الفصل السادس عشر

في يوم زفافنا، في الثالث والعشرين من يوليو ١٩٨٢، اصطحبني عليٌّ بعد صلاة الفجر من الزنزانة الانفرادية في مبنى «٢٠٩»، حيث قضيت نحو شهر دون أي اتصال بالسجينات الأخريات. جافاني النوم الليلة الماضية، وكان الخوف منقذي؛ إذ شل تفكيري وأفقدني الشعور بأي شيء. جلست في أحد الأركان أحدق إلى النافذة الصغيرة المدعومة بالقضبان وأراقب خطوطها المعدنية الرمادية وهي تتقاطع مع السماء الزرقاء الواسعة في الخلفية لتقسمها إلى مستطيلات مستوية صغيرة. لطالما أحببت الصباح الباكر عندما يمحو الضوء تدريجيًّا ظلام الليل. لون أزرق داكن يتسلل إلى ظلمة السماء كالمطر الذي يسيل في الصحراء، غير أن هذا الجمال بدا من هنا زائفًا.

قرع عليٌّ الباب قرعًا خفيفًا، فارتديت الشادور بيد مرتجفة ووقفت. دخل وهو ينظر في عيني مباشرة وأغلق الباب خلفه، فنظرت للأرض.

اقترب مني أكثر، وقال: «لن تندمي على ذلك. هل نمت بالأمس؟»

– «كلا.»

– «ولا أنا أيضًا. هل أنت مستعدة؟»

أومأت.

ذهبنا إلى منزل والديه صامتين، وفور أن وصلنا غادر عليٌّ ووالده المنزل. عانقتني والدته وقبَّلتني، وأصرَّت على أن تعد لي إفطارًا شهيًّا. لم أكن أشعر بالجوع، ولكنها لم تقبل أيًّا من أعذاري. تبعتها إلى المطبخ، فطلبت مني الجلوس وأعدت لي طبقًا من البيض المقلي. وعلى النقيض من مطبخ أمي كان مطبخها فسيحًا مضيئًا. أصدر القدر المعدني الكبير صوت أزيزٍ قطع الصمت المزعج.

بعد دقيقتين قالت: «أراد أفراد العائلة والأصدقاء جميعًا أن يحضروا حفل الزفاف. لدي ثلاث شقيقات وشقيقان، وكلهم رزقوا بالأبناء الذين تزوج معظمهم وأنجبوا أيضًا، أما السيد موسوي فلديه ثلاثة أشقاء وشقيقة واحدة ولديهم أبناء أيضًا، بالإضافة إلى العمات والخالات والأعمام والأخوال وأبنائهم وبناتهم وأصدقاء العائلة. جميعهم حزنوا عندما علموا أننا لن ندعو أحدًا لحفل زفاف علي، لكننا أوضحنا لهم الأمر ومعظمهم تفهمه، وهم يرسلون إليك تحياتهم. عندما تصبحين أنت وعلي مستعدَّين لذلك سأدعوهم لمقابلتك.»

كانت تتحدث في تأنٍّ، وتوقفت عدة مرات تحاول انتقاء كلماتها بعناية.

وعاد الصمت المزعج يخيم على المكان ثانية، لا شيء غير صوت الملعقة الخشبية وهي تحتك بالمقلاة.

تنهدت والدة علي وتابعت وهي تقف أمام الموقد وتوليني ظهرها: «أعلم أنك خائفة. ما زلت أذكر يوم زفافي للسيد موسوي، كنت أصغر منك الآن، وكان زواجًا تقليديًّا، فكنت أشعر بالذعر. أخبرني عليٌّ بأنك شجاعة، ومما سمعته ورأيته أعلم أنك كذلك، لكني أعلم أيضًا أنك تشعرين اليوم بالخوف، ولديك كل الحق في ذلك، خاصة وأن عائلتك ليست بجوارك، ولكن تأكدي أن عليًّا طيب يشبه والده كثيرًا.»

وعندما استدارت إليَّ كانت كل منا تبكي، فتقدمت نحوي وضمت رأسي إلى صدرها، وأخذت تداعب شعري. لم أشعر براحة كهذه منذ وفاة جدتي. جلسنا معًا نتناول البيض، وأوضحت لي أنه من المعتاد أن تأخذ العروس حمامًا طويلًا، وأخبرتني أيضًا بأنها تتوقع وصول الماشطة — إحدى صديقاتها المقربات — في غضون ساعتين. لم أكن قد أخذت حمامًا منذ عدة شهور، بل كنت أكتفي بالاغتسال السريع. تذكرت الليلة التي لم يقدَّر لي أن أستحم فيها عندما أُلقي القبض عليَّ.

قبل أن ترشدني إلى الحمام اصطحبتني إلى إحدى الغرف التي أُخليت كي يوضع بها مفرش الزفاف، وهو مفرش مائدة حريري أبيض يبسط على الأرض، وفي منتصفه مرآة كبيرة في إطار فضي، وعلى جانبيها شمعدان بلوري كبير به شمعة بيضاء، وأمام المرآة نسخة من القرآن، بالإضافة إلى صحف فضية ممتلئة بالحلوى والفاكهة تملأ بقية المفرش. علمت أن العادة تقتضي أن يؤدي المُلا مراسم عقد الزواج بينما يجلس العروسان على مفرش الزفاف.

في الحمام وجدت السيراميك الفاخر يلمع. ملأت حوض الاستحمام وجلست مسترخية في المياه الساخنة، ومع أننا كنا في فصل الصيف فقد كنت أشعر بالبرد طوال النهار. عندما غمرني دفء المياه الساحر أخذت عضلاتي تسترخي شيئًا فشيئًا، فأغمضت عيني. لقد منحني الله موهبة أنقذتني كثيرًا؛ إذ كان بوسعي التوقف عن التفكير عندما تصبح أفكاري عسيرة الاحتمال، وهكذا لم أفكر فيما سيحدث تلك الليلة.

بعد قليل عندما فترت المياه قليلًا، قُرع باب الحمام قرعًا خفيفًا، وأخبرتني أكرام أن الماشطة شيرين خانم قد وصلت، وأضافت: «لا داعي لارتداء الحجاب، فالرجال ما زالوا بالخارج، ولن يعودوا حتى المساء.» ارتديت ملابسي وخرجت من الحمام. في غرفة نوم أكرام القديمة، كانت امرأة ممتلئة الجسم تبسط ملاءة بيضاء على الأرض، وفور أن دخلتُ الغرفة تفحصتني عيناها من رأسي إلى أخمص قدمي، وأضافت وهي تهز رأسها: «فتاة جميلة، لكنها نحيفة جدًّا. عليك أن تعتني بتغذيتها جيدًا يا فاطمة خانم، فسوف تزداد جمالًا إذا امتلأ جسدها قليلًا.» ثم تقدمت نحوي ووضعت إصبعها أسفل ذقني وتفحصت وجهي، وقالت: «بشرتها صافية، لكن حاجبيها بحاجة إلى بعض التهذيب.»

قالت والدة علي: «إذا احتجت أي شيء، فستجدينني أنا وأكرام في المطبخ.» وابتسمت لي وهما تغادران الغرفة.

جلست شيرين خانم على الملاءة وقالت: «حسنًا يا عزيزتي، أنا جاهزة. اخلعي ملابسك واجلسي أمامي.»

لكني لم أتحرك من مكاني.

ضحكتْ وقالت: «ماذا تنتظرين؟ هيا! لا داعي للخجل، لا بد من القيام بذلك. ألا تريدين أن تتزيني لزوجك؟»

قلت في نفسي: «كلا، لا أريد.» لكني لم أنطق بها.

خلعتُ ملابسي ببطء وأنا أرتجف، وجلست على الملاءة وضممت ركبتي لصدري، فطلبت مني شيرين خانم أن أمد ساقي أمامي ففعلت. أمسكتْ خيطًا طويلًا، ولفت أحد طرفيه على إصبعها عدة مرات وأمسكت بالطرف الآخر بين أسنانها، ثم انحنت على ساقي، وأخذت تحرك الخيط كالمقص بسرعة مذهلة لإزالة الشعر الزائد. كان الأمر مؤلمًا، وعندما انتهت طلبت مني أن أغتسل بمياه باردة، وبعد الاغتسال ضفرتْ شعري الذي كاد يصل إلى خصري وجمعته خلف رأسي.

في الظهيرة علا صوت المؤذن قادمًا من المسجد داعيًا المؤمنين إلى الاستعداد للصلاة الثانية في اليوم. توضأنا، وعندما انتهيت خرجت من الحمام لأجد والدة علي في انتظاري حاملة صرة حريرية بيضاء في يديها. أعطتني إياها، فوجدتها سجادة صلاة جميلة صنعتْها بنفسها، وشعرتُ بأن حنانها يغمرني.

كان والدا علي قد خصصا غرفة للصلاة خالية من كل شيء إلا من السجاجيد الإيرانية السميكة التي تغطي الأرض. وقفنا نستقبل القبلة، وبسطتْ كلٌّ منا سجادتها من أجل الصلاة عليها. كانت سجادتي مزخرفة بخيوط وخرز فضي وذهبي. يبدو أنها قد قضت ساعات عديدة في صنع تلك السجادة.

وبعد الصلاة أعدت أكرام المائدة بالأطباق الخزفية الفاخرة، وجلسنا نتناول الغداء المكون من الباذنجان ويخنة اللحم بالأرز، وبعد الغداء احتسينا الشاي. وأنا أحتسي الشاي لاحظت أن والدة علي تحدق النظر إليَّ وكأنها تود مصارحتي بشيء مهم، لكنها لا تدري من أين تبدأ، فأطرقت برأسي.

وأخيرًا قالت: «مارينا، هناك شيء أود إخبارك به عن علي، ولا أدري إن كنت على علم به أم لا. هل أخبرك من قبل أنه كان سجينًا في «إيفين» في عهد الشاه؟»

صُدمت مما سمعت، وأجبتها: «كلا، لم يخبرني قط.»

قالت: «ألقى السافاك القبض عليه قبل اندلاع الثورة بثلاثة أعوام وثلاثة أشهر. خارت قواي، ولم أصدق أنه قد ينجو، فقد كان مخلصًا جدًّا للإمام ويكره الشاه وحكومته الفاسدة. توقعت أن يلقوا القبض على السيد موسوي أيضًا، لكنهم لم يفعلوا. لكني فقدت عليًّا. كنت أعلم أنه يلاقي العذاب. ذهبنا إلى «إيفين» وطلبنا رؤيته، لكنهم لم يسمحوا لنا بالزيارة مدة ثلاثة أشهر، وعندما سُمح لنا بالزيارة أخيرًا، بدا ابني القوي الوسيم هزيلًا واهنًا.»

سالت الدموع من عيني فاطمة خانم وهي تتابع: «أطلق سراحه قبل نجاح الثورة بثلاثة أشهر دون أن يخبرونا أنهم سيطلقون سراحه. في ذلك اليوم كنت في المطبخ عندما سمعت جرس الباب يدق. كان يومًا خريفيًّا غائمًا، وأوراق الشجر تساقطت لتفترش الفناء. هرعت نحو الباب أتساءل من الطارق، فلم يُجِبني أحد، لكني عرفت أنه هو. لا أدري كيف عرفت، لكن هذا ما حدث. فتحت الباب ووجدته هو، فابتسم وعانقني طويلًا. كان نحيلًا للغاية، حتى إنني أحسست بعظامه تحت أصابعي، وكانت ابتسامته مختلفة؛ إذ شابها الإرهاق والحزن. كنت أعرف أنه مر بتجارب مؤلمة، وأن الحزن المطل من عينيه سيلازمه فترة طويلة. استأنف حياته على الفور، لكنه تغير، فلم يفارقه الألم الذي يشعر به قط، وأحيانًا كنت أشعر به يتجول في المنزل طوال الليل. ومنذ بضعة أشهر عاد من العمل ذات يوم وحزم حقائبه وذهب إلى الجبهة كي يحارب العراقيين دون أن يقدم لي أي تفسير. صُدمت بذلك، فلم يكن هذا طبعه. لا تسيئي فهمي؛ لم يفاجئني ذهابه إلى الجبهة، فقد ذهب إلى هناك من قبل، لكن التوقيت كان غريبًا. أدركت أن شيئًا ما قد حدث، لكنه لم يخبرني ما هو. وفي الشهور الأربعة التي غاب فيها جافاني النوم، وأخيرًا تلقيت اتصالًا ذات يوم أُخبرت فيه بأنه قد أصيب بطلق ناري في ساقه ويرقد في المستشفى، فحمدت الله آلاف المرات، وعندما ذهبت لرؤيته ابتسم لي كالأيام الخوالي وكأنه عاد طفلًا صغيرًا، وأخبرني أن شيئًا رائعًا قد حدث له، فظننت في بادئ الأمر أنه فقد عقله.»

إذن كان عليٌّ سجينًا في «إيفين» وتعرض للتعذيب هناك، ربما لهذا السبب سألني بعد أن تعرضت للجلد واقتادني إلى الزنزانة الانفرادية هل أحتاج شيئًا يساعدني في تخفيف الألم، وطلب من الطبيب أن يأتي لزيارتي؛ ربما فعل ذلك لأنه شعر بالمعاناة مثلي تمامًا.

بعد اندلاع الثورة رغب عليٌّ في الانتقام، فانضم للعمل في «إيفين»، وخلال الأشهر الأولى بعد الثورة كان معظم سجناء «إيفين» من عملاء السافاك السابقين، فحصل على فرصته كي ينتقم منهم؛ العين بالعين. لم يكونوا أعداء للإسلام فحسب، بل كانوا أعداءه الشخصيين أيضًا، لكن الأمور تغيرت، ومن كانوا يحاربون معه في زمن الشاه من «المجاهدين» و«الفدائيين» أصبحوا هم الذين يُلقى القبض عليهم. أنا متأكدة أنه لم يكن عسيرًا عليه في بداية الأمر تبرير القبض عليهم، فقد أصبح رفاق الزنزانة السابقين وأتباعهم أعداء للدولة الإسلامية، أو كما قال الخميني أصبحوا أعداء لله ورسوله. نشأ عليٌّ مسلمًا متدينًا، واعتاد اتباع الإمام حتى لو كلفه ذلك حياته. ربما بدأ يرى أن ما يحدث في «إيفين» باسم الإسلام خطأ، لكن واجه صعوبة في تقبُّل الحقيقة بسبب إخلاصه لدينه، ولم يدرِ كيف يتعامل معها. لقد أعماه إيمانه، غير أن تجربته الشخصية ربما تدفعه أحيانًا لأن يرى الموقف من وجهة نظر السجناء. كان والداه فخورين بوجوده في الخط الأمامي للجبهة ضد أعداء الإسلام، ومن وجهة نظرهما كان عمله محقِّقًا من أشرف الأعمال التي يمكن للمسلم توليها، فكل ما حدث في «إيفين» بعد الثورة كان مبررًا؛ كانوا يدافعون عن أسلوب حياتهم وقيمهم؛ كانوا ينظرون إليها على أنها حرب بين الخير والشر.

•••

وبعد أن انتهينا من تناول الطعام وتنظيف المائدة سألتني والدة علي هل أعرف الطهي، فأجبتها: «نعم، ولكن ليس بنفس براعتك أنت وأكرام. تعلمت من كتب الطهي، فأمي لم تكن تحب دخولي المطبخ.»

– «هل ترغبين في مساعدتنا في إعداد العشاء؟ علينا أن نبدأ في الحال، فسوف يحضر الملا أغا في الساعة الخامسة، وسوف نتناول العشاء بعد حفل الزفاف.»

ساعدتهما في المطبخ، ففرمت وطهوت أنا وأكرام البصل والبقدونس الطازج والثوم وبعض الأعشاب الأخرى، بينما قطعت والدة علي اللحم وسلقت الأرز طويل الحبة بعد أن تبَّلت قطع الدجاج في خليط من الزبادي وصفار البيض والزعفران. أعددنا أيضًا يخنة اللحم بالأعشاب، والتاكين (خليط من الدجاج والأرز والزبادي وصفار البيض والزعفران).

وصل السيد موسوي وعليٌّ ومسعود زوج أكرام نحو الساعة الرابعة، واقتادتني والدة علي إلى الحمام وطلبت مني أن أغتسل مرة أخرى، لأن رائحة البصل تفوح مني. وبعد الاغتسال ارتديت المعطف الإسلامي الأبيض، ووشاحًا أبيض كبيرًا، وسروالًا أبيض، والشادور الأبيض الذي وضعته لي والدة علي على الفراش، وسرعان ما وجدتُ أحدهم يقرع باب الغرفة، ونادتني أكرام: «مارينا، لقد حان الوقت.»

فتحت الباب وخرجت دون أن أعطي نفسي فرصة للتفكير. كان عليٌّ جالسًا على مفرش الزفاف، فجلست بجواره وأنا أتساءل هل لاحظ أحد منهم أنني أرتجف. دخل الملا الغرفة، وردد بعض الجمل باللغة العربية، ربما كنت سأفهمها لو كنت أكثر تركيزًا، ثم سألني بالفارسية: «فاطمة خانم مرادي بخت، هل تقبلين السيد علي موسوي زوجًا لك؟»

كنت أعلم أنه من المعتاد ألا تجيب العروس على هذا السؤال في المرة الأولى، وعلى المُلا أن ينتظر الإجابة، وحين لا يحصل عليها يكرر السؤال مرتين أخريين، لكني أجبت في المرة الأولى؛ إذ لم يكن يعنيني سوى الانتهاء من ذلك.

•••

بعد تناول العشاء ذهبت مع علي إلى المنزل الذي اشتراه لنا. ظل ممسكًا بيدي اليسرى حتى وصلنا إلى المنزل، وكانت أول مرة يلمسني بتلك الطريقة.

وبينما أخطو إلى منزلي الجديد وحياتي الجديدة الغريبة، قطعت على نفسي وعدًا بألا أنظر خلفي، وألا ألتفت إلى الماضي، لكنه وعد صعب الوفاء به. قادني عليٌّ إلى غرفة النوم حيث تكدست الهدايا على الفراش، وقال: «افتحيها، بعضها مني والبعض الآخر من العائلة.»

فتحتها فوجدت العديد من الحُلي، والأواني والكئوس الكريستالية، والأطباق والصحون المطلية بالفضة، وجلس عليٌّ على الفراش بجواري ينظر إليَّ وأنا أفتح الهدايا.

– «أصبحت زوجكِ الآن، ولا داعي لارتداء الحجاب.»

تمنيت لو كان بوسعي الاختباء، لكنه جذب الوشاح الذي يغطي شعري بعيدًا، فحاولت أن آخذه منه مرة أخرى.

– «أتفهَّم قلقك، ولكن لا داعي له، فسوف تعتادين عليَّ.»

ثم حل شعري المضفور، وتخلله بأصابعه.

– «شعرك جميل، إنه ناعم كالحرير.»

ثم ألبسني عقدًا وأسورة، ونظرت إلى خاتم زواجي الذي تلمع به ماسة كبيرة.

قال عليٌّ وهو يطوِّقني بذراعيه ويقبِّل شعري وعنقي: «أردتك منذ أن وقعت عيناي عليك.» لكني دفعته بعيدًا.

– «مارينا، اهدئي قليلًا. تعرفين كم انتظرت تلك اللحظة. الآن أصبحتِ لي أخيرًا، ويمكنني أن ألمسك. لا داعي للخوف، فلن أؤذيك، أعدك بذلك.»

فك أزرار قميصه، فأغمضت عيني وقد تجمدت من الرعب، وسرعان ما شعرت بأصابعه تفك أزرار معطفي، ففتحت عيني وحاولت أن أقاومه، ولكنه ألقى بثقله عليَّ فوق الفراش ومنعني من الحركة. رجوته أن يتوقف، لكنه قال إنه لا يستطيع. مزَّق ملابسي فصرخت. تماسَّ جسدانا، وشعرت بدفء جسده الغريب وقد فاحت منه رائحة الشامبو والصابون. استجمعت قوتي وجاهدت كي أدفعه بعيدًا عني، لكن بلا فائدة، فقد كان ضخمًا قويًّا. تنامى داخلي شعور رهيب بالغضب والخوف والإذلال كعاصفة لا تجد لها متنفسًا، حتى لم يتبقَّ لديَّ قدرة على المقاومة؛ حتى تقبَّلت حقيقة أن لا مهرب من الأمر؛ حتى استسلمت له. شعرت بالألم، لكنه كان مفزعًا لا يشبه ألم الجلد بالسوط. عندما كنت أتعرض للتعذيب، تمكنت من الاحتفاظ بالشعور بالسيطرة؛ نوع غريب من القوة التي لا يمكن للعذاب البدني أن يقضي عليها، أما الآن فقد أصبحت له.

بكيت طوال الليل، وكنت أحترق في داخلي، بينما يحيطني بذراعه. وقبل الفجر استيقظ للصلاة ولكنني بقيت في الفراش.

جلس على حافة الفراش وقبَّل وجنتي وذراعي وقال: «يجب أن ألمسك كي أصدِّق أنك أصبحت زوجتي. هل آذيتك؟»

– «نعم.»

– «سوف تتحسن الأمور.»

استغرقت في النوم بعد أن غادر الفراش، فقد كان النوم ملاذي الوحيد.

***

نحو الساعة الثامنة ناداني عليٌّ من المطبخ: «الإفطار جاهز.» كانت الشمس قد تسللت عبر الأبواب المنزلقة، فنهضتُ وفتحتها. هبَّ النسيم حاملًا تغريد العصافير. كانت الساحة الخلفية جميلة، تفتحت فيها أزهار الجيرانيوم والأقحوان. نادت إحدى جاراتنا أطفالها كي يدخلوا لتناول الإفطار. شعرت كأني أحيا حياة شخص آخر. كان يومًا صيفيًّا رائعًا خلت فيه السماء من السحب، لكني تمنيت أن يغطي الثلج الأرض، فقد اشتقت للمسته الباردة على بشرتي الدافئة، وأردت أن يسري الخدر في أصابعي وأن تؤلمني من لمس الجليد، وأردت أيضًا أن تختفي كل درجات اللونين الأخضر والأحمر تحت ثقل الشتاء بلونه الأبيض، كي أحلم وأؤكد لنفسي أن الأمور ستختلف في الربيع.

سمعته يقول من خلفي: «أنت هنا؟ الإفطار جاهز والشاي سيبرد، وهناك خبز طازج على المائدة.»

وجدتُ نفسي بين ذراعيه مرة أخرى، فهمس في أذني: «كم أنا سعيد!» أخبرني أنه عندما رآني أول مرة كنت جالسة على الأرض في إحدى الممرات، ولكن على النقيض من كل السيدات اللواتي يرتدين الشادور الأسود كنت قد غطيت رأسي بشال كشمير من اللون البني الفاتح، ومع أنني بدوت ضئيلة الحجم، فقد كنت جالسة وظهري مستقيم على الحائط مما جعلني أبدو أطول من كل من حولي. كنت أرفع رأسي نحو السقف، وشفتاي تتحركان برفق كأنني أردد دعاء ما، وبدوت هادئة وسط عالم الخوف واليأس المحيطين بي، وحاول أن يصرف نظره بعيدًا عني ولكنه لم يستطع.

في الأيام التالية أخذ عليٌّ يدللني حتى شعرت بعدم الارتياح، فقد اعتدت الاعتماد على نفسي، ولم أرغب في أن أعامَل كطفلة. الفتاة التي كنت عليها من قبل قد رحلت، وأنا الآن امرأة متزوجة. لم يعد بوسعي الاختباء أسفل فراشي كما كنت أفعل. ربما كان عليٌّ ابتلائي الذي يجب أن أرضى به، أو على الأقل يمكنني أن أحاول ذلك. كل ما أتمناه أن يتركني وشأني في الفراش، ففي كل مرة يخلع فيها ملابسه ويلمسني أتوسل إليه أن يتوقف، وفي بعض الأحيان يوافق والبعض الآخر يرفض ويقول لي إن عليَّ الاعتياد على ذلك الأمر، فهو جزء مهم من الزواج، وإذا توقفت عن مقاومته فسوف يصبح الأمر أقل إيلامًا.

وأخيرًا بعد مرور أسبوع على زواجنا نهضت من الفراش عند الفجر، وقررت أن أحيا وأكفَّ عن الشفقة على نفسي، فما حدث قد حدث وليس بإمكاني تغييره. شرعت في تنظيف المنزل وإعداد الإفطار، وأخبرت عليًّا أني أرغب في دعوة والديه وشقيقته على العشاء، فظن أنني جننت، وأخبرني أنه لم يفكر أني قد أكون على دراية بالطهو، لكني أكدت له أني تعلمت الطهو بالفعل، فاستسلم في نهاية الأمر.

قال: «حسنًا، سوف أدعو والديَّ وشقيقتي، ثم نذهب لشراء بعض الخضراوات والفاكهة. وهناك أمر آخر يا مارينا.»

– «ما هو؟»

– «أود أن أشكرك.»

– «علامَ تشكرني؟»

– «على المحاولة.»

انشرح صدري قليلًا عما كنت عليه منذ وقت طويل، وبدأت إعداد العشاء بعد تناول الغداء مباشرة. خرج عليٌّ مدة ساعتين، وعندما عاد كان المنزل يعبق برائحة اللازانيا، ويخنة اللحم وعيش الغراب، والأرز، وكنت قد بدأت للتو في إعداد كعك التفاح عندما دخل المطبخ وأخبرني أن رائحة الطعام أثارت شهيته. سألني هل علَّمتْني أمي الطهو، لكني أخبرته أن أمي لم تكن صبورة لتعلِّمني أي شيء؛ كنت أحب الطهو، وتعلَّمت من الكتب. عرض عليَّ أن يعد الشاي، ووضع الماء في إناء كي يغلي، وبعد أن وضع بعض أوراق الشاي في إبريق الشاي الخزفي تقدم نحوي وأنا أعد بعض البيض. ما زال يخيفني؛ ففي كل مرة يخطو فيها بقربي؛ في كل مرة أشعر بأنفاسه على جسدي؛ في كل مرة يلمسني فيها أرغب في الهرب. أحاط وجهي بيديه وقبَّل جبيني، وتساءلت هل سأعتاد على لمسته يومًا.

وصل والدا علي وأكرام ومسعود، وسُرُّوا بكل ما أعددته. كانت والدة علي مصابة بالبرد، فأعددت لها بعض الشاي بالليمون بعد أن تناولنا العشاء والحلوى، وأحضرت لها بطانية كي ترتاح على الأريكة، بينما دخلت أكرام المطبخ معي كي تساعدني في غسل الأطباق.

قالت أكرام بابتسامة متكلفة: «كان العشاء لذيذًا.»

استطعت أن أشعر بعدم الارتياح في صوتها، لكنها حاولت التعامل معي بلطف، وقدَّرت لها ذلك.

– «أشكرك، لست طاهية ماهرة، لكني أحاول. أنا على ثقة أنك أكثر مهارة مني في الطهو.»

– «ليس إلى هذا الحد.»

ملأ الصمت الفراغ، وبدأت أضع بقايا الطعام في الثلاجة، وفجأة سألتني: «لماذا تزوجتِ أخي؟»

نظرت في عينيها مباشرة، ولكنها تهرَّبت من نظرتي.

– «هل أخبرك أخوك أي شيء عما حدث بيننا؟»

– «لم يخبرني بالكثير.»

– «ولم لا تسألينه؟»

– «لن يخبرني، وأود أن أسمع منك أنت.»

– «تزوجته لأنه أراد ذلك.»

– «هذا ليس كافيًا.»

– «ولمَ لا؟ لمَ تزوجت أنت زوجك؟»

– «كان زواجي تقليديًّا، فقد اتفق والداي مع والدَي زوجي على أن أتزوج ابنهما عندما أكبر، لكنك تنتمين إلى عائلة مختلفة وثقافة مختلفة، ولو لم ترغبي في الزواج منه لكان بإمكانك الرفض.»

– «ولمَ تظنين أني لم أرغب في الزواج منه؟»

– «لا أدري؛ أعلم ذلك فحسب، فالمرأة يمكنها أن تشعر بتلك الأشياء.»

أخذتُ نفسًا عميقًا وقلت لها: «لا تنسي أنني سجينة، وقد هددني عليٌّ بأنني إن لم أتزوجه فسوف يلحق الأذى بمن أحب.»

– «لا يمكن أن يفعل عليٌّ شيئًا كهذا!»

– «ولهذا السبب لم أرِد إخبارك. كنت أعلم أنك لن تصدقيني لأنك تحبين أخاك.»

– «هل تقسمين على المصحف بأنه قد فعل ذلك؟»

– «نعم، تلك هي الحقيقة.»

انهارت على أحد المقاعد، وهزت رأسها.

– «إنه أمر فظيع! هل تكرهينه لهذا السبب؟»

لم أدرِ ماذا أقول، ليس لأنني لا أرغب في قول الحقيقة، بل لأني أدركت أني لا أعرف الإجابة الحقيقية لهذا السؤال. منذ بضعة أيام كنت أستطيع أن أقول باقتناع تام إنني أكرهه، لكنني لم أعد متأكدة من حقيقة مشاعري. شيء ما تغير؛ ليس تغيرًا جذريًّا، بل تغيرًا طفيفًا. لم أفهم سبب تغير مشاعري نحو عليٍّ قليلًا، كل ما كنت أعرفه أن لديَّ كل الحق في أن أكرهه.

– «كلا، لا أدري. كنت أكرهه، لكني لم أعد كذلك، فالكراهية كلمة كبيرة جدًّا.»

نظرت في عيني.

– «وهل اعتنقت الإسلام مضطرة أيضًا؟»

– «نعم.»

– «إذن لم تكوني مقتنعة؟»

– «كلا، لكن لا تنسي أني صارحتك بالحقيقة لأنك أصررت على معرفتها، ولم أرغب في الكذب، لكن الأمر قد انتهى الآن. لقد أصبحت مسلمة وزوجة لأخيك، وقد قطعت وعدًا بأن أكون مخلصة له وسأفي به. لا أرغب في الحديث عن ذلك الأمر، فما حدث قد حدث.»

– «ليوفقك الله ويمدك بالعون؛ لا بد أنه أمر عسير عليك.»

– «على الأقل يسعدني أن هناك من يفهم ذلك.»

أضاءت وجهها ابتسامة صادقة.

سألتُها: «كم مضى على زواجك؟»

– «سبعة أعوام.»

– «وهل تحبين زوجك؟»

فوجئتْ بالسؤال، ونظرتْ لي وكأنها لم تفكر في مشاعرها نحوه قط.

قالت وهي تضحك وتحدق في خاتم زواجها متتبعة ماسته المتلألئة بأصابعها: «الحب كلمة كبيرة، ولا أعتقد أنه موجود إلا في القصص الخيالية. زوجي طيب ومخلص لي، وأحيا حياة كريمة. يمكنك القول إنني سعيدة فيما عدا …» شردت نظرتها، وأدركتُ ألم الاشتياق الذي يشعر به من كابد آلام الحرمان، مما جعل قلبي يرتجف.

همستُ: «فيما عدا ماذا؟»

قالت: «أنا لا أنجب.» ثم تنهدت وكأنها أصعب جملة تلفظت بها على الإطلاق. «لقد جربت كل شيء. في بداية الأمر ظل الناس يسألونني عن الحمل، ولكن بعد مرور عامين أصابهم اليأس، والآن أصبحتُ المرأة العقيم، ولكن كما أخبرتك فإن زوجي طيب للغاية. ومع أني أعلم كم يتوق لأن يرزق بصبي، فإنه أكد لي أنه لن يتزوج امرأة أخرى.»

قاطعتنا والدة علي وهي تدخل المطبخ: «ماذا تفعلان هنا أيتها السيدتان؟ لن تنتهيا من الكلام أبدًا، وزوجاكما يريدان المزيد من الشاي.»

فور أن دخلنا غرفة الجلوس دق جرس الهاتف وأجاب عليٌّ. شعرت بأن تلك المكالمة من «إيفين»، فقد ظل يستمع معظم الوقت وبدا عليه القلق، بينما خيَّم الصمت على الجميع. بعد انتهاء المكالمة سألته ما الأمر.

قال: «نعلم منذ فترة أن «المجاهدين» يخططون لاغتيال بعض الأفراد ممن يشغلون مناصب مهمة في «إيفين». كنا نحاول اكتشاف أصحاب تلك المؤامرة والقبض عليهم، وبالفعل أُلقي القبض على عدد منهم مؤخرًا وخضعوا للتحقيق. كان محمد هو من يحدثني الآن، وأخبرني أن المعلومات التي حصل عليها تفيد بأن اسمي مدرج في قائمة الاغتيالات. يعتقد زملائي وأصدقائي أن بقائي أنا ومارينا في «إيفين» فترة سيكون أكثر أمانًا لنا. لست قلقًا على نفسي، لكني لا أرغب في تعريض حياة مارينا للخطر.»

كنت قد خمنت أنه يشغل منصبًا مهمًّا في «إيفين»، والآن تأكد شعوري.

قال السيد موسوي وقد بدا عليه القلق: «أعتقد أن البقاء في «إيفين» فكرة جيدة، فمن الأفضل توخي الحذر.»

لم أكن في ذلك الوقت على علم باغتيال بعض المسئولين الحكوميين واتهام «المجاهدين» في جميع تلك الاغتيالات، وذلك لأنني لم أكن أشاهد التلفاز أو أستمع إلى المذياع أو أقرأ الصحف.

سأل علي: «مارينا، هل توافقين على أن نبقى في «إيفين» فترة؟ المكان هناك أكثر أمانًا.»

قلت: «بالطبع» وأنا أعلم أن لا خيار لي حقيقة.

– «سوف أعوضك عن هذا عندما تتحسن الأوضاع.»

•••

ذهبنا للفراش بعد أن انصرف الضيوف.

– «علي، هل ترى إلى أين يقود العنف الناس؟ أنت تقتلهم، وهم يقتلونك. متى سينتهي كل هذا؟ عندما يفنى الجميع؟»

– «أنت ساذجة. هل تظنين أننا لو طلبنا منهم بأدب أن يكفوا عن مناهضة الحكومة فسيفعلون؟ علينا أن نحمي الإسلام والشريعة الإلهية والمسلمين من قوى الشر التي تعمل ضدها.»

– «الله لا يحتاج حماية من أحد؛ ما أقصده أن العنف لا يؤدي إلا إلى مزيد من العنف. لست أدري ما الحل، لكني أعلم أن القتل ليس حلًّا.»

جذبني بين ذراعيه وقال: «ليس كل الناس في مثل طيبتك. إنه عالم شديد القسوة.»

– «نعم، إنه كذلك لأننا نكون قساة عندما يعامل بعضنا بعضًا.»

ضحك وقال: «لن تستسلمي، أليس كذلك؟»

– «متى نعود إلى «إيفين»؟»

– «صباح غد، وأرجو أن تتفهمي أنه عند عودتنا إلى «إيفين»، لن تتلقي أي معاملة مختلفة مع أنك زوجتي؛ فما زلت سجينة رسميًّا. هل ترغبين في البقاء في زنزانة انفرادية أم العودة إلى «٢٤٦» مرة أخرى؟»

أجبته أنه لا فارق عندي بين كلا الأمرين، وأخبرني أنه يرى الزنزانة الانفرادية خيارًا أفضل؛ نظرًا لأنه سيستطيع قضاء المزيد من الوقت معي، ولم أجادله في ذلك؛ إذ لم أكن أرغب في تفسير أي شيء لرفيقاتي في «٢٤٦».

سألته: «هل وقع المزيد من الاعتقالات في الفترة الأخيرة؟»

– «نعم.»

– «يا للمساكين، لا بد أنهم يشعرون بالذعر.»

– «مارينا، العديد من هؤلاء إرهابيون.»

– «ربما بعضهم كذلك، لكنك تعلم أن معظمهم ما زالوا أطفالًا، والعديد منهم لم يرتكبوا أي أخطاء. إن دخلت زنزانة انفرادية، هل تسمح للفتيات الأصغر سنًّا بالبقاء معي أثناء فترة التحقيق معهم؟ فهناك مكان يكفي لاثنتين في تلك الزنزانات. علي، أكره أن أكون بلا فائدة؛ بإمكاني أن أساعدهم فأخفف عنهم وعن نفسي أيضًا.»

ابتسم وقال: «سيكون هذا رائعًا. حسنًا، اتفقنا.»

– «لا تخبرهم أني زوجتك وإلا سيشعرون بالخوف مني.»

لمَّا لم يكن هناك خير حولي، فربما كان عليَّ أن أبادر أنا بفعل الخير.

سألته: «علي، أين سارة فرحاني؟»

– «كانت في مستشفى السجن منذ فترة طويلة، لكنه ليس نفس المستشفى الذي كنتِ فيه، فهناك مستشفى آخر للسجناء الذين يعانون مشاكل نفسية، وهي الآن في زنزانة بمبنى «٢٠٩».»

– «إنها بحاجة للذهاب إلى المنزل، فقد لاقت ما يكفي حتى الآن، وهي لم تفعل شيئًا سوى أنها تكلمت أكثر من اللازم. إنها لن تبقى على قيد الحياة في «إيفين».»

– «حامد هو المسئول عن قضيتها الآن، وتعلمين كم هو صعب المراس. لا أظن أن سارة ستذهب إلى أي مكان آخر قريبًا.»

– «هل أعدم شقيقها سيرس بالفعل؟»

قال كأنه يقرر حقيقة عادية: «نعم، لقد كان عضوًا نشطًا في جماعة «المجاهدين»، ورفض التعاون معنا على الإطلاق.»

– «إذن فسياستك هي قتل كل من يقف في طريقك.»

– «لو حانت لسيرس الفرصة، لأطلق النار عليَّ.»

– «كان بإمكانك أن تضعه في السجن بدلًا من قتله.»

– «لم يكن هذا قراري، ولا أود الحديث عنه.»

– «هل يمكنني أن أرى سارة؟»

– «سوف أصطحبك إلى زنزانتها ما إن نعود.»

كان عليَّ أن أوجه له السؤال الذي ظل يشغل بالي منذ فترة، لم يسبق أن كان الوقت مناسبًا لذلك، لكنه هكذا الآن.

– «علي، هل قتلت أحدًا من قبل؟ لا أعني في الجبهة، بل في «إيفين».»

نهض من الفراش وتوجه نحو المطبخ، فنهضت وتبعته. فتح الصنبور وملأ كوبًا بالمياه، ثم ارتشف منه بضع رشفات.

– «لقد فعلتَ، أليس كذلك؟»

– «مارينا، لم لا تكفين عن الكلام في هذا الأمر؟»

– «إنني أكرهك!»

شعرت بمدى وقع كلماتي، لكني لم أندم على قولها، فقد أردت إيذاءه. كان انتقامًا يستحقه. لقد حاولت أن أتقبل موقفي وأن أتفهمه، لكني لم أستطع التظاهر بأني لا أعلم شيئًا عن الفظائع التي ارتكبها.

وضع الكوب على المائدة ببطء وحدق إليه، وعندما رفع رأسه نحوي كانت تطل من عينيه نظرة فيها مزيج من الغضب والألم. تقدم نحوي، فتراجعت بضع خطوات للخلف حتى اصطدمت بإحدى الخزانات. حتى لو حاولت الهرب، فلن أستطيع الذهاب بعيدًا. قبض على ذراعيَّ بقوة حتى انغرست أصابعه في لحمي.

– «أنت تؤذينني.»

– «أنا أؤذيك؟»

– «نعم، أنت تؤذينني منذ أن رأيتك أول مرة، وتؤذين الآخرين، وتؤذين نفسك أيضًا.»

ثم حملني إلى غرفة النوم، وظللت أصرخ وأركل بلا جدوى.

•••

وفي صباح اليوم التالي رفضت أن أنهض من الفراش. ناداني من المطبخ ثلاث مرات وقال إن الإفطار جاهز، لكني جذبت الغطاء على رأسي وظللت أبكي. أصدر الفراش صريرًا، ففتحت عيني ورأيته عبر الملاءة القطنية الرقيقة يجلس بجواري على حافة الفراش ومرفقاه يستندان على ركبتيه ويداه معقودتان، لكني لم أتحرك.

مرت بضع دقائق قبل أن يقول: «مارينا.»

لكني لم أجب.

«آسف لانفعالي عليك؛ لك كل الحق في أن تلقي باللوم عليَّ، ولكن عليك أن تفهمي أن الأمور تسير هكذا. لا أحب ما أقوم به، لكن العالم مليء بالقسوة والعنف، وهناك بعض الأمور التي يجب علينا القيام بها. أعلم أنك تختلفين معي، لكن ذلك لا يغير من حقيقة الأمر شيئًا، ولست أنا من جعل الأمور كذلك. يمكنك أن تكرهينني إذا أردت، لكني أحبك، ولم أقصد إيذاءك الليلة الماضية. هيا بنا نتناول الإفطار.»

لكني لم أُبدِ أي رد فعل.

– «هيا أرجوك، ماذا أفعل كي أرضيك؟»

– «دعني أذهب إلى منزلي.»

– «مارينا، أنت زوجتي، ومنزلك يكون حيث أكون. عليك أن تتقبَّلي تلك الحقيقة.»

ارتفع صوت بكائي ونشيجي، فجذب الملاءة عن وجهي وحاول أن يأخذني بين ذراعيه، لكني دفعته بعيدًا.

«عليكِ أن تعتادي الآن على حقائق الأمور. أهناك أي مطلب معقول أفعله لأرضيك؟»

كان عليَّ أن أجد بعض الخير في هذا الألم وإلا أغرقني.

– «قدم المساعدة لسارة.»

– «حسنًا.»

كان يرتدي سروال المنامة دون قميص، ورأيت خطوطًا بيضاء دقيقة تغطي ظهره العاري. إنها ندوب، وهناك الكثير منها. إنها آثار الجلد بالسياط. لم أكن قد لاحظتها من قبل، لأنني كنت أغمض عيني كلما بدأ في خلع ملابسه.

لمست ظهره وقلت: «لديك ندوب …»

وقف، وارتدى قميصه.

ولأول مرة شعرت برباط يشدنا معًا؛ شعرت بصلة بيننا. لم أكن أرغب في وجود تلك الصلة، ولكنها كانت ملموسة كالملاءة التي تغطيني؛ حقيقية كالندوب التي يحمل أثرَها جسدانا. كان إدراكًا حزينًا لا يحتاج كلمات كي تعبِّر عنه؛ إنما يقال كل شيء عنه من خلال نظرة صامتة أو لمسة حانية.

وأخيرًا قال: «هيا بنا.» وذهبنا نتناول الإفطار.

بعد نحو ثلاث ساعات كنت في زنزانتي الانفرادية القديمة، ولا أستطيع القول إنني اشتقت إليها. أحضر لي عليٌّ مجموعة كبيرة من الكتب كلها عن الإسلام، وأخبرني أنه سوف ينشغل كثيرًا في الفترة القادمة. ذكَّرته بالوعد الذي قطعه على نفسه بأن يجعلني أزور سارة، فاصطحبني إلى زنزانتها، لكنه حذرني من أنها تتعاطى جرعات مكثفة من الأدوية، وربما لا تستجيب لي كما ينبغي.

– «يمكنكِ البقاء معها ساعة أو ساعتين على الأكثر، فلا أريد إغضاب حامد.»

كانت سارة تكتب على الحائط عندما دخلتُ زنزانتها، وقد فقدت المزيد من الوزن وازداد وجهها شحوبًا. وضعت يدي على كتفيها، ولكنها لم تُبدِ أي رد فعل.

– «سارة، لقد افتقدتك كثيرًا.»

كانت الجدران مغطاة بالكلمات التي أعادتني إلى حياتنا القديمة: منزل سارة الذي يضم مشتلًا للأزهار، ووالدتها تجلس على أرجوحة في الساحة، ووالدها يقرأ أشعار حافظ، وسيرس يلعب كرة القدم مع أصدقائه، ومدرستنا ذات النوافذ المرتفعة، والعودة إلى المنزل سيرًا على الأقدام من متجر روستامي أغا وأنا ألعق المثلجات. كتبت سارة المزيد والمزيد من الكلمات، حتى إنها لم تنسَ الكتابة عن حافظة أقلامي. لم أكن أرغب في استحضار كل تلك الذكريات، فالالتفات إلى الماضي يعصر قلبي ألمًا ويزيد اشتياقي للعودة إلى المنزل؛ المنزل الذي بدا كأنه بعيد آلاف الأميال، لكنه موجود في مكان ما بعيدًا عن «إيفين»، حتى ولو كان أعلى قمة «إفرست» لتسلقتها، ولتسلقت عشر قمم مثلها كي أصل إليه.

– «سارة، أعلم أنك تسمعينني، ومعظم ما كتبتِ من ذكريات تخصني أيضًا. ما زالت بيوتنا موجودة، وعليك أن تنجي من «إيفين» حتى تعودي. ما زال منزلك هناك في انتظارك، ولا تنسي أن الغد يأتي دائمًا، لكن عليك أن تكوني موجودة لتعيشيه؛ حتى سيرس يريد منك ذلك. خوضي تلك المعركة لأجله، ولأجل أمك وأبيك.»

أمسكتُ كتفَي سارة وأدرتُ وجهها لتواجهني.

«حامد هو من يرغب في بقائك على تلك الحال كي تخسري، فلا تعطيه تلك الفرصة. سوف تعودين إلى المنزل. لو تعلمين ما فعلته أنا! النوم في فراش عليٍّ صعب، لكن عليًّا يختلف عن حامد، فبداخله طيبة، وهو يحبني … لكنه أمر صعب؛ أصعب مما تتخيلين.»

طوَّقتني سارة بذراعيها أكثر فأكثر، وعانقت إحدانا الأخرى وانخرطنا في البكاء.

•••

بعد نحو أسبوعين قضيت معظمهما في القراءة، فيما عدا الأوقات التي كنت أقضيها مع علي، انضمت إليَّ أول رفيقة في الزنزانة، وتدعى سيما. كانت عيناها بنيتين واسعتين، ومع أنها تبدو في الثالثة عشرة على أقصى تقدير، فقد فوجئت بأنها في الخامسة عشرة. طلب منها الحارس الذي أحضرها إلى الزنزانة أن تنزع العصابة قبل أن يغلق الباب خلفه، فنزعتِ العصابة وفركت عينيها وضيقتهما، ثم حدقت إليَّ بعينين يطل منهما الذعر.

سألتني من أكون، فأخبرتها باسمي، وبأني سجينة مثلها، فبدت عليها علامات الارتياح قليلًا، ثم جلست وقد تركت مسافة كافية بيننا. كانت قدماها متورمتين قليلًا، فسألتها هل تؤلمانها.

بكت، وقالت: «لقد عذبوني!»

اقتربت منها أكثر وأخبرتها أني تعرضت للتعذيب أيضًا ولفترة أطول منها، فسألتني كم لبثت في «إيفين»، فقلت: «سبعة أشهر.»

– «سبعة أشهر؟ إنه وقت طويل جدًّا. هل قضيتِ كل هذا الوقت في هذه الزنزانة؟»

أوضحت لها أني كنت في «٢٤٦»، وأنها قد تذهب إلى هناك أيضًا بعد انتهاء فترة التحقيق انتظارًا لمحاكمتها. سألتني كم يستغرق ذلك الأمر من وقت، فأجبتها أنه قد يتراوح ما بين بضعة أيام إلى بضعة أشهر، فعادت تسألني هل مَثُلتُ للمحاكمة.

– «نوعًا ما.»

– «وما الحكم الذي صدر ضدك؟»

– «السجن مدى الحياة.»

– «يا إلهي!»

أخبرتني أنها لا تتخيل حياتها في «إيفين» أكثر من أسبوع. سألتها من تولى التحقيق معها، فقالت إنه علي، وإنه كان دنيئًا للغاية.

قلت: «هكذا يكون أحيانًا، لكن هناك من هم أسوأ منه كثيرًا.»

لم يكن إخبارها بالحقيقة ليفيد في شيء.

أرادت سيما معرفة الإجراءات في «إيفين» وكل شيء عن «٢٤٦»، فأخبرتها بكل ما لديَّ من معلومات.

قرع عليٌّ الباب نحو الثامنة مساء ونادى اسمي، فحملت الشادور واتجهت نحو الباب.

قالت سيما همسًا: «ماذا يريد منك؟»

أجبتها وأنا أرتدي الشادور وأخرج من الزنزانة: «لا تقلقي، لن يؤذيني.»

سألني عليٌّ عن أحوال سيما، فأخبرته أنها قد تحسَّنت قليلًا. سألته لمَ أمر بجلدها، فقال إنه لم يكن لديه خيار آخر؛ إذ كان شقيقها عضوًا في «المجاهدين» ومتورطًا في اغتيال أحد المسئولين الحكوميين، وهو يبحث عنه ويحاول القبض عليه منذ عدة شهور، وعليه أن يتأكد أن سيما لا تعلم مكانه.

– «أرجو أن تخبرني بأنك لن تأمر بجلدها مرة أخرى؟»

– «لن أفعل، فهي لا تعلم أي شيء. سوف أرسلها إلى «٢٤٦»، وسوف نطلق سراحها فور أن يسلِّم شقيقها نفسه.»

سألته إلى أين يأخذني، فقال: «أي زنزانة أخرى، فأنا منهك وأحتاج إليك.»

•••

بعد صلاة الفجر عدت إلى الزنزانة فوجدت سيما مستغرقة في النوم.

سألتني فور أن استيقظتْ: «متى عدتِ بالأمس؟ لقد انتظرتك كثيرًا، ويبدو أن النعاس غلبني.»

– «الحقيقة أني تأخرت.»

– «وماذا كنت تفعلين طوال هذا الوقت؟»

– «الأمر ليس مهمًّا.»

– «ألا تريدين الحديث عن ذلك؟»

– «نعم، لا تقلقي بشأني.»

كانت تبكي، فعانقتها وأخبرتها أن كل شيء سيصبح على ما يرام ما دامت لم تفقد الأمل، وأني سمعت أن عليًّا سيرسلها إلى «٢٤٦»، حيث تقابل صديقاتي القدامى اللاتي سيساعدنها، وطلبت منها أن تخبرهن بأنني بخير.

في اليوم التالي أُرسلتْ سيما إلى «٢٤٦»، وشعرتُ بالسأم والوحدة يكادان يفترسانني، فطلبت من عليٍّ أن يحضر لي بعض دواوين الشعر، وأجابني إلى طلبي، وهكذا قسمت وقتي بين القراءة، وحفظ أشعار حافظ والسعدي والرومي، والنوم.

وبعد بضعة أيام اصطحبني عليٌّ من الزنزانة في المساء كي نذهب لتناول العشاء في منزل والديه. توقفنا عند بوابة السجن ننتظر الحرس كي يسمحوا للسيارة بالمرور. فتح عليٌّ النافذة كي يلقي التحية على الحرس الذين كانوا يتجاهلونني تمامًا بالرغم من ترحيبهم به، ولكن في تلك المرة بعد أن ألقى الحارس عليه التحية هز رأسه لي وقال: «مساء الخير يا سيدة موسوي.»

نظرت حولي في ارتباك، وبعد لحظة أدركت أنه كان يخاطبني. لمس عليٌّ يدي فانتفضت فزعة.

قال: «تبدو عليك الصدمة.»

– «لطالما تجاهلوني.»

– «لقد تقبَّلوك الآن، فهم يعلمون أننا متزوجان.»

فور أن وصلنا إلى منزل والدَي علي عانقتني كلٌّ من شقيقته ووالدته التي وجهت اللوم لي وهي تهز رأسها وتقول: «ما زلتِ شديدة النحافة.» تبعتها إلى المطبخ كي أساعدها في إعداد العشاء. أخذت أكرام تعد اللحم المشوي في الفرن، وتولَّت والدة علي إعداد الشاي للرجال، وفي طريقها لغرفة الجلوس سألتني هل أستطيع إعداد السلطة. كان هناك بعض الخس والطماطم والخيار في مصفاة بجوار الحوض، فأمسكت بالسكين، وبينما أقطع الخضر تذكرت أنني حلمت بأكرام في الليلة الماضية.

قلت لها: «حلمتُ بك في الليلة الماضية.»

– «وماذا كان الحلم؟»

توقفتُ محاولة أن أقرر هل عليَّ أن أخبرها أم لا.

«هيا، أخبريني. هل كان حلمًا سيئًا؟»

– «كلا، على الإطلاق.»

– «إذن ما هو؟ إنني أؤمن بالأحلام. هل تذكرين تفاصيله؟»

أخبرتها أنه حلم غريب إلى حد ما؛ فقد رأيتها في الكنيسة تشعل شمعة، وأخبرتني أني طلبت منها أن تردد «السلام الملائكي» تسع مرات كل يوم مدة تسعة أيام كي ترزق بطفل.

علت الدهشة وجهها، وسألتني عن «السلام الملائكي»، فأخبرتها.

بعد أن تلوت عليها السلام سألتني: «هل تؤمنين حقًّا أن السيدة مريم هي أم الله؟»

أوضحت لها أن المسيحيين يؤمنون بأن الله أراد لابنه المسيح أن يتجسد في رحم السيدة مريم، وأنها ليست امرأة عادية، بل إنها قد خُلقت من أجل هذا.

– «نحن نؤمن بأن السيدة مريم امرأة عظيمة، لكنها ليست أم الله!»

– «لا أطلب منك أن تؤمني بشيء. لقد سألتني عن الحلم الذي رأيته، وأخبرتك به.»

أطرقت برأسها تفكر، ثم قالت: «سأقوم بذلك؛ سأتلو هذا الدعاء، فليس هناك ما أخسره، أليس كذلك؟»

•••

بعد يومين أتى عليٌّ إلى زنزانتي في فترة ما بعد الظهيرة، ولم يكن هذا معتادًا، فهو يأتي دائمًا في المساء. كنت قد غفوت قليلًا واستيقظت فزعة. جلس بجواري، واستند إلى الحائط، وأغمض عينيه.

سألته: «هل أنت بخير؟»

– «نعم أنا بخير.»

وطوقني بذراعيه.

– «ما الأمر؟»

تنهد وقال: «أحضر الحرس فتاة منذ يومين في السابعة عشرة من العمر تقريبًا. أُلقي القبض عليها وهي تكتب «الموت للخميني» و«الخميني قاتل» وعبارات مشابهة باستخدام علبة الطلاء على أحد الجدران في شارع «انقلاب»، وعندما أُلقي القبض عليها اعترفت بأنها تكره الإمام لأنه تسبب في مقتل شقيقتها الصغرى، وما زالت تردد نفس الكلام هنا. أعتقد أنها فقدت عقلها. أغلظ حامد في ضربها، لكنها ما زالت تردد نفس الكلام، وسوف تُعدم قريبًا ما لم تلتزم الأدب وتتعاون معنا. هلا تحدثتِ معها؟ ربما تكون بحاجة إلى طبيب نفسي، لكن هذا لن يحدث. لا تقولي شيئًا، أعلم أن هذا ليس عدلًا، وأعلم أيضًا أنك ربما لا تتمكنين من إقناعها. لا أحب أن أفعل هذا بك، ولكنني لا أرى حلًّا آخر.»

– «سوف أتحدث معها. أين هي؟»

– «في مبنى التحقيق. سوف أذهب لإحضارها.»

•••

بعد نحو نصف ساعة دفع عليٌّ مقعدًا متحركًا إلى زنزانتي، وكانت الفتاة الجالسة عليه ترتدي شادورًا من اللون الأزرق الداكن وتجلس مائلة إلى أحد جانبيه ورأسها يرتكز على أحد كتفيها.

قال علي: «مينا، يمكنك أن تنزعي العصابة الآن.» لكنها لم تتحرك. جذب العصابة من فوق وجهها، ففتحت عينيها قليلًا. كانت وجنتها اليمنى زرقاء متورمة، وأدركت أنها لا ترى أو تسمع أو تفهم الكثير، وأن كل شيء يبدو لها كابوسًا بلا معنى.

قلت وأنا أنحني أمامها: «اسمي مارينا، وأنا سجينة مثلك. أنت الآن في زنزانة، وسوف أساعدك كي تنهضي من المقعد. لا تخافي، فلن أؤذيك.»

جذبتها فانهارت بين ذراعي. ساعدتها على الجلوس على الأرض، فأخذ عليٌّ المقعد المتحرك وخرج من الزنزانة.

همستْ مينا: «ليلى ماتت.»

– «ماذا؟»

– «ليلى ماتت.»

– «من ليلى؟»

– «ليلى ماتت.»

وبينما أبسط بطانية على الأرض لتنام عليها، رأيت قدميها، فشهقت فزعًا؛ كانتا متورمتين أكثر مما كانت عليه قدماي.

– «سوف أنزع عنك الخف برفق شديد.»

بدا جلد قدميها كأنه بالون منتفخ، لكني تمكنت من انتزاع الخف بسهولة.

صببت بعض المياه في كوب بلاستيكي ورفعته إلى شفتيها الجافتين المتشققتين، فارتشفت منه بضع رشفات.

– «تناولي المزيد.»

هزت رأسها نفيًا، فساعدتها كي ترقد وخلعتُ عنها الشادور والوشاح. كانت ترتجف، فبسطتُ بطانيتين أخريين فوقها، وسرعان ما استغرقتْ في النوم، فجلستُ بجوارها أتأملها. كانت طويلة نحيلة، شعرها البني المجعد أشعث متسخ من تغطيته بالحجاب فترة طويلة منذ القبض عليها. فكرتُ في قدميها المنتفختين، فبدأت قدماي تؤلمانني. لم يكن الألم الذي تعرضتُ له في أيامي الأولى في «إيفين» ذكرى فقط، بل حاضرًا يحيا داخلي.

وبعد نحو أربع ساعات بدأت مينا تتأوَّه، فأمسكتُ كوبًا من المياه وساعدتها على الجلوس.

– «اسمعيني جيدًا. أعلم بمَا تشعرين به، وأن كل شيء يؤلمك الآن، لكني أعلم أيضًا أنك ستصبحين في حال أفضل إذا شربت هذه المياه. لا تستسلمي.»

ارتشفتْ بضع رشفات وعيناها مثبتتان عليَّ، ثم سألتني: «من أنتِ؟»

– «أنا سجينة مثلك، واسمي مارينا.»

– «ظننتُ أني قد متُّ وأنك ملاك.»

ضحكتُ وقلت: «أؤكد لك أنني لست ملاكًا، وأنك ما زلت على قيد الحياة. لديَّ بعض الخبز والتمر. يجب أن تتناولي الطعام، فجسمك بحاجة إلى القوة كي تستعيدي عافيتك.»

تناولتْ بضع تمرات والقليل من الخبز، ثم قرع أحدهم باب الزنزانة فور أن رقدتْ مرة أخرى، وسمعتُ صوت عليٍّ من خلف الباب يقول: «مارينا، ارتدي الشادور واخرجي.» اصطحبني إلى زنزانة أخرى حيث تناولنا بعض الخبز والجبن اللذين أحضرهما معه، ولم يسألني عن مينا.

– «ألا تريد أن تعلم ما حدث مع مينا؟»

– «الحقيقة أني لا أريد أن أعرف شيئًا الآن، بل أود أن أريح ذهني تمامًا وأخلد إلى النوم.»

***

عندما عدت إلى الزنزانة في الرابعة صباحًا وجدت مينا نائمة، ولم تستيقظ إلا بعد شروق الشمس.

سألتها: «مَن ليلى؟»

سألتني كيف علمت بأمر ليلى، فأخبرتها بما قالته عند دخولها الزنزانة.

– «ليلى شقيقتي.»

– «وكيف ماتت؟»

– «أصيبت بطلق ناري في مظاهرة احتجاجية.»

أخبرتني أن إحدى صديقات ليلى، وتدعى داريا، قد تعرضت للاعتداء من أفراد «حزب الله» ذات يوم بسبب ظهور خصلات من شعرها من تحت حجابها. كانت والدة مينا في طريقها إلى المتجر وشاهدت واقعة الضرب. بعدها أجبروا داريا على الركوب في سيارة وانطلقوا بها بعيدًا. حاول والداها البحث عنها في كل مكان وكل مستشفى وكل جمعية إسلامية، ولكنها اختفت تمامًا. وبعد مرور شهرين سمعت ليلى عن مظاهرة احتجاجية وقررت أن تنضم إليها، وشجعت مينا على الانضمام إليها أيضًا. حاولت مينا إقناعها بألا تذهب، لكن ليلى أكدت لها أنها ستذهب سواء انضمت لها شقيقتها أم لا، وسألتها ماذا لو أن ما حدث مع داريا قد حدث معها هي شخصيًّا، وأخيرًا استسلمت مينا وقررت أن تذهب معها، لكن ليلى أخذت منها وعدًا بألا تخبر والديهما بأمر المظاهرة.

قالت مينا: «وهكذا ذهبنا معًا. كان هناك الكثير من الناس. بدأ الحرس الثوري بالهجوم علينا وإطلاق النيران، وبدأ الجميع يفرون. قبضتُ على يد ليلى وحاولتُ أن أصل بها إلى مكان آمن، ولكنها سقطت أرضًا، واستدرت فوجدتها قد ماتت.»

أخبرت مينا بأمر المظاهرة الاحتجاجية في ميدان «فردوسي»، والشاب الذي أُطلقت عليه النار، وقراري بالانتحار عندما عدت إلى المنزل بعد المظاهرة، لكني بدلًا من أن أتناول حبوب أمي المنومة قررت أن أفعل شيئًا إيجابيًّا بشأن ما شاهدته؛ قررت أن أفعل الصواب.

– «وماذا فعلتِ؟»

– «كتبتُ عن المظاهرة على لافتة من الورق المقوى ووضعتها على أحد حوائط المدرسة، ثم أنشأتُ صحيفة مدرسية.»

– «اعتدت الخروج في وقت متأخر مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع والكتابة عما حدث لليلى على الحوائط بالطلاء. كنت أكتب شعارات مضادة للخميني والحكومة، فكلهم قتلة.»

– «مينا، لقد كنتُ قاب قوسين أو أدنى من الإعدام، وسيعدمونك إن لم تتوقفي عن ترديد الشعارات المناهضة للخميني وللحكومة. لقد فقدتُ بعض أصدقائي وأقدِّر شعورك جيدًا، ولكن موتك لن يفيد بأي شيء.»

ضيقت عينيها، وقالت: «إذن فقد تعاونتِ معهم ونجوتِ بحياتك!»

– «ليس تمامًا، فقد هددوني بإيذاء عائلتي وأحبائي، ولم أتحمل تعريضهم للخطر.»

– «فهمت، لكن عائلتي قد تحطمت على كل حال، فوالدي مصاب بمرض السكري والقلب، وهو يرقد في المستشفى منذ فترة، وأمي لم تتبادل كلمة مع أي شخص منذ وفاة ليلى، وقد انتقلنا حديثًا للعيش مع جدتي التي تولت العناية بأمي. يمكن للحرس الثوري أن يهددوني كما شاءوا، فلا يمكن أن يسوء الأمر عن ذلك. ثم إني أتحمل جزءًا من المسئولية أيضًا؛ كان عليَّ أن أمنع ليلى من الذهاب إلى تلك المظاهرة، فلولا ذهابها إلى المظاهرة لكانت بخير حتى الآن، ولكُنَّا جميعًا بخير.»

– «لا تلقي باللوم على نفسك.»

– «لكنه خطئي.»

– «هل تظنين أن ليلى تريدك أن تُعدمي؟»

– «أظن أنها تريدني أن أفعل الصواب.»

– «وهل الانتحار هو الصواب؟»

– «أنا لا أنتحر.»

– «إذا جادلت الحرس والمحققين فسوف يقتلونك، فلا تجادلي، أنقذي نفسك بقليل من التعاون.»

– «لن أتعاون مع من قتلوا شقيقتي.»

– «سوف يقتلونك أنت أيضًا، وبمَ سيفيد قتلك؟»

– «لن أستطيع الحياة بضمير مثقل بالذنب.»

– «لا تتخلي عن حياتك.»

– «لن تستطيعي تغيير رأيي. هل تعتقدين بالفعل أن تلك الحياة تستحق أن نحياها؟»

– «لا يمكنك أن تعرفي أبدًا ما يخبئه لك المستقبل، وما الذي قد يحدث خلال شهرين أو خمسة أو عشرة أشهر. يجب أن تمنحي نفسك فرصة، وقد منحك الله الحياة، فعليك أن تعيشيها.»

– «لا أؤمن بالله، وحتى إن كان هناك إله فهو قاسٍ.»

– «حسنًا، أنا أؤمن بالله ولا أعتقد أنه قاسٍ، بل نحن من نمارس القسوة أحيانًا، فسواء أكنت موجودة أم لا، كانت ليلى ستحيا وتموت بنفس الطريقة التي قُدِّر لها أن تحيا وتموت بها، ولكن الله أنعم عليك بأخوَّتها ومحبتها وبالذكريات الجميلة التي شاركتها إياها، والآن يمكنك أن تتذكريها، يمكنك أن تعيشي وتفعلي الخير إحياء لذكراها الطيبة.»

أشاحت بوجهها بعيدًا عني، وقالت: «لا أؤمن بالله.»

ظلت مينا نائمة بقية اليوم. كان بوسعي أن أتفهم شعورها بالمرارة، فقد تحول غضبها إلى كراهية تحرقها بنيرانها، أما أنا فقد أمدني إيماني بالله بالأمل وساعدني على الإيمان بوجود الخير بالرغم من الشر المحيط بي.

وفي المساء أتى عليٌّ إلى باب الزنزانة ونادى اسمي، فلم تتحرك مينا أو تفتح عينيها، بينما اقتادني عليٌّ إلى زنزانة أخرى كالمعتاد. حاولت أن أحدثه بشأن مينا، لكنه لم يكن راغبًا في الحديث.

كان الجو ما زال مظلمًا وصلاة الفجر لم يَحِن موعدها بعد عندما أعادني لزنزانتي، وبعد أن أغلق الباب أصبح الظلام حالكًا ولم أستطع رؤية أي شيء، فجلست على الأرض في الحال كي لا أخطو على مينا، ولكنني لم أسمع أي صوت، فتقدمت للأمام ببطء متحسسة طريقي بيدي، ولكن مينا لم تكن موجودة.

ناديت: «مينا!»

تسلل الضوء، وملأ صوت المؤذن المكان: «الله أكبر …»

– «مينا!»

– «الله أكبر …»

لقد اختفت مينا. كان عليٌّ معي في الزنزانة الأخرى طوال الليل. يا إلهي! لقد أخذها حامد دون علم علي. حاولت أن أفكر، ربما هي حية، وماذا يمكنني أن أفعل؟ كنت على يقين من أن عليًّا في طريقه لمبنى التحقيق، يمكنني أن أقرع باب الزنزانة وأطلب من أحد الحرس أن يناديه، لكن سيبقيه بعيدًا عن مبنى التحقيق. كان عليَّ أن أنتظر.

ظللت أذرع الزنزانة جيئة وذهابًا، ولم تستغرق مني سوى خمس أو ست خطوات كي أقطع طولها، ولم يكن عرضها يزيد عن ثلاث خطوات. تدافعتْ في ذهني مشاهد من الليلة التي اقتادوني فيها لتنفيذ حكم الإعدام، كنت قد شهدت اللحظات الأخيرة في حياة شابين وفتاتين لم أكن أعرف أسماءهم. هل أخبر أحد عائلاتهم بأن أحبَّاءهم قد أُعدموا؟ أين دفنوا؟ ربما حدث لمينا نفس الشيء. قرعت باب الزنزانة بقبضتي بأقصى قوة.

جاءني صوت أحدهم يتساءل: «هل هناك خطب ما؟»

– «هل يمكن من فضلك أن تبحث عن الأخ علي وتخبره أني أريد الحديث معه في الحال.»

وافق الرجل. ظللت أذرع المكان لبعض الوقت وقلبي يخفق بشدة. لم يكن لديَّ ساعة، ولم أدرِ كم مر من الوقت. لم يكن أذان الظهر قد حان موعده بعد، وشعرت بالدوار فأخذت أترنح وأرتطم بالحوائط. لا بد أن هناك المزيد مما يمكنني فعله، فبدأت أطلب العون من كل القديسين الذين أعرفهم: «أيها القديس بولس أغث مينا، أيها القديس مارك أغث مينا، أيها القديس متَّى أغث مينا، أيها القديس لوقا أغث مينا، أيتها القديسة برنادت أغيثي مينا، أيتها القديسة جان دارك أغيثي مينا.» لم أستطع أن أتذكر أسماء أي قديسين آخرين، فقرعت الباب مرة أخرى.

أجابني نفس الصوت: «لقد أخبرته.»

– «وماذا قال؟»

– «قال إنه سيأتي في أقرب وقت ممكن.»

جلست في أحد الأركان وأخذت أبكي.

وهنا ارتفع صوت المؤذن لصلاة الظهر: «الله أكبر … الله أكبر …»

فُتح باب الزنزانة، ودخل عليٌّ وأغلق الباب خلفه، ثم وقف يحدق إليَّ بضع ثوانٍ.

وأخيرًا قال: «تأخرتُ كثيرًا، لقد ماتت بالأمس أثناء التحقيق.»

– «كيف؟»

– «قال حامد إنها تطاولت عليه في الرد فصفعها، فسقطت على الأرض وارتطم رأسها بشيء ما.

– «يا إلهي! وهل صدقته؟»

– «لا يهم هل صدقته أم لا.»

شعرت بحاجة إلى البكاء، لكني لم أستطع أن أبكي؛ وشعرت بحاجة إلى الصراخ، لكني لم أستطع أن أصرخ؛ وشعرت بحاجة إلى أن أوقف الأمور الرهيبة التي تحدث، لكني لم أستطع أن أوقفها.»

جلس عليٌّ بجواري.

قال: «لقد حاولت.»

بكيت وقلت: «لم تحاول بما يكفي.»

فغادر المكان.

•••

لم يأتِ عليٌّ لرؤيتي خمسة أو ستة أيام قضيت معظمها نائمة يربكني موت مينا. وأخيرًا ذات صباح أحضر امرأة شابة تدعى بهار إلى زنزانتي، وكانت تحمل طفلًا رضيعًا بين ذراعيها. لم يتبادل معي كلمة واحدة، ولكن أعيننا تقابلت، وشعرت أنه يرغب في الحديث معي، ولكنه غادر المكان في الحال.

كان ابن بهار طفلًا جميلًا اسمه إحسان، ويبلغ من العمر خمسة شهور. كانت بهار من رشت، وهي مدينة تقع في شمالي إيران بالقرب من شاطئ بحر «قزوين»، في منطقة لا تبعد كثيرًا عن منزلنا الصيفي. كان شعرها أسود قصيرًا مجعدًا، ومع أني استطعت أن ألمح القلق في عينيها فقد كانت تتحرك وتتكلم في ثقة وهدوء. كانت هي وزوجها عضوين في «الفدائيين»، وأُلقي القبض عليهما في منزلهما، وأُرسلا إلى «إيفين»، لكن بهار لم تتعرض للتعذيب أو الجلد أثناء التحقيق.

في تلك الليلة نادى عليٌّ اسمي من وراء الباب المغلق، وقبل أن أغادر الزنزانة أمسكتْ بهار يدي بيديها وأخبرتني أنها واثقة أني سأكون بخير. كانت يداها أكبر من يدَي أي امرأة رأيتها في حياتي، وشعرت بدفء ملمسهما في مقابل يدَيَّ الباردتين.

وكالمعتاد اصطحبني عليٌّ إلى زنزانة انفرادية أخرى، ولكنه ظل هادئًا وجلس في أحد الأركان ينظر لي وأنا أخلع الشادور.

وفجأة قال: «لا تحكمي عليَّ بتلك القسوة.»

– «لقد ماتت مينا، ماتت فتاة بريئة، وكل ما تفكر فيه هو حكمي عليك؟ بالطبع سوف أحكم عليك بقسوة، وهل لديَّ خيار آخر؟ فأنت المسئول هنا.»

– «لست المسئول، حاولت أن أكون كذلك، لكني لست المسئول.»

– «من المسئول إذن؟»

– «مارينا، أنا أفعل كل ما بوسعي، وعليك أن تثقي بي. الأمر ليس سهلًا، وأريدك أن تفهمي أنني لا أرغب في الحديث عن ذلك.»

•••

كانت الرابعة صباحًا عندما عدت إلى زنزانتي، وكان المكان هادئًا للغاية، فخطوت على أطراف أصابعي إلى مكاني.

قالت بهار بصوت ملأ الظلام: «هل أنتِ بخير؟»

– «أنا بخير، وأعتذر لك إن كنت قد أيقظتك.»

– «لا داعي للاعتذار، فقد كنت مستيقظة. هل ترغبين في الحديث؟»

– «عن ماذا؟»

– «عن أي شيء يخطر في بالك. حتى الآن كان معظم حديثنا يدور حولي أنا، والآن حان دورك، ولا تخبريني أنك على ما يرام، لأنني واثقة أنك لست كذلك.»

حاولت أن أغالب دموعي. لقد فاجأتني من حيث لا أتوقع. من أين أبدأ؟

– «أريد أن أخبرك، لكني لا أستطيع.»

– «حاولي؛ ليس عليك أن تخبريني بكل التفاصيل.»

– «أنا زوجة علي.»

– «غير معقول!»

– «إنها الحقيقة.»

– «كيف يمكن ذلك؟ ألقى القبض على زوجته؟»

– «كلا، لم أكن أعرفه قبل أن آتي إلى هنا، بل كان واحدًا ممن حققوا معي، وعندما اقتادني المحقق الآخر حامد للإعدام، أوقفه عليٌّ ثم هددني بأني إذا لم أتزوجه فسيؤذي أحبائي. لم يكن لديَّ خيار آخر.»

– «هذا اغتصاب!»

– «لا تخبري أحدًا بهذا الأمر، فأصدقائي في «٢٤٦» لا يعلمون شيئًا عنه.»

– «أهو نكاح متعة؟»

– «كلا، إنه زواج دائم.»

– «في مثل تلك الظروف لا أدري ما إذا كان الزواج الدائم ميزة أم عيبًا، ففي الزواج المؤقت على الأقل سيتركك وشأنك بعد فترة من الزمن، أما الآن …»

– «أنا بخير.»

– «كيف يمكن أن تكوني بخير؟»

لم أستطع التحمل أكثر من ذلك، فأخذت أبكي حتى استيقظ الطفل. حملته بهار وأخذت تهدهده وتغني له أغنية من تأليفها عن بحر قزوين وغابات الشمال الكثيفة والأطفال الذين يلعبون هناك بلا هموم.

وجدت الحديث مع بهار سهلًا، فأخبرتها عن جيتا وترانه ومينا وكراهيتي لنفسي بسبب عجزي عن مساعدتهن، وأخبرتني أنها فقدت أصدقاءها هي الأخرى، وألقت باللوم على نفسها لأنها ظلت على قيد الحياة.

سألتها عن الأحوال خارج «إيفين» قبل القبض عليها، فأخبرتني أن شيئًا لم يتغير خلال العام الماضي، وأن الحكومة الإسلامية قد نجحت في إحكام قبضتها، وأن الجهلة وأنصاف المتعلمين يطيعون الخميني طاعة عمياء لأنهم يرغبون في دخول الجنة، بينما التزم المثقفون الصمت كي لا يتعرضوا للسجن والتعذيب والإعدام، وهناك أيضًا من لا يصدقون الملالي والشائعات التي يرددونها، لكنهم يتبعونهم كي يحصلوا على فرص عمل أفضل ورواتب مجزية.

•••

ذهبت بهار إلى «٢٤٦» بعد أن قضت ثلاثة أسابيع معي في الزنزانة، وعاودني الشعور بالوحدة مرة أخرى، وذات ليلة في منتصف سبتمبر بينما كنا نتناول العشاء الذي أحضره عليٌّ، والمكون من الأرز والدجاج المشوي، طلبتُ منه أن يسمح لي بالعودة إلى «٢٤٦» ووافق.

قال: «غدًا إعادة محاكمتك.»

لم يشعرني ذلك بالسعادة أو الحماس، فأنا أعلم أني حتى لو حصلت على البراءة فلن يتغير الأمر كثيرًا، فأنا زوجة علي ويجب أن أظل معه إلى الأبد.

ثم أخبرني بأن عليَّ أن أحضر تلك المحاكمة.

– «وهل عليَّ أن أقول شيئًا؟»

– «كلا، ما لم يوجه لك سؤال مباشر. سوف أحضر معك، لا تقلقي.»

وكانت لديه بعض الأنباء الأخرى؛ فسارة تتحسن وأعيدت إلى «٢٤٦»، وصدر ضدها حكم بالسجن ثماني سنوات.

– «ثماني سنوات؟ لقد وعدتني أنك ستساعدها!»

– «مارينا، لقد ساعدتها بالفعل، وموقفها كان سيصبح أسوأ من ذلك لولا أنني تدخلت في الأمر، وعلى أي حال فلن تظل هنا طوال مدة العقوبة؛ سأحاول إضافة اسمها لقائمة إطلاق السراح المشروط.

– «أنا آسفة يا علي، معك حق. لا أدري ماذا كنت سأفعل من دونك.»

ضحك وقال: «أظن أن هذا ألطف ما قلتِ لي حتى الآن.» وأدركت أنه كان محقًّا.

•••

في صباح اليوم التالي اصطحبني عليٌّ من الزنزانة إلى المحكمة التي تقع في مبنى آخر يبعد مسيرة عشر دقائق. كان الموظفون والحرس يتدافعون من مبنى إلى آخر يجرُّون بعض السجناء خلفهم أحيانًا. وجَّه كلُّ من قابلنا تقريبًا التحية لعلي بانحناءة خفيفة وهم يضعون يدهم اليمنى على قلوبهم، ثم يهزون رءوسهم باتجاهي ناظرين في الأرض. يجب على النساء المسلمات أن يغضضن البصر عند رؤية الرجال فيما عدا أزواجهن وآباءهن وإخوتهن وبعض الأقارب الآخرين، وقد طبقت تلك القاعدة بكل سرور. انحنى عليٌّ أيضًا لأصدقائه وزملائه وحياهم بكلمات ودية. دخلنا المحكمة؛ مبنى قرميدي مكون من طابقين ذوي نوافذ مدعومة بالقضبان وممرات مظلمة. قرع عليٌّ بابًا مغلقًا فأجاب صوت جهوري «تفضل.» دخلنا فوجدنا ثلاثة من الملالي جالسين خلف مكاتبهم. وقف الثلاثة وصافحوا عليًّا فور أن دخلنا الغرفة، وعندما حيَّوني نظرت إلى الأرض ولم أقل سوى «السلام عليكم»، وطلبوا منا الجلوس.

قال الملا الذي يجلس في المنتصف: «بسم الله الرحمن الرحيم، تنعقد الآن رسميًّا محكمة العدل الإسلامية. كان قد حُكم على السيدة مارينا مرادي بخت بالإعدام في يناير من عام ١٩٨٢، ولكنها حصلت على عفو الإمام وخُفف الحكم الصادر ضدها إلى السجن مدى الحياة، ومنذ ذلك الحين تغيرت حالتها تغيرًا جذريًّا؛ إذ اعتنقتِ الإسلام وتزوجت من السيد علي موسوي الذي طالما دافع عن الإسلام بكل ما أوتي من قوة، وأظهر قدرًا كبيرًا من التضحية على وجه التحديد في خدمة الإمام في مواقف عديدة. وفي ضوء كل تلك التغيرات أعادت المحكمة النظر في قضيتها ورأت تخفيف الحكم الصادر ضدها إلى السجن ثلاث سنوات قضت منها بالفعل ثمانية أشهر.»

وقف جميع الملالي وصافحوا عليًّا مرة أخرى، ودعونا إلى تناول الشاي، وهكذا انتهت المحاكمة.

•••

بعد بضعة أيام عدت إلى الغرفة رقم «٦» في الطابق الأول من «٢٤٦»، وفور أن دخلت الغرفة وجدت شيدا وسارة تقفان أمامي. تعانقنا كأننا شقيقات لم يرَ بعضهن البعض منذ حين، وفجأة وجدتُ سيما وبهار تعانقاننا عناقًا حارًّا، حتى إننا توسلنا إليهما أن تتركانا. لم أصدق كم كبر كاوه ابن شيدا، فعمره الآن ستة أشهر.

سألتُ شيدا عندما جلسنا في ركن هادئ: «ماذا تفعلين بالطابق الأسفل؟»

– «لقد نقلت إلى هنا منذ أسبوعين. أين كنتِ؟»

– «في الزنزانات الانفرادية بمبنى «٢٠٩».»

– «لماذا؟»

– «كانت تنتابني الكثير من نوبات الصداع ولم أستطع احتمال الضوضاء هنا، فنقلت إلى «٢٠٩».»

– «حسنًا.»

أعلم أنها لم تصدقني، ولكنها لم ترغب في توجيه المزيد من الأسئلة. أخبرتني أن الحكم الصادر ضدها قد خفف إلى السجن مدى الحياة، ولكن زوجها لا يزال في قائمة المحكوم عليهم بالإعدام.

– «أفكر في إرسال كاوه إلى والديَّ، مع أنه مسموح لي بإبقائه معي حتى يبلغ الثالثة من العمر، لكني أظن أن بقاءه معي سيكون فيه أنانية من جانبي، فهو لم يرَ شجرة أو وردة أو أرجوحة أو أي طفل آخر قط.»

كانت على حق، فالأسوار المرتفعة والأسلاك الشائكة والحرس المسلحون هي مفردات عالمه، ولم يكن يستحق ذلك. لكن في كل مرة تفكر شيدا فيها في إرساله إلى والديها ينفطر قلبها، ولم تدرِ هل ستقوى على البعد عنه.

•••

بدأت أعمل مع سارة في مصنع صغير للحياكة افتُتح في السجن لصناعة القمصان الرجالية، وسررنا بالعمل هناك لأنه أبقانا مشغولتين طوال اليوم. أخبرَنا الحرس أننا سنحصل على أجر مقابل عملنا قبيل إطلاق سراحنا، لكن الأجر كان زهيدًا للغاية، حتى إننا لم نفكر فيه. بدت علامات التحسن على سارة، ولكن كلما أتيحت لها الفرصة كتبت على جسدها وعلى كل الأسطح القابلة للكتابة عليها، بيد أنها كانت تركز في عملها أثناء فترة العمل.

في تلك الفترة ظللت أدعو أن يملَّ عليٌّ منِّي، ولكن ذلك لم يحدث، فقد استمر استدعائي عبر مكبر الصوت نحو ثلاث مرات في الأسبوع، وبعد قضاء الليل معه في إحدى الزنزانات بمبنى «٢٠٩» كنت أعود إلى «٢٤٦» وقت صلاة الفجر. لم تسألني معظم الفتيات قط أين أذهب طوال الليل، ولكن عندما توجِّه إحداهن لي هذا السؤال أخبرها بأنني أتطوع للعمل في مستشفى السجن. كانت ثلاث أو أربع فتيات أخريات في «٢٤٦» يستدعين بانتظام ليلًا، وكن يعدن أيضًا قبل شروق الشمس. تجنب بعضنا الحديث مع بعض، لكني خمنت أن وضعهن مشابه لوضعي.

مرت بنا الأيام والأسابيع والشهور في «إيفين»، ومع كل لحظة تمر تتسرب حياتنا قبل السجن منا شيئًا فشيئًا، ومع أن الأمل في العودة إلى المنزل أخذ يتضاءل رويدًا رويدًا حتى أصبح أشبه بالحلم، فقد احتفظنا به في قلوبنا ورفضنا أن ندع ذلك الحلم يموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤