لا تشرب الماء
قال كارل: «إذا أردتَ أن تقتل أحدهم، فلا تفعل ذلك في إنجلترا.»
سألته ببراءة: «ولمَ لا؟»
فحذَّرني زميلي من السجن بينما كنا نمشي حول ساحة التدريب قائلًا: «الاحتمالات لا ترجِّح أن تفلت بفعلتك. لديك فرصة أفضل بكثيرٍ في روسيا.»
طمأنته قائلًا: «سأحاول أن أتذكر ذلك.»
أضاف كارل: «على الرغم من ذلك، كنت أعرف رجلًا من أبناء بلدك نجح في الإفلات من جريمة قتل، ولكن بتكلفة كبيرة.»
•••
كانت تلك هي استراحة الاختلاط، وهي استراحة محبَّبة مدتها ٤٥ دقيقة تحصل عليها عندما يُطلَق سراحك من زنزانتك. يمكنك خلالها إما أن تقضي وقتك في الطابق الأرضي، وهو بحجم ملعب كرة سلة تقريبًا، فتجلس وتدردش أو تلعب تنس الطاولة أو تشاهد التليفزيون، وإما أن تخرج إلى الهواء الطلق وتتجوَّل حول الساحة التي هي بحجم ملعب كرة قدم تقريبًا. كانت هذه الاستراحة بالنسبة إليَّ هي أبرز ما في يومي على الرغم من أنني محاط بجدارٍ خرساني يبلغ ارتفاعه عشرين قدمًا يعلوه سلكٌ شائك، ولا أرى شيئًا سوى السماء من فوقي.
بينما كنت مسجونًا في سجن بيلمارش، وهو سجن عالي الحراسة من الفئة أ في جنوب شرق لندن، كنت محبوسًا في زنزانتي مدة ثلاث وعشرين ساعة في اليوم (تخيل ذلك). يُسمح لك بالخروج فقط للذهاب إلى المقصف لتسلُّم غدائك (في خمس دقائق)، والذي تأكله بعد ذلك في زنزانتك. ثم بعد خمس ساعات تتسلَّم عشاءك (في خمس دقائق أخرى)، كما يسلِّمونك أيضًا فطور يوم غد في كيس بلاستيكي حتى لا يتعيَّن عليهم السماح لك بالخروج مرة أخرى قبل موعد غداء اليوم التالي. الخروج السعيد الآخر والوحيد هو استراحة الاختلاط، وحتى ذلك يمكن أن يُلغى إذا كان السجن يعاني نقصًا في الموظفين (وهو ما يحدث مرتين في الأسبوع تقريبًا).
كنت دائمًا أستخدم تلك الاستراحة التي تستمر خمسًا وأربعين دقيقة في المشي السريع، لسببَين: الأول أنني كنت في حاجة إلى التدريب لأنني حينما كنت في الخارج أتدرَّب في صالة رياضية محلية لخمسة أيام في الأسبوع، والثاني أن السجناء لا يأبهون بمحاولة مواكبتي. لكن كارل كان هو الاستثناء.
كان كارل روسيَّ المولد، وينتمي إلى سانت بطرسبرج، تلك المدينة الجميلة. كان قاتلًا مأجورًا بدأ للتوِّ قضاء عقوبة السجن لمدة ٢٢ عامًا لقتله مواطنًا له كان يثير المتاعب لإحدى عصابات المافيا في بلده. كان يقطِّع ضحاياه إلى قطع صغيرة، ويضع ما تبقى منهم في موقد لحرق النفايات. بالمناسبة، كان يتقاضى خمسة آلاف جنيه إسترليني — في حال كنت تريد التخلص من أحدهم.
كان كارل رجلًا ضخمًا، يبلغ طوله ست أقدام وبوصتين، وكان بنيانه يشبه بنيان رافعي الأثقال. كان جسمه مغطًّى بالوشوم، ولم يكن يتوقف عن الكلام قطُّ. بصفة عامة، لم يعد من الحكمة أن أقاطع حديثه. ومثل العديد من السجناء، لم يتحدث كارل عن جريمته التي ارتكبها؛ إذ تقول القاعدة الذهبية — إذا انتهت بك الحال يومًا في السجن — ألا تسأل أبدًا عن سبب دخول أحدهم السجن إلا إذا أثار هو الموضوع. ومع ذلك، أخبرني كارل بقصة عن رجل إنجليزي لقيه في سانت بطرسبرج، التي زعم أنه شهدها في الأيام التي كان يعمل فيها سائقًا لأحد الوزراء.
وعلى الرغم من أنني وكارل كنا نقيم في مبنيَين منفصلين، فإننا كنا نلتقي بانتظامٍ في استراحة الاختلاط. ولكن تطلب الأمر عدة جولات في الساحة قبل أن أعرف منه قصة ريتشارد بارنسلي.
•••
«لا تشرب الماء». حملق ريتشارد (وكُنيته ديك) بارنسلي في البطاقة البلاستيكية الصغيرة التي وُضعت على حوض الغسيل في حمامه. ليس هذا التحذير من النوعية التي تتوقع أن تجدها عندما تقيم في فندق خمسة نجوم، إلا إذا كنتَ في سانت بطرسبرج بالطبع. وإلى جانب التحذير كانت هناك زجاجتان من الماء من نوع إيفيان. وعندما عاد ديك إلى غرفة نومه الفسيحة، وجد زجاجتين أخريين على كل جانب من جانبَي السرير المزدوج، واثنتين أخريين على طاولة بجانب النافذة. لم تكن الإدارة على استعدادٍ لأي مجازفة.
كان ديك قد طار إلى سانت بطرسبرج لإتمام صفقة مع الروس. فقد اختيرت شركته لإنشاء خط أنابيب سيمتد من جبال الأورال إلى البحر الأحمر، وهو مشروع سعت للحصول على حق تنفيذه عدة شركات أخرى كبيرة. مُنحت شركة ديك عقد المشروع رغم الصعوبات الهائلة التي اكتنفت ذلك، ولكن تلك الصعوبات تقلصت بمجرد أن ضمن ديك لأناتول تشينكوف — وهو وزير الطاقة والصديق الشخصي المقرَّب للرئيس — مليونَي دولار سنويًّا لبقية حياته، فالعملتان الوحيدتان اللتان يتداولهما الروس هما الدولار والموت، خاصة عندما تُودع الأموال في حساب مرقَّم.
قبل أن يُنشئ ديك شركته الخاصة — واسمها بارنسلي كونستركشن — كان قد تعلَّم مجاله بالعمل في نيجيريا مع شركة بكتل، وفي البرازيل مع شركة ماك ألباين، وفي السعودية مع شركة هانوفر، وهكذا تعلَّم بعض الحيل عن الرشوة. ومعظم الشركات الدولية تتعامل مع هذه الممارسة ببساطة كنوعٍ من الضرائب، وتقدِّم البند اللازم لها كلما قدَّمت عرضها. يكمن السر دائمًا في معرفة مقدار ما تقدِّمه للوزير وما توزِّعه على مساعديه.
كان أناتول تشينكوف، الذي عيَّنه بوتين، مفاوضًا صعبًا، ولكنه عمل ضابطًا برتبة رائد في الاستخبارات السوفييتية في ظل نظام سابق. ومع ذلك، عندما جاء وقت إنشاء حساب بنكي في سويسرا، اتضح أن الوزير مبتدئ وحديث عهد بالأمر. استغل ديك هذا بشكلٍ كامل؛ ففي نهاية المطاف، لم يسافر تشينكوف خارج الحدود الروسية قبل تعيينه في المكتب السياسي. أخذه ديك إلى جنيف لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، بينما كان في زيارة رسمية إلى لندن لإجراء محادثات تجارية. وفتح ديك له حسابًا مرقمًا مع شركة بيكيت آند كو، وأودع فيه ١٠٠ ألف دولار — مبلغًا أوليًّا — ولكن هذا مبلغ فاق كل ما حصل عليه تشينكوف في حياته. كان هذا الحافز لضمان أن العلاقة الودية ستستمر طوال الأشهر التسعة اللازمة حتى توقيع العقد؛ وهو عقد سيسمح لِديك بالتقاعد وهو يحصل على أكثر من مليونَي دولار في السنة.
•••
عاد ديك إلى الفندق في ذلك الصباح بعد اجتماعه الأخير مع الوزير، بعد أن التقاه كل يوم طوال الأسبوع الماضي، أحيانًا في العلن، وأحيانًا أكثر بشكل شخصي ومنفرد. ولم يكن الأمر مختلفًا عما كانت عليه الحال عندما زار تشينكوف لندن. لم يكن الرجلان يثقان بعضهما ببعض، وديك تحديدًا لم يكن يشعر بالراحة قطُّ تجاه أي شخص مستعد لقبول رشوة لأنه دائمًا ما يكون هناك شخص آخر على استعدادٍ كبير لتقديم مبلغ أكبر إليه. ومع ذلك، شعر ديك بثقة أكبر هذه المرة، حيث بدا أن كلًّا منهما قد اختار نفس سياسة التقاعد.
عزَّز ديك أيضًا من العلاقة ببعض الأمور التي اعتادها تشينكوف بسرعة. فقد كانت سيارة من طراز رولز رويس تقلُّه دائمًا من هيثرو إلى فندق سافوي. ولدى وصوله، كان ينزل دائمًا في جناحه المعتاد على ضفة النهر، وكانت النساء يأتينه كل مساء بانتظامٍ مثل الصحف الصباحية. وكان ذوق الوزير في كليهما واحدًا؛ إذ كانت تأتيه كافة الأنواع.
وعندما ترك ديك الفندق بسانت بطرسبرج بعد نصف ساعة، كانت سيارة الوزير التي من طراز بي إم دبليو متوقفة خارج الباب الأمامي في انتظار أن تُقله إلى المطار. وعندما ركب في المقعد الخلفي، فوجئ بأن تشينكوف ينتظره. كان الرجلان قد تركا بعضهما بعضًا قبل ساعة واحدة فقط بعد اجتماعهما الصباحي.
سأل ديك في قلق: «هل هناك مشكلة، أناتول؟»
أجابه تشينكوف: «على العكس تمامًا. لقد تلقيت للتوِّ مكالمة من الكرملين ولم أشعر أننا يجب أن نناقشها عبر الهاتف، أو حتى في مكتبي. سيزور الرئيس سانت بطرسبرج في السادس عشر من مايو، وقد أوضح أنه يرغب في أن يترأس مراسم التوقيع.»
فقال ديك: «ولكن هذا يعطينا أقل من ثلاثة أسابيع لإكمال العَقد.»
فذكَّره تشينكوف قائلًا: «أنت أكدت لي في اجتماعنا هذا الصباح أنه لا ينقصك إلا أن تضع بعض النقاط على الحروف — وهو تعبير ليس مألوفًا لي — قبل أن تتمكَّن من إنهاء العَقد.» توقَّف الوزير عن الكلام، وأشعل أول سيجار له في اليوم قبل أن يضيف: «بوضع هذا في الحسبان، يا صديقي العزيز، أتطلع إلى رؤيتك مرة أخرى في سانت بطرسبرج بعد ثلاثة أسابيع.» بدا كلام تشينكوف عابرًا وعاديًّا، بينما استغرق الأمر في الواقع من الرجلين ما يقرب من ثلاث سنوات للوصول إلى هذه المرحلة، والآن هناك ثلاثة أسابيع أخرى فقط قبل أن يجري توقيع الصفقة بشكلٍ نهائي.
لم يرد ديك لأنه كان يفكر بالفعل فيما يجب القيام به في اللحظة التي تحط فيها طائرته بمطار هيثرو.
سأله تشينكوف، مقاطعًا أفكاره: «ما أول شيء ستفعله بعد توقيع الصفقة؟»
«سأقدِّم عطاءً للحصول على عَقد الصرف الصحي في هذه المدينة؛ لأن مَن يحصل عليه سيجني بالتأكيد ثروة أكبر من الثروة التي سيجنيها من مشروعنا هذا.»
التفتَ إليه الوزير، ووجه إليه نظراتٍ حادة. وقال بنبرة جادة: «لا تطرح أبدًا هذا الموضوع علنًا. إنه موضوع في غاية الحساسية.»
ظل ديك صامتًا.
«وخُذ نصيحتي، لا تشرب الماء. العام الماضي خسرنا عددًا لا يُحصى من مواطنينا الذين أصيبوا …»، ثم تردَّد الوزير، غير راغبٍ في إضفاء مصداقية إلى قصة كانت قد نُشرت على الصفحات الأولى لكل الصحف الغربية.
سأله ديك: «كم يبلغ هذا العدد الذي لا يُحصى؟»
فأجابه الوزير: «صفرًا.» وأضاف، بينما كانت تتوقف السيارة عند خط أحمر مزدوج أمام مدخل صالة ركاب مطار بولكوفو الثانية: «أو على الأقل هذا هو الإحصاء الرسمي الذي أصدرته وزارة السياحة.» ثم انحنى نحو الأمام. وقال: «كارل، خُذ حقائب السيد بارنسلي للتسجيل، بينما سأنتظر أنا هنا.»
مال ديك نحو الوزير، وصافحه للمرة الثانية في ذلك الصباح. وقال: «شكرًا لك يا أناتول على كل شيء. أراكَ بعد ثلاثة أسابيع.»
فقال تشينكوف: «سعدتُ وطال عمرك يا صديقي»، بينما كان يخرج ديك من السيارة.
سجَّل ديك في مكتب المغادرة قبل ساعة من موعد الإقلاع المقرر لرحلته إلى لندن.
جاء صوتٌ تخالجه طقطقة عبر مكبِّر الصوت يقول: «النداء الأخير للرحلة ٩٠٢ المتجهة إلى مطار هيثرو في لندن.»
وسأل ديك: «هل هناك رحلة أخرى متجهة إلى لندن الآن؟»
أجاب الرجل خلف مكتب التسجيل: «نعم. تأخرت الرحلة ٩٠٢، لكنهم على وشك إغلاق البوابة.»
سأله ديك، وهو يمرِّر إليه ورقة من فئة ألف روبل على المكتب: «هل يمكنكَ أن تضعني على متنِها؟»
•••
هبطت طائرة ديك في مطار هيثرو بعد ثلاث ساعات ونصف. وبمجرد أن استعاد حقيبتيه من على سير تسلُّم الحقائب الدوَّار، دفع عربته خلال ممر «لا شيء يستوجب الإعلان» وخرج إلى قاعة الوصول.
وكان سائقه ستان ينتظره بالفعل بين مجموعة من السائقين، معظمهم كانوا يحملون بطاقات عليها أسماؤهم. وبمجرد أن رأى ستان رئيسه، سار نحوه بسرعة، وأخذ منه حقيبتَيه.
سأل ستان: «المنزل أم الشركة؟»، وهما يسيران نحو موقف انتظار السيارات قصير الأجل.
نظر ديك في ساعته التي تجاوزت الرابعة للتوِّ. فقال: «المنزل. سأعمل في الجزء الخلفي من السيارة.»
•••
بمجرد أن خرجت سيارة ديك التي من طراز جاكوار من موقف السيارات لبدء الرحلة إلى فيرجينيا ووتر، اتصل ديك بمكتبه على الفور.
جاء صوت يقول: «مكتب ريتشارد بارنسلي.»
«مرحبًا جيل، هذا أنا. تمكَّنت من اللحاق برحلة أبكر، وأنا في طريقي إلى المنزل. هل تسير كل الأمور على ما يرام؟»
أجابته جيل: «نعم، كل شيء يسير بسلاسة هنا. نحن جميعًا ننتظر فقط معرفة كيف سارت الأمور في سانت بطرسبرج.»
«سارت الأمور على أفضل نحوٍ. يريد الوزير أن أعود في السادس عشر من مايو لتوقيع العقد.»
«لكن هذا بعد أقل من ثلاثة أسابيع.»
«هذا يعني أننا سنحتاج جميعًا إلى التحرك بسرعة. لذا نظِّمي اجتماعًا لمجلس الإدارة في وقتٍ مبكِّر من الأسبوع المقبل، ثم احجزي لي موعدًا لرؤية سام كوهين في الصباح الباكر غدًا. لا أستطيع تحمُّل أي هفوات في هذه المرحلة.»
«هل يمكنني الذهاب إلى سانت بطرسبرج معك؟»
«ليس هذه المرة يا جيل، ولكن بمجرد توقيع العَقد، لا تحددي أيَّ مواعيد لمدة عشرة أيام. حينها سآخذك إلى مكان أكثر دفئًا من سانت بطرسبرج.»
جلس ديك صامتًا في الجزء الخلفي من السيارة، يراجع كل شيء يحتاج إلى المعالجة قبل عودته إلى سانت بطرسبرج. وبحلول الوقت الذي دلفت فيه سيارة ستان عبر البوابات المصنوعة من الحديد المطاوع، وتوقفت أمام القصر الذي يتخذ الطراز الجورجي الجديد، كان ديك يعرف ما يجب القيام به. فقفز من السيارة، وركض إلى الداخل. وترك أمر الحقيبتَين لستان لينزلهما من السيارة ومدبِّرة المنزل لتفرغهما. وفوجئ ديك بأن زوجته لم تكن تقف على الدرج العلوي تنتظره لترحب بعودته، ولكنه تذكر أنه قد أتى في رحلة مبكرة، ولن تتوقع مورين عودته قبل ساعتين على الأقل.
ركض ديك إلى غرفة نومه، وخلع ملابسه بسرعة، وتركها مكوَّمة على الأرض. ودخل الحمام وأدار الدُّش، وترك دفق الماء الدافئ يزيل عنه ببطءٍ أوساخ سانت بطرسبرج وخطوط الطيران الروسية.
وبعد أن ارتدى ديك ملابس عادية، نظر إلى مظهره في المرآة. لقد كان في الثالثة والخمسين من عمره، وكان شعره يستحيل رماديًّا قبل أوانه، وعلى الرغم من أنه حاول أن يشد عضلات بطنه، كان يعرف أنه يجب أن يفقد بضعة كيلوجرامات من وزنه، فتحات قليلة فقط في حزامه — فقطع لنفسه وعدًا أن يفعل ذلك بمجرد توقيع الصفقة ويكون لديه مزيدٌ من الوقت.
غادر ديك الغرفة، ونزل إلى المطبخ. طلب من الطباخ أن يُعد له سلطة، ثم توجه إلى غرفة المعيشة، وأخذ صحيفة «ذا تايمز»، وألقى نظرة على العناوين الرئيسية. زعيم جديد لحزب المحافظين، وزعيم جديد للديمقراطيين الليبراليين، وانتخاب جوردون براون زعيمًا لحزب العمال. لن يخوض أيٌّ من الأحزاب السياسية الرئيسية الانتخابات القادمة تحت نفس الزعيم.
رفع ديك نظره عن الجريدة عندما أخذ جرس الهاتف يرن. سار إلى المكتب الذي تستخدمه زوجته في الكتابة والتقط السماعة، ليسمع صوت جيل على الطرف الآخر من الخط.
«جرى تحديد اجتماع مجلس الإدارة يوم الخميس المقبل في الساعة العاشرة، وقمتُ أيضًا بترتيب موعدٍ لك لرؤية سام كوهين في مكتبه الساعة الثامنة من صباح الغد.» أخرج ديك قلمًا من جيبٍ داخلي بسترته. وأضافت: «لقد أرسلتُ رسالة بريد إلكتروني إلى كل عضو في مجلس الإدارة لتنبيههم على أنه أمرٌ ضروري.»
«أخبريني ثانية متى سيكون اجتماعي مع سام؟»
«الثامنة في مكتبه. يجب أن يكون في المحكمة بحلول العاشرة من أجل عميل آخر.»
«حسنًا.» ثم فتح ديك درج المكتب الخاص بزوجته، وأمسك بأول ورقة أمامه. ثم كتب عليها «سام، المكتب، ٨، اجتماع المجلس الخميس، ١٠.» وأضاف: «أحسنتِ يا جيل. ومن الأفضل أن تعيدي الحجز باسمي في فندق جراند بالاس، وأرسلي رسالة بريد إلكتروني إلى الوزير لتنبهيه بموعد وصولي.»
أجابت جيل: «لقد قمتُ بذلك بالفعل، وقد حجزت لك أيضًا رحلة إلى سانت بطرسبرج عصر يوم الجمعة.»
فقال ديك: «أحسنتِ. أراكِ في نحو العاشرة غدًا.» ثم وضع سماعة الهاتف، وتوجَّه إلى مكتبه وقد علت وجهه ابتسامة كبيرة. إذ كان كل شيء يسير وفق الخطة.
•••
وعندما وصل إلى مكتبه، نقل ديك تفاصيل موعدَيه إلى مذكرته. كان على وشك أن يرمي بالورقة في سلة المهملات عندما قرر فحصها ومعرفة ما إذا كانت تحتوي على أي شيء مهم. فوجد رسالة وبدأ في قراءتها. ثم تحوَّلت ابتسامته إلى عبوسٍ قبل أن يصل إلى الفقرة الأخيرة. ثم قرأ الرسالة المؤشَّرة بأنها خاصة وشخصية للمرة الثانية.
السيدة بارنسلي العزيزة،
رسالتي هذه لتأكيد موعدك في مكتبنا يوم الجمعة، الموافق ٣٠ من شهر أبريل، والذي سنواصل فيه مناقشاتنا حول الموضوع الذي طرحتِه عليَّ يوم الثلاثاء الماضي.
عندما فكرت في الآثار الكاملة لقراركِ، طلبتُ من شريكي الأكبر الانضمام إلينا في هذه المناسبة.
كلانا يتطلع إلى رؤيتك في اليوم المذكور.
رفع ديك سماعة الهاتف على مكتبه على الفور، وطلب رقم سام كوهين، على أمل أنه لم ينصرف من مكتبه بعدُ. وعندما رفع سام سماعة خطِّه الخاص، كان كل ما قاله ديك هو: «هل تعرف محاميًا يُدعى أندرو سيموندز؟»
فقال سام: «سمعتُ عنه فقط، فأنا لست متخصصًا في قضايا الطلاق.»
تساءل ديك متعجبًا: «الطلاق؟!»، وحينها سمع سيارة تقترب على الممر المرصوف بالحصى. ثم نظر من النافذة ليرى سيارة من طراز فولكس فاجن تتهادى في الممر المستدير، وتتوقف عند الباب الأمامي. راقب ديك زوجته وهي تخرج من سيارتها. وقال: «سأراكَ في الثامنة غدًا يا سام، ولن يكون العَقد الروسي هو الشيء الوحيد على جدول الأعمال.»
•••
أقلَّ السائقُ ديك إلى خارج مكتب سام كوهين في ميدان لينكولن إن فيلدز قبل الثامنة من صباح اليوم التالي ببضع دقائق. ونهض الشريك الأكبر لاستقبال عميله عندما دخل الغرفة. ثم أشار إلى كرسي مريح على الجانب الآخر من المكتب.
كان ديك قد فتح حقيبته حتى قبل أن يجلس. وأخرج الرسالة ومرَّرها إلى سام. قرأ المحامي الرسالة ببطء، قبل أن يضعها على المكتب أمامه.
قال سام: «لقد فكرت في هذه المشكلة طوال الليل، كما تحدثت أيضًا مع آنا رينتول، شريكتنا المتخصصة في قضايا الطلاق. وقد أكدت لي أن سيموندز لا يعمل إلا في النزاعات الزوجية، وبأخذ هذا في الحسبان، يؤسفني أنني سأضطر إلى طرح بعض الأسئلة الشخصية جدًّا عليكَ.»
فأومأ ديك دون تعليق.
«هل ناقشت أمر الطلاق مع مورين من قبل؟»
أجاب ديك بثقة: «كلا. كنا نختلف من وقت إلى آخر، ولكن هل هناك زوجان قضيا معًا أكثر من عشرين عامًا وليس بينهما خلاف؟»
«لا شيء أكثر من ذلك؟»
«هدَّدتني ذات مرة بأنها ستتركني، ولكني أعتقد أن ذلك كله في الماضي وانتهى.» ثم صمت ديك لحظة. وأضاف: «أنا فقط مندهشٌ من أنها لم تثِر الأمر معي، قبل أن تستشير محاميًا.»
فقال له سام: «هذا شيء شائع جدًّا. فأكثر من نصف الأزواج الذين يتلقَّون دعوى بالطلاق يدَّعون أنهم لم يتوقعوا حدوث ذلك.»
فردَّ ديك: «أنا بالتأكيد أندرج ضمن تلك الفئة. ما العمل الآن إذن؟»
«لا يمكننا فعل الكثير قبل تسلُّم صحيفة الدعوى، ولا أرى أن هناك أيَّ شيء يمكن الحصول عليه من خلال إثارة الموضوع بنفسك. ففي نهاية المطاف، قد لا يحدث شيء. ومع ذلك، هذا لا يعني أننا لا ينبغي أن نكون مستعدين. والآن، قل لي ما الأسباب التي يمكن أن تكون لديها لتطلب الطلاق؟»
«لا أستطيع التفكير في سبب.»
«هل أنت في علاقة مع أخرى؟»
«كلا. في الواقع، أجل، هناك علاقة عابرة مع سكرتيرتي، ولكنها لن تفضي إلى شيء. هي تعتقد أن الأمر جديٌّ، ولكني أخطط لاستبدالها بمجرد توقيع عَقد الأنابيب.»
قال سام: «إذن الصفقة لا تزال تسير في مسارها الصحيح؟»
أجاب ديك: «نعم، وهذا هو السبب الأصلي الذي جعلني أحتاج إلى رؤيتك بشكلٍ عاجل. يجب أن أعود إلى سانت بطرسبرج في السادس عشر من مايو، وهو اليوم الذي سيوقِّع الجانبان فيه العَقد.» ثم توقف عن الكلام لحظة. وأردف: «وسيشهد الرئيس بوتين ذلك.»
قال سام: «تهانينا. كم ستكون قيمة تلك الصفقة؟»
«لماذا تسأل؟»
«أتساءل إذا لم تكن الشخص الوحيد الذي يأمل إتمام هذه الصفقة.»
قال ديك مترددًا: «قرابة ستين مليونًا … للشركة.»
«وهل ما زلت تمتلك نسبة واحد وخمسين في المائة من الأسهم؟»
«نعم، ولكني دائمًا أستطيع أن أخفي …»
فقال سام: «لا تفكر في ذلك حتى. فلن تتمكَّن من إخفاء أي شيء إذا كان سيموندز هو من سيتولى القضية. سيفتش وراءك حتى يعرف كل قرش معك، مثل الخنزير الذي يفتش عن الكمأة. وإذا اكتشفت المحكمة أنك حاولت خداعها، سيصبح القاضي أكثر تعاطفًا مع زوجتك.» ثم صمت الشريك الأكبر، ونظر مباشرة إلى عميله، وكرر ما قاله: «لا تفكر في ذلك حتى.»
«إذن ماذا يجب أن أفعل؟»
«لا تفعل شيئًا من شأنه أن يثير الشكوك؛ قُم بأعمالك كالمعتاد، كما لو كنتَ لا تعرف ما هي بصدده. في هذه الأثناء، سأقوم بترتيب موعدٍ مع محامٍ متخصص، حتى نكون على الأقل أكثر استعدادًا مما يتوقع السيد سيموندز.» وأضاف وهو ينظر مباشرة إلى عميله: «وهناك شيء آخر: أوقف أنشطتك التي تقوم بها خارج الزواج حتى تُحَل هذه المشكلة. هذا أمر.»
•••
ظل ديك يراقب زوجته من كثب خلال الأيام القليلة التالية، لكنها لم تُظهِر أي علامة على وجود شيء غير طبيعي. بل إذا كان هناك شيء، فقد أظهرت اهتمامًا غير عادي بأحوال رحلته إلى سانت بطرسبرج، حتى إنها سألت خلال العشاء مساء الخميس ما إذا كان مجلس الإدارة قد اتخذ قرارًا بشأن الصفقة.
أجاب ديك مؤكِّدًا: «لقد فعلوا بالتأكيد. بعد أن ناقش سام مع المديرين كل البنود، وراجع معهم كل التفاصيل، وأجاب عن كل أسئلتهم، وافقوا على العَقد بشكلٍ فعلي.» ثم صبَّ ديك لنفسه كوبًا ثانيًا من القهوة. وفوجئ بسؤال زوجته التالي.
«ما رأيك إن أتيت معك إلى سانت بطرسبرج؟ يمكننا أن نسافر يوم الجمعة، ونقضي عطلة نهاية الأسبوع في زيارة متحف هيرميتاج والقصر الصيفي. وقد نجد وقتًا كافيًا لرؤية المجموعة الكهرمانية للإمبراطورة كاثرين؛ فهذا شيء لطالما وددت القيام به.»
لم يرد ديك على الفور، مدركًا أن هذا ليس اقتراحًا عرضيًّا، فقد مرَّت سنوات طويلة على آخر مرة رافقته فيها مورين في رحلة عمل. كان أول رد فعل لِديك هو التساؤل عما تخطط له. فأجابها في النهاية: «دعيني أفكر في الأمر»، تاركًا قهوته تبرد.
•••
اتصل ديك بسام كوهين بعد دقائق من وصوله إلى مكتبه، وأبلغ محاميه بالمحادثة التي جرت بينه وبين زوجته.
فأوعز إليه كوهين قائلًا: «لا بد وأن سيموندز نصحها بحضور توقيع العَقد.»
«ولكن لماذا؟»
«حتى تتمكَّن مورين من الادعاء أنها لعبت دورًا رئيسيًّا في نجاح أعمالك التجارية على مرِّ السنين، وأنها كانت موجودة دائمًا لدعمك في تلك اللحظات الحاسمة في مسيرتك المهنية …»
فقال ديك: «هذا هُراء، فهي لم تكن تهتم قطُّ بكيفية كسبي للمال، بل تهتم فقط بكيفية إنفاقه.»
«… وبالتالي يحقُّ لها خمسون في المائة من أصولك.»
قال ديك معترضًا: «لكن هذا قد يصل إلى أكثر من ثلاثين مليون جنيه.»
«من الواضح أن سيموندز أدَّى واجبه كما ينبغي.»
«إذن سأخبرها ببساطة أنها لا يمكن أن تأتي معي في رحلتي. فهذا ليس مناسبًا.»
«هذا سيسمح للسيد سيموندز بتغيير خطته. إذ سيصوِّرك حينها كرجلٍ قاسٍ، لحظة أصبح ناجحًا أبعد زوجته عن حياته، وغالبًا ما يسافر إلى الخارج، ترافقه سكرتيرة …»
«حسنًا، حسنًا، فهمت الصورة. إذن سماحي لها بالذهاب إلى سانت بطرسبرج قد يكون أخفَّ الضررين.»
فردَّ سام: «هذا من ناحية …»
فقال ديك قبل أن يتمكَّن سام من إنهاء الجملة: «اللعنة على المحامين!»
فردَّ سام: «عجيب كيف أنك تحتاج إلينا فقط عندما تكون في ورطة.» وأكمل يقول: «دعنا نحرص على توقُّع خطوتها التالية هذه المرة.»
«وما الخطوة التي يمكن أن تأتي بها؟»
«بمجرد أن تصل معك إلى سانت بطرسبرج، سترغب في ممارسة الجنس.»
«لم نمارس الجنس منذ سنوات.»
«وليس لأنني لم أرغب في ذلك، سيدي القاضي.»
فقال ديك: «تبًّا لذلك. لا يمكنني الفوز.»
«يمكنك الفوز ما دمتَ لا تتبع نصيحة السيدة لونجفورد — عندما سُئلت إذا كانت قد فكرت يومًا في الطلاق من اللورد لونجفورد؛ إذ أجابت: «لم أفكر قطُّ في الطلاق، لكني فكرت في قتله كثيرًا».»
•••
بعد أسبوعين سجَّل السيد والسيدة ريتشارد بارنسلي وصولهما في فندق جراند بالاس في سانت بطرسبرج. وضع حامل الأمتعة حقائبهما على عربة، ثم رافقهما إلى جناح تولستوي في الطابق التاسع.
قال ديك وهو يسارع إلى الغرفة قبل زوجته: «يجب أن أذهب إلى الحمام قبل أن أنفجر.» وبينما اختفى زوجها في الحمام، نظرت مورين من النافذة، وأُعجِبت بالقِباب الذهبية لكاتدرائية القديس نيكولاس.
وبمجرد أن قفل الباب، أزال ديك لافتة «لا تشرب الماء» التي كانت موضوعة على الحوض ودسَّها في الجيب الخلفي لبنطاله. ثم فتح غطاءي زجاجتَي ماء إيفيان، وسكب محتواهما في الحوض. ثم ملأ الزجاجتين بالماء من الصنبور، قبل أن يعيد الغطاءين إلى مكانهما ويُحكِم إغلاقهما ويعيدهما إلى زاوية الحوض. ثم بعد ذلك فتح الباب وخرج.
بدأ ديك في إفراغ حقيبته، لكنه توقف لحظة دخول مورين الحمام. أولًا، نقل لافتة «لا تشرب الماء» من جيبه الخلفي إلى جيب حقيبته الجانبي. وأغلق سحاب الجيب، ثم بدأ ينظر في أرجاء الغرفة. كانت هناك زجاجة صغيرة من ماء إيفيان على كل جانبٍ من جانبَي السرير، وزجاجتان كبيرتان على الطاولة بجانب النافذة. أمسك بالزجاجة التي عند جانب زوجته من السرير، وذهب إلى المطبخ الصغير في الطرف البعيد من الغرفة. وسكب محتوى الزجاجة في الحوض، وملأ الزجاجة بالماء من الصنبور. ثم أعادها إلى جانب مورين من السرير. بعد ذلك، أخذ الزجاجتين الكبيرتين من الطاولة بجانب النافذة وكرر العملية.
بحلول الوقت الذي خرجت فيه زوجته من الحمام، كان ديك قد انتهى تقريبًا من إفراغ حقيبته. وبينما كانت مورين تفرغ حقيبتها، ذهب ديك إلى جانبه من السرير، وطلب رقمًا لم يكن في حاجة إلى البحث عنه. وبينما كان ينتظر الرد على المكالمة، فتح زجاجة ماء إيفيان الموجودة على جانبه من السرير، وأخذ رشفة.
«مرحبًا، أناتول، هذا ديك بارنسلي. أردتُ فقط أن أخبرك أننا قد سجَّلنا الدخول للتوِّ في فندق جراند بالاس.»
فأجابه صوتٌ ودودٌ: «مرحبًا بكَ مرة أخرى في سانت بطرسبرج. وهل زوجتك معك في هذه المرة؟»
ردَّ ديك: «بالتأكيد هي معي، وتتطلع كثيرًا إلى لقائك.»
فقال الوزير: «أنا أيضًا أتطلع إلى رؤيتها؛ لذا احرص أن تقضي عطلة نهاية أسبوع مريحة لأننا أعددنا كل شيء من أجل صباح يوم الإثنين. من المقرر أن يصل الرئيس غدًا ليلًا حتى يكون حاضرًا عند توقيع العَقد.»
«الساعة العاشرة في القصر الشتوي؟»
كرر تشينكوف: «الساعة العاشرة. سأقلُّك من الفندق في التاسعة. الرحلة تستغرق ثلاثين دقيقة فقط، لكننا لا يمكن أن نحتمل تأخيرًا في هذه المرة.»
فردَّ ديك: «سأكون في انتظارك في الردهة. أراكَ حينها.» ووضع الهاتف والتفتَ إلى زوجته. وسألها: «لماذا لا ننزل لتناوُل العشاء، يا حبيبتي؟ أمامنا غدًا يوم طويل.» ثم عدَّل الوقت في ساعته بثلاث ساعات، وأضاف: «ربما يكون من الحكمة أن نخلد إلى النوم مبكرًا.»
وضعت مورين رداء نومٍ حريريًّا طويلًا على جانبها من السرير، وابتسمت لتعلن موافقتها. وعندما التفتت لوضع حقيبتها الفارغة في الخزانة، أخذ ديك زجاجة إيفيان من الطاولة إلى جانب السرير ودسَّها في جيب معطفه. ثم رافق زوجته إلى غرفة الطعام.
•••
تقدَّمهما كبير النُّدُل إلى طاولة هادئة في الزاوية، وبمجرد أن أجلس ضيفَيه قدَّم إلى كل منهما قائمة الطعام. اختفى وجه مورين خلف الغطاء الجلدي الكبير للقائمة بينما كانت تفكر في الوجبات المتاحة، مما سمح لِديك ما يكفي من الوقت لإزالة زجاجة ماء إيفيان من جيبه، وفتحَ الغطاء وملأ كأس زوجته.
وبمجرد أن اختارا وجبتَيهما، قصَّت مورين برنامجها المقترَح لليومين القادمين. فقالت: «أعتقد أننا يجب أن نبدأ بمتحف هيرميتاج أول شيء في الصباح، ثم نأخذ استراحة لتناول الغداء، ثم نقضي بقية وقت العصر في القصر الصيفي.»
سأل ديك بينما كان يملأ كأس ماء زوجته: «ماذا عن المجموعة الكهرمانية؟ أعتقد أنها لا تُفوَّت.»
«لقد وضعت المجموعة الكهرمانية والمتحف الروسي بالفعل ضمن البرنامج ليوم الأحد.»
قال ديك: «يبدو أنكِ نظَّمتِ كل شيء جيدًا»، بينما كان يضع نادلٌ وعاءً من حساء البورش أمام زوجته.
وقضت مورين بقية وقت تناول الوجبة تُحدِّث ديك عن بعض الكنوز التي سيرونها عندما يزورون متحف هيرميتاج. وبحلول الوقت الذي وقَّع فيه ديك الفاتورة، كانت مورين قد شربت زجاجة الماء كاملة.
دسَّ ديك الزجاجة الفارغة في جيبه. وحالما عادا إلى غرفتهما، ملأها ديك بماء الصنبور وتركها في الحمام.
بحلول الوقت الذي تجرَّد فيه ديك من ملابسه ودخل السرير، كانت مورين لا تزال تطالع الدليل السياحي.
قال ديك: «أشعر بالإرهاق. لا بد وأن هذا من أثر اضطراب اختلاف التوقيت.» ثم حوَّل وجهه عنها، على أمل ألا تكتشف زوجته أن الساعة تجاوزت للتوِّ الثامنة مساءً في إنجلترا.
•••
استيقظ ديك في صباح اليوم التالي وهو يشعر بعطشٍ شديد. فنظر إلى زجاجة إيفيان الفارغة عند جانبه من السرير وتذكر في الوقت المناسب. قام ديك من السرير، واجتاز الغرفة إلى الثلاجة، واختار زجاجة من عصير البرتقال.
سأل ديك زوجته التي لم تكن قد أفاقت تمامًا بعد: «هل ستذهبين إلى الصالة الرياضية هذا الصباح؟»
«هل أمامي متسع من الوقت؟»
«بالتأكيد، فمتحف هيرميتاج لا يفتح حتى العاشرة، وأحد أسباب نزولي في هذا الفندق دائمًا هو الصالة الرياضية الموجودة به.»
«ماذا عنكَ؟»
«لا يزال عليَّ أن أجري بعض المكالمات الهاتفية إذا كنا سننجز كل شيء يوم الإثنين.»
خرجت مورين من السرير، وغابت في الحمام، مما أتاح لِديك وقتًا كافيًا لملء كأسها، واستبدال زجاجة إيفيان الفارغة التي على جانبها من السرير.
وعندما خرجت مورين بعد بضع دقائق، نظرت في ساعتها قبل أن ترتدي ملابسها الرياضية. ثم قالت بعد أن ربطت حذاءها: «سأعود بعد قرابة أربعين دقيقة.»
قال لها ديك: «لا تنسي أن تأخذي بعض الماء معك»، وأعطاها إحدى الزجاجات من على الطاولة بجانب النافذة. وأردف: «قد لا يكون لديهم زجاجات ماء في الصالة.»
قالت له: «شكرًا لك.»
تساءل ديك في نفسه بفعل التعبير على وجهها إذا كان يبدي اهتمامًا أكثر بقليلٍ من اللازم.
وتحمَّم ديك بينما كانت مورين في الصالة الرياضية. وعندما عاد إلى الغرفة، كان مسرورًا لرؤية الشمس مشرقة. ثم ارتدى سترة وبنطالًا، ولكن بعد أن تحقق من أن طاقم الفندق لم يستبدل الزجاجات بينما كان في الحمام.
ثم طلب ديك طعام الإفطار له ولزوجته، والذي وصل بعد لحظات من عودة مورين من الصالة الرياضية وهي تحمل زجاجة إيفيان نصف فارغة.
سألها ديك: «كيف كان تدريبك؟»
أجابته مورين: «لم يكن جيدًا. فقد شعرت بشيء من الخمول.»
أشار عليها ديك، وهو يتخذ مكانه على الجانب البعيد من الطاولة: «ربما كان السبب هو اضطراب اختلاف التوقيت وحسب.» وسكب لزوجته كأسًا من الماء، ولنفسه كوبًا آخر من عصير البرتقال. ثم فتح نسخة من جريدة «هيرالد تريبيون» وشرع يقرؤها بينما ينتظر زوجته لترتدي ملابسها. قالت هيلاري كلينتون إنها لن تترشح للرئاسة، مما أقنع ديك أنها ستفعل ذلك، خاصة أنها أعلنت الخبر وهي تقف بجانب زوجها.
•••
خرجت مورين من الحمام وهي ترتدي رداء الحمام الخاص بالفندق. واتخذت المقعد المقابل لزوجها وارتشفت بعض الماء.
وقالت: «من الأفضل أن نأخذ زجاجة إيفيان معنا عندما نزور متحف هيرميتاج.» فرفع ديك نظره من خلف جريدته. وأضافت: «حذَّرتني الفتاة في الصالة الرياضية ألا أشرب ماء الصنبور تحت أي ظرف من الظروف.»
فقال ديك: «أجل، نعم، كان يجب أن أحذِّرك»، وذلك بينما أخذت مورين زجاجة من على الطاولة بجانب النافذة، ووضعتها في حقيبتها. «يجب توخي الحذر الشديد في هذا الشأن.»
•••
اجتاز ديك ومورين البوابات الأمامية لمتحف هيرميتاج قبل العاشرة ببضع دقائق، ليجدا نفسيهما في نهاية طابور طويل. تحرَّك طابور الزوار ببطء على طول ممرٍّ غير مظلل ومعبَّد بالحصى. وشربت مورين عدة رشفات من الماء بينما تقلِّب صفحات الدليل السياحي. كانت الساعة قد أصبحت العاشرة وأربعين دقيقة قبل أن يصلوا إلى كشك التذاكر. وبمجرد دخولهما، واصلت مورين مطالعة دليلها. «مهما فعلنا، يجب أن نحرص على رؤية تمثال «الصبي الجاثم» لمايكل أنجلو، ولوحة «العذراء» لرافائيل، ولوحة «السيدة بينويس» لليوناردو.»
ابتسم ديك موافقًا، لكنه كان يعلم أنه لن يهتم بهؤلاء الفنانين الكبار.
بينما كانا يصعدان السُّلم الرخامي الفسيح، مرَّا بعدة تماثيل رائعة موضوعة في تجاويف. وفوجئ ديك بمدى ضخامة المتحف. وعلى الرغم من زيارته لسانت بطرسبرج عدة مرات خلال السنوات الثلاث الماضية، فإنه لم يرَ المبنى إلا من الخارج.
قالت مورين، وهي تقرأ من الدليل السياحي: «تُعرض مجموعة القيصر بطرس في ثلاثة طوابق، وهي كنوز معروضة في أكثر من مائتَي غرفة.» وأردفت: «لذا دعنا نبدأ.»
بحلول الساعة الحادية عشرة والنصف، كانا قد شاهدا المدرستَين الهولندية والإيطالية فقط في الطابق الأول، وحينها كانت مورين قد أنهت زجاجة إيفيان الكبيرة.
تطوع ديك للذهاب وشراء زجاجة أخرى. وترك زوجته تشاهد بإعجابٍ لوحة «عازف العود» لكارافاجيو، بينما ذهب إلى أقرب حمام. وأعاد ملء زجاجة إيفيان الفارغة بماء الصنبور قبل أن يعود. ولو أن مورين نظرت قليلًا إلى أحد أكشاك المشروبات الموجودة في كل طابق لاكتشفت أن متحف هيرميتاج لا يحتوي على أي زجاجات ماء إيفيان؛ لأن لديه عَقدًا حصريًّا مع شركة فولفيك.
بحلول الساعة الثانية عشرة والنصف، كانا قد شاهدا الغرف الست عشرة المخصَّصة لفناني النهضة، واتفقا على أنه قد حان وقت الغداء. فغادرا المبنى وعادا إلى الجو المشمس الخاص بوقت الظهيرة في الخارج. سار الاثنان فترة على ضفة نهر مويكا، وتوقفا فقط لالتقاط صورة لعروس وعريس يقفان على الجسر الأزرق أمام قصر مارينسكي.
قالت مورين: «هذا تقليد محلي»، وهي تقلب صفحة أخرى من دليلها السياحي.
وبعد أن اجتازا مبنًى آخر مشيًا، توقفا أمام مطعم صغير للبيتزا. جذبهم إلى الدخول وتجربة المطعم طاولاته المربعة معقولة الحجم والمفروشة بقماش ذي مربعات باللونين الأحمر والأبيض، والعاملون به ذوو الزي الأنيق.
قالت مورين: «يجب أن أذهب إلى الحمام. أشعر بقليلٍ من الغثيان. لا بد وأنه الجو الحار.» وأضافت: «اطلب لي سلطة وكوبًا من الماء فقط.»
ابتسم ديك، وأخرج زجاجة ماء إيفيان من حقيبتها، وملأ الكأس عند جانبها من الطاولة. وعندما جاء النادل، طلب ديك سلطة لزوجته، وطلب لنفسه رافيولي ومشروب كوكاكولا كبيرًا قليل السكر. كان يريد بشدة أن يشرب شيئًا.
بمجرد أن أكلت سلطتها، بدت مورين أكثر حيوية وانتعاشًا قليلًا، حتى إنها أخذت تخبر ديك بما يجب أن يولياه الاهتمام عندما يزوران القصر الصيفي.
وخلال الرحلة الطويلة بسيارة الأجرة عبر شمال المدينة، استمرت في قراءة مقتطفات من دليلها السياحي. «بنى بطرس الأكبر القصر الصيفي بعد زيارته لفرساي، وعند عودته إلى روسيا استعان بأفضل مصمِّمي الحدائق وأكثر الحرفيين موهبة في البلاد لإعادة إنتاج تلك التحفة الفرنسية الرائعة. كان ينوي أن يكون العمل النهائي بمنزلة تحية للفرنسيين وتكريمًا لهم، حيث كان معجبًا بهم بشكلٍ كبيرٍ بوصفهم روَّادًا للأناقة في جميع أنحاء أوروبا.»
قاطع سائق سيارة الأجرة تدفُّق كلماتها بمعلومة من عنده. «نحن نمرُّ الآن بالقصر الشتوي الذي بُني حديثًا، وهو المكان الذي يقيم فيه الرئيس بوتين كلما جاء إلى سانت بطرسبرج.» ثم توقف السائق لحظة عن الكلام. وأضاف: «وبما أن العلم الوطني يرفرف في الأجواء، فلا بد وأنه في المدينة.»
قال ديك: «لقد طار من موسكو خصوصًا لرؤيتي.»
فضحك سائق الأجرة من باب الذوق.
•••
بعد نصف ساعة اجتازت السيارة بوابات القصر الصيفي، وأنزل السائق راكبَيه في موقف سيارات مزدحم، يعج بالزوار والتجار الذين يقفون خلف أكشاكهم المؤقتة يبيعون تذكاراتهم الرخيصة الثمن.
قالت مورين مقترحة: «لنذهب ونرَ الفن الحقيقي.»
قال سائق الأجرة: «سأنتظركما هنا. لا تكلفة إضافية. كم من الوقت ستقضيانه في الداخل؟»
قال ديك: «ساعتين لا أكثر، على ما أعتقد.»
فكرَّر السائق كلامه: «سأنتظركما هنا.»
•••
تجوَّل الزوجان في الحدائق البديعة، ورأى ديك لماذا وُصِف المكان في الأدلة السياحية بأنه «لا يمكن تفويته» مع تقييمٍ بخمسة نجوم. وواصلت مورين القراءة له بين رشفات الماء. «الأراضي المحيطة بالقصر تصل مساحتها إلى أكثر من مائة فدان، مع أكثر من عشرين نافورة، بالإضافة إلى أحد عشر مسكنًا فخمًا آخر.» ورغم أن الشمس لم تعُد ساطعة وشديدة الحرارة، كانت السماء لا تزال صافية، وواصلت مورين شرب الماء بانتظام، ولكنها كلما كانت تعرض الزجاجة على ديك ليشرب، كان يرد دائمًا، بقوله: «لا، شكرًا لكِ.»
عندما صعدا أخيرًا درج القصر، وجدا طابورًا طويلًا آخر، واعترفت مورين أنها تشعر بالتعب قليلًا.
قال ديك: «من المؤسف أن نقطع كل هذه المسافة ولا نلقي نظرة داخل القصر.»
فوافقت زوجته على مضض.
وعندما وصلا إلى مقدمة الطابور، اشترى ديك تذكرتَين للدخول، واختار دليلًا يتحدث الإنجليزية ليريهم المكان مقابل رسوم إضافية صغيرة.
قالت مورين عندما دخلوا غرفة نوم الإمبراطورة كاثرين: «لا أشعر أني بخيرٍ تمامًا.» ثم تشبَّثت بالسرير ذي أربعة أعمدة وسقف.
فقال المرشد السياحي يحاول المساعدة: «يجب أن تشربي الكثير من الماء في مثل هذا اليوم الحار.» وبحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى غرفة مكتب القيصر نيكولاس الرابع، نبَّهت مورين زوجها باعتقادها أنها سيُغشى عليها. اعتذر ديك إلى مرشدهما، ولفَّ ذراعه حول كتف زوجته وساعدها على الخروج من القصر وهي تترنَّح إلى موقف السيارات. ووجدا سائق سيارة الأجرة الخاص بهما يقف بجانب سيارته ينتظرهما.
قال ديك: «يجب أن نعود إلى فندق جراند بالاس فورًا»، بينما تهاوت زوجته في المقعد الخلفي للسيارة مثل سكير طُرد من حانة في ليلة السبت.
وفي أثناء رحلة العودة الطويلة إلى سانت بطرسبرج، كانت مورين سقيمة بشدة في الجزء الخلفي من السيارة، لكن السائق لم يعلِّق، فأبقى على سرعة ثابتة في أثناء قيادته على الطريق السريع. وبعد أربعين دقيقة، توقف أمام فندق جراند بالاس. ودفع إليه ديك مبلغًا كبيرًا واعتذر له.
قال السائق: «أتمنى أن تتحسَّن السيدة قريبًا.»
أجابه ديك: «نعم، لنأمل ذلك.»
ساعد ديك زوجته على الخروج من المقعد الخلفي للسيارة، واقتادها إلى الداخل عبر السلالم إلى ردهة الفندق وبسرعة نحو المصاعد؛ إذ لم يرغب في لفت الانتباه إليه. وبعد لحظاتٍ وصل بها إلى الجناح الخاص بهما في أمان. دلفت مورين فورًا إلى الحمام، وكان في إمكان ديك سماع صوتها وهي تتقيأ حتى والباب مغلق. ثم بدأ يبحث في أرجاء الغرفة. إذ جرى استبدال جميع زجاجات ماء إيفيان في أثناء غيابهما. لكنه لم يفرغ إلا الزجاجة الموجودة بجانب سرير مورين، والتي ملأها بالماء من الصنبور في المطبخ الصغير.
خرجت مورين أخيرًا من الحمام، وتهاوت على السرير. وقالت: «أشعر بأني متعبة للغاية.»
«ربما يجب أن تتناولي قرصَين من الأسبرين، وتحاولي الحصول على قسطٍ من النوم؟»
أومأت مورين في وهنٍ. ثم قالت: «هل يمكنكَ أن تجلب لي الأسبرين؟ إنه في حقيبة منتجات العناية الشخصية الخاصة بي.»
أجابها: «بالطبع، يا عزيزتي.» وبمجرد أن وجد الأقراص، ملأ كأسًا بالماء من الصنبور قبل أن يعود إلى جانب زوجته. كانت قد خلعت فستانها، لكنها لم تخلع قميصها التحتي. ساعد ديك زوجته على الجلوس، وأدرك لأول مرة أنها كانت تتصبَّب عرقًا. ابتلعت مورين قرصَي الأسبرين مع كأس الماء التي قدمها إليها ديك. وأنزلها بلطفٍ على الوسادة قبل أن يسحب الستائر. ثم اجتاز الغرفة إلى الباب ففتحه ووضع علامة «ممنوع الإزعاج» على مقبض الباب. كان آخر شيء يريده هو أن تأتي عاملة غرف متعاطفة وتجد زوجته في حالتها التي هي عليها. وبمجرد أن تأكد ديك أنها نامت، نزل لتناول العشاء.
وبمجرد أن جلس ديك، سأله كبير النُّدُل قائلًا: «هل ستنضم السيدة إليكَ هذه الليلة؟»
أجابه ديك: «لا، مع الأسف، فهي تعاني صداعًا نصفيًّا طفيفًا. أعتقد أنها تعرضت للشمس كثيرًا، ولكنني متأكد أنها ستكون بخيرٍ بحلول الصباح.»
«نأمل ذلك يا سيدي. ما الذي يمكنني أن أقدمه إليك الليلة؟»
أخذ ديك وقته في تصفُّح القائمة، قبل أن يقول في النهاية: «أعتقد أنني سأبدأ بكبدٍ دسم، ثم أُتبِعه بشريحة لحم ردف …»، ثم توقف للحظة قبل أن يضيف: «… متوسطة النضج.»
«اختيار ممتاز يا سيدي.»
سكب ديك لنفسه كأسًا من الماء من الزجاجة الموجودة على الطاولة وتجرَّعها بسرعة، وذلك قبل أن يملأها مرة ثانية. ولم يستعجل في تناول وجبته، وعندما عاد إلى جناحه بعد الساعة العاشرة تمامًا، كان سعيدًا لأنه وجد زوجته مستغرقة في النوم. فأخذ كأسها إلى الحمام وملأها بماء الصنبور. ثم وضعها مرة أخرى على جانبها من السرير. ثم أخذ ديك وقته في خلع ملابسه، قبل أن يتدثَّر أخيرًا بالغطاء ويستقر بجانب زوجته. وأطفأ الضوء الموجود بجانب السرير ونام بعمق.
•••
عندما استيقظ ديك في صباح اليوم التالي، وجد أنه مبتلٌّ من العرق أيضًا. كانت أغطية الفراش مبلَّلة أيضًا، وعندما التفتَ لينظر إلى زوجته، كان خداها شاحبين تمامًا.
انسلَّ ديك من السرير في هدوء، ودلف إلى الحمام وأخذ حمامًا طويلًا. وبمجرد أن جفَّف نفسه، ارتدى أحد أردية الحمام الخاصة بالفندق وعاد إلى الغرفة. ثم تسلل إلى جانب زوجته من السرير وملأ كأسها الفارغة مرة أخرى بماء الصنبور. كان من الواضح أنها استيقظت خلال الليل، ولكنها لم تزعجه.
فتح ديك الستائر قبل أن يتحقق من أن علامة «ممنوع الإزعاج» لا تزال معلَّقة على الباب. ثم عاد إلى جانب زوجته من السرير، وسحب كرسيًّا وبدأ في قراءة جريدة «هيرالد تريبيون». وكان قد وصل إلى صفحات الرياضة بحلول الوقت الذي استيقظت فيه زوجته. وحين تحدثت كانت كلماتها غير واضحة. لكنها تمكنت من أن تقول: «أشعر بإعياء شديد.» تلتها فترة طويلة من الصمت قبل أن تضيف: «ألا تعتقد أني في حاجة إلى رؤية طبيب؟»
فقال ديك: «لقد جاء بالفعل ليفحصك يا عزيزتي. دعوته الليلة الماضية. ألا تتذكرين؟ قال لك إنك أصبت بحمى، وعليك فقط أن تتحمَّلي قليلًا حتى تُشفي منها.»
سألت مورين بنبرة متألمة: «هل ترك أي دواء؟»
«كلا يا حبيبتي. قال فقط إنك يجب ألَّا تأكلي أي شيء، ولكن ينبغي أن تحاولي شرب أكبر قدرٍ ممكن من الماء.» ورفع الكأس إلى شفتيها وحاولت هي أن تشرب المزيد. واستطاعت أن تقول: «شكرًا لك» قبل أن تنهار مرة أخرى على الوسادة.
قال ديك: «لا تقلقي يا حبيبتي. سوف تكونين بخير، وأعدك أنني لن أترك جوارك، ولو للحظة حتى.» ثم مال عليها وقبَّلها على جبينها. وخلدت هي إلى النوم ثانية.
الوقت الوحيد الذي ترك فيه ديك جوار مورين ذلك اليوم كان ليؤكد لمشرفة الغرف أن زوجته لا ترغب في تغيير أغطية الفراش، ويملأ كأس الماء على الطاولة بجانب السرير، وفي وقتٍ متأخر من بعد الظهر استقبل مكالمة من الوزير.
كانت الكلمات التي افتتح بها تشينكوف المكالمة: «لقد وصل الرئيس أمس. وهو يقيم في القصر الشتوي، حيث تركته للتوِّ. أراد مني أن أعلِمك كم هو متحمس للقائك أنت وزوجتك.»
قال ديك: «كم هذا لطيف منه، لكن لديَّ مشكلة.»
قال الرجل الذي لا يحب المشكلات خاصة عندما يكون الرئيس في المدينة: «مشكلة؟»
«يبدو أن مورين أصيبت بالحمى. كنا في الشمس طوال اليوم بالأمس، ولست متأكدًا من أنها ستتعافى تمامًا في الوقت المناسب بحيث تنضم إلينا في حفل التوقيع؛ لذا قد أكون بمفردي.»
قال تشينكوف: «يؤسفني سماع ذلك، لكن كيف حالك أنت؟»
قال ديك: «لم أشعر بأني أفضل حالًا من الآن.»
فأجابه تشينكوف: «هذا جيد»، وقد بدا على صوته الارتياح. وأضاف: «سأقلُّك إذن في التاسعة كما اتفقنا. لا أريد أن أجعل الرئيس ينتظر.»
فطمأنه ديك قائلًا: «ولا أنا أيضًا يا أناتول. ستجدني واقفًا في الردهة قبل التاسعة بوقتٍ كافٍ.»
جاء صوت طَرق على الباب. وضع ديك الهاتف بسرعة وركض ليفتح الباب قبل أن تسنح لأحدٍ الفرصة للدخول. كانت عاملة غرف تقف في الممر بجانب عربة محمَّلة بالأغطية والمناشف وقطع الصابون وزجاجات الشامبو وصناديق من ماء إيفيان.
سألته العاملة مبتسمة: «هل تريد أن نغيِّر أغطية السرير يا سيدي؟»
أجابها ديك: «كلا، شكرًا لك. زوجتي ليست على ما يرام.» ثم أشار إلى علامة عدم الإزعاج.
فاقترحت قائلة وهي ممسكة بزجاجة كبيرة من ماء إيفيان: «ربما تحتاج إذن إلى المزيد من الماء؟»
فعاود الرفض بحزمٍ قائلًا: «كلا»، ثم أغلق الباب.
كانت المكالمة الأخرى الوحيدة في تلك الليلة من مدير الفندق. حيث سأل بأدبٍ ما إذا كانت السيدة ترغب في رؤية طبيب الفندق.
فقال ديك: «كلا، شكرًا لك. لقد تعرضت قليلًا فقط لأشعة الشمس ولكنها تتحسَّن، وأنا متأكد أنها ستتعافى تمامًا بحلول الصباح.»
فقال المدير: «اتصل بي فقط إذا غيَّرت زوجتك رأيها. فيمكن للطبيب أن يكون عندك في غضون دقائق.»
قال ديك: «كم هذا لطيف منك»، وأضاف قبل أن يضع الهاتف: «لكنه لن يكون ضروريًّا.» ثم عاد إلى جانب زوجته. صارت بشرتها الآن شاحبة ومحمرة. انحنى ديك إلى الأمام حتى كاد يلمس شفتيها فوجد أنها كانت لا تزال تتنفس. ثم اجتاز الغرفة إلى الثلاجة، وفتحها وأخرج جميع زجاجات ماء إيفيان غير المفتوحة. ووضع اثنتين منها في الحمام، وواحدة على كل جانب من السرير. وكان آخر ما فعل قبل أن يخلع ثيابه هو أنه أخرج علامة «لا تشرب الماء» من حقيبته ووضعها على جانب الحوض.
•••
وصلت سيارة تشينكوف إلى فندق جراند بالاس قبل الساعة التاسعة بدقائق قليلة في صباح اليوم التالي. وقفز كارل منها ليفتح الباب الخلفي للوزير.
سار تشينكوف بسرعة نحو الدَّرج ودخل الفندق، وكان يتوقع أن يجد ديك في انتظاره في الردهة. نظر تشينكوف يمنة ويسرة في الممر المزدحم، لكنه لم يجد أي أثرٍ لشريكه في العمل. فتوجه بخُطًى حازمة نحو مكتب الاستقبال، وسأل إذا كان السيد بارنسلي قد ترك له رسالة.
أجابه موظف الاستقبال: «كلا يا سيدي الوزير.» ثم سأله: «هل تريد مني أن أتصل بغرفته؟» فأومأ الوزير بحزم. وانتظر كلاهما بعض الوقت قبل أن يضيف الموظف: «لا أحد يجيب الهاتف، أيها الوزير؛ لذا ربما كان السيد بارنسلي في طريقه إليك.»
أومأ تشينكوف مرة أخرى، وبدأ يذرع الردهة، وهو ينظر باستمرارٍ نحو المصعد قبل أن يتحقق من الوقت. وعند الساعة التاسعة وعشر دقائق، زاد قلق الوزير أكثر، لأنه لم يكن يرغب في أن يُبقي الرئيس منتظرًا. فعاد إلى مكتب الاستقبال.
وأمر الموظف قائلًا: «حاول الاتصال مرة أخرى.»
اتصل الموظف فورًا برقم غرفة السيد بارنسلي، لكن لم يكن منه إلا أن أبلغه أن أحدًا لا يرد.
صاح الوزير: «استدعِ المدير.» أومأ الموظف، وأمسك الهاتف مرة أخرى وطلب رقمًا واحدًا. بعد لحظات، كان رجلٌ طويل القامة ويرتدي بذلة داكنة أنيقة يقف بجانب تشينكوف.
سأله: «كيف يمكنني مساعدتك، معالي الوزير؟»
أجابه تشينكوف: «أحتاج إلى الذهاب إلى غرفة السيد بارنسلي.»
أجاب الرجل: «بالطبع أيها الوزير، اتبعني من فضلك.»
عندما وصل الثلاثة إلى الطابق التاسع، توجهوا بسرعة نحو جناح تولستوي، حيث وجدوا لافتة «ممنوع الإزعاج» معلَّقة على مقبض الباب. طرق الوزير على الباب بقوة، لكنه لم يجد ردًّا.
فقال آمرًا: «افتح الباب.» وأطاعه الموظف دون تردد.
دخل الوزير الغرفة، تلاه المدير والموظف. توقف تشينكوف فجأة عندما رأى جثَّتين هامدتين مستلقيتين على السرير. لم يكن في حاجة إلى أن يطلب من الموظف الاتصال بالطبيب.
•••
من دواعي الأسف أن الطبيب تعامل مع ثلاث حالات مشابهة في الشهر الماضي، لكن مع وجود اختلاف؛ إذ كانت جميعها لمواطنين محليين. فحص الطبيب الحالتين بعض الوقت قبل أن يصدر حكمه.
وأكد الطبيب، بصوتٍ هامس: «المرض السيبيري.» ثم صمت لحظة، ورفع نظره إلى الوزير، وأضاف: «لقد تُوفيت السيدة بلا شكٍّ خلال الليل، بينما تُوفي السيد خلال الساعة الماضية.»
لم يعلِّق الوزير.
واصل الطبيب يقول: «استنتاجي الأوَّلي هو أنها ربما أصيبت بالمرض بسبب شربها كثيرًا من الماء المحلي …»، ثم توقف عن الحديث عندما نظر إلى جثة ديك الجامدة، وأضاف: «… بينما من المؤكد أن الزوج أصيب بالفيروس من زوجته، ربما خلال الليل. ليس من النادر أن يحدث ذلك بين الأزواج.» ثم أردف: «مثل العديد من مواطنينا، من الواضح أنه لم يكن على علم …»، وقد تردَّد قبل أن ينطق بالكلمة في حضور الوزير، «… بأن هذا المرض هو أحد تلك الأمراض النادرة التي لا تُعدُّ معدية وحسب، ولكن شديدة العدوى.»
احتجَّ المدير قائلًا: «لكنني اتصلت به الليلة الماضية، وسألته إذا كان يرغب في رؤية طبيب، وقال إن هذا ليس ضروريًّا؛ لأن زوجته تتحسَّن، وكان واثقًا أنها ستكون قد تعافت تمامًا بحلول الصباح.»
فقال الطبيب: «يا له من أمرٍ محزن، ليته وافق. ربما كان أوان إنقاذ زوجته قد فات، لكن ربما استطعت أن أنقذه.»