الفصل السابع عشر

الأسرة والأطفال الثنائيو اللغة

إن تحويلَ الأطفال إلى ثنائيي اللغة وإبقاءَهم هكذا مسئوليةٌ كبيرة يُمعِن كثير من الأُسَر التفكير فيها. لا يمكن إنكار أن بعض الأطفال «يصبحون ثنائيي اللغة بالصدفة» (لقد أصبحتُ واحدًا من هؤلاء عندما التحقت بمدرسة داخلية إنجليزية في سن الثامنة)، لكن يوجد عدد متزايد من الآباء يهتمون بالأسلوب الذي يجب عليهم اتِّباعه في هذا الشأن، والدعم الذي يجب عليهم تقديمه إلى أطفالهم، من أجل تسهيل حياتهم بلغتين أو أكثر. سأتحدَّث في هذا الفصل عن الاستراتيجيات الأسرية المتاحة والدعم الذي يجب أن يحصل عليه كلٌّ من الأطفال الثنائيي اللغة وآبائهم. أُدرِجُ تحت مفهوم «الأسرة» الوالدين والجدودَ، بالإضافة إلى أفراد الأسرة الأكثر بُعْدًا ومسئولي الرعاية الآخرين.

(١) استراتيجيات الأسرة لضمان تحويل أطفالها إلى ثنائيي اللغة

التقيتُ بكثير من الأزواج الذين يريدون تكوين أسرة ويتساءلون عن أفضل طريقة تمكِّنهم من التأكُّد من أن يصبح أطفالهم ثنائيي اللغة. والأسبابُ التي يعلِّلون بها رغبتهم في تربية أطفالهم كي يصبحوا ثنائيي اللغة عديدةٌ: فبعضهم يريد أن يتحدث الأطفال بلغتَي الوالدين (فعلى سبيل المثال: تتحدث الأم بالإسبانية والأب بالإنجليزية)، بينما يريد آخَرون أن يتمكَّن الأطفال من التواصُل مع جدودهم، ويريد البعض الآخَر أن يُعِدُّوا أبناءهم لليوم الذي يلتحقون فيه بالمدرسة حيث تستخدم لغةً مختلفة، ويريد آخَرون تعليم أبنائهم اللغات منذ سن مبكرة. أيًّا كان السبب، فإنهم يبحثون عن طرق لوضع أبنائهم على أول الطريق نحو الثنائية اللغوية.

توجد خمس استراتيجيات يستطيع الآباء اتِّباعها من أجل تعزيز الثنائية اللغوية لدى أبنائهم، وربما أكثر هذه الاستراتيجيات شهرةً هي استراتيجية «حديث كلٍّ من الوالدين بلغة واحدة»، التي اشتهرَتْ في عالَم الثنائية اللغوية (على الرغم من أنها ربما كانت موجودة منذ قرون)، عندما سأل جول رونجا، في مطلع القرن العشرين، عالِمَ اللغة الفرنسي موريس جرامون عن أفضل طريقة لتنشئة طفله بحيث يصبح ثنائيَّ اللغة. كانت زوجة رونجا ألمانية وكان هو فرنسيًّا؛ فاقترح عليه جرامون أن يلتزم كلٌّ منهما بالحديث بلغته أو لغتها فقط إلى الطفل لوي، وهذا ما فعلاه. فيما بعدُ ألَّفَ رونجا كتابًا عن هذه الاستراتيجية، وقال فيه إن لوي اكتسب اللغتين مثل أي متحدِّث أصلي لِلُّغة. أتَذْكرُ الطفلةَ الصغيرة هيلدجارد، التي التقينا بها في الفصل الرابع عشر، التي تربت باستخدام هذه الاستراتيجية نفسها؛ فقد كان والدها يتحدَّث معها بالألمانية، ووالدتها تتحدَّث معها بالإنجليزية.

تتمثَّل استراتيجية أخرى في استخدام إحدى اللغات في المنزل، وعادةً ما تكون لغةَ الأقلية، واستخدام لغة أخرى خارجَه (وسأطلق عليها استراتيجية «لغة داخل المنزل وأخرى خارجه»). فالفكرة في ذلك أن يتحدث كل الموجودين في المنزل بلغة واحدة فقط حتى يكتسبها الطفل جيدًا، أما بالنسبة إلى اللغة الأخرى، فإن الطفل سيكتسبها عندما يخرج من المنزل، وفيما بعدُ عندما يذهب إلى مركزٍ للرعاية النهارية، ثم بعد أن يلتحق بالمدرسة. يستخدِم هذا الأسلوب، ربما دون وعي، ملايينُ الأُسَر المهاجِرة حيث تُستخدَم لغةُ الأقلية في المنزل، وأحيانًا أيضًا في الحي السكني، وتُستخدَم لغةُ الأغلبية في المجتمع الخارجي. عندما يتبع الوالدان هذه الاستراتيجية عن وعي مع أطفالهم، فإنهما عادةً ما يعزِّزان الفصل بين اللغة المستخدَمة داخلَ المنزل وتلك المستخدَمة خارجَه على نحوٍ أكثر صرامةً. وقد تربَّى الاختصاصي الشهير في الثنائية اللغوية أينار هوجن ليصبح ثنائي اللغة في النرويجية والإنجليزية باستخدام هذا الأسلوب، وقد كتب يقول:
رأى والداي أن أتعلَّم الإنجليزية من أصدقائي وأساتذتي، وأنني فقط من خلال تعلُّمي اللغة النرويجية واستخدامها في المنزل أستطيع التواصُل معهم بفاعليةٍ ومع أصدقائهم وثقافتهم.1

تتمثَّل الاستراتيجية الثالثة في استخدام لغة واحدة مع الطفل في البداية، ثم إدخال اللغة الأخرى عندما يصبح في سن الرابعة أو الخامسة، وسأطلق عليها اسم استراتيجية «لغة واحدة في البداية». عادةً ما تكون اللغة الأولى هي لغة الأقلية، التي يستخدمها الوالدان فقط؛ وهما يحرصان على أن يستخدم هذه اللغةَ كلُّ الذين يتواصل معهم الطفلُ بخلافهما (مسئولو الرعاية الآخرون، وأفراد الأسرة، والأصدقاء، وبرامج التليفزيون، وما إلى ذلك). وبمجرد ترسيخ هذه اللغة جيدًا، يسمح الوالدان باكتساب اللغة الأخرى، ويحدث هذا عادةً بسرعة كبيرة إذا كانت هي لغة الأغلبية المستخدمة في المجتمع الخارجي.

توجد استراتيجية رابعة، وهي استراتيجية «وقت اللغة»، وتتمثل في استخدام إحدى اللغتين في أوقات معينة (في الصباح، على سبيل المثال)، واللغة الأخرى في أوقات أخرى (فيما بعد الظهيرة، مثلًا). يمكن أن يحدث هذا التبديل في اليوم نفسه أو على مدار عدة أيام (ربما بتحدُّث إحدى اللغات في الجزء الأول من الأسبوع، واستخدام اللغة الأخرى في الجزء الثاني).

أما الاستراتيجية الخامسة، التي تُعتبَر إلى حدٍّ ما استراتيجية طبيعية على الرغم من أنه يمكن للوالدين تطبيقها عن وعي، فتتمثَّل في استخدام اللغتين بالتبادل، مع السماح لعوامل مثل الموضوع والشخص والموقف وما إلى ذلك بتحديد اللغة المستخدمة؛ وسأطلق على هذه الاستراتيجية اسمَ استراتيجية «التبادل الحر».

ما هي نسبة نجاح هذه الاستراتيجيات المختلفة؟ فيما يتعلق بالاستراتيجية الأولى، استراتيجية حديث كلٍّ من الوالدين بلغة واحدة، يجب أن نشير إلى اتِّباع كثير من الآباء لها لشعورهم براحة أكبر في الحديث بلغتهم السائدة، التي ربما تكون لغتهم الوحيدة، مع طفلهم. إنها دون شك أشهر استراتيجية، إلا أن مفهوم الناس عنها تحوَّلَ بمرور الوقت إلى اعتقاد خاطئ:

خرافة: إذا أراد الوالدان تربية الأطفال ليصيروا ثنائيي اللغة، فإنه يجب عليهم استخدام أسلوب حديثِ كلِّ والدٍ بلغة واحدة
بالتأكيد تكون هذه الاستراتيجية فعَّالةً في الشهور الأولى من اكتساب اللغة، عندما يكون الأطفال في صحبة والديهم بالأساس؛ فهم يكتسبون مُدْخَلات لغوية مزدوجة، ويبدءون بسرعة كبيرة في إنتاج الأصوات ثم المقاطع والكلمات باللغتين. ومع ذلك، فإن ثمة مشكلة تتمثَّل في أن إحدى اللغتين، وهي لغة الأقلية، ستقلُّ مُدْخَلاتها بالتدريج في النهاية إلا إذا اتخذ الوالدان إجراءً واضحًا. فبمجرد خروج الأطفال إلى العالم الخارجي (إلا إذا كانوا يعيشون في مجتمع أقلية تُستخدَم فيه لغة الأقلية)، سيزيد استماعهم واستخدامهم لِلُّغة الأخرى؛ لغة الأغلبية. وبالإضافة إلى مشكلة انخفاض مُدْخَلات لغة الأقلية، فإن الأطفال سيريدون أن يصبحوا مثل الأطفال الآخَرين وألَّا يكونوا مختلفين عنهم؛ لذا، بالتدريج تبدأ لغةُ الأغلبية في الهيمنة، على نحوٍ يضايق الذي يستخدم لغةَ الأقلية من بين والدَي الطفل. أجرَتْ أنيك دي هاور الخبيرة في الثنائية اللغوية في مرحلة الطفولة دراسةً ضخمة تضمُّ ما يقرب من ألفَيْ أسرة، واكتشفَتْ وجودَ احتمال بنسبة واحد من كل أربعة أن يفشل الأطفال في الحديث بلغة الأقلية عند استخدام هذه الاستراتيجية.2 إجمالًا، أنا لا أؤيد هذه الاستراتيجية على نحو مطلق؛ نظرًا لانخفاض المُدْخَلات التي قد يحصل عليها الطفل في لغة الأقلية، وهذا يجعل حياةَ أحد الوالدين الذي يستخدم لغةَ الأقلية أكثرَ صعوبةً، وقد يسبِّب التوتر داخل الأسرة.

لا توجد مشكلات كثيرة عند تطبيق استراتيجية «لغة داخل المنزل وأخرى خارجه»، وإنما توجد لها كثير من المميزات. فمن بين مشكلاتها حقيقةُ أن أحد الوالدين سيضطر على الأرجح إلى الموافقة على الحديث بلغته الثانية (أو الثالثة) إلى الطفل بحيث يتحدث كلُّ مَن في المنزل لغةً واحدة فقط. ومن مشكلاتها أيضًا أنه بعد فترة من الوقت، ستوجد حاجة إلى تدعيم لغة المنزل — التي عادةً ما تكون لغة الأقلية — بمُدْخَلات من الأصدقاء وأفراد الأسرة الآخرين، بالإضافة إلى ممارسة أنشطة بهذه اللغة، مثل اللعب باستخدامها ومشاهدة برامج تليفزيونية تتحدَّث بها. إذا كان من الممكن الحصول على هذا الدعم، فإن اللغة الأخرى المُستخدَمة خارج المنزل، التي تكون عادةً لغةَ الأغلبية، ستُكتسَب من تلقاء نفسها، في مركز الرعاية النهارية ثم في المدرسة، ومن خلال الأصدقاء الخارجيين، وهكذا، وسيصبح الأطفال ثنائيي اللغة؛ عندها يجب على الوالدين العمل على ترسيخ اللغتين، والتأكد من وجود حاجة مستمرة إلى كلتَيْهما طوال سنوات الطفولة والمراهقة (ارجعْ للفصل الرابع عشر). اكتشفَتْ أنيك دي هاور في دراستها أنه إذا استخدم كلا الوالدين اللغةَ نفسها داخل المنزل، فإن نجاح انتقال تلك اللغة، بجانب اللغة الخارجية، يزيد بنسبة ٢٠ في المائة.

ماذا عن استراتيجية «لغة واحدة في البداية»؟ ينجح هذا الأسلوب عندما تكون الأسرة مُحاطةً بمجتمع منظم وكبير إلى حدٍّ ما يتحدث لغةَ الأقلية، حتى يحصل الطفل على كل المُدْخَلات اللغوية التي يحتاجها. إنْ لم يتوافر هذا، فقد يصعب تجنُّب دخول لغة الأغلبية في مرحلة مبكرة. إليك إفادةً لطفلة ثنائية اللغة في الروسية والإنجليزية تربت باستخدام هذه الاستراتيجية في الولايات المتحدة؛ فقد تعلَّمت الروسية أولًا في المنزل ثم اكتسبت الإنجليزية عند التحاقها بالمدرسة. تقول:
لم أكن أتحدَّث كلمةً بالإنجليزية عند بداية التحاقي بالمدرسة. والتحق معي في الحضانة ولد صغير، لكنَّ والدتَيْنا فصلَتَا بيننا حتى لا نتحدَّث معًا بالروسية. أنا لا أستطيع بالتحديد تذكُّر تعلُّم الإنجليزية، فيبدو أني تعلَّمْتُها بسرعة كبيرة.3

أما فيما يتعلق باستراتيجية وقت اللغة، فإنها تعتمد على عامل عشوائي للغاية — وقت معين من اليوم، ويوم معين من الأسبوع — ولا تحقِّق نجاحًا كبيرًا، على الأقل على نطاق الأسرة. وعلى الرغم من هذا، تُستخدَم هذه الاستراتيجية في برامج الانغماس اللغوي وبرامج التعليم الثنائية اللغة (انظر الفصل التاسع عشر)، وتحقِّق نجاحًا في هذا المناخ.

أما الاستراتيجية الأخيرة، وهي استراتيجية التبادل الحر، فهي حتى الآن الأكثر طبيعيةً، لكنَّ نسبةَ نجاحها تقلُّ بسبب حقيقةِ أن لغة الأغلبية ستصبح هي السائدة مع قضاء الطفل مزيدًا من الوقت في المدرسة وخارج المنزل، فضلًا عن الأصدقاء الذين يتحدثون لغةَ الأغلبية ويأتون إلى منزله.

أيًّا كانت الاستراتيجية التي يستخدمها الوالدان، فبمجرد بدء اكتساب الثنائية اللغوية، يجب أن تستمر الأسرة في مراقَبة البيئة للتأكُّد من أن لدى الطفل حاجةً فعلية لكلتا اللغتين، والتأكُّد من تعرُّضه بقدر كافٍ لكلتَيْهما. يجب أن يأتي التعرض من التفاعل البشري المباشِر (مثل التحدُّث إلى الطفل أو اللعب معه أو القراءة له)، وليس من الأنشطة السلبية مثل مشاهدة التليفزيون أو مواد على أقراص الدي في دي. ومن أجل زيادة التعرض لِلُّغة، وتقليل العبء الواقع على الوالدين، يُفضَّل لو كان بإمكان الوالدين الحصول على مساعدة من أفراد الأسرة الكبيرة ومسئولي رعاية الطفل الآخرين، ولو كان بالإمكان أيضًا أن يتفاعل الطفل مع أطفال آخَرين يتحدَّثون اللغتين ذاتَيْهما.

يوجد جانب مهم يجب على الوالدين الانتباه له، وهو: إنْ كان ممكنًا، يجب أن يجد الأطفال أنفسهم، في أوقات مختلفة، في وضع أحادي اللغة في كلٍّ من لغتَيْهم (ارجع للفصل الرابع). يعني هذا أن يتواصل الأطفال بانتظام مع متحدثين أحاديي اللغة في كل لغة من لغتَيْهم، وهذا على عكس ما يحدث في المنزل حيث يكون أحد والدَيْهم على الأقل ثنائي اللغة (إن لم يكن الاثنان). يوجد سببان لهذا؛ أولًا: سيحصل الأطفال على مُدْخَلات لا تحتوي على عمليات تبديل لغوي أو اقتباس، وهي عناصر من اللغة الأخرى تظهر عادةً عند حديث ثنائيي اللغة بعضهم مع بعضٍ. وثانيًا: يسمح هذا للأطفال بتعلُّم كيفية التحرك عبر تسلسل الوضع اللغوي، ومن ثَمَّ يكيِّفون حديثهم مع طبيعة الموقف والمستمع. وكما رأينا في الفصل السابق، يتعلم الأطفال بسرعة متى يتحدثون لغة معينة في موقف معين، وإذا كان الوضع اللغوي أحادي اللغة، يتعلمون كيف يعطِّلون لغتهم الأخرى. عندما يكون المنزل ثنائيَّ اللغة، يكون ببساطة من السهل التحوُّل إلى الوضع الثنائي اللغة؛ فيُدخِل الوالدان كلمات من اللغة الأخرى، وحتى إنهما يتحولان أحيانًا إلى استخدام اللغة الأقوى عند حديثهما أحدهما مع الآخَر، أو عندما يريدان التأكُّد من فهم أطفالهما لما يقولانه. ويميل الأطفال إلى تقليد والديهم، وبالتدريج يزيد حضور اللغة السائدة حتى تحل محلَّ لغة الأقلية. تعبِّر عالِمة اللغة واختصاصية باثولوجيا الكلام سوزان دوبكا عن هذا جيدًا في تخيُّلها للطريقة التي ربما يقرِّر بها الطفل تفضيلَ إحدى لغتَيْه:
أمي تتحدَّث بالإنجليزية أو اليونانية معي، ويتحدث الآخرون معي بالإنجليزية؛ ومن ثَمَّ، أستطيع اختيار الحديث بالإنجليزية أو اليونانية مع أمي، لكن لأني أستمع إلى الإنجليزية أكثر من اليونانية، فإنه من الأسهل استخدام الإنجليزية. فما الذي يدفعني إلى استخدام اليونانية؟4

إذا لم يتوافر للأسرة مجتمع من حولها يتحدَّث لغةَ الأقلية به متحدثون أحاديو اللغة، فلا شك أن العثور على سُبل لوضع الطفل في وضعٍ أحادي اللغة في لغة الأقلية يكون أمرًا صعبًا، ويتطلَّب قدرًا من الإبداع. فعندما عاد والدا سيرل وبيير إلى الولايات المتحدة من سويسرا، فعلا عدة أشياء من أجل الحفاظ على لغة الطفلين الفرنسية، وعلى ثنائيتهما اللغوية في الإنجليزية والفرنسية؛ فعلى سبيل المثال: بحثَا عن الأُسَر الفرنسية التي وصلت حديثًا إلى أمريكا، والتي لديها أطفال في الأعمار نفسها، وجمعوا الأطفالَ معًا ليتيحوا لهم فرصةَ تكوين صداقات. نجح الأمر مع واحد أو اثنين من الأطفال الفرنسيين، وهكذا طوال عدة شهور، بينما كان هؤلاء الأطفال يكتسبون اللغة الإنجليزية، كان سيرل وبيير يتحدثان مع أطفال فرنسيين أحاديي اللغة، ويلعبان معهم باللغة الفرنسية. بالإضافة إلى ذلك، دعا الوالدان أصدقاء الصبيين الذين تعرفا عليهما في سويسرا لزيارتهم في الولايات المتحدة في الصيف؛ ونظرًا لأن هؤلاء الأطفال كانوا أحاديي اللغة تمامًا، لم يكن أمام سيرل وبيير إلا أن يتحدَّثا معهم بالفرنسية. أخيرًا، حاولت الأسرة الذهابَ إلى سويسرا وفرنسا مرةً كلَّ عام من أجل غمس سيرل وبيير في لغتهما الأخرى، التي أصبحت الآن اللغةَ الأضعف.

إن ما يثير الاهتمام في الحِيَل التي استخدمها هذان الوالدان أنها كانت طبيعيةً إلى حدٍّ كبير؛ فقد وضعا الطفلين في مواقف يحتاجان فيها إلى لغتهما غير السائدة؛ لذا اضطرَّا إلى استخدامها. فقد تعلَّمَ والداهما بسرعة كبيرة، مثل كثيرين غيرهما، أن إجبار الطفل على الالتزام بلغة واحدة فقط في حين أن المستمع إليه يعرف كلتا لغتَيْه يؤدِّي إلى شعور الجانبين بالإحباط. طالما قلتُ، بابتسامة، إن الآباء الثنائيي اللغة إلى حدٍّ كبير لا يجيدون التعامُلَ مع اللغة الأضعف لدى أطفالهم، وبالتالي مع ثنائيتهم اللغوية؛ لكن يمكنهم تعويض ذلك عن طريق وضع أطفالهم في مواقف طبيعية يحتاجون فيها فعليًّا إلى استخدام لغتهم الأضعف.

(٢) دعم الأسرة

لا يجب فقط أن يحصل الأطفال الثنائيو اللغة على دعم من أسرتهم (تذكَّرْ أني أدرجتُ والدَي الطفل وجدودَه، بالإضافة إلى أفراد الأسرة الكبيرة ومسئولي رعاية الطفل الآخَرين تحت هذا المصطلح)، إن كان هذا ممكنًا؛ وإنما يجب أيضًا أن تحصل الأسرة نفسها على مساعدة من الآخرين. ما أفكر فيه هو الدعم من الأقارب والأصدقاء، وأيضًا من الذين يلعبون دورًا مهمًّا في عالم الطفل الصغير، مثل المعلمين والأطباء علماء النفس واختصاصيِّي التخاطُب. تذهلني طوالَ الوقت الخرافاتُ والأفكار النمطية التي تتناقلها الأُسَر، وأنواعُ «النصائح» التي يحصلون عليها؛ على سبيل المثال: تزخر الكتابات في هذا المجال بإفادات عن معلمين يزورون منازلَ المتحدثين بلغة الأقلية ليطلبوا من الأسرة عدم تربية الطفل على الثنائية اللغوية، وليخبروهم بأن الأسرة لا بد أن تتحدث فقط بلغة الأغلبية، وذلك كما ذكر ريتشارد رودريجيز في سيرته الذاتية «نهم الذاكرة».5
كَمْ من الآباء أجبروا أنفسهم — بناءً على نصيحة الآخرين، بمَن فيهم المختصون — على تغيير سلوكهم اللغوي، ومن ثَمَّ حرموا أطفالهم من أن يصبحوا ثنائيي اللغة! يتحدث راي كاسترو عن تجربته بأسلوب مؤثر للغاية؛ فيحكي أن اللغة الإسبانية كانت هي اللغة المستخدمة في المنزل، مع والدَيْه وعمه وعمته وجده وجدته، وكانت ثقافتهم مكسيكيةً بوضوح. وقد بذل والداه كلَّ ما في وسعهما حتى يتعلم الإنجليزية، التي كان يحتاج إليها حتى يستطيع الحياة في أمريكا، وكانت المشكلة أن هذا حدث على حساب الإسبانية؛ فيشرح كاسترو أن لغته الإسبانية تضاءلَتْ بالتدريج حتى تلاشَتْ؛ فلم يكن ينتمي إلى الثقافة السائدة ولا إلى ثقافته الأمريكية المكسيكية، نظرًا لعدم امتلاكه لِلُّغة الإسبانية، فكتب قائلًا:
لقد شعرتُ بالوحدة والغربة، لم يكن هذا خطأ والديَّ؛ فقد قدَّمَا لي اللغة الإنجليزية كهدية تعبِّر عن حبهما، في حين أنهما لم يحصلا قطُّ عليها؛ فقد كانا متأكدين من أنني لن أتحمَّل المعاناة المصاحبة لتصنيفات مثل أجنبي، أو في حالتي هذه ما يُطلَق من ألفاظ مشينة على ذوي الأصل المكسيكي، وتبدو الآن السنواتُ التي قضيتُها دون اللغة الإسبانية مأساويةً. فكيف يمكنني تعويض مثل هذه الخسارة؟ بالكاد كنتُ أتواصل مع جدي وجدتي! وفي الحقيقة، ماتا قبل أن أتعلَّم الإسبانيةَ مرةً أخرى.6
لا يمكننا توقُّع أن لدى الوالدين خبرة في الجوانب المختلفة للثنائية اللغوية بنفس قدر الخبرة التي توجد لدى علماء اللغة، والتربويين، وعلماء النفس، واختصاصيِّي التخاطب، والعاملين في مجال الطب. ومع هذا من المهم أن يكون بإمكانهما التمييز بين الخرافات التي تحيط بهذا المجال والواقع، وذلك بمساعدة المختصين. وبالإضافة إلى هذا، من المهم أن تتوافر لدى الوالدين، وكل الذين يتولون رعاية أبنائهما الثنائيي اللغة، معرفةٌ بموضوعات مثل كيفية تحوُّل الأطفال إلى الثنائية اللغوية، وكيفية الحفاظ عليها، ومعنى أن يكون المرءُ ثنائيَّ اللغة، ومبدأ التكامل، والوضع اللغوي، والتبديل اللغوي والاقتباس، وآثار الثنائية اللغوية على الأطفال، وما إلى ذلك. فهذه المعرفة ستساعدهما في فهم تطوُّر أطفالهما الثنائيي اللغة، وتعدهما لظهور الظواهر المختلفة للثنائية اللغوية؛ على سبيل المثال: يجب أن يفهما لماذا يمرُّ بعض الأطفال بفترة يرفضون فيها الحديث بلغة المنزل بين الناس، وأحيانًا في المنزل، وهذا يرجع إلى حد كبير إلى عدم رغبتهم في الاختلاف عن الأطفال الآخرين. كتب لي أحد ثنائيي اللغة في اللغتين العربية والإنجليزية عن هذا، فقال:
تظاهرتُ في فترة المراهقة بعدم معرفتي باللغة العربية، وحاولتُ جاهدًا التخلُّص من لكنتي الأجنبية. وقد فعلتُ هذا لأنني أردتُ بشدة ألا أكون مختلفًا على الإطلاق عن باقي أصدقائي. ومع ذلك، مع تقدُّمي في العمر بدأت أتعلَّم لغتي وثقافتي الأصليتين ويزيد تقديري لهما.7

يدرك الأطفال الثنائيو اللغة إلى حد كبير أن معرفة والديهم بلغة الأغلبية قد تكون ضعيفةً أحيانًا. يتحدَّث ريتشارد رودريجيز عن انزعاجه من حروف العلة لدى والديه «ذات النبرة العالية»، ونطقهم «الأجش» للحروف الساكنة، وتركيبهم النحوي المضطرب؛ فقد كان ينفعل عندما يسمع حديثهم بالإنجليزية. كما يحكي الكاتب الصحفي والمؤلف أوليفيه تود عن تظاهره عندما يكون مع أمه في شوارع ومتاجر باريس بأنه لا يعرفها، عندما كانت تتحدَّث بلكنتها البريطانية الواضحة. وأنا نفسي أتذكر ذات يوم قال لي ابني: «أبي، تحدَّث مثل كل الآباء الآخرين.» وكان يعني بذلك: «بما أنك تتحدَّث بالإنجليزية أيضًا، والإنجليزية هي اللغة المستخدَمة هنا، وأنا لا أريد أن أبدو مختلفًا عن الآخرين، ليتحدَّث إذًا كلٌّ منَّا مع الآخر بالإنجليزية بدلًا من الفرنسية.»

في دراسة مثيرة للاهتمام وطولية استمرت لست سنوات، تتبَّعَ ستيفن كالداس وسوزان كارون-كالداس استخدامَ اللغة لدى أطفالهما الثلاثة المراهقين الثنائيي اللغة في الإنجليزية والفرنسية، في منزلهما في ولاية لويزيانا ومصيفهم في كيبك؛ فأظهرا أن تفضيل اللغة المستخدَمة في المنزل في لويزيانا تحوَّلَ من سيادة للفرنسية إلى طغيان لاستخدام الإنجليزية مع تقدُّم الأطفال في العمر، بينما كان العكس صحيحًا في كيبك، وتحوَّلَ تفضيل اللغة إلى الفرنسية بالكامل. ويمكن تفسير هذا، على حد قولهما، بتأثير الأقران خارج المنزل؛ إذ كان أقران الأطفال في لويزيانا يتحدثون الإنجليزية، بينما كان أقرانهم في كيبك يتحدثون بالفرنسية. وفي قصة قصيرة معبِّرة وردت في الدراسة، كان الوالد الذي يتحدَّث بالفرنسية مع أطفاله في لويزيانا، يحضر مع ابنته ستيفاني البالغة من العمر ١٢ عامًا مباراةً لكرة القدم الأمريكية، وكان على وشك إلقاء التحية على إحدى صديقات ستيفاني عندما همست له قائلةً: «لا تتحدَّث معها بالفرنسية.» (فعل الأب هذا على أية حال.) وفي النهاية لم يَعُدِ الأطفال يتحدثون بالفرنسية مع والديهم في لويزيانا، وإنما كانوا يفعلون هذا دون أدنى مشكلةٍ في كيبك. بينما يشير باحثا هذه الدراسة إلى وجود «أحادية لغوية موازية» لدى أطفالهما، فإن هذه الحالة الأخيرة تُوصَف في الحقيقة بأنها ثنائية لغوية ذات طبيعة خاصة جدًّا.8
بينما يجب على الوالدين أن يدركا ما يمر به الطفل في أثناء تعلُّمه الحياة باستخدام لغتين أو أكثر (اللغات التي قد لا تكون لها المكانة الاجتماعية نفسها)، يجب عليهما أن يدركا أيضًا التغيرات الثقافية التي يمر بها الطفل أو المراهق في حال انتقالهم من دولة أو منطقة لأخرى. فيتعرَّض كثير من الأطفال إلى صدمة ثقافية، تمامًا مثل والدَيْهم، ويحتاجون إلى مساعدة في أثناء هذه المرحلة الانتقالية. تتذكر المؤلفة نانسي هيوستن بوضوح الليلةَ التي وصلت فيها، في سن السادسة، من كندا إلى منزل زوجة أبيها الجديدة في ألمانيا. قُدِّم لها طعام ألماني تقليدي، بما في ذلك اللحوم الباردة والخبز الأسمر وأنواع مختلفة من الجبن، لكن كلَّ هذا كان غريبًا عنها، تمامًا مثل الأشخاصِ الموجودين حولَها واللغةِ التي يتحدثون بها. كان تُطأطِئ رأسها طوال الوقت، ولم تلمس شيئًا ممَّا في طبقها. لكن كان هناك شخص واحد يدرك ما تمر به؛ فقد خرجت خالتها الجديدة فيلما في الظلام، وقادت السيارة لما يقرب من ثلاثين ميلًا، وأحضرت لها عبوة من رقائق الذرة؛ وكتبت هيوستن عن ذلك تقول إن هذه كانت أفضلَ وجبة تناولَتْها في حياتها!9

توجد أوقات تصبح فيها الأمور صعبةً ومُحبِطةً بسبب حدوث مشكلة في التواصل، أو تعليق قاسٍ من بالغ أو طفل، أو الحصول على درجة سيئة في اللغة الأضعف، وما إلى ذلك؛ ولذلك من الضروري حينها أن يحصل الأطفال الثنائيو اللغة على التشجيع والمساعدة؛ فمع تقدُّم الأطفال في العمر، يجب أن تصبح لديهم القدرة على الحديث مع الآخرين عن معنى كون المرء ثنائيَّ اللغة والثقافة، والتعبير عن بعض الصعوبات التي قد يتعرضون لها.

قد تتمثَّل الصعوبات التي يواجهها الأطفال في سن المدرسة في مشكلات في القراءة والكتابة في المدرسة. تختلف أهمية تعلُّم مهارات القراءة والكتابة في المناهج الدراسية بحسب الدولة والثقافة، وربما يحتاج الأطفال والمراهقون الثنائيو اللغة إلى دعم إضافي في هذين المجالين؛ على سبيل المثال: يوجد تركيز كبير في المدارس الفرنسية على تصحيح التهجئة وقواعد اللغة، ويُعاقَب الأطفال الثنائيو اللغة، الذين لا يزالون في مرحلة تعلُّم الفرنسية، عادةً على الأخطاء التي يرتكبونها. في هذه الحالة يمكن أن يشرح الوالدان ومسئولو الرعاية الآخرون هذا الموقفَ للأطفال الثنائيي اللغة، ويساعدونهم على مواجَهة هذا التحدي الجديد؛ كذلك قد يُحدِث الحديث مع المعلم فارقًا كبيرًا. بالطبع، يصبح هذا أسهل إذا كان الوالدان أنفسهما يتقنان اللغةَ ويعتادان على التواصل مع المدرسة، وإذا لم يكن الوضع كذلك، يمكن أن يتدخل شخص وسيط مقرَّب من الأسرة ليقدِّم المساعدة.

يجب أن يصبح تحوُّل المرء إلى شخص ثنائي اللغة والثقافة رحلةً ممتعة في اللغات والثقافات. وعندما يخوض الأطفال هذه الرحلة، من المهم أن يصحبهم فيها، إن أمكن، أفراد بالغون يهتمون لأمرهم ولديهم معرفةٌ واسعة؛ حتى يسهِّلوا عليهم الانتقالَ من مرحلة إلى أخرى، وحتى يستطيع الأطفالُ الحديثَ معهم عمَّا يمرون به. وعندما يحصل الأطفال على هذا النوع من الدعم، يوجد احتمال كبير أن ينجحوا في اكتساب الثنائية اللغوية والثقافية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤