الفصل السادس

التحدث والكتابة بلغة واحدة

عند التواصُل مع الآخرين يسأل الأشخاص الثنائيو اللغة أنفسهم دومًا — لا شعوريًّا في معظم الأحيان — عن اللغة التي يجب عليهم استخدامها، وعمَّا إذا كان باستطاعتهم إدخال لغة أخرى. عندما يتعرَّضون لوضع لغوي أحادي اللغة — أيْ عند وجود أشخاص أحاديي اللغة، أو ثنائيي اللغة لا يشاركونهم في لغاتهم نفسها (أو مع أشخاص لا يشعرون معهم أنهم يستطيعون استخدام آلية التبديل اللغوي أو الاقتباس) — فإن الإجابة تكون بسيطة على ما يبدو؛ وهي أنه يجب عليهم استخدام اللغة التي يعرفها الآخرون، ولا يدعون لغة أخرى تتدخل، إنْ أمكن. إلا أن الأمور لا تكون دومًا بمثل هذا الوضوح فيما يتعلق بالنقطة الثانية، وهي وجود لغة أخرى غير مُفعَّلة.

(١) اختيار اللغة

قد يبدو للوهلة الأولى اختيار لغة التواصُل في الوضع الأحادي اللغة عمليةً بسيطة؛ فنحن نُوقِف عملَ لغتنا أو لغاتنا الأخرى ونتحدَّث بلغة واحدة فقط. ففي النهاية، إذا بدأنا بتحدُّث لغةٍ لا يعرفها الطرف الآخر، فإننا لن نصل إلى أي شيء. وكما قال أحد هنود الياكي المذكور آنفًا: «أنا أستطيع التحدث معكِ بالياكية؛ لكنك لن تفهميني.»1 لقد انبهرتُ على مر السنين بمدى براعة ثنائيي اللغة في اختيار اللغة المناسبة، ومدى كفاءتهم في عدم تفعيل لغاتهم الأخرى؛ ففجأةً يمكن أن يصبح الأشخاص الثنائيو اللغة أو المتعدِّدو اللغات، الذين توجد لغتان أو أكثر تحت تصرُّفهم، متحدِّثي لغة واحدة. أنا أتذكَّر دومًا بطل التنس روجر فيدرير الذي يُجرِي مقابلات بأربع لغات (الألمانية السويسرية والألمانية والإنجليزية والفرنسية)، ويفعل هذا عادةً دون أن يَدَع لغاته الأخرى تتدخل. فهو يكون عادةً، في مثل هذه المواقف، في وضعٍ أحادي اللغة؛ إذ لا يمكنه توقُّع أن يعرف الذين يُجرون معه المقابلة، ولا سيما الجمهور الذي يتحدَّث إليه، لغاتِه الأخرى.

إن الأشخاص الثنائيي اللغة، الذين يتمكَّنون من البقاء داخل وضع أحادي اللغة، وبالإضافة إلى ذلك يتحدثون هذه اللغة بطلاقةٍ ودون لُكْنة، يمكن وصفهم في الغالب بأنهم أحاديو اللغة. فُوجِئتُ بشدة في أحد الأيام، منذ عدة سنوات، عندما سمعتُ زوجة الخباز، التي يوجد متجرُها في نهاية الشارع الذي أعيش فيه، تجيب على الهاتف بطلاقة باللغة الألمانية السويسرية. كنتُ أعرفها منذ ما يقرب من عشر سنوات، وكنت أتصوَّر دومًا أنها فرنسية سويسرية؛ فكنتُ أتوقَّع أنها تعاني عند استخدام الألمانية مثل معظم الفرنسيين السويسريين (فضلًا عن الألمانية السويسرية التي نادرًا ما يتحدَّث بها الفرنسيون السويسريون)، لكنها كانت تجري حوارًا بطلاقة باستخدام لغتها الأم، كما أدركتُ فيما بعدُ. وأُصِبتُ بدهشة مماثلة عندما علمتُ أن الممثلة ناتالي وود، بطلة فيلم «قصة الحي الغربي» الذي ظهر في عام ١٩٦١، التي كنتُ أعتقد أنها كانت شخصًا أحادي اللغة بالكامل؛ وُلِدت في الواقع في عائلة تتحدَّث بالروسية، وكانت هي ثنائية اللغة في اللغتين الروسية والإنجليزية. يَرِد على الذهن كثير من الأمثلة على هذه «المعجزة» الخاصة بالثنائية اللغوية؛ وهي اللغات المخبَّأة التي يعرفها الناس لكنهم لا يستخدمونها أبدًا في وجودنا.

إن اختيار لغة أساسية والالتزام بها في حالة التواصُل الأحادي اللغة، سواء أكان في التحدُّث أم في الكتابة، هو جزء من كون الفرد ثنائي اللغة. فأحيانًا توجد على المحك أمورٌ أكثر من مجرد عملية التواصُل، ويكون الالتزام بالوضع الأحادي اللغة هو أهم شيء. يصف أوليفيه تود، الصحفي والكاتب الفرنسي البريطاني، في سيرته الذاتية كيف أنه هو ووالدته البريطانية فشلَا في اللحاق بآخِر سفينة متجهة إلى إنجلترا عندما غزا الألمان فرنسا؛ فظلَّا في فرنسا أثناءَ الحرب، وكانت والدته مختبئةً جزئيًّا؛ إذ إنها قد تُرسَل إلى معسكر اعتقال إذا عرف الألمان جنسيتها. يصف تود كيف أنهما اتفقا على عدم التحدُّث بالإنجليزية أمام الناس؛ في الشارع، وفي المقاهي، وفي الحافلات، وإذا أخطأَتْ ونطقَتْ بكلمة أو جملة إنجليزية رغمًا عنها، فإنه يتوجب على تود، الذي كان طفلًا صغيرًا في هذا الوقت، أن يضغط على يدها. المشكلة أن والدته كانت ضد الألمان بشدة، وفي أحد الأيام في مترو الأنفاق لم تتمالك نفسها، وتحدَّثَتْ بالإنجليزية بعنف شديد ضد المحتلين، أمام ضابط ألماني. يخبرنا تود أنهما كانا محظوظين في هذا اليوم ولم يحدث شيء. تمكَّنَتْ والدة أوليفيه تود من النجاة أثناء فترة الحرب دون أن تنكشف هويتها كمواطنة إنجليزية.2
أثارَتِ اهتمامَ الباحثين لوقت طويل قدرةُ ثنائيي اللغة على التحكُّم في اللغة التي يتحدثون بها، وكيف يُقْصُون لغاتهم الأخرى. على المستوى المعرفي يوجد جدل محتدم حول الآليات المستخدَمة؛ فيتحدث بعض الباحثين، من أمثال ديفيد جرين من جامعة لندن، عن كبح اللغات التي لا توجد حاجةٌ إليها، بينما أتبنَّى أنا وجهةَ نظرٍ «أبسط» وأؤيد عدم تفعيل هذه اللغات ولكن ليس كبحها.3 فأنا أرى أن النظام اللغوي الثنائي اللغة يسمح بالتبديل بين الوضع الأحادي اللغة والوضع الثنائي اللغة، وأنه حتى في الوضع الأحادي اللغة، كما سنرى فيما يلي، يستطيع المتحدِّث استخدامَ اللغة الأخرى المعطَّلة. ويصعب فعل هذا عندما تكون اللغة مكبوحةً أكثر ممَّا إذا كانت معطَّلةً.
أجرى أطباء الأعصاب وعلماء اللغويات العصبية مؤخرًا دراسات تقوم على تصوير الدماغ، في محاولةٍ منهم لتحسين فهمنا للبنى التي تتحكم في اختيار اللغة. استعرض جوبن أبو طالبي وديفيد جرين الدراسات في هذا الموضوع، وقالا إن ثمة بنًى عصبية كثيرة تلعب دورًا في هذا الشأن؛ يبدو أن الجزء الأيسر من النواة الذنبية في المنطقة تحت القشرية من الدماغ يشرف على الاختيار الصحيح للغات؛ والجزء الأيسر من القشرة أمام الجبهية يُحَدِّث اللغةَ المناسبة ويحافظ على استمرار العمل بها، بالإضافة إلى أنه يكبح اللغات غير المستخدمة؛ وترسل القشرة الحزامية الأمامية إشاراتٍ إلى القشرة أمام الجبهية بالأخطاء المحتملة في اختيار اللغة؛ ويوجه الجزءان الأيمن والأيسر من القشرة الجدارية الخلفية الاختيارَ نحو اللغة المستخدمة وبعيدًا عن اللغة غير المستخدمة.4 يساعدنا هذا البحث الحديث في فهم طريقة اختيارِ الأشخاص الثنائيي اللغة لِلُّغة المناسبة ليستخدموها، وإقصائهم لِلُّغات الأخرى، إلى حدٍّ ما على الأقل، كما سنرى فيما يلي.

عندما يكون ثنائيو اللغة في وضع أحادي اللغة؛ أي عند الحديث أو الكتابة بلغة واحدة فقط، فإننا نتوقع أن تصبح لغاتهم الأخرى معطَّلة أو لا تتدخل؛ وهذا أمر منطقي نظرًا لأن الأشخاص الثنائيي اللغة عادةً ما يتواصلون مع أشخاص لا يعرفون لغاتهم الأخرى. مع ذلك، في الواقع لا تكون الأمور بمثل هذه البساطة؛ فقد يحدث تبديل لغوي أحيانًا عند حديث الأشخاص الثنائيي اللغة أو كتابتهم بلغة واحدة، وعادةً ما تتداخل لغاتهم الأخرى. سنستعرض فيما يلي كلتا العمليتين.

(٢) التبديل اللغوي في الوضع الأحادي اللغة

يتمثَّل أحد أسباب حدوث التبديل اللغوي في الوضع الأحادي اللغة في إدخال اسم علم من اللغة الأخرى؛ فيفضِّل بعض الأشخاص الثنائيي اللغة نطقَ اسم (مدينة أو جريدة أو شخص أو حتى أسمائهم) بلغته الصحيحة، مما قد يدفعهم إلى التحوُّل لِلُّغة الأخرى، بينما يكيِّف أشخاص ثنائيو اللغة آخَرون الأسماءَ صوتيًّا مع اللغة الأساسية، ومن ثم يقومون بعملية الاقتباس. لا يوجد أي قواعد هنا؛ فمن ناحية نحن لا نريد أن نبدو مستعلين أو مختلفين كثيرًا عن الآخَرين من خلال التحوُّل إلى استخدام اللغة الأخرى. ومن المهم أيضًا أن يفهمنا الذين نتحدَّث إليهم، وربما يتسبَّب التبديل اللغوي في حدوث سوء فهم. ومن ناحية أخرى، فإن تكييف أحد الأسماء مع اللغة الأساسية قد يشوِّهه تمامًا أو يبعده عن حقيقته؛ ففي النهاية لا يبدو صديق أمريكي اسمه جوناثان الشخصَ نفسه عند نطق اسمه بالفرنسية. إن اتخاذ قرارٍ بنطق اسم العلم بصيغته الأصلية أو تكييفه مع اللغة المستخدمة في الكلام يعتمد على كثير من العوامل، لكن تتمثل العوامل الرئيسية في تحقيق تواصُل واضح، وليس إبعاد الشخص نفسه كثيرًا عمَّن يتحدث إليهم. عندما كنت أعيش في الولايات المتحدة، كنت أنطق اسم عائلتي بالنطق الإنجليزي ثم أتهجاه؛ فلم يكن نطقه بالطريقة الفرنسية حلًّا؛ إذ إن معظم الناس لن تفهمه.

بخلاف أسماء الأعلام، قد يقوم ثنائيو اللغة بعملية تبديل لغوي لوقت قصير عندما يكونون في وضع أحادي اللغة، إما لأنهم لا يجيدون هذه اللغة جيدًا (كما يحدث عندما يتحدَّث شخص ثنائي اللغة تسيطر عليه بشدة لغةٌ معينة بلغته الضعيفة)، وإما لأنه ليس لديهم المرادف المطلوب في هذا المجال على وجه التحديد في اللغة التي يتحدثون بها (مبدأ التكامل). عندما يقوم ثنائيو اللغة بتبديل لغوي مفاجئ على هذا النحو، فإن مستمعيهم عادةً ما يُصابون بالدهشة والارتباك؛ فعندما يقوم مَن أتحدث إليه بتبديل لغوي مفاجئ على نحو غير متوقَّع، فإنني لا أركِّز تمامًا مع ما يقوله. يُظهِر هذا ببساطة مدى عدم تفعيل اللغة الأخرى عندما يكون المرء في وضعٍ أحادي اللغة.

عندما يكون المستمع، أو أحد المستمعين، على درايةٍ بلغة المتحدِّث الأخرى، يمكنه عرض الترجمة المقابلة في لغة الحديث؛ وهذه طريقة شائعة في الدول المتعددة اللغات؛ حيث يفهم الناس عادةً كثيرًا من اللغات، حتى إن فضَّلوا عدم الحديث بها، ويكون لديهم استعدادٌ لتقديم بعض المساعدة. فقد سمعتُ في إحدى المرات أستاذًا أمريكيًّا يقول في لقاءٍ معه في برنامج إذاعي فرنسي: Il n’est pas ruthless (أنا لست شخصًا قاسيًا). تدخَّلَ المقدِّم على الفور، الذي كان يريد أن يفهم المستمعون ما يُقال في المقابلة، وقال التعبير الفرنسي المقابل sans scrupules. فقال الأستاذ: Oui … ثم واصَلَ ما يقوله.

إذا بدا أن المستمع لا يفهم اللغات الأخرى للمتحدث الثنائي اللغة، إذًا فإن التبديل اللغوي لا بد أن يكون مصحوبًا بشرح؛ فيقول المرء الكلمة أو التعبير باللغة الأخرى (الثانوية)، وربما يسبقها بعبارة مثل: «باللغة … نقول …»، ثم يستكمل حديثه. بالطبع لا يمكن أن يحدث هذا طوال الوقت؛ لأنه يجعل التفاعل بطيئًا، وربما لا يستحسنه المستمعون كثيرًا.

(٣) التداخُل

على الرغم من حقيقة أن الأشخاص الثنائيي اللغة يريدون أحيانًا إقصاء لغاتهم الأخرى عند الحديث أو الكتابة في وضعٍ أحادي اللغة، وعلى الرغم من أنهم قد يستبعدون استخدامَ كل أشكال التبديل اللغوي، يظل من الممكن أن تدخل لغات أخرى في شكل تداخُلات؛ وهي انحرافات عن اللغة المستخدمة في الحديث (أو الكتابة) تنشأ من تأثير اللغات المعطلة. تصاحب هذه التداخلات، التي تُسمَّى أيضًا التحوُّلات، الأشخاص الثنائيي اللغة طوال حياتهم، على الرغم من اجتهادهم في تجنُّبها؛ فهي بمثابة «الرفيق الخفي» غير المرحَّب به للأشخاص الثنائيي اللغة؛ إذ توجد دومًا على الرغم من محاولاتهم التخلُّص منها.

يوجد نوعان من التداخلات: التداخلات الثابتة، التي تعكس آثارًا دائمة لإحدى اللغات على اللغة الأخرى (مثل لكنة دائمة، وتوسُّعات في معنى كلمات معينة، وتركيبات نحوية معينة، إلى آخِره)، والتداخلات المتغيِّرة، وهي تداخُلات مؤقتة لِلُّغة الأخرى، كما في حالة الخطأ العرضي في نمط النبر في إحدى الكلمات بسبب قواعد النبر في اللغة الأخرى، أو الاستخدام المؤقت لتركيب نحوي مأخوذ من اللغة، أو اللغات، غير المستخدمة. في الأقسام التالية، لن أُفرق بين نوعَي التداخل؛ فيصعب عادةً التمييز بينهما، إلا في حالة اللكنة، التي تكون في معظم الأحيان تداخُلًا ثابتًا.5 سنركِّز في حديثنا على التداخُلات المتغيرة؛ وهي عناصر من اللغة الأخرى تتسرَّب إلى لغة الحديث أو الكتابة، في معظم الأحيان دون إدراك الشخص لذلك؛ فلا يدرك هذا إلا عندما يسأله المستمع عن معنى كلمة معينة، أو يصحِّح له التركيب النحوي، أو ينظر إليه بنظرة غريبة، بحيث يدرك بعد ذلك أن اللغة الأخرى قد تسرَّبت إلى اللغة المستخدمة. فعادةً يشعر المرء حينها بأنه «متأكد» من أن هذه الكلمة هي كلمة في اللغة المستخدمة، أو أن التركيب النحوي كان صحيحًا، في حين أن الأمر ليس كذلك في الحقيقة. (لقد كنتُ مهتمًّا برؤية كمِّ التداخُلات التي عثر عليها محرِّر هذا الكتاب بعدما أرسلتُ المسودة إلى الناشر. كان عددها قليلًا على الرغم من أنني كنتُ أعمل في وضع أحادي اللغة، وأحاول الكتابة بالإنجليزية فقط، باستثناء الأمثلة بالطبع.)

من المهم في هذه المرحلة تمييز التداخلات عن أشكال الانحرافات اللغوية الأخرى، التي تكون نتيجة لمستوى الطلاقة الذي يصل إليه المرء في إحدى اللغات؛ فهذه الانحرافات التي تحدث داخل اللغة الواحدة تعكس لغة الفرد الوسيطة (أي مستوى المعرفة اللغوية الذي يصل إليه في اللغة)، وقد تضم تعميماتٍ مفرطةً (مثل معاملة الأفعال الشاذة كما لو كانت قياسية)، وتبسيطاتٍ أيضًا (مثل إسقاط العلامات الداخلة على الجمع والزمن، وحذف الكلمات الوظيفية، وتبسيط التركيب النحوي)، بالإضافة إلى التصحيحات المفرطة وتجنُّب كلمات وتعبيرات معينة.

يمكن أن تحدث التداخلات على كل مستويات اللغة. على المستوى الأول الخاص بالنطق (الصوتيات والوزن) تُعتبَر «اللُّكْنة الأجنبية» انعكاسًا مباشِرًا لتداخُل لغة أخرى. قد تكون آثار اللُّكْنة دائمةً (فهي ببساطة اللكنة التي تكون لديك عند التحدُّث بلغة معينة)، أو مؤقتةً (مثل الأخطاء العرضية في نطق أحد الأصوات، أو النبر على جزء خطأ في الكلمة، أو تنغيم إحدى العبارات بناءً على لغتك الأقوى، وهكذا). إن هذه الأخطاء العرضية، التي يزيد عددها عادةً في حالة التعب والضغط العصبي، «تفضح أمرك» عادةً كمتحدِّث لهذه اللغة الأخرى؛ وعندها قد يسألك المستمع إليك عن اللغة الأخرى التي تتحدَّث بها، أو ربما يخبرك — بلطف بالغ — بمدى إجادتك التحدُّث باللغة التي تستخدمها.

تشبه التداخُلاتُ على مستوى الكلمة (الكلمات أو التعبيرات الفردية) عملياتِ الاقتباس المعجمي التي تحدَّثْنا عنها في الفصل السابق. في الواقع يمكن تفسيرها بآليات نفسية لغوية مشابهة، على الرغم من أن هذا لم يخضع لدراسة كافية. فتمامًا مثل الاقتباس، يمكنك إدخال كلٍّ من شكل الكلمة ومعناها، لا إراديًّا بالطبع؛ فنجد مثلًا إحدى السيدات الثنائيات اللغة تتحدَّث بالإنجليزية والفرنسية تقول لابن أخيها الذي يتحدَّث بالإنجليزية فقط: Marc, you’re baving!، فنطقت كلمة baving المأخوذة من الكلمة الفرنسية baver بمعنى «يسيل لعابه» مثل كلمة patting. نظر مارك إلى عمته متحيرًا، فصحَّحت ما قالته على الفور. ومثالٌ آخَر على هذا جملةُ Look at the camion! التي تُنطَق فيها كلمةُ camion الفرنسية بمعنى «شاحنة» كما لو كانت كلمة إنجليزية (مثل كلمة canyon).
يوجد نوعٌ آخَر من التداخل المعجمي أقلُّ وضوحًا — وهو أكثر ما يبغضه الأشخاص الثنائيو اللغة — يشبه التغيير الاقتباسي، حيث يدخل فقط معنى الكلمة ويُضاف إلى كلمة موجودة بالفعل؛ على سبيل المثال: في جملة Look at the corns on that animal، أُضِيف معنى الكلمة الفرنسية cornes (قرون) إلى معنى الكلمة الإنجليزية corn. ومثالٌ آخر على هذا جملةُ Oh, he’s in the stove، التي قالها فتًى أمريكي من أصل نرويجي، عندما سأله شخص غريب عن مكان والده. يأتي التداخُل هنا من الكلمة النرويجية stova، التي تعني حجرة المعيشة.6 في هذين المثالين، تشبه الكلمات في اللغة الأساسية واللغة الثانوية بعضها بعضًا إلى حد كبير (فهي تكاد تكون ألفاظًا متجانسة، عادةً ما يُطلَق عليها عند كتابتها «أشباه النظائر»)، لكن الأمر لا يكون دومًا هكذا، كما نرى في جملة Don’t move the needles on the clock بناءً على الكلمة الفرنسية aiguilles (التي تعني الإبر وعقارب الساعة)، فكان من المفترض استخدام كلمة hands (عقارب). إن حالات الاقتباس العرضي (التغيير الاقتباسي) هذا، قد تحدث كثيرًا في إحدى لغات الأشخاص الثنائيي اللغة؛ لأن الكلمات المنطوقة تكون بالتأكيد من اللغة الأساسية، ويعتقد الشخص الثنائي اللغة أنه يتحدَّث لغةً واحدة فقط، لكن الكلمات تُستخدَم بالمعنى الخطأ. تقول نانسي هيوستن، الكاتبة الثنائية اللغة الكندية الفرنسية، إنها في النهاية تتجنَّب استخدام أشباه النظائر مثل: éventuellement وeventually، وharassed وharassé، لتضمن عدم الخلط بينهما.7
تحدث التداخُلات كذلك على مستوى التعبيرات الاصطلاحية والأمثال كثيرًا جدًّا، ويكون من الصعب للغاية إقصاؤها. قد يترجمها ثنائيو اللغة حرفيًّا من اللغة الأخرى إلى اللغة المستخدمة في الحديث وهم غير مدركين أن المعنى قليلًا ما يكون واضحًا. ومن ثَمَّ، تكون جملة I’m telling myself stories (أنا أحكي لنفسي قصصًا) هي الترجمة الإنجليزية الحرفية للتعبير الفرنسي je me raconte des histories، وكان ينبغي للمتحدث الثنائي اللغة أن يقول: I’m kidding myself (أنا أخدع نفسي).8 يوجد مثال آخَر وهو الترجمة الحرفية لعبارة as alike as two peas in a pod (متشابهان مثل حبَّتَيْ بازلاء في قرن بازلاء)، التي لن يكون لها أي معنًى في الفرنسية، ولا بد على المرء أن يقول: comme deux gouttes d’eau (حرفيًّا بمعنى «مثل قطرتَيْ ماء»). وهذان مثالان على اقتراب الترجمة الإنجليزية الحرفية لتعبيرين ألمانيين من المعنى الأصلي، لكنها لا تعبر تمامًا عنه: Winter is before the door (الشتاء قبل الباب) هي ترجمة حرفية لجملة Winter steht vor der Tür والتعبير الإنجليزي الصحيح المقابل لها هو Winter is around the corner (اقترب فصل الشتاء). وجملة He is laughing in his fist (يضحك في قبضته) هي الترجمة الحرفية لجملة Er hat sich ins Fäustchen gelacht والتعبير الإنجليزي الصحيح المقابل لها هو He was laughing up his sleeve (يضحك في سره).9
تحدث التداخلات على مستوى التركيب النحوي كثيرًا أيضًا، مثلما يحدث عندما يستخدم المتحدثون الثنائيو اللغة نمطَ ترتيب الكلمات في إحدى اللغات في اللغة الأخرى، أو عندما يضعون محددات في أماكن لا توجد فيها عادةً، أو يستخدمون حرفَ جر خطأ (مرة أخرى بسبب اللغة المعطَّلة)، وهكذا. على سبيل المثال: إذا قال ثنائيو اللغة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية عبارة on the page five بدلًا من on page five، فإن هذا على الأرجح يكون بسبب تأثُّرهم بالمقابل الفرنسي sur la page cinq. ينطبق الأمر نفسه على جملة I saw that at the television استنادًا إلى جملة J’ai vu ça à la television.
أما فيما يتعلَّق بالتداخلات التي تحدث في الكتابة، فإن كثيرًا منها يشبه تلك التي تظهر في اللغة المنطوقة على مستويات لغوية مختلفة (على سبيل المثال: على مستوى المفردات والنحو). مع هذا، توجد من ضمن الأشياء الخاصة بالكتابة الاختلافاتُ الإملائية بين اللغات؛ على سبيل المثال: تمثِّل عادةً الألفاظُ شبه المتجانسة، وهي الكلمات التي تُكتَب على نحوٍ متشابه إلى حدٍّ كبير في لغتين، مشكلةً. فيجب على كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة في الإنجليزية والفرنسية التوقُّفُ للحظةٍ والتفكيرُ في عدد الحرف d الموجود في كلمة address (فيوجد حرف d واحد فقط في الكلمة الفرنسية)، وعدد الحرف p الموجود في كلمة development (حيث يوجد حرفان في الكلمة الفرنسية)، وإذا ما كانت كلمة rhythm تحتوي على حرفَيْ h أم لا (فيوجد حرف h واحد فقط في الكلمة الفرنسية)، وهكذا. أنا شخصيًّا أحيي اختراع أدوات التدقيق النحوي والإملائي في برامج معالجة الكلمات، خاصةً لِلُّغات الصعبة مثل الفرنسية ذات القواعد النحوية المعقَّدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن برامج معالجة الكلمات لا تنتبه إلى الأخطاء في المستويات الأعلى من استخدام اللغة، مثل الأسلوب ومستوى الرسمية؛ فهذه الأمور يمكن أن تكون مختلفةً إلى حدٍّ ما بين لغتين (على سبيل المثال: عبارات التحية والوداع في الخطابات، وأسلوب التقارير، إلى آخِره)، ويمكننا بسهولة أن نكتب شيئًا خطأ على أساس ما نعرفه من لغةٍ أخرى.

(٤) التداخُلات والتواصُل

قد يكون للتداخُلات التي يقوم بها الأشخاص الثنائيو اللغة عند التواصل مع الآخرين بلغة واحدة تأثيراتٌ مختلفة على ما يفهمه مستمِعوهم (أو قرَّاؤهم) الأحاديو اللغة. فعلى مستوى بنية الجملة، اقترح أوريل فاينريش ثلاثَ فئات سنتحدَّث عنها بالترتيب، من أقلها تأثيرًا إلى أكثرها تأثيرًا. في الفئة الأولى، يكون نمط التداخل مسموحًا به في اللغة الأساسية، وليس له أي تأثير سلبي على الفهم؛ ومن ثَمَّ فإن الشخص الثنائي اللغة في اللغتين الإنجليزية والروسية الذي يستخدم ترتيب الفاعل ثم الفعل ثم المفعول به في اللغة الروسية، بناءً على ترتيب الكلمات المتعارَف عليه في اللغة الإنجليزية، يكوِّن جملةً روسية صحيحة تمامًا، على الرغم من أن هذا الترتيب ليس ضروريًّا في الروسية. وفي الفئة الثانية من التداخلات يُفهَم معنى الجملة ضمنيًّا؛ يذكر فاينريش الثنائي اللغة في اللغتين الألمانية والإنجليزية، الذي يقول: yesterday came he، بناءً على التركيب الألماني gestern kame er. فعلى الرغم من أن الجملة الإنجليزية ليست صحيحة نحويًّا، فإنه يمكن فهم معناها. وأخيرًا، في الفئة الثالثة ينتج عن التداخُل معنًى غيرُ مقصود، ومن ثَمَّ تتأثَّر عمليةُ التواصل.10 وأريد أن أذكر هنا مثالًا سبَّبَ لي مشكلات في سنوات المراهقة كشخص ثنائي اللغة؛ فكنتُ أقول لأصدقائي الفرنسيين: Je te manqué، بناءً على التعبير الإنجليزي I miss you. كان أصدقائي ينظرون إليَّ بتعبيرٍ ينمُّ عن الحيرة؛ لأنني في الحقيقة كنت أخبرهم بأنهم هم الذين يشتاقون إليَّ، بدلًا من أن أقول لهم إنني أنا الذي أشتاق إليهم؛ إذ كان ينبغي لي أن أقول Tu me manques.
نظرًا لأن الأمثلة على فئتَيْ فاينريش الأولى والثانية عن التداخُل، يبدو أنها تحدث بتواتُر أكبر، فإن هذه التداخُلات نادرًا ما تؤثِّر على عملية التواصل. فعلى المدى الطويل، سيطوِّر بطبيعة الحال الأشخاصُ الثنائيو اللغة الذين يحتاجون إلى التواصُل باستخدام لغة معينة، سواء أكان هذا مُحادَثةً أم كتابةً، مهاراتٍ كافيةً في هذه اللغة من أجل التواصُل على نحو مُرْضٍ. فلن تكون التداخلات التي تحدث كثيرة على هذا النحو، بالإضافة إلى أن الأشخاص الأحاديي اللغة الذين يعيشون مع الثنائيي اللغة أو يعملون معهم، يعتادون على استخدامهم لغةً متأثِّرة بلغتهم الأخرى؛ فيعتادون على سماع لُكْنة، وبنى جُمْلٍ غريبة، وكلمات غير مناسبة إلى حدٍّ ما، وهذا يجعل عملية التواصل أسهل. يوجد مثال مثير للاهتمام على هذا في الأشخاص الثنائيي اللغة في اللغتين الإنجليزية ولغة الإشارة الأمريكية، الذين يستمرون في استخدام تعبيرات الوجه المستخدَمة في لغة الإشارة عند تواصُلهم باللغة الإنجليزية في وضعٍ أحادي اللغة. يذكر بول بريستون استخدامَه أحيانًا التواصُل البصري الطويل، المهم للغاية في ثقافة الصمِّ، لكنه يجعل غيرَ المصابين بالصَّمَم يشعرون بالانزعاج. بالإضافة إلى ذلك، يَستخدِم التعبيرَ بتقويس الحاجبين وتقطيبهما، وهو التعبير المستخدَم لطرح أسئلة «ماذا وأين ومَن وأي» في لغة الإشارة الأمريكية، وهو أحد تعبيرات الوجه الذي يمكن أن يُفهَم خطأً على أنه يعبِّر عن الاتهام أو الغضب لدى الأشخاص غير المصابين بالصَّمَم.11
صرَّح كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة بارتكابهم مزيدًا من الأخطاء (كثير منها عبارة عن تداخُلات)، عندما يُصابون بالتعب أو يتعرَّضون لضغط عصبي؛ فتبدأ بِنَى الجُمَل التي يتحكَّمون فيها عادةً، والنهاياتُ الصرفية التي يُدرِجونها عادةً، والنبرُ الذي يجيدونه دومًا، جميعها في الانهيار في حالات معينة. تشرح نانسي هيوستن هذا بقدر من الفكاهة فتقول:
لا يَثْنِيك استخدامُ لغة أجنبية عن الثرثرة فحسب، بل أيضًا عن التحذلق؛ فهو يمنعك من أن تأخذ نفسك على محمل الجد … فعندما أبدأ في الصراخ على أطفالي، تسوء لكنتي ويتقلَّص حجم مفرداتي، فيجعلني هذا أنفجر في الضحك وأفقد المصداقية في غضبي، ولا يَسَعني إلا أن أهدأ وأضحك.12
توجد نقطة أخيرة تتعلَّق باتجاه التداخلات؛ فإذا كانت هناك لغةٌ مهيمنة لدى ثنائيي اللغة، فإن اتجاه التداخُل يكون مباشِرًا؛ فتؤثِّر اللغة الأقوى على اللغة الأضعف، سواء أكان على نحوٍ دائم (ربما في شكل لُكْنة)، أم مؤقَّتًا (وهو ما أطلقنا عليه التداخلات المتغيِّرة). لكن إذا كانت لِلُّغتين الأهميةُ نفسها بنحوٍ أو بآخَر (على الأقل في الاستخدام اليومي)، فقد تحدث التداخلات في أيٍّ من الاتجاهين. يشتهر الباحث البريطاني فيفيان كوك بأبحاثه التي تُظهِر كيف يمكن أن تؤثِّر معرفةُ لغة ثانية واستخدامُها على اللغة الأولى؛13 فعندما تحدث التداخلات في الاتجاهين، قد يصرِّح بعض الأشخاص الثنائيي اللغة بأنهم لا يتقنون اللغتين جيدًا، أو بأن كل لغة من لغاتهم تؤثِّر في الأخرى. تعبِّر إيفا هوفمان خيرَ تعبير عن هذا في كتابها «فُقِد في الترجمة»، فتقول:
عندما أتحدَّث بالبولندية الآن، فإنها تكون غير نقية وتتخلَّلها وتؤثِّر فيها الإنجليزيةُ الموجودة في ذهني. فكل لغة تغيِّر الأخرى، وتختلط بها وتنقِّحها؛ فكل لغة تجعل الأخرى تشبهها. وأنا مثل أي شخص آخَر نتاجُ مجموعِ لغاتي.14
أكَّدْتُ في كثير من كتاباتي على ما أطلق عليه اسم «النظرة الثنائية اللغة أو الشمولية للثنائية اللغوية»، التي ترى أن الشخص الثنائي اللغة هو كلٌّ متكامِل لا يمكن تقسيمه بسهولةٍ إلى جزأين منفصلين.15 فالشخص الثنائي اللغة لا يمثِّل مجموعَ شخصين (أو أكثر) كاملين أو غير كاملين من أحاديي اللغة، وإنما هو يمثل كيانًا لغويًّا خاصًّا وفريدًا. ويُنتِج التعايشُ والتفاعُل المستمر الذي يحدث بين اللغات الموجودة لدى الشخص الثنائي اللغة نظامًا لغويًّا مختلفًا لكنه متكامل.16 وأشبِّه هذا بقافز الحواجز في ألعاب القوى الذي يجمع بين الكفاءتين؛ قفز حواجز عالية، والعَدْو، لكنه ليس عدَّاءً فقط ولا قافزًا لحواجز عالية فقط.

إجمالًا، توجد آثار اللغة الأخرى، خاصةً في شكل تداخلات، في لغة الأشخاص الثنائيي اللغة، لكنها لا تؤثِّر عادةً على عملية التواصل. ويمكنني القول حتى إنها تجعل ما يُقال مميزًا وأقل نمطيةً. وكما سنرى، فإن كتابات مؤلِّفين ثنائيي اللغة، مثل جوزيف كونراد وصامويل بيكيت، تحتوي على آثار من لغات أخرى؛ فالتداخُلات تُثْرِي كتاباتهم كثيرًا وتساعد في جعلها مميزةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤