مقاصد المكلف
أولًا: أين مقاصد المكلَّف؟
(١) قهر النص
(٢) القصد والنية في النص
ولفظ «قصد» لفظ قرآني له دلالات متعددة، أولها القصد بمعنى الاتجاه، مثل وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، فالاتجاه نحو «الله» قصدٌ وسبيل، وطريقٌ ومسار، وهو نفس المعنى في: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ. فالقصد هو الحركة والاتجاه. وقد يعني اللفظ في صيغة «مقتصد» الإقلال، ومنه لفظ «الاقتصاد»، أي ما يتعلق بتدبير الأموال والموارد والنفقات، يعني التمهل والتباطؤ في المشي، كفضيلة وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ. ويعني التوسط في الإنفاق بين السبق إلى الخيرات والشحِّ فيها، وهو ظلم النفس فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ. والاقتصاد في الخير شح مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ. وأحيانًا يكون الكرم أفضل، والفيض أدل، والعطاء أكثر، خاصةً بعد النعم فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، فالاقتصاد في الشكر بعد النعم جحد وعدم عرفان.
وهي نفس استعمالات معنى لفظ «القصد» في السنة، مثل «عليكم القصد ثلاثًا.» ويعني القصد في الوضوء والقصد في الصلاة والقصد في الكلام. فكان الرسول قصدًا في صلاته وفي خطبته؛ منعًا للمشقة وطلبًا لليسر.
ولم يَرِد لفظ «النية» في القرآن إلا مجازًا، وهو لفظ «النوى»، الذي يشارك نفس الحقل الدلالي، ما بالداخل مثل النواة إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، ويدل عليها بألفاظ أخرى، مثل القلب والنفس والفؤاد واللُّب.
وهو وارد في السنة في العبادات والمعاملات، وكشرط للأفعال على الإطلاق، أفعال الشعور وأفعال الجوارح. فالنية شرط العبادات، شرط الوضوء والصلاة والصوم والحج. وهي شرط المعاملات في الطلاق والجهاد والقتال والغزو، «من غزا ولم يَنوِ وهو لا يريد إلا عقالَه، فله ما نوى.» والنية في أداء الدين، والنية في الإيمان، أي في أفعال القلوب، مثل الوفاء بالوعد «إذا وعد الرجل وينوي أن يفي به …»، وفي الحلف «إذا كان المستحلف ظالمًا فنيَّته المستحلف»، والنية في طلب العلم وليس الشهرة أو المال أو السلطة. وهي شرط الفعل الخلقي عند صادق النية. لكلٍّ ما نوى، الدنيا أو ما وراء الدنيا، ويُبعث الرجل على نيته. وهي شرط صحة الفعل، فالبعث على النية.
(٣) تطابق القصدين
ثانيًا: النية والعمل
(١) العمل في النص
- (أ) ورود الصيغة الفعلية أكثر من الصيغة الاسمية بحوالي ثلاثة أضعاف، مما يدل على أن العمل فعل أكثر منه قولًا أو شيئًا، عملية ذاتية أكثر منه موضوعًا ونتيجة.١٠
- (ب) ورود صيغة المضارع أكثر من صيغة الماضي حوالي الضعف، مما يدل على أن العمل حقيقة مستمرة، أكثر منه فعلًا ماضيًا أو حاضرًا لا مستقبل له.١١
- (جـ) وفي صيغة المضارع يتردد المخاطب الجمع أكثر من الغائب، حوالي الضعف، مما يدل على أن العمل نداء للآخر وطلب منه، كما أن الأمر اقتضاء فعل.١٢
- (د) وفي صيغة الماضي: الشخص الثالث أكثر ترددًا، ثلاثة أرباع صيغ الماضي كلها، مما يدل على انتهاء عمل الفرد، وتوقع نتائجه إيجابًا أم سلبًا، وكأن العمل قد تم، والنتيجة قد ظهرت، والحكم قد صدر.١٣
- (هـ) تردد صيغ الأمر قليل؛ لأن العمل ليس أمرًا، بل طبيعة. وتردد الأمر الجماعي أكثر من الأمر المفرد. فالعمل جماعي، عمل الأمة أكثر من عمل الأفراد.١٤
- (و)
عدم إضافة الضمائر للأفعال إلا مرة واحدة في صيغة «عملته»؛ مما يدل على أن العمل في ذاته أهم من الشيء المعمول، أي ارتباط العمل بنشاط الذات أكثر من عالم الأشياء.
- (ز) بالنسبة للأسماء يَرِد لفظ «العمل» جمعًا في صيغة «أعمال»، أكثر منه في صيغة المفرد «عمل»؛ مما يدل على أن العمل جماعي. أما بالنسبة لاسم الفاعل «عامل»، فيَرِد في صيغة الجمع أكثر منه في صيغة المفرد؛ مما يدل أيضًا على أولوية العمل الجماعي على العمل الفردي.١٥
- (ﺣ) وبالنسبة للضمائر، تَرِد صيغ المتكلم المفرد، والمتكلم الجمع، والمخاطب المفرد، والمخاطب الجمع، والغائب المفرد، والغائب الجمع؛ مما يدل على أهمية أعمال الجماعة، خاصةً الغائبين منهم.١٦
- (أ) العمل الصالح جمعًا في صيغة «الصالحات» أو مفردًا. وهو المعنى الأول المبدئي. وهو العمل الحسن في أفعال التفضيل أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا. وهو أيضًا العمل الخير مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر، وذلك في مقابل السيئات، وسيئات ما عملوا، وعمل السوء، وعمل المفسدين، والأخسرين أعمالًا، وعمل الخبائث.١٧
- (ب)
الأعمال بالنيات الحسنة والسيئة، عن علم أو عن جهالة. فالنية شرط العمل إيجابًا أم سلبًا.
- (جـ)
المسئولية الفردية والجماعية عن الأعمال. فالأعمال تقدم بالأيادي، فردًا وجماعة، ويجد على كل عامل أعماله حاضرة أمامه. مسئول عنها أو بريء منها. فالمسئولية أساس الجزاء.
- (د)
الجزاء على الأعمال: جزاء الحسنة حسنة مثلها أو عشرة أمثالها أو مائة مرة، وجزاء سيئة سيئة مثلها. فالخير أرقى من الشر، والكرم أفضل من الشح. ومن همَّ بحسنة ولم يفعلها تُحسَب له. ومن همَّ بسيئة ولم يفعلها لا تُحسَب عليه. فأفعال القلوب هي أساس أعمال الجوارح. وتوفَّى كل نفس ما عملت، وتُنبأ بأعمالها، وتجدها حاضرة أمامها.
- (هـ)
تفاوت الأعمال يؤدي إلى تفاوت الجزاء: فللأعمال درجات، وللجزاء أيضًا درجات إيجابًا أم سلبًا، مما يتيح الفرصة للمنافسة على الأعمال الصالحة، والابتعاد عن السوء.
- (و)
هناك شهود على الأعمال، الأيادي والجوارح والقلوب وأدوات العمل وآلاته. فالعمل مرتبط بوجود الإنسان، لا يمكن التبرؤ منه أو الابتعاد عنه.
- (ز) الدعوة إلى العمل في عدة صياغات، مثل: وَقُلِ اعْمَلُوا، وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا، فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ. والدعوة إلى العمل تتلو الدعوة إلى النظر والتأمل وطلب البرهان.
- (ﺣ) العمل في العالم بالكد والسعي نتيجة للاستخلاف وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وهو عملٌ في البر والبحر، السعي والكدح في العالم. هو العمل في الدنيا في وقت معلوم، قبل أن ينقضي الأجل. إذ لا يمكن العودة إليها بعد انقضاء العمل الصالح، بعد التعلم والمشاهدة والتحقق من الجزاء. والأعمال باقية في العالم بأثرها وعلمها. و«الله» عالمٌ بكل شيء، محيط به خبير وبصير، دون أن يفرض إرادته على خلقه، فكلٌّ ميسرٌ لما خُلق له، وكلٌّ يعمل على شاكلته.
- (أ)
العمل هو العمل الخير، عمل الطبيعة والفطرة، وكلُّ عاملٍ ميسَّر لعمله. وأفضل الأعمال الجهاد في سبيل «الله»، وامتطاء صهوة الجواد، والصبر في اللقاء. وأسوأ عملٍ عملُ قوم لوط، فهو مضادٌ للطبيعة البشرية. ولكل عمل سيئ كفارة، بحيث تصبح الأعمال كلها أعمال خير.
- (ب)
الأعمال بالنيات. والنية الصادقة شرط العمل الصحيح. والنفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق الكذب. وهنا يتضح الأساس الأخلاقي لعلم الأصول.
- (جـ)
وأطهر النيات أن يكون العمل لوجه الله دون أن يشرك العامل بعمله أحدًا غيره. فمن الناس من يعمل عمل الدنيا مدعيًا «الآخرة»، ومنهم من يعمل لوجه «الله»، ويحب أن يُحمَد عليه من الناس. يعمل عمل أهل «الجنة» وهو من أهل «النار».
- (د)
ولكل عمل جزاء من نوعه كيفًا، وإن زاد كمًّا. فالعمل الصالح القليل قد يكون له أجر كثير، ومن عمل حسنة فله عشر أمثالها أو أكثر. ومن همَّ بسيئة ولم يعملها تُكتب له حسنة، أكثر كرمًا وفيضًا من النص الأول.
- (هـ)
العمل تطبيق لعلم. فالعلم يؤدي إلى العمل. وقراءة القرآن تؤدي إلى العمل بما فيه، «تعلَّموا، تعلَّموا، فإذا علمتم فاعملوا.» ولا يكون الإنسان بالعلم عالمًا حتى يكون به عاملًا.
- (و)
العمل هو العمل اليدوي. وأفضل عملٍ عملُ العبد بالليل يكسب قوته. وخير الكسب كسب اليد، يد العامل إذا نصح، «ما كسب الرجل كسبًا أطيب من عمل يده.» وأن يأكل الإنسان من عمل يده خير من أن يسأل الناس، أعطَوْه أو منعوه.
- (ز)
والعمل ضد الاتكال: «اعملوا ولا تتكلوا، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم.» وهو عمل وفقًا للطاعة والوسع؛ نظرًا لاستحالة التكليف بما لا يطاق، «اكلَفوا من العمل ما تطيقون.» «لا تكلفوا أنفسكم من العمل ما ليس به طاقة.»
- (ﺣ) أفضل الأعمال أدومها. «خياركم أطولكم أعمارًا وأحسنكم أعمالًا.» «إن خير العمل أدومه وإن قل.» وهو العمل الأفضل والحسن والأكمل. وهو العمل الذي يصبح سنة للناس ويخلَّد في الأرض، وتجتمع عليه الأمة.١٨
(٢) تطابق النية والعمل
والنية ليست معطًى كليًّا، يوجد أو لا يوجد، بل هي أيضًا إمكانية وطاقة، تشتد وتضعف، تقوى وتضعُف، تنشط أو تفتُر. وقد وُصف الإيمان في علم أصول الدين بنفس الصفات، بأنه يقوى ويضعف، وليس فقط يوجد أو لا يوجد، بمنطق «إما … أو».
واللفظ المستعمل هنا هو «العمل» وليس «الفعل». الفعل صيغة لغوية في «المنظوم»، في مباحث الألفاظ «الأمر والنهي». فالأمر اقتضاء فعل. وهو أيضًا في «المفهوم» في دلالة الأفعال؛ لأن السنة قول وفعل وإقرار. أما «العمل» هنا فهو الفعل الذي خرج من النص إلى الواقع، ومن اللغة إلى العالم، ومن النظر إلى العمل.
والنية بلا عمل مثل الإيمان بلا عمل، مجرد نوايا طيبة، داخل بلا خارج، ذات بلا تحقق، مثل أحلام اليقظة والرغبات المكبوتة، والأماني والتمنيات، وكم في الذات من رغبات ونوايا! وقد تدل على عجز عن العمل، ونقص في الإرادة، وتخوُّف من العالم، وعزلة عنه، كما هو الحال في إيمان العوام أو في أوهام الصوفية، وخلق عالم بديل للتحقق، ومجتمع لا وجود له للعيش فيه، ليس فقط الطرقية في الأرض، بل مجتمع الأقطاب والأبدال في الخيال.
والعمل بلا نية عملٌ توجِّهه المثيرات الخارجية الحسية، دون قصد وغاية وإرادة واعية. هو موضوع «بلا ذات»، وخارج بلا داخل، قفز إلى العالم كالطائر الجارح، متناثر أهوج، لا يجمعه جامع، ولا يصب في قصدية واحدة. يتنافس ويتزاحم ويتضارب مع أفعال الآخرين؛ تحقيقًا للمنافع الشخصية وليس للصالح العام.
(٣) القصد والمصلحة
العمل إذن هو العمل المنتج الفعَّال في الأرض. فالإصلاح والإفساد في الأرض وليس فقط للنفس، في الدنيا وفي العالم في هذا الزمان، وليس توقعًا في دنيا أخرى، وعالم مغاير، وفي زمان بديل، حتى ولو كان الخلود كله. وهناك مسئولية فردية عن العمل الفردي، ومسئولية جماعية عن الفعل الجماعي، بل ومسئولية تاريخية عن تراكم الأفعال الفردية والجماعية في التاريخ.
(٤) الأنا والغير
والعمل هو العمل الجماعي، تراكم عمل الأفراد. هو عمل الأمم والشعوب والأقوام، الذي يصبح تاريخًا وحضارة. العمل يتحول إلى تراث للسابقين ومخزون نفسي للاحقين.
والعمل ليس فقط العمل «الإسلامي» للأفراد والجماعات، بل هو أيضًا عمل كل الشعوب والأقوام، عمل البشرية جمعاء. فالعقل هادٍ للناس بصرف النظر عن الوحي. ومن أتاهم الوحي، بالإضافة إلى العقل، فإنهم يحملون التبعة مرتين، وعليهم مسئولية مزدوجة، في حين أن الذين أعملوا العقل عليهم تبعة واحدة، ويحملون مسئولية واحدة، مسئولية الخلق، والتكليف الذاتي الطوعي.
ثالثًا: سوء النية (الحيل)
(١) التحايل
والتحايل ناتج عن عدم مطابقة النص مع الواقع، وعدم قدرة الحكم الشرعي القديم على احتواء الواقع المتغير الحالي. ولما كان من الصعب تغيير الحكم أو إنكار الواقع، ينشأ التحايل لإعطاء الحكم الشكل، والواقع المضمون. فثبات التشريع وتغير الواقع هو السبب المباشر في التحايل.
(٢) صحة الشكل وفساد المضمون
يمنع سوء النية من تطابق النية مع العمل، وأن تكون النية هي الموجِّهة للعمل، وأن يكون العمل تحقيقًا للنية. وتحل نية أخرى محل نية الفعل، مثل التظاهر والرياء والتملق وطلب المدح والادعاء، وقد تمنع نوايا أخرى من ظهور نية العمل، مثل الخوف والجبن وإيثار السلامة وتلمُّس الأعذار، مثل المخلَّفين والقاعدين عن الجهاد بدعوى عدم امتلاك آليات للقتال؛ السيف والرمح والحصان.
ولما كانت الشريعة أقربَ إلى المضمون منها إلى الشكل «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، فإن التحايل لا يعتبر فعلًا لأنه يُغفل شرط النية. وفي حالة استحالة تطابق الشكل مع المضمون، فالأَولى الإبقاء على المضمون دون الشكل، وفرض المضمون شكله على المكان والزمان من قاعدة التشريع، «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ».
(٣) ازدواجية الشخصية
رابعًا: عقبات العمل
(١) العقبات الوهمية
لم يحلل القدماء عقبات الفعل؛ لأن الفعل لديهم لم تكن له عقبات. كان التحليل للفعل المثالي المستنبط من النص، وليس العمل المتحقق في الحياة اليومية. ربما تأجلت عقبات الفعل إلى «أحكام الوضع»، ولكنها لم تدخل في مقاصد المكلف، التي انحصرت في علاقة ثنائية بين النية والعمل، في حين أن العلاقة ثلاثية بين النية والعمل والعالم. فالعمل يتحقق في العالم، قبله النية، وبعده المحيط. والمحيط ليس مواتيًا بالضرورة؛ لأن العالم لا سيطرة للإنسان على كل عوامله. وهنا تنشأ العقبات المانعة من الفعل. وهي نوعان: وهمية وفعلية. والوهمية نوعان: إرادة إلهية، وإرادة الطبيعة.
وقوانين الطبيعة عقبة وهمية؛ لأن الفعل الحر الرشيد لا يتجه نحو الاصطدام بقوانين الطبيعة، بل يعمل معها وفي نسقها. ليس الهدف من العمل الإنساني تغيير قوانين الطبيعة والكون، مثل دوران الأرض حول الشمس، وشروقها من المشرق وغروبها من المغرب، بل التحكم في معطياتها: تشجير الصحراء، إصلاح الأراضي، الزراعة المغطاة، اكتشاف المياه الجوفية، وتشييد الآبار، ميكنة الزراعة … إلخ، شق القنوات، إقامة السدود، صنع مساقط مياه لتوليد الكهرباء، إقامة بحيرات صناعية لتوليد الأسماك، طواحين الهواء، وتبريد الساخن بالمبردات، وتسخين البارد بالسخانات، والاستفادة من الطاقة الشمسية. فالطبيعة ليست عقبة للفعل، بل هي ميدان للعمل الإنساني. هي محيطه وحقله وليست سدَّه وحائطه.
(٢) العقبات الفعلية
وهي العقبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وكلها من صنع الإنسان. وهي ليست عقبات دائمة، بل أوضاع مؤقتة، يمكن تغييرها عن طريق الإصلاح والتغير الاجتماعي. وإن استعصت فعن طريق الانقلاب والثورة. والعقبات الاجتماعية هي مجموعة من القوانين البيروقراطية، التي لا تحقق مصالح الناس، بل تضر بها، ومن ضمنها العقبات الاقتصادية والتعليمية والتربوية والثقافية. فما زالت نظم التعليم تقوم على التلقين والخوف والعقاب ومسك العصا. كما تقوم التربية على الطاعة المطلقة للرؤساء، وليس على النقد أو المعارضة. والثقافة مدح وإطراء، وأحيانًا زيف وبهتان، إذا تحولت إلى إعلام بأيد السلطان وفقهائه.
(٣) أساليب المقاومة
لم يتعرض القدماء لأساليب المقاومة؛ لأن اللحظة القديمة كانت لحظة انتصار، في حين أن اللحظة الحالية هي لحظة انكسار. وبقدرِ ما يشتد العقاب تعظُم المقاومة.
وتتعدد أساليب المقاومة بين المقاومة السلبية أو المقاومة الفعلية. المقاومة السلبية منها الهجرة خارج البلاد، ثم الانخراط فيها والعيش في الحاضر مع نسيان الماضي، أو العودة إليه كل حين كسائح فيه. وهو ما يصعب على النفس؛ لأن المهاجر يحمل الوطن بين جنبيه، يحلم به، ويتراءى أمامه. ولا يسعد بالوطن البديل، ويعاني من العزلة، والعنصرية ضاربة جذورها في وعي الشعوب والأقوام. ولا يعوض الكسب المادي عن الخسارة الروحية «وماذا يكسب الإنسان لو كسب العالم وخسر نفسه؟!» وقد تكون الهجرة إلى الذات، والعزلة عن الناس والعالم، صومعة صغرى في سياج أكبر، وهو يأس وقنوط إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.
والمقاومة الفعلية على أنواع: المقاومة السرية تحت الأرض بتنظيم الخلايا؛ حتى يتم الانقضاض على السلطة بعد تنظيم الشعب، وحشد الناس، وانتظار الفرصة السانحة. ولما كانت عيون السلطان فوق الأرض وتحتها، فإنها سرعان ما تُكتشَف وتُتَّهم بتدبير مؤامرة للانقلاب على الحكم، وتهديد أمن الدولة وسلامتها.
