الفصل التاسع

المواقف والمشاعر تجاه الثنائية اللغوية

يوجد لدى كل شخص تقريبًا تعليق ما على الثنائية اللغوية. إليك مقتطفات من آراء ثلاثة من الأشخاص الثنائيي اللغة:

ثنائي اللغة في الهولندية والإنجليزية: «تمكِّنك الثنائية اللغوية من التواصل مع أشخاص من دول مختلفة.»

ثنائي اللغة في لغة الإشارة الأمريكية واللغة الإنجليزية: «تعطيك الثنائية اللغوية وجهةَ نظر مزدوجة عن العالَم.»

ثلاثي اللغة في الألمانية والفرنسية والإنجليزية: «توجد لديَّ ميزةُ القدرة على قراءة كتب متنوعة أكثر، وعلى السفر، وعلى التحدُّث مع الناس مباشَرةً.»1

سنبدأ بتناول وجهات نظر الأشخاص الثنائيي اللغة عن أنفسهم (الإيجابية والسلبية)، ثم ننتقل إلى نظرة الأشخاص الأحاديي اللغة إلى الثنائيي اللغة.

(١) مميزات الثنائية اللغوية في نظر الأشخاص الثنائيي اللغة

إحدى المميزات الكبرى التي يُعبَّر عنها دومًا قدرةُ الأشخاص الثنائيي اللغة على التواصُل مع أشخاص مختلفين من ثقافات مختلفة وفي دول مختلفة.2 بالتأكيد تمكِّن الثنائية اللغوية المرءَ من التواصل مع كثير من الأشخاص، خاصةً إذا كانت اللغات التي يستخدمها هي من أكثر اللغات الشائعة في العالم. كذلك إذا لم يتقن المرء إحدى اللغات بالقدر الكافي، أو لم يكن يعرفها على الإطلاق، فإن عملية التواصُل تكون شديدةَ الصعوبة. فعندما عُيِّن مدرب كرة القدم الإيطالي فابيو كابيلو لتدريب المنتخب القومي الإنجليزي، تساءل كثيرون في وسائل الإعلام عن كيف سيتواصل مع أعضاء الفريق الذي سيدرِّبه نظرًا لكون لغته الإنجليزية ضعيفةً، ووَرَد عنه أنه قال أشياء من قبيل: At this moment, my English is not so well وI am very proud and hon-or-ried («إن لغتي الإنجليزية حاليًّا ليست على ما يرام»، و«أنا أشعر بالفخر الشديد والاعتزاز»).3 وقال إنه سيتعلم الإنجليزية على نحوٍ مكثف، لكنَّ الصحفيين كانوا يشكُّون في الأمر. (ويسعدني القول إنه بعد بضعة أشهر حقَّقَ تقدُّمًا جيدًا في هذا الشأن.) وعلى صعيدٍ أكثر جديةً، توجد قصة ماريو كابيكي، أحد الحاصلين على جائزة نوبل في الطب، الذي اجتمع بعد فراق في سن السبعين بأخته غير الشقيقة مارلين بونيلي، البالغة من العمر تسعةً وستين عامًا، التي لم يَرَها منذ الحرب العالمية الثانية، أيْ منذ ما يقرب من ستين عامًا؛ فقد انفصل عنها وعن والدته في أثناء الحرب، وتحتم عليه الاعتناء بنفسه في ظروفٍ بالغةِ الصعوبة عندما كانت والدته معتقلةً في معسكر اعتقال داخاو. اجتمع مرةً أخرى بوالدته أخيرًا في عام ١٩٤٦ وانتقلا إلى الولايات المتحدة، لكنْ دون أخته غير الشقيقة، التي كانت حينها في النمسا. لم يَرَ كابيكي أخته مرةً أخرى إلا في عام ٢٠٠٨، في ظروف مؤثرة للغاية. كانت المشكلة عدم وجود لغة مشتركة بينهما؛ فلم تكن أخته تتحدَّث بالإنجليزية، ولم يكن يتحدَّث هو الألمانية، لغةَ أخته الأساسية.

ثمة حقيقة ترتبط بالقدرة على التواصُل مع عدد أكبر من الناس؛ وهي أن الثنائية اللغوية تسمح للمرء بقراءة المزيد من الكتب (هذا بالطبع إذا كان يجيد القراءة بعدة لغات)، وهي تسمح، لبعض الأشخاص الثنائيي اللغة، بمزيدٍ من الوضوح في الحديث وثراءٍ أكثر في المفردات. توجد ميزة لغوية أخرى، وهي أن معرفة عدة لغات يبدو أنها تساعد المرء في تعلُّم لغاتٍ أخرى؛ فقد تحدَّث كثير من الأشخاص الثنائيي اللغة عن هذا الأمر، ويبدو زعمُهم منطقيًّا؛ بدايةً، توجد حقيقة تقول إن اللغات الجديدة قد ترتبط باللغات التي يعرفها المرء بالفعل، ويسهل هذا عملية التعلُّم (فمعرفة اللغة الفرنسية ستساعدك في تعلُّم الإسبانية، ومعرفة الهولندية ستسهِّل عليك تعلُّم الألمانية). وتوجد أيضًا حقيقةٌ تقول إن العقل البشري ينظِّم اللغات، من حيث الصوت والبنية والصرف وغيرها، بطريقة تساعد في تكوين صلاتٍ بينها؛ ويمكن لهذه الصلات بدورها أن تساعد على نحوٍ كبير في اكتساب لغةٍ جديدة واستخدامها.

يبدو أن الثنائية اللغوية تشجِّع أيضًا على التفكير التباعُدي؛ فيُقال دومًا إن الأطفال الثنائيي اللغة يستطيعون إبعاد أنفسهم عن شكل إحدى الكلمات في سنٍّ مبكرة للغاية، ويستطيعون فهم أن الشيء يمكن أن يُسمَّى بعدة طرق مختلفة ويخدم أغراضًا مختلفة. وبالإضافة إلى المميزات المعرفية التي يحظى بها الأشخاص الثنائيو اللغة الأكبر سنًّا، التي ذُكِرت في الفصل السابق، فإن الثنائية اللغوية لها فوائد معرفية للبالغين؛ ففي إحدى الدراسات، طلب الباحث أناتولي كاركورين من ثنائيي اللغة وأحاديي اللغة أداءَ مهامَّ متنوعة، مثل تخيُّل مواقف صعبة وتحديد المشكلات التي قد يواجهونها، أو رسم صور باستخدام أشكال غير مكتملة أو باستخدام مثلثات. حصل من هذه المهام على قياسات مختلفة للطلاقة والأصالة والتفصيل والمرونة، واستنتج أن الأشخاص الثنائيي اللغة كانوا أكثر تفوُّقًا في مهام التفكير التباعُدي التي تتطلَّب القدرةَ على التفعيل والمعالَجة في الوقت نفسه لعدة مفاهيم لا علاقةَ بينها من فئات متباعدة. فقد تفوَّقت مجموعة الأشخاص الثنائيي اللغة على تلك الخاصة بالأحاديي اللغة في ثلاثة قياسات: الطلاقة والتفصيل والمرونة، أما الفئة الوحيدة التي كان أداؤهم فيها مطابِقًا لأداء الأشخاص الأحاديي اللغة فهي الأصالة، التي تتمثَّل في القدرة على ابتكارِ أفكارٍ غير شائعة أو أفكار جديدة أو فريدة بالكامل.4
يُذكَر عادةً البُعْدان الاجتماعي والثقافي للثنائية اللغوية بوصفهما ميزة حقيقية للذين يعرفون أكثر من لغة ويستخدمونها في حياتهم اليومية. يُقال إن الثنائية اللغوية تشجِّع على توقُّد الذهن وتفتُّحه، وتوفِّر وجهات نظر مختلفة للحياة، وتقلِّل من الجهل الثقافي. تُذكَر ميزةٌ أخرى أكثر نفعًا، وهي أن الثنائية اللغوية قد تؤدِّي إلى فرص عمل أكثر وحَراك اجتماعي أكبر، وربما تمثِّل ميزة حقيقية أيضًا في الوظيفة الحالية للمرء. وأنا أعرف أشخاصًا عُرِضت عليهم وظيفة معينة، أو مهام جديدة، لمجرد معرفتهم بلغة أو لغتين إضافيتين. في دراسة كبرى أجراها الاتحاد الأوروبي في ٢٩ دولة في عام ٢٠٠٦، ذُكِر عاملُ الوظيفة عدة مرات في إجابات الأفراد على هذا السؤال: «ما أسبابك الأساسية لتعلُّم لغة جديدة؟» فأجاب ثلث المشاركين: «لأستخدمها في العمل (بما في ذلك السفر إلى الخارج للعمل).» وقال ربع المشاركين: «لأتمكَّن من العمل في دولة أخرى.» و«لأحصل على وظيفةٍ أفضل في دولتي.»5
من المميزات الأخرى التي طُرِحت للثنائية اللغوية أنها تسمح للمرء بمساعدة الآخرين، وتُوجِد صلةً مع الأشخاص الثنائيي اللغة الآخَرين، وأحيانًا تسمح للمرء بفهم ما قد لا يفهمه الآخَرون. ويلخِّص التقرير النهائي لدراسة الاتحاد الأوروبي كثيرًا من المميزات المذكورة آنفًا:
توجد بلا شك فوائد لمعرفة لغات أجنبية. فاللغة هي السبيل إلى فهم الطرق الأخرى للحياة، الأمر الذي يخلق بدوره مساحةً للتسامُح بين الثقافات. بالإضافة إلى ذلك، تسهِّل المهاراتُ اللغوية العملَ والدراسةَ والسفرَ، وتسمح بالتواصُل بين الثقافات.6
تأثَّرت كثيرًا عندما تلقَّيْتُ إفادة من شخص ثلاثي اللغة في الألمانية والفرنسية والإنجليزية، أجاد التعبير عن الأمر في سطور قليلة:

ساعدني كوني ثلاثي اللغة بطرق عديدة؛ فقد حقَّقتُ مكانةً أعلى في بيئة عملي، وطوَّرْتُ إمكانياتي اللغوية، وأصبحتُ أكثرَ تفتُّحًا تجاه الأقليات وأكثر وعيًا بمشكلاتهم اللغوية، وأصبحتُ أستمتع بأشكال مختلفة من الأدب، وشعرتُ بقدر من الفخر لقدرتي على القراءة بثلاث لغات مختلفة … فلا أشعر أبدًا بالملل في حياتي؛ لأن لديَّ أكثر من مجرد لغة واحدة. فقد ساعدني كوني ثلاثيَّ اللغة على فهم الآخَرين ومساعدتهم.

تُعتبَر جميع المميزات التي ذُكِرت آنفًا مهمةً في الحياة اليومية، ونوعية الحياة، وتُظهِر بوضوح أهميةَ تشجيع الثنائية اللغوية ودعمها. إلا أن هذه المميزات لا يمكن أبدًا مقارَنتها باللحظات الاستثنائية التي تنقذ فيها الثنائيةُ اللغوية حياةَ الأفراد. إليك مثالين على هذا: أخبرني ذات مرة شخصٌ ثلاثي اللغة في البنغالية والأردية والإنجليزية، أنه في أثناء حرب استقلال بنجلاديش عن باكستان في عام ١٩٧١ قبضت عليه يومًا ما فصيلةٌ باكستانية بنجابية/أردية، وكانت على وشك إطلاق النار عليه. وعلى الرغم من كونه بنغالي الأصل، فقد تمكَّن من إقناعهم بالإفراج عنه؛ لأنه أظهَرَ لمعتقِلِيه أنه يستطيع التحدُّث بالأردية، ويمكنه تلاوة بعض آياتٍ من القرآن بالعربية. أما المثال الثاني فيتعلَّق بأوجست بوني، وهو مواطن سويسري منحته دولة إسرائيل وسامَ «الصالحين بين الأمم»، بسبب مخاطرته بحياته من أجل إنقاذ اليهود في أثناء فترة المحرقة النازية. كان بوني معلِّمًا للمرحلة الابتدائية، وعمل مع الصليب الأحمر خلال الحرب العالمية الثانية، وذهب إلى فرنسا لإقامة منازل للأطفال الذين فقدوا والدَيْهم، وكان كثير منهم من اليهود الذين أُخِذوا من معسكرات الاحتجاز. وفي صباح أحد الأيام جاء أفراد من شرطة مدينة فيشي المؤيِّدة للألمان إلى منزله، وطلبوا منه تسليم الأطفال اليهود المقيمين عنده (كان ١٢ طفلًا منهم نائمين بالفعل في حجرة الطعام). كان بوني يجيد التحدُّث بالفرنسية (فقد كان ألمانيًّا سويسريًّا)، واستطاع تأجيل الأمر عن طريق إقناع الضباط بالعودة إلى القرية والاتصال بمقرهم؛ وفي أثناء غيابهم أيقَظَ الأطفال وأرسَلَهم سريعًا إلى المزارع المحيطة بالقرية، وعندما عادت الشرطة أخبرهم بوني أن الأطفال قد ذهبوا. كان قد أعَدَّ حقيبةَ ملابسه ظنًّا منه أنه سيذهب إلى السجن، لكنْ لم يحدث له شيء، واستطاع مواصَلة عمله الذي يُعَدُّ عملًا يُحتذَى به حتى نهاية الحرب.

(٢) نظرة الأشخاص الثنائيي اللغة لعيوب الثنائية اللغوية

يرى الأشخاص الثنائيو اللغة الذين أجريتُ عليهم دراساتي، أن عيوب الثنائية اللغوية أقل عددًا من مميزاتها. في الواقع عندما سألتُ مجموعة من الأشخاص الثنائيي والثلاثيي اللغة عن تلك العيوب، أجاب ٥٢ في المائة من الثنائيي اللغة و٦٧ في المائة من الثلاثيي اللغة بعدم وجود أي عيوب.7 على الرغم من ذلك، توجد بعض الجوانب السلبية للثنائية اللغوية التي سأذكرها فيما يلي:
أولًا: يقول أحيانًا الأشخاص الثنائيو اللغة الذين لا يجيدون لغتهم الأخرى إجادة تامة إنهم يصابون بالتعب والإحباط من اضطرارهم لاستخدامها (في التحدُّث أو الكتابة)، وإنهم يرتكبون أخطاء طوال الوقت عند فعل هذا. يذكر الكاتب ريتشارد رودريجيز هذا الجانب في كتابه «نهم الذاكرة»، عند سرده لقصة كيفية تعامُل والده الذي يتحدَّث بالإسبانية مع اللغة الإنجليزية في أسرته:
على الرغم من تحسُّن لغته الإنجليزية بعض الشيء، فقد كان يُؤثِر الصمت؛ فكان قليل الحديث للغاية في وقت العشاء. وفي إحدى الليالي لم يتمالك أطفالُه وزوجتُه أنفسَهم وضحكوا على نطقه الإنجليزي المشوَّه لصلاة الشكر الكاثوليكية قبل تناوُل الطعام. ومنذ ذلك الحين جعل زوجته هي التي تتلو الصلاة في بداية كل وجبة، حتى في المناسبات الرسمية عند وجود ضيوف في المنزل؛ فقد أصبح صوتها هو الصوت الرسمي للأسرة.8

يخبرنا رودريجيز بأن والده لم يكن خجولًا، لكنه لم يكن ببساطة يتقن الإنجليزية مثل الإسبانية؛ فعندما كان يتحدَّث بالثانية كانت تظهر في حديثه ثقةٌ وسلطةٌ لا تظهران عند حديثه بالإنجليزية.

يوجد عيب آخَر يذكره ثنائيو اللغة يتعلق بتأثير اللغة الأقوى على اللغة الأضعف؛ فيقول بعض الأشخاص الثنائيي اللغة إنهم عندما يتحدَّثون كأحاديي اللغة عادةً ما يعانون لتجنُّب عمليات التبديل اللغوي والاقتباس، ويضطرون إلى تحمُّل التداخلات التي يزيد عددها كلما أصابهم التعب أو العصبية أو الغضب أو القلق. في الواقع، أدَّى الخوف من «تأثُّر» اللغات بعضها ببعض إلى عزوف الناس عن تعلُّم لغة أخرى أو استخدامها على الإطلاق، حتى عندما تشجِّعهم بيئتهم على فعل هذا. يوجد مثال جيد على هذا يتمثَّل في الكاتب والشاعر والفنان السريالي الفرنسي أندريه برتون، الذي عاش لبعض الوقت في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية (فقد عمل في مكتب المعلومات الحربية الأمريكي)؛ فيُقال إنه رفض الحديث أو الكتابة بالإنجليزية، على الرغم من أنه كان يفهمها جيدًا. وكان السبب الذي أعطاه لذلك أنه لم يكن يريد أن تتأثَّر لغته الفرنسية باللغة الإنجليزية. نادرًا ما يحرص ثنائيو اللغة على نقاء لغاتهم مثل برتون، لكن في الواقع يحرص البعض على عدم تسرُّب التداخُلات إلى لغاتهم، ويؤدِّي هذا إلى التأنِّي في الحديث، وأحيانًا التردُّد، فيبدو الكلام تقريبًا غيرَ طبيعي على الرغم من صحته.

يذكر بعض الأشخاص الثنائيي اللغة أنهم يواجهون صعوبات في التكيُّف مع المواقف الجديدة والبيئات الجديدة التي تتطلَّب استخدامَ إحدى اللغات أكثر من الأخرى (انظرْ مبدأ التكامل). فهم يشعرون أنهم لا يتوافر لديهم وقتٌ للتأقلم، ويعانون مع اللغة التي تصبح على نحوٍ مفاجئ في الطليعة. فأيٍّ من الأشخاص الثنائيي اللغة اضطر فجأةً، حتى لو بعد رحلة قصيرة، إلى التأقلم مع بيئة يستخدم فيها لغة جديدة؛ سيتعاطف مع هذا. وكذلك، يكون الحديث على الملأ صعبًا للغاية إذا استخدَمَ المرءُ اللغةَ «الخطأ»؛ سواء أكانت اللغة الأضعف أم اللغة التي تُستخدَم عادةً في المواقف الرسمية.

يوجد عيب آخَر يذكره ثنائيو اللغة، وهو أنه يُطلَب منهم عادةً التصرُّف كمترجمين شفويين أو تحريريين، ويجد كثير منهم أن هذا أمر صعب ومتعب (كما ذكرتُ فيما سبق). وبما أنهم قد لا يريدون رفْضَ أداء خدمةٍ طُلِبت منهم، فإنهم عادةً ما يعانون طوال أداء هذه المهمة، ثم يعبِّرون عن كمِّ الضغط الذي تعرَّضوا له. قد تزيد صعوبةُ الموقف إذا تحتم على الشخص الثنائي اللغة العمل كوسيط بين ثقافتين بينما يكون متورطًا عاطفيًّا في الموقف. يقدِّم لنا بول بريستون، الذي أجرى مقابلة مع عدد من الأشخاص الثنائيي اللغة في اللغة الإنجليزية ولغة الإشارة الأمريكية، وهم أبناء وبنات لوالدَيْن أصَمَّيْن، إفادةً واقعية عن سيدة اضطرت إلى الترجمة الشفوية في جنازة والدها، بسب عدم وجود شخص آخَر لديه هذه القدرة:
لم أكن أريد فعل هذا، لكني اضطررتُ إلى فعل ذلك من أجل والدتي؛ إذ لم يوجد شخص آخَر يمكنه فعل هذا. فقد كنتُ أبكي وأترجم بالإشارة، معًا في وقت واحد (تقول بالإشارة: «لن أفعل هذا ثانيةً.») فأنا لا أريد فعل أي شيء مثل هذا مرة أخرى.9

يوجد عيب سنعود إلى الحديث عنه في الفصل القادم، وهو أن بعض الأشخاص الثنائيي اللغة الذين يكونون ثنائيي الثقافة أيضًا، لا يشعرون بالانتماء إلى أيٍّ من المجموعتين الثقافيتين؛ فيشعرون بأنهم غرباء عن ثقافتَيْهم، خاصةً في اللحظات الفارقة في حياتهم (على سبيل المثال: عند عودتهم إلى وطنهم الذي لم يَعُدْ وطنهم).

على الرغم من هذه المميزات والعيوب، فإني عندما سألتُ ثنائيي اللغة عمَّا إذا كانوا يشعرون بوجود أي اختلاف بينهم وبين الأشخاص الأحاديي اللغة؛ أجابوا، بوجه عام، بعدم شعورهم بهذا، فيما عدا حقيقة أن لديهم أكثر من لغةٍ، ومن ثَمَّ يستطيعون التواصُل مع مزيدٍ من الأشخاص.

(٣) نظرة الأشخاص الأحاديي اللغة للثنائية اللغوية

يوجد تفاوت كبير بين مواقف ومشاعر الأشخاص الأحاديي اللغة تجاه الثنائيي اللغة والثنائية اللغوية، وتتراوح المواقف بين إيجابية للغاية وسلبية للغاية. أقَرَّ هذا الأمرَ الخبيرُ العالمي في الثنائية اللغوية، أينار هوجن، في عام ١٩٧٢، ولا يزال ما أقَرَّه ينطبق في عصرنا الحالي في كثيرٍ من الأماكن:
إن الثنائية اللغوية مصطلح يثير ردودَ فعل متفاوِتة تقريبًا في كل مكان. من ناحية، بعض الناس سيقولون: «ما أجمل أن يكون المرء ثنائيَّ اللغة!» ومن ناحية أخرى، يحذرون الآباء ويقولون لهم: «لا تجعلوا أطفالكم ثنائيي اللغة.»10

لا يوجد فقط اختلاف في الآراء بشأن الأشخاص الثنائيي اللغة البالغين مقارَنةً بالثنائيي اللغة الأطفال، وإنما يوجد اختلاف أيضًا على وجه الخصوص فيما يتعلَّق بالأشخاص الثنائيي اللغة أصحاب المكانة الاجتماعية والاقتصادية الأعلى مقارَنةً بالأشخاص الثنائيي اللغة الذين هم في مكانة أقل، خاصة المهاجرين أو أعضاء إحدى الأقليات اللغوية. فبينما تُبهِر الفئةُ الأولى الأشخاصَ الأحاديي اللغة بقدرتها على إجادة اللغات والتحرك بسهولة بين لغةٍ وأخرى، فإن الفئة الثانية تكون النظرةُ إليها سلبيةً أكثر، خاصةً إذا تحدَّثوا بلكنة في لغتهم السائدة وكان لديهم أطفال يواجِهون صعوبات في التأقلم في مدارسهم الأحادية اللغة. وإن كثيرًا من الخرافات التي تحدَّثْنا عنها في هذا الكتاب تنشأ من وجهة النظر الثانية للأشخاص الأحاديي اللغة في الشخص الثنائي اللغة.

على عكس الدول الأوروبية الأصغر ودول قارتَيْ أفريقيا وآسيا حيث يُعتبَر التعدد اللغوي هو القاعدة، فإن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبيرة مثل إنجلترا وفرنسا، لم تدعم كثيرًا سكانَها الذين يعيشون حياتهم مستخدِمين لغتين أو أكثر. وهذا ما قاله عالِم اللغة باري ماكلوكلين منذ وقت طويل، في عام ١٩٧٨:
في الولايات المتحدة تُعتبَر الأحادية اللغوية بطبيعة الحال هي القاعدة. وقد كانت الثنائية اللغوية تُعتبَر وصمةَ عار وعائقًا اجتماعيًّا … ولا علاقةَ لهذا العداء تجاه الثنائية اللغوية باللغة في حدِّ ذاتها؛ فهذا العداء ليس موجَّهًا لِلُّغة بل للثقافة. فيعبِّر الشخص الثنائي اللغة عن أسلوب غريب في التفكير وقِيَم غريبة.11
هل تغيَّرت الأمور منذ ذلك الوقت؟ في الواقع لا تتغيَّر المواقف والمشاعر ببساطة بهذه السرعة، كما تقول أنيتا بافلينكو — الباحثة المعاصرة في مجال الثنائية اللغوية، وهي نفسها إحدى المهاجرات إلى الولايات المتحدة — التي كتبت تقول إن الأشخاص الثنائيي اللغة يُنظَر إليهم عادةً بارتيابٍ، إما على أنهم هُجُن لغويًّا وثقافيًّا ربما يوجد صراع داخلي لديهم، وإما على أنهم أشخاص تشير ولاءاتُهم اللغوية المتغيِّرة إلى تغيُّر ولاءاتهم السياسية والتزاماتهم الأخلاقية.12

تزخر للأسف كتابات المهاجرين بأمثلة على التمييز ضد المهاجرين الذين هم في الوقت نفسه من الثنائيي اللغة. أنا شخصيًّا أشعر بالأسف لعدم دعم الدول الكبرى الأحادية اللغة في المقام الأول الثنائيةَ اللغوية للأقليات الموجودة فيها، سواء أكانوا مهاجرين أم لا. تصدر تقارير برعاية الحكومات طوال الوقت ترثي لضعف الدولة في اللغات الثانية والأجنبية، وهو أمر أصبح في عصر التواصُل العالمي الحالي عيبًا خطيرًا. تأتي المفارَقة، بالطبع، من وجود كثير من متحدِّثي اللغات الثانية في هذه الدول الكبرى، لكنهم لا يعملون في مواقع السلطة التي تحتاج إلى هذه اللغات. وتُنفَق ملايين الدولارات على تعليم اللغات الثانية للأشخاص الأحاديي اللغة، بينما توجد مهارات اللغة الثانية بالفعل داخل كثير من الأقليات. فإذا اتجهنا إلى دعم وتنمية هذا المورد القومي المهم، بالإضافة إلى تشجيع تعلُّم اللغات الثانية، فإننا سنصبح في طريقنا إلى حل مشكلة اللغات الأجنبية التي طالَبَ كثيرون بضرورةِ حلِّها.

في النهاية، كلما زاد انتشار أحادية اللغة داخل مجموعةٍ أو دولةٍ ما، زادت صعوبة إدراك المجتمع أن الأشخاص الثنائيي اللغة يمثِّلون موردًا حقيقيًّا في الدولة؛ من حيث ما يستطيعون تقديمه فيما يتعلَّق بالتواصُل والتفاهُم عبر الثقافات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤