابُعية، حيث تقدِّم مغزى المعلومات التي تُقدَّم، أو الترجمة الشفوية الفورية، وهي شكل أصعب من الترجمة.10
كانت بي إس، مثل كثير من الأطفال الذين يتحدَّث والداهم لغةَ الأقلية، وسيطًا بين والدَيْها والعالَم الخارجي، وهي البيئة التي تتحدَّث لغةَ الأغلبية؛ فلم تكن تترجم فقط، ولكن عندما أصبحت أكبر سنًّا، كانت تستخدم مهاراتها الثنائية الثقافة لتشرح لهما سببَ ما يحدث من حولهما. وفي هذا الإطار، تعرَّضَتْ لبعض المواقف الصعبة؛ فوالدها كان ينفعل كثيرًا في جلسات عقد الصفقات مع غير الإيطاليين ويصبح غاضبًا ومنزعجًا، وتضطر عندها أن تخفِّف من تأثير غضب والدها وتخاطر بأن يغضب منها، نظرًا لمعرفته ببعض الإنجليزية. وإليك مثالًا على حوار نموذجي عرضه بريان هاريس وبيانكا شيروود:
الوالد (إلى بي إس بالإيطالية) : أخبريه أنه أحمق.
بي إس (إلى الطرف الثالث بالإنجليزية) : لن يقبل والدي عرضك.
الوالد (إلى بي إس بغضب بالإيطالية) : لِمَ لم تخبريه بما قلتُه لكِ؟11
يجد كثير من الأطفال الثنائيي اللغة أنفسَهم في نفس موقف بي إس، وأكثر مَن أبهروني هم الأطفال الذين يستطيعون السمعَ وآباؤهم صُمٌّ، الذين تربَّوْا على لغة الإشارة ولغة الأغلبية الشفوية. تحكي في الاقتباس التالي واحدةٌ من الأشخاص الثنائيي اللغة في لغة الإشارة الأمريكية واللغة الإنجليزية كيف أصبحت مترجِمةً شفوية وهي في سن الرابعة، وكيف استخدمَتْ مهارات الترجمة الشفوية لديها في عيادة الطبيب وعندما كانت تساعد والدَيْها في إجراء مكالمات خارجية لمسافات بعيدة:
لا يتبادر إلى ذهني أي حدث مميز عن كوني طفلةً ثنائيةَ اللغة، فيما عدا أنني كنت أمارس الترجمة الشفوية وأنا في سن الرابعة. كان هذا الفرق الأساسي بيني وبين الأطفال الآخرين؛ فكان يجب عليَّ العودة إلى المنزل لكي أقوم بالترجمة الشفوية في عيادة الطبيب لجدتي أو للشخص الموجود في هذا اليوم. وإحدى المشكلات التي كنتُ أواجهها كثيرًا إجراءُ المكالمات الخارجية؛ ففي هذه الفترة لم تكن توجد خدمة الاتصال المباشِر، وكانت توجد مشكلةٌ دومًا في جعل موظف الهاتف يصدِّق طفلةً يتراوح عمرها بين الرابعة والسادسة تحاوِل الاتصال من بوسطن بولاية فرجينيا؛ فكان موظف الهاتف يريد في كل مرةٍ التحدُّثَ إلى شخص كبير من أسرتي، كما كان كل الذين يتصلون بالمنزل ويطلبون التحدُّثَ إلى أحد أفراد الأسرة على وجه الخصوص، لا يعرفون مطلقًا كيف يتعاملون مع موقف اضطرارهم إلى مناقَشة إحدى مسائل الكبار مع طفلة في التاسعة من عمرها.12
على الرغم من أن الترجمة الشفوية تكون لبعض الأطفال بمنزلة لعبة، فمن الممكن أن تصبح أيضًا عملًا شاقًّا وعبئًا، ولا بد أن ينتبه الكبار ألَّا يطلبوا من أطفالهم في هذا الشأن ما يفوق قدرتهم. يخبرنا هاريس وشيروود عن إتش بي، وهو طفل ثنائي اللغة في الفرنسية والبلغارية في السابعة من عمره، ذهب إلى زيارة أسرة بلغارية وصلَتْ لتوِّها إلى كندا؛ تركه والداه مع طفل هذه العائلة ليشاهد التليفزيون بالفرنسية، وعندما عادت والدته لتأخذه، أخبرها أنه يشعر بالتعب لأنه ترجم البرنامج إلى البلغارية لصديقه. واكتشف بول بريستون في مقابلاته التي أجراها مع أطفال بالغين والداهم من الصُّمِّ، تكرارَ حقيقةِ أنه تجب عليهم دومًا الترجمة الشفوية لوالدَيْهم. وتوجد لدى بعضٍ منهم ذكريات سلبية عن هذا، مثل ثيلما التي تقول:
كنتُ أكره حضور أصدقاء والدتي إلى منزلنا، فكانوا يريدون أن أكون مترجمتهم الشفوية عند ذهابهم إلى البنك، وعند الاهتمام بعملهم التجاري، فقد كنتُ الوسيط اللغوي بينهم وبين المجتمع. وكانوا يضعونني في مواقف لم أعلم أن باستطاعتي رَفْضها.13
توصَّلَ بعض الأطفال الآخَرين إلى عدة سُبل تجعلهم أكثر تحكُّمًا إلى حدٍّ ما فيما يتعلق بجانب الترجمة الشفوية في حياتهم. يخبرنا بريستون أن الترجمة الشفوية للمكالمات الهاتفية كانت توفر أكبر مساحة من التلاعُب بالحوارات؛ إذ إنها كانت تضع الحوار تحت تصرُّف الطفل الذي يستمع إليه؛ على سبيل المثال: طلب والد جورج منه الاتصالَ بكل أماكن إصلاح السيارات المذكورة في دليل الهاتف التجاري حتى يقارن بين أسعارها، وهذا ما فعله:
حاولتُ أن أخبره بأن عددهم كبير للغاية، لكنه أصَرَّ؛ لذا جلست أمامه أتظاهر بالحديث إلى شخصٍ ما، بينما لم أكن طلبتُ الرقم من الأساس.14
يدرك بالفعل كثير من الآباء هذا العبء الذي يضعونه على كاهل أطفالهم الثنائيي اللغة؛ فيخبرنا بريستون عن توم، الذي غضب ذات يوم من والدته عندما طلبَتْ منه أن يترجم لها شفويًّا، فردَّتْ عليه بلغة الإشارة تقول:
أنا أعلم أن هذا صعب عليك، وهذا صعب عليَّ أيضًا؛ فهو صعب علينا نحن الاثنين. فأنا لست مثل الأشخاص الذين يسمعون، فحياتهم أسهل بكثير.15
بدأ الباحثون في دراسة قدرات الترجمة الشفوية لدى الأطفال الصغار الثنائيي اللغة، وأثبتَتْ نتائجهم امتلاكَ الأطفال تلك القدرات؛ على سبيل المثال: اختبرت مارجريت مالاكوف وكنجي هاكوتا قدرات الترجمة الشفوية لدى الأطفال الثنائيي اللغة في الإنجليزية والإسبانية (في العاشرة والحادية عشرة من عمرهم) في مدينة نيو هيفن، بولاية كونيتيكت. اكتشفا أن الأطفال ارتكبوا عددًا قليلًا للغاية من الأخطاء، وتمثَّلَتِ الأخطاء الأساسية في وجود بعض الكلمات المفقودة لأنهم لم يكن لديهم ما يقابلها في اللغة التي يُترجِمون إليها. كانوا بالطبع أكثر كفاءةً عند ترجمتهم إلى اللغة السائدة لديهم (الإنجليزية) أكثر من لغتهم غير السائدة (الإسبانية). استنتج الباحثان أن مهارات الترجمة الشفوية توجد على نطاقٍ واسع لدى الأطفال الثنائيي اللغة عند وصولهم إلى مرحلة متقدمة في المدرسة الابتدائية.16
في دراسة لاحقة درست جوادالوب فالديز، الأستاذة بجامعة ستانفورد، الأساليبَ التي استخدمها الأطفال الثنائيو اللغة في الإسبانية والإنجليزية، عندما طُلِب منهم القيام بالترجمة الشفوية في موقف غير مألوف إلى حد كبير، أَلَا وهو: محاكاة لقاءٍ بين والدةٍ تتحدَّث بالإسبانية ومديرِ مدرسةِ طفلتِها الذي يتحدَّث بالإنجليزية، بسبب اتهام الطفلة بالسرقة. وُصِف معظم الأطفال المشاركين في هذه الدراسة بأنهم يمارسون دور المترجم الشفوي في أسرتهم وفي المجتمع. اكتشفَتْ فالديز أن هؤلاء المترجمين الشفويين الصغار نجحوا في تتبُّع تدفُّق المعلومات؛ إذ استخدموا عددًا من الأساليب لتوصيل المعلومات الأساسية، بما في ذلك نبرة الصوت وأسلوب الكلام، وتمكَّنوا من تعويض أوجه النقص اللغوية التي لديهم. استنتجَتْ أن السمات والقدرات التي أظهرها هؤلاء الأطفال تميِّز أفرادًا لديهم كفاءةٌ معرفية استثنائية؛ هم، في هذه الحالة، الأطفال الموهوبون.17

(٥) اللعب باللغات

نغفل اللعب عادةً عند حديثنا عن الأطفال الثنائيي اللغة ولغاتهم؛ فتمامًا مثل الأطفال الأحاديي اللغة الذين يلعبون بلغتهم (بعمل سجعٍ بين الكلمات، وابتكار كلمات جديدة، وما إلى ذلك)، يلعب الأطفال الثنائيو اللغة بما لديهم من لغتين (أو أكثر)؛ على سبيل المثال: قد يتحدثون مازحين إلى أحد الأشخاص باللغة «الخطأ». يحكي ألفينو فانتيني أن ماريو وكارلا كانا يغيظان جدهما وجدتهما بالحديث معهما بالإسبانية بدلًا من الإنجليزية، وكانا كذلك يتحدثان مع والدَيْهما باللغة الخطأ، الإنجليزية، للمزاح معهما (فقد كانت الإسبانية هي اللغة المستخدَمة في المنزل).18
يلعب الأطفال كذلك بالتبديل اللغوي والاقتباس، خاصةً عندما لا يلقى ذلك ترحيبًا داخل الأسرة. ولهذا يخبرنا إيف جنتيئوم، الذي نشأ كطفل ثنائي اللغة في الفرنسية والروسية، أنه هو وأصدقاءه الثنائيي اللغة كانوا يشعرون بسعادة كبيرة عند اقتباس كلمات فرنسية وإدخالها عند الحديث بالروسية وتزوديها بنهايات صرفية روسية؛ على سبيل المثال: عند تحويل الكلمة الفرنسية assiette (طبق) إلى الروسية بإضافة علامة النصب، فتصبح كما في المثال التالي: Daj mne asjetu (بمعنى أعطني طبقًا). توجد لعبة أخرى تتمثل في الترجمة الحرفية للتعبيرات الاصطلاحية إلى اللغة الأخرى وذِكْرها بتعبير جاد على الوجه؛ أحد الأمثلة التي عرضها جنتيئوم أن يقول المرء لشخصٍ ما: «يا كرنبتي الصغيرة» بالروسية (الترجمة المباشرة لتعبير mon petit chou الذي يعني بالفرنسية «يا حَمَلي الصغير»).19
يفهم الأطفال أسلوبَ النطق جيدًا ويتلاعبون به؛ فيسخرون أحيانًا من الذين يتحدثون إحدى اللغات بلكنة عن طريق تكرار ما قالوه بإضافة لكنتهم إليه. تخبرنا كريستينا بانفي أن الطفلة أنابيل الصغيرة تلعب بهذا الجانب من اللغة، وإليك حوارًا بين أنابيل ووالدها الذي يتحدَّث بالإنجليزية:
أنابيل : والدي، كيف نقول هاري بوتر بالإسبانية؟
الوالد : لا توجد ترجمة له، نقوله كما هو.
أنابيل : لا يا أبي، نقول «هاري بوتر» (وتنطقها كما تُنطَق بالإسبانية).20

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤