الفصل التاسع عشر

الثنائية اللغوية والتعليم

عندما يُجمَع مصطلحَا «التعليم» و«الثنائية اللغوية» معًا في جملة واحدة، يُثار موضوعٌ واسع النطاق ومثير للجدل عادةً، إنْ لم يكن يثير الصراع في دول معينة. ونظرًا لأن هذا الكتاب يدور حول الثنائية اللغوية، فسنتناول هذا الموضوع من زاوية معينة، وهي أن التعليم ينبغي، إنْ أمكن، أن يساعد الأطفال والمراهقين على اكتساب لغة ثانية أو ثالثة مع احتفاظهم بلغتهم (أو لغاتهم) الأولى. بالإضافة إلى ذلك، مرةً أخرى إنْ أمكن، ينبغي أن يشجِّع التعليم على الاستخدام الفعَّال لهذه اللغات. لا يختلف هذا الرأي كثيرًا عن أحد الأهداف التي اقترحَتْها منظمةُ الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، في إعلانها العالمي للتنوع الثقافي الصادر في عام ٢٠٠٢، الذي نصُّه:
تشجيع التنوع اللغوي، مع احترام اللغة الأم، في كل مستويات التعليم، متى أمكن ذلك، وتدعيم تعلم عدة لغات منذ سن مبكرة.1

كما سنرى يكون الهدف التعليمي لبعض البرامج المخصَّصة للأطفال الثنائيي اللغة ليس الثنائيةَ اللغوية، بينما تكون الثنائية اللغوية أحدَ الأهداف الفعلية لبرامج أخرى. من المهم أن نؤكِّد على أن هذا الفصل لا يتحدَّث عن التعليم الثنائي اللغة على النحو المعروف في الولايات المتحدة، وإنما عن الأساليب التعليمية التي تؤدِّي إما إلى الأحادية اللغوية وإما إلى الثنائية اللغوية لدى الأطفال. إنَّ ما يثير اهتمامي بالفعل هو الكيفية التي يمكن للمدارس أن تشجِّع بها الطفل أو المراهق على اكتساب لغات جديدة واستخدامها، بالإضافة إلى الاحتفاظ باللغة أو اللغات المعروفة لديه بالفعل.

(١) عندما لا تكون الثنائية اللغوية هي الهدف

قبل تناول الموضوع الرئيسي المتعلق بالأطفال الذين يلتحقون بالمدرسة ومعهم لغة مختلفة عن لغة المدرسة الأساسية (سأطلق على الأولى لغة الأقلية)، يجب أن أتحدَّث قليلًا عن تعلُّم اللغة الثانية المعتاد الذي يحدث في معظم المدارس في جميع أنحاء العالم، ما أتحدَّث عنه هنا هو، على سبيل المثال، كيفية تعلُّم طلاب المدارس البريطانيين لِلُّغة الألمانية، وتعلُّم الطلاب الفرنسيين لِلُّغة الإنجليزية، وتعلم الأمريكيين لِلُّغة الإسبانية، وما إلى ذلك. في معظم الحالات يكون التعلُّم رسميًّا إلى حد كبير؛ فتكون اللغة مادةً تُدرَّس، مثل غيرها من المواد الدراسية، في أوقات معينة خلال الأسبوع الدراسي؛ ونادرًا ما تصبح وسيلةً للتواصل، كما أنها لا تكون الوسيلة المُستخدَمة في تعلُّم مواد أخرى. وعادةً يبذل معلِّمو اللغة الثانية (أو اللغة الأجنبية)، الذين كنتُ واحدًا منهم في بداية حياتي المهنية، جهودًا جديرة بالثناء من أجل تحويل عملية تعلُّم اللغة إلى نشاط ممتع ومشوِّق، فبالإضافة إلى المواد التقليدية، يستخدمون أساليبَ تعتمد على استعمال شبكة الإنترنت، وأساليب سمعية بصرية أخرى، واستراتيجيات تواصُل متنوعة، من أجل تدريس اللغة المعنية، إلا أن الأمر لا يكون بهذه البساطة في ظل وجود مجموعة من عشرين إلى ثلاثين طالبًا في الفصل الواحد، والتقائهم بالمعلم لبضع ساعات كلَّ أسبوع. وفي نهاية تعليمهم المدرسي، يحتفظ عادةً الطلابُ بقدرٍ من المعرفة باللغة الثانية التي تعلَّموها، لكن الاستخدام الفعلي لها يكون على نطاق ضيق، إلا إذا وجدوا أنفسهم في سياق من التواصل يحتاجون فيه إلى هذه اللغة. خلاصة القول، يكتسب كثير من هؤلاء الطلاب أساسًا يمكنهم الاعتماد عليه عند استخدامهم الفعلي لِلُّغة؛ ومن ثَمَّ الثنائية اللغوية، إذا كان الموقف مناسبًا وظهرت حاجةٌ إلى ذلك، لكنهم لا يصبحون بعدُ ثنائيي اللغة.

قد يظن المرء، بسذاجة، أن الأطفال والمراهقين الذين يلتحقون بالمدرسة ولديهم معرفة بلغة أخرى (عادةً لغة أقلية)، تكون لديهم أسبقية في التحول لثنائيي اللغة؛ ففي النهاية، ألن يصبح الطفل من نيكاراجوا، الذي يلتحق بمدرسة تُطبق نظام التعليم الأمريكي مع معرفته القليل جدًّا عن الإنجليزية، بمرور الوقت ثنائي اللغة في الإسبانية والإنجليزية؟ كذلك، ألن يصبح الطفل الذي من شمال أفريقيا ويعيش في فرنسا ثنائيَّ اللغة في العربية والفرنسية، أو الطفل التركي الذي يعيش في ألمانيا ثنائيَّ اللغة في التركية (أو الكردية) والألمانية؟ في كثير من الدول الأفريقية والآسيوية، تظهر الثنائية اللغوية فعليًّا لدى الأطفال المنتمين إلى خلفيات لغوية أخرى عند بدء التحاقهم بالمدرسة، لكن في مناطق أخرى في العالم حيث تكون الهجرة هي مصدر مجموعات الأقلية، نادرًا ما نجد دولةً تُطبِّق عن عمد سياسةً تعليميةً تسمح للأطفال المنتمين لهذه المجموعات باكتساب لغتهم الأصلية المُستخدَمة في البلاد التي هاجروا منها، ولغة الأغلبية، والاحتفاظ بهما؛ ومن ثَمَّ تكوُّن سياسة تدعم الثنائية اللغوية. توجد أسباب كثيرة لهذا (سياسية واقتصادية وثقافية)، ويوجد جدل مستمر حولها.

إن الأسلوب الأساسي الذي تنتهجه المدارس يتمثَّل في دمج هؤلاء الأطفال مع زملائهم في الفصول، وجعلهم يكتسبون لغة الأغلبية بأقصى قدر ممكن، دون الاهتمام بلغتهم الأولى أو استخدامها. ينتج عن اتباع هذا الأسلوب كثير من المشكلات، التي يطلق عليها البعض اسم «الانغمار اللغوي» أو «الفشل أو النجاح»، فإذا فشل الأطفال في فهم اللغة المستخدمة في المدرسة أو التحدُّث بها، فإن سرعة تعلُّمهم للمهارات والمحتوى الدراسي تقلُّ إلى حد كبير ويتأخرون عن زملائهم. بالإضافة إلى ذلك، عادةً ما يشعرون بالوحدة وعدم الأمان، خاصةً إذا كانوا الوحيدين ضمن الأطفال الذين يعرفون بالفعل لغة الأغلبية. تشتد حدَّة هذا الصراع عندما لا توجد معرفة لدى المعلمين بلغة الأقلية وثقافتهم، ولا يوجد أحد لمساعدتهم. كتب جيم كومينز؛ الخبير في تعليم أطفال الأقليات، يقول إن من أكثر التجارب المحبطة التي يتعرَّض لها الأطفال الوافدون حديثًا إلى دولةٍ ما، عدم القدرة على التعبير عن ذكائهم ومشاعرهم وأفكارهم، وحتى حس الفكاهة لديهم، لمُعلِّميهم وأقرانهم، فهم لا يستطيعون فعل هذا بلغة المدرسة، ولا يُسمَح لهم بفعله بلغتهم الأصلية.2 تزخر السِّيَر الذاتية ومذكرات الذين مروا بهذه المحنة بإفادات مثل الإفادة التالية:
على الرغم من معرفة معظم المعلمين البريطانيين بقدرٍ من الفرنسية، فإنهم لم يكونوا يستخدمونها قطُّ لمساعدتي؛ كانوا يقولون إن «الممارسة» هي السبيل الوحيد للتعلم. كنتُ أنا وأختي الأكبر سنًّا في المدرسة نفسها، وكانت معرفتها بالإنجليزية أفضل بكثير مني، لكن لم يكن يُسمَح لها بمساعدتي، وكنَّا ممنوعَيْن من التواصل أحدنا مع الآخَر بالفرنسية.3
قال الناشط الأمريكي، الذي من أصل مكسيكي، الشهير في مجالَيْ حقوق العمال والحقوق المدنية سيزار شافيز، عن تجربته في هذا الشأن:
في الفصل كانت اللغة إحدى مشكلاتي الكبرى. بالطبع كنا مستائين بشدة لعدم قدرتنا على الحديث بالإسبانية، لكنهم أصرُّوا على ضرورة تعلُّمنا الإنجليزية، فقالوا إننا إذا أردنا أن نكون أمريكيين، فلا بد لنا من التحدث بالإنجليزية؛ أما إذا أردنا التحدُّث بالإسبانية، فعلينا العودة إلى المكسيك.4
توجد أشكال مختلفة لأسلوب فرض لغة الأغلبية هذا؛ يتمثَّل أحدها في توفير فصول خاصة لتعلُّم اللغة الثانية (يُطلَق على هذه الفصول في الولايات المتحدة فصول تعلُّم «الإنجليزية كلغة ثانية»)؛ حيث يتعلَّم الأطفال عادةً بطريقة رسمية إلى حد كبير اللغةَ المستخدَمة كوسط للتعليم في المدرسة. لا يكون ما يتعلمونه غير مفيد دومًا فحسب، على الرغم من الجهود الكبيرة للمعلمين المخلصين، وإنما يعاني الأطفال بالإضافة إلى ذلك من وصمة إخراجهم من الفصول العادية وانتقالهم لتعلُّم اللغة في هذه الفصول؛ ممَّا يزيد الفجوة بينهم وبين الأطفال الآخَرين. إليك ما أخبرني به ذات مرة أحدُ الأشخاص الثنائيي اللغة في البرتغالية والإنجليزية عن تجربته:
عندما التحقت بالمدرسة لأول مرة عند وصولي إلى الولايات المتحدة، وُضِعتُ في أحد الفصول الخاصة لتعلم الإنجليزية كلغة ثانية، فكان هذا الفصل يضمُّ كلَّ الطلاب الذين لا يتحدَّثون الإنجليزية أو يتحدثونها على نطاق محدود. لقد كان هناك على الأقل عشرون طالبًا من لغات وأعمار مختلفة. لم تكن المعلمة تتحدَّث إلا بالإنجليزية، وكانت تنقل تعليماتها إلى الطلاب الجدد عبر الطلاب الذين يفهمون الإنجليزية بالفعل؛ وانتهى الحال بجلوس كل مجموعة لغوية من الطلاب معًا؛ ليتمكَّنوا من فهم إرشادات المعلمة وشرحها من خلال الطلاب الذين بإمكانهم ترجمتها شفويًّا. لا أعتقد أني تعلمتُ الحديث بالإنجليزية في هذا الفصل؛ فقد تعلمتُ هذا في الشارع من الأطفال الذين كنتُ ألعب معهم.5
أكَّد كثير من الباحثين على مدى صعوبة اتِّباع الأطفال والمراهقين المناهجَ الدراسية العادية في أثناء عملية تعلُّم لغة الدراسة، ويؤكِّد جيم كومينز على حقيقة أن المتحدثين بلغة الأقلية يكون عليهم اللحاق ﺑ «هدف متحرك» فيما يتعلَّق بالمحتوى الدراسي، ويشير إلى أن الأطفال المتحدِّثين بلغة الأغلبية لن يظلوا في مكانهم منتظرين وصول الأطفال الآخرين إلى مستواهم. وبمرور الوقت تصبح المفاهيم أكثرَ صعوبةً، والمفردات متخصصة أكثر، والتراكيب النحوية أكثر تعقيدًا. وكما علمنا في الفصل الخامس عشر، يقدِّر كومينز أن الأطفال المتحدثين بلغة الأقلية يحتاجون على الأقل خمسَ سنوات من أجل اللحاق بأقرانهم من المتحدثين بلغة الأغلبية في المهارات اللغوية المتعلقة بالقراءة والكتابة.6 وتتمثَّل المشكلة في إصابة كثير منهم باليأس، وأن يتخلفوا أو يتركوا الدراسة.
مع معاناة الأطفال والمراهقين المتحدثين بلغة الأقلية مع لغتهم «الجديدة»، التي سيتقنها البعض ولن يتقنها البعض الآخَر، يتعرَّضون أيضًا ببطء إلى فقدان لغتهم الأصلية، التي لا تُدعَم ولا تُطوَّر في المدرسة. تُعتبَر تجربة ريتشارد رودريجيز؛ مؤلف كتاب «نهم الذاكرة»، مثالًا على هذا، فقد تخطَّى الأمرَ باكتسابه اللغة الإنجليزية، لكنه في أثناء هذه العملية فقَدَ لغتَه الإسبانية، على الرغم من التحاقه بفصول لتعلُّم اللغة الإسبانية القياسية في المدرسة الثانوية (لكن الوقت كان قد تأخَّر كثيرًا)؛ إذ يقول:
لقد نشأتُ ضحيةَ ارتباك أدَّى إلى إعاقة؛ فمع زيادة طلاقتي في اللغة الإنجليزية، لم أَعُدْ أستطيع التحدُّث بالإسبانية بثقةٍ، على الرغم من استمراري في فهم الحديث بالإسبانية. وفي المدرسة الثانوية، تعلَّمْتُ القراءة والكتابة بالإسبانية، لكني لم أستطع نطقها لعدة سنوات. لقد كان لديَّ شعور قوي بالذنب يعيق نطقي للكلمات؛ فقد كنتُ أفتقد رابطًا أساسيًّا يربط الكلمات معًا متى حاولتُ تكوينَ الجُمَل.7
إذا أمكن استخدام لغة الأقلية في السنوات الأولى من الالتحاق بالمدرسة، فإن هذا لن تكون له فوائد اجتماعية وثقافية ونفسية مهمة فحسب بالنسبة إلى الأطفال، وإنما هذا سيساعدهم أيضًا في اكتساب اللغة الثانية عبر انتقال المهارات من لغةٍ للأخرى. ومع ذلك، قد تأتي مرحلة يكون فيها الأوان قد فات؛ تخبرنا عالمة اللغة لِيلي وونج فيلمور عن فريدي؛ وهو متعلم «سابق» لِلُّغة الإنجليزية في السابعة عشرة من عمره، حصل على حصص خاصة في مادة الرياضيات حتى يتمكن من اجتياز امتحان التخرج من المرحلة الثانوية بولاية كاليفورنيا (فقد فشل بالفعل مرتين في الجزء الخاص بالرياضيات). كان يفتقر إلى مخزون من المفردات والقواعد النحوية في اللغة الإنجليزية يمكِّنه من فهم المادة التي يقرؤها. تسأل وونج فيلمور ما إذا كان من الأفضل تدريس الحصص الخاصة هذه باللغة الإسبانية، التي هي لغة فريدي الأولى؛ فتقول إنه في حالة فريدي، كان من الممكن أن يفيده هذا إذا كان أصغرَ سنًّا، لكنْ نظرًا لتلقِّيه التعليم في المدرسة بالإنجليزية فقط، فلم يَعُدْ فريدي يفهم الإسبانية أو يتحدَّث بها مثل الإنجليزية. تستنتج وونج فيلمور من هذا أن فريدي كان سيصبح من الأسهل عليه تعلُّم المحتوى الذي طُلِب منه تعلُّمه في المدرسة، إذا كان هذا المحتوى قد دُرِّس له باللغة الإسبانية.8
اعترافًا بأهمية التدريس باللغة الأولى، الذي أكَّدَتْ عليه اليونسكو في هدفها المذكور في بداية هذا الفصل، أنشأت بعضُ الهيئات التعليمية برامجَ انتقاليةً تُستخدَم فيها لغةُ الطالب الأولى كجسر لتعلُّم لغة ثانية؛ لغة الأغلبية. شاع استخدام هذا النوع من البرامج في الولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن العشرين، وحاليًّا يوجد في دول مثل هولندا وإنجلترا والسويد، بحسب ما ورد عن خبيرة التعليم ماريا بريسك؛9 حيث يتلقَّى الطلابُ التعليمَ بلغتهم الأولى لمدة محددة، بينما يكتسبون مهارات لغوية في لغة الأغلبية، وبمرور الوقت (تستمر هذه البرامج بين سنة إلى أربع سنوات، بناءً على الدولة) تزيد أهمية الدور الذي تعلبه لغة الأغلبية، وفي النهاية تهيمن بالكامل. توجد فوائد كثيرة لهذه البرامج؛ إذ يبدأ الأطفال دراستهم في المدرسة بلغة يفهمونها وترتبط بثقافتهم في المنزل، ويستطيعون التواصل بسهولة مع المعلمين والأطفال الآخرين، ويمكنهم إحراز تقدُّم في المواد الدراسية مع اكتسابهم لِلُغة الأغلبية، ويمكن أن تنتقل مهارات القراءة والكتابة التي لديهم للغتهم الجديدة، وهكذا. تتمثَّل المشكلة الوحيدة، المتعلقة بالثنائية اللغوية، في أن هذه البرامج بطبيعتها انتقاليةٌ، ولا يُبذَل أيُّ مجهود بعد انتهائها من أجل الحفاظ على لغة الأطفال وثقافتهم الأصليتين. قد يحصل بعض الأطفال على مساعدة كافية من منازلهم ومجتمعهم فيما يتعلق بالاحتفاظ بلغتهم الأولى، لكن كثيرًا من الأطفال الآخرين يندمجون في التيار الثقافي السائد ويفقدون جذورَهم اللغوية والثقافية، فيتحولون من كونهم أحاديي اللغة في لغة الأقلية إلى كونهم أحاديي اللغة في الأساس في لغة الأغلبية، ولا تقتصر ممارسةُ الثنائية اللغوية لدى كثيرٍ منهم إلا على فترة انتقالية قصيرة فقط بين هذين الوضعين.

(٢) عندما تكون الثنائية اللغوية هدفًا للتعليم

قبل ذِكْر أمثلةٍ على كيف يمكن للمدارس المساعدة في تحوُّل الأطفال إلى ثنائيي اللغة والحفاظ على ذلك، سنذكر بعض الأحداث التاريخية الحديثة.10 في ستينيات القرن العشرين ظهر ابتكارٌ تعليمي مهم جدًّا في مدينة سان لامبرت الصغيرة في كيبك في كندا؛ كان لهذا الابتكار تبعات مهمة في جميع أنحاء العالم، وقد أخذت أهميته تزداد عامًا بعد عام، فقد كان بعض الآباء الكنديين المتحدثين بالإنجليزية، الذين يعيشون في هذه المدينة التي يغلب عليها الحديث بالفرنسية، معترِضين على الأسلوب التقليدي الخاص بتدريس الفرنسية في المدارس، وبمساعدة معلمين وعلماء نفس من جامعة ماكجيل (من أمثال والاس لامبرت وريتشارد تاكر وآخَرين)، وضعوا «برنامج انغماس» يتعلَّم فيه الأطفال المتحدثون بالإنجليزية اللغةَ الفرنسية على يد معلمين يتحدثون الفرنسية، بدايةً من مرحلة الحضانة. كان يُسمَح للأطفال بالحديث بالإنجليزية بعضهم مع بعضٍ في مرحلة الحضانة، لكنهم كانوا يُمنَعون من فعل هذا في عامهم الأول في المرحلة الابتدائية، ومنذ العام الأول في المرحلة الابتدائية، امتنع المعلمون عن التحدث بالإنجليزية مع الطلاب أو بعضهم مع بعضٍ، حتى يخلقوا، قدرَ المستطاع، بيئةً تتحدَّث بالفرنسية فقط بالكامل. بدأ الأطفال في تعلُّم القراءة والكتابة بالفرنسية منذ عامهم الأول في المرحلة الابتدائية، وفي السنة الثانية بدءوا في الحصول على حصص في اللغة الإنجليزية لمدة ساعة تقريبًا في اليوم، لكن باقي البرنامج كان بالفرنسية. في السنوات الدراسية التالية، زاد مقدار ما يتعلمونه باللغة الإنجليزية، بحيث إنه عند وصولهم للصف السادس أصبح أكثر من نصف تعليمهم باللغة الإنجليزية؛ بهذه الطريقة، تعلَّمَ الأطفالُ أولًا بلغة ثانية، ثم بالتدريج دخلت لغتُهم الأولى كلغة ثانية للدراسة.

للوهلة الأولى، قد يظن المرء أن هذا مجرد شكل آخَر لبرامج الانغمار اللغوي التي تحدَّثنا عنها في القسم الأول من هذا الفصل، لكن في الواقع توجد اختلافات كثيرة؛ فقد كان كل الأطفال في الفصل ينتمون إلى الخلفية اللغوية نفسها، وكانت لغة منزلهم تُحترَم، وقد أُدخِلت كلغة للتعليم في وقت قريب نسبيًّا، وكان آباؤهم يدعمون هذا البرنامج، ويتوقَّع المعلمون من الأطفال تحقيقَ إنجازات كبيرة. وفي الواقع، ثبت نجاح هذا الأسلوب كثيرًا؛ فعند وصول الأطفال إلى الصف السادس لم يكونوا متأخِّرين على الإطلاق عن مجموعات الضبط في مهارات اللغة الإنجليزية، وفي المواد الدراسية الأخرى (فقد نقلوا مهارات القراءة المكتسبة حديثًا من الفرنسية إلى الإنجليزية)، وكان مستوى ذكائهم مساويًا لمستوى المنتمين إلى مجموعات الضبط، وكانت معرفتهم بالفرنسية أفضل بكثير من غيرهم من الكنديين المتحدثين بالإنجليزية في مثل أعمارهم. الأهم من ذلك أنهم تعلَّموا اللغة من خلال استخدامها في سياقٍ بدلًا من اكتسابها عبر نظام التعليم الرسمي. وحاليًّا تغطِّي الفرنسية عددًا قليلًا من المجالات في حياتهم، حتى إنْ ظلَّتِ الإنجليزية هي اللغة السائدة لديهم. ظل الأمر الوحيد المتبقي هو استخدام الفرنسية خارج المدرسة، لكن هذا تُرِك إلى الأُسَر لتعمل عليه. أدَّى نجاح مشروع سان لامبرت إلى تطوير مشاريع مشابِهة في كندا والولايات المتحدة وكثير من الدول الأخرى، على أساس الصيغة الأصلية أو أحد أشكالها. أما برامج الانغماس المتأخر أو تبديل اللغة، على سبيل المثال، فتبدأ في تدريس اللغة الثانية في مراحل دراسية متأخرة، بينما تستخدم برامجُ الانغماس الجزئي اللغةَ الثانية لنصف اليوم فقط، أو في مواد دراسية معينة، إلى آخِره.

لم يُستخدَم أسلوب الانغماس مع الأطفال المنتمين فقط إلى مجموعات اللغة السائدة، مثل الأطفال المتحدثين بالإنجليزية في الجزء الإنجليزي من كندا، وإنما أيضًا مع أطفال الأقليات. سأذكر مثالًا على هذا يتحدَّث عن برنامج إحياء لغة النافاجو في فورت ديفيانس في ولاية أريزونا. بناءً على العمل الذي قام به عالم اللغة مايكل كراوس، تذكِّرنا اختصاصية التعليم تيريزا ماكارتي أن اللغات الأصلية في أمريكا معرَّضةٌ لخطر الضياع؛ فمن بين ١٧٥ لغة توجد حاليًّا في الولايات المتحدة، لا يكتسب الأطفالُ إلا ٢٠ لغة فقط منها فطريًّا.11 إن النافاجو هي أكثر اللغات الهندية المستخدمة، لكنها لم تَعُدِ اللغةَ الأساسية لعدد متزايد من الأطفال المنتمين لقبيلة النافاجو؛ ومن ثَمَّ بدأ برنامج انغماس في لغة النافاجو في عام ١٩٨٦ حتى يستطيع الأطفال اكتسابَ اللغة مع إحرازهم تقدمًا في الإنجليزية والمواد الدراسية الأخرى. بدأ الأطفال في مدارس فورت ديفيانس الابتدائية باستخدام لغة النافاجو في البداية، وتعلُّم مهارات القراءة والكتابة بهذه اللغة قبل انتقالهم إلى الإنجليزية. وفي السنوات الدراسية الأولى كان كلُّ التواصُل يحدث باستخدام لغة النافاجو، لكن المعلمين كانوا ثنائيي اللغة ويستطيعون مساعدة الأطفال عند مواجهتهم أية مشكلات. ومع انتقال الأطفال إلى السنوات الدراسية الأعلى، زاد تعرُّضهم لِلُّغة الإنجليزية (على سبيل المثال: كان اليوم الدراسي مقسَّمًا بين اللغتين في الصفين الثاني والثالث). المثير للدهشة بشأن هذا البرنامج أن مسئولي الرعاية المنتمين لهذه القبيلة كانوا يقضون فترة المساء في الحديث مع الأطفال بلغة النافاجو، بعد المدرسة، ويمارسون أنشطةً مع الطلاب، مثل صنع الكتب. وقد جاء تقييمٌ أُجرِي على طلاب الصف الرابع في صالحهم، من حيث مهارات تعلم اللغتين النافاجو والإنجليزية، بالإضافة إلى أدائهم في المواد الأخرى مثل الرياضيات؛ وإضافةً إلى ذلك، استعاد الطلاب فخرَهم بانتمائهم لقبيلة النافاجو.12
واين هولم هو رجل تربوي يحظى باحترام كبير، وقد عمل بالتدريس في مدارس النافاجو لما يقرب من خمسين عامًا. يؤكِّد هولم على حقيقة أن أطفالَ هذه القبيلة الصغار، الذين خضعوا لهذا البرنامج، أصبح لديهم الآن اختيارُ الاستمرار في التحدُّث بلغة النافاجو واستخدامها لما بقي من حياتهم، ويقول في هذا الشأن:
إن تعلُّم المرء لغةَ قومه لا يجبره على الحياة بأسلوب واحد فقط؛ فهو يعمل على فتح الخيارات أمامه، حيث يستطيع الشاب الصغير الاختيارَ «ما» بين استخدام هذه اللغة أو لا، ومع «مَن» يستخدمها، و«ما» الأشياء التي يتحدث عنها بها. يُحرَم الأطفال الذين يمنعهم آباؤهم أو مدارسهم من استخدام لغتهم من الاختيار، وفي الوقت الذي قد يختار فيه المراهق أو الشاب الصغير التحدُّثَ بهذه اللغة، يكون الوقت في الأغلب قد تأخَّرَ بالفعل.13
يوجد نوعٌ من البرامج التعليمية يشجِّع الثنائيةَ اللغوية وتعلُّم القراءة والكتابة بلغتين، بالإضافة إلى فهمٍ حقيقي للشعوب والثقافات المعنية؛ إنه نوع البرامج الثنائية اللغة (التي يُطلَق عليها أيضًا البرامج الثنائية الاتجاه)، التي تُستخدَم فيها لغتان طوال سنوات المدرسة، وينتمي الطلاب إلى كلتا الخلفيتين اللغويتين. يوجد أحد الأمثلة على مثل هذه البرامج في الولايات المتحدة في مدرسة أميجوس، الموجودة في مدينة كامبريدج في ولاية ماساتشوستس. تقدِّم مدرسة أميجوس، بوصفها جزءًا من المدارس الحكومية في كامبريدج، تعليمًا ثنائيَّ اللغة يُعلِّم القراءة والكتابة بلغتين منذ الحضانة وحتى الصف الثامن؛ للطلاب المنتمين لعائلات تكون فيها الإسبانيةُ هي اللغة السائدة، بالإضافة إلى الطلاب الذين تكون الإنجليزيةُ لغتَهم الأساسية. توجد في كل مجموعةٍ من الطلاب أو فصلٍ مجموعةٌ متوازنة من الذين يتحدثون الإنجليزية كلغتهم الأصلية والذين يتحدثون الإسبانية كلغتهم الأصلية. تتنقل المجموعات بين الفصول التي يُدرس فيها بالإنجليزية وتلك التي يُدرس فيها بالإسبانية؛ على سبيل المثال: يقضي الطلاب في الحضانة نحو يومين ونصف يوم في الفصل الذي يُدرس فيه بإحدى اللغتين، ثم يتحولون إلى الفصل الذي يُدرس فيه باللغة الأخرى طوال باقي الأسبوع. تتنقل الصفوف من الأول إلى الثالث أسبوعيًّا بين الفصول الخاصة باللغتين. في السنوات الدراسية التالية، يتعرَّض الطلاب يوميًّا لكلتا اللغتين عندما يتحولون من مادةٍ تُدرس بالإسبانية إلى أخرى تُدرس بالإنجليزية. تُنفَّذ عادةً المشاريعُ الطويلة الأمد بلغة واحدة فقط، فيستخدم الأطفالُ اللغةَ المناسبة للفصل أو المادة، وفي مجال التعامُلات العامة، كما هو الحال في الأروقة وفي الاجتماعات التي تُعقَد في المدرسة وغيرها، تُستخدَم كلتا اللغتين. يتمثَّل أحد الجوانب المتميزة لمثل هذه البرامج في عمل الطلاب الذين تهيمن على حياتهم إحدى اللغتين مع الطلاب الذين تهيمن على حياتهم اللغة الأخرى، ومساعدة بعضهم بعضًا. هذا نوع رائع من التعليم؛ حيث إنه يحترم كلتا اللغتين والثقافتين ويقدِّرهما.14
يجب أن أتوقَّف هنا لأذكر بعض النقاط عن تعلُّم القراءة والكتابة بلغتين؛ حيث يتساءل كثير من الآباء والتربويين عمَّا إذا كان تعلُّم القراءة والكتابة بإحدى اللغتين يساعد تعلُّم القراءة والكتابة باللغة الأخرى أم يعيقه. في عام ٢٠٠٦، أصدرت الهيئةُ القومية لمحو الأمية لدى الأطفال والشباب المنتمين لأقليات لغوية — وهي هيئة مكوَّنة من ١٦ باحثًا أنشأتها وزارة التعليم في الولايات المتحدة — تقريرَها بعد أربع سنوات من العمل. يضم المجلد الضخم الخاص بالتقرير جزءًا عن تعلُّم القراءة والكتابة باللغتين الأولى والثانية، وقد ثبت وجود تأثير فعلي للمعرفة بالقراءة والكتابة والعمليات المستخدمة والأساليب المتَّبعة الخاصة بإحدى اللغتين (عادةً اللغة الأقوى) على ما يقابلها في اللغة الأخرى؛ على سبيل المثال: تنتقل مهارات قراءة الكلمات التي تُكتسَب في إحدى اللغتين إلى اللغة الأخرى؛ ففي المراحل المبكرة من تطوُّر تهجئة الكلمات في اللغة الثانية، تؤثِّر القواعدُ الصوتية والقواعد الخاصة بالكتابة لِلُّغة الأولى في تهجئة الكلمات في اللغة الثانية (هذا بالطبع عند تشابُه أسلوب كتابة كلتا اللغتين)، وتنتقل أيضًا القدرةُ على الفهم القرائي من لغةٍ لأخرى.15 باختصارٍ، تساعد مهارات القراءة والكتابة، التي توجد لدى الطالب في إحدى اللغتين، في اكتسابه لمثل هذه المهارات في اللغة الأخرى، وبالطبع سيعتمد مدى هذا على العلاقة بين اللغتين ونظامَيْ كتابتهما؛ فعلى سبيل المثال: يكون هذا المدى أكبرَ بين الإسبانية والإنجليزية مقارَنةً بما بين الصينية والإنجليزية، لكن من الواضح أن تعلُّم القراءة والكتابة في لغتين أمرٌ ممكن، ولن يعيق الطفلَ الثنائي اللغة.16

يوجد مثال آخَر على البرامج الثنائية اللغة الناجحة في سويسرا، في مدينة بيين الثنائية اللغة (هذا هو اسمها الفرنسي)، وتُسمَّى أيضًا بيال (وهذا هو اسمها الألماني). تقدِّم المدارس الثانوية فيها برنامجًا ثنائي اللغة مدته ثلاث سنوات من أجل اجتياز المرحلة الثانوية؛ يضمُّ البرنامج كلًّا من الطلاب المتحدثين بالفرنسية والمتحدثين بالألمانية السويسرية، بحيث تكون نسبةُ كلٍّ منهم في كل فصل نحو ٥٠ في المائة. يستخدم المعلمون لغتَهم الأم في التدريس (الفرنسية أو الألمانية)، وتُدرَّس المواد باللغة نفسها على مدار السنوات الثلاث، فيكون نحو نصف المواد بالألمانية والباقي بالفرنسية، وهكذا يستخدم الطلابُ لغتَهم الأولى نصف الوقت، واللغةَ الأخرى في النصف الآخَر. يُعاد ترتيب مجموعات الطلاب على أساس اللغة في مواد اللغة فقط (على سبيل المثال: يدرس الطلاب المتحدثون بالألمانية الأدبَ الألماني باللغة الألمانية). كذلك يساعد المعلمون المتحدثين غير الأصليين لِلُّغة في المواد التي يدرسونها عن طريق الترجمة لهم من وقت لآخَر، ومن خلال التأكد من فهمهم للمادة العلمية؛ وعند تصحيح الاختبارات، لا توجد صرامةٌ شديدة في التعامل مع ارتكاب الطلاب لأخطاء في لغتهم الأضعف. يُدرَّب كذلك الطلاب الذين يدرسون إحدى المواد بلغتهم الأصلية على كيفية مساعدة زملائهم من غير المتحدثين الأصليين لِلُّغة، فيمكنهم الإجابة عن أسئلتهم، والترجمة لهم من وقتٍ لآخَر، وما إلى ذلك. لقد وُضِع هذا البرنامج بحيث يجد جميع الطلاب أنفسَهم يمارسون دورَ الذين يقدِّمون المساعدة نصف الوقت، ودورَ الذين يحصلون عليها في النصف الآخَر، فيُشجَّعون على التفاعُل بعضهم مع بعضٍ عبر المجموعات اللغوية في فترات الاستراحة، ووقت الغداء، وفي الأنشطة البعيدة عن الدراسة؛ مثل: ممارسة الرياضة، والمعسكرات، والحفلات الموسيقية، والرحلات الدراسية. يسمح هذا لمتحدثي الألمانية السويسرية بتحسين لغتهم الفرنسية، وللطلاب المتحدثين بالفرنسية السويسرية بتحسين لغتهم الألمانية، ولا سيما الألمانية السويسرية (وهي اللغة الألمانية المستخدَمة في الحياة اليومية في الجزء الألماني من سويسرا).

للأسف، إن برنامجَيْ أميجوس وبيال/بيان هما الاستثناء؛ فوفقًا لما جاء عن مركز علم اللغة التطبيقي بواشنطن، كان هناك نحو ٣٣٢ برنامجًا ثنائي اللغة من هذا النوع في المدارس الابتدائية في الولايات المتحدة في عام ٢٠٠٨، وهذا لا يمثِّل إلا نحو ١ في المائة من كل البرامج المُطبَّقة؛ ولكنها، تمامًا مثل برامج الانغماس المبكر، كانت تضع نموذجًا لما يمكن فعله من أجل مساعدة الطلاب في اكتساب لغتين، واكتشاف ثقافة المجموعة اللغوية الأخرى، والتفاعُل مع المتحدثين لهذه اللغة والمنتمين لهذه الثقافة، والفهم — على نحوٍ أفضل — لمعنى مساعدة شخص آخَر لا يفهم ما يُقال، وتلقِّي مثل هذه المساعدة عند التعرُّض لموقف مُشابهٍ. يكون هذا النوع من البرامج بالنسبة إلى كل الذين عانوا من أسلوب الانغمار في التعليم (وقد كنتُ واحدًا من هؤلاء الأطفال) واعدًا للغاية؛ فهذه البرامج تحقِّق تصالُحًا بين التعليم والثنائية اللغوية، وتفيد كلَّ المعنيِّين، سواء أكانوا منتمين إلى الثقافة السائدة أم إلى ثقافةِ أقليةٍ ما.17

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤