أحكام التكليف
أولًا: معنى التكليف وأساسه وأقسامه
(١) معنى التكليف؟
(٢) حُسن الأفعال وقُبحها قبل ورود الشرع
ولا يمكن أن تكون الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر. فهذه سوداوية وتشاؤمية وكراهية للحياة. أما القول بالحظر فهي نظرة تشاؤمية، وكأن الطبيعة شر، والإنسان شرير بطبعه.
ولا يمكن أن تكون كلها على الإباحة؛ لأن القتل والسرقة والإيذاء تمجُّها الفطرة وتعافُها النفس. فهي على الإباحة باستثناء الكفر والظلم وجحد النعم. وهي ليست مباحة، بل لقد تتنازعها الأحكام الأربعة الأخرى؛ لأنها اتجاهات طبيعية في سلوك البشر.
والتوقف في ذلك حياد يأباه الموقف الطبيعي للإنسان. ونفْي حكم العقل وانتظار حكم الشرع عجز عن الحكم، وضعف ثقة بالنفس، ومزايدة على الشرع. والتوقف إقلال من قدرة العقل البديهي والإحساس الفطري. الشرع مخبر لما دل عليه العقل؛ خوفًا من تغلُّب الهوى على الفعل.
(٣) أحكام التكليف
وقد يكون الترتيب تنازليًّا: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور، مع أن الترتيب التقابلي بين القطبين، الموجب والسالب، والاختياري، الموجب والسالب أيضًا، ثم الفعل الطبيعي الذي يحتوي على شرعيته في ذاته؛ أقرب إلى النسق. وقد يأتي المباح ثانيًا وسط القطبين الضروريين والاختياريَّين، وليس ثالثًا.
وقد تتحول بعض المسائل إلى فقه افتراضي خالص، مثل موت الإنسان في بداية الصلاة، بعد أن عقد العزم عليها هل تُكتب له أم لا؟ فهو مثَلٌ نادر الوقوع. ولا يتعلق علم الأصول إلا بما تعم به البلوى. والأعمال بالنيات، ومن همَّ بحسنة فهو فعل، ومن همَّ بسيئة فهي ليست فعلًا؛ لأن نية الحسن أصيلة، ونية القبح طارئة.
ثانيًا: أحكام التكليف الخمسة
(١) الواجب
والواجب في الذمة حق «الله»، وهي أربعة: معرفة النفس، ومعرفة «الله»، ومعرفة الابتلاء في الحياة، ومعرفة الدنيا. ومعرفة النفس بالحرية وليس بالعبودية. ومعرفة الله بالألوهية «تعني وضع مبدأ عام واحد شامل يتساوى أمامه الناس جميعًا»، ومعرفة الابتلاء تتعلق بالأمانة والقضية. ومعرفة الدنيا تتوجه بالواقع والعصر والزمان والتاريخ.
(٢) المحظور
(٣) المندوب
(٤) المكروه
(٥) المباح
(أ) الفعل الطبيعي
ومن ثم ما غاب عنه الحكم لا يجوز القياس فيه لأنه مباح، إلا إذا كان فعلًا جديدًا ظهر فساده وضرره، خاصة وأن السؤال عما سكت عنه الشرع يتضمن لا شعوريًّا نيةَ التحريم بناءً على الخوف من الجديد، والدفاع عن النص حتى لو تبدل الواقع، وتبدلت الظروف، وتغيرت روح العصر.
(ب) الفعل الشرعي
وفِعله ليس سببًا في طول الحساب؛ لأن الفعل فيه يتساوى مع الترك. وإذا كان الحساب سببًا للترك، فالأَولى ترك الطاعات كلها. كما أن الحساب خارجٌ عن أمر المباح، ولا يعني أن الفعل كثير الشروط والموانع ومفتقر إلى أركان ترجيح الترك؛ لأن الفعل والترك قصدان متساويان بصرف النظر عن الشروط والموانع وميدان الفعل. كل ذلك جدل وسجال نظري، إذ يدرَك المباح بالحدس. وهو جزء من سلوك الناس الطبيعي في الحياة اليومية، بعيدًا عن التفيقُه والتنطع في الدين.
وليست الإباحة بحسب الكلية والجزئية، تتجاذبها الأحكام الباقية، فالمباح بالجزء قد يكون مندوبًا أو واجبًا بالكل، أو مكروهًا أو منهيًّا عنه بالكل، الفعل مندوبٌ بالجزء واجبٌ بالكل، ومكروهٌ بالجزء ممنوعٌ بالكل، والواجب وهو مرادف للفرض واجبٌ بالكل وبالجزء، إذ تتفق الأحكام مثل المباح حتى إذا اختلفت بالكلية والجزئية، المباح حكمٌ شرعي مستقل عما فوقه وعما تحته، هو المستوى الطبيعي لسلوك الإنسان.
(ﺟ) أقسام المباح
(د) حظ المكلف
وقد يتجاذب أصل الإباحة للحاجة أو للضرورة العوارض المضادة له وقوعًا أو توقعًا؛ مما قد يقوِّضه. فإذا اضطر إلى فعل المباح يُرجع إلى الأصل وعدم اعتبار العارض؛ لأن المباح صار واجبًا، ولم يبقَ على أصله من الإباحة؛ ولأن مَحالَّ الاضطرار مفتقرة في الشرع؛ ولأن عدم انتفاء العوارض يؤدي إلى رفع الإباحة. وإن لم يضطر، بل يلحقه حرجٌ بترك المباح، فذلك يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة وترك اعتبار الطوارئ. وإن لم يضطر إلى أصل المباح، ولا يلحق بتركه حرج، فهو محل اجتهاد، تدخل فيه قاعدة الذرائع.
(ﻫ) مرتبة العفو
ثالثًا: خاتمة
(١) علم أصول الفقه بين القديم والجديد
-
(أ)
تبدو من «بنية النص» ظاهرة «انبعاج» علم أصول الفقه، وانتفاخ «الوعي النظري» على حساب «الوعي العملي»، كما تبدو أولوية النص على الواقع، واللفظ على المعنى، والمنظوم على المفهوم في الوعي النظري. أما المعقول فقد تم تقنينه بعدة طرق ومسالك ومجارٍ في الاستنباط والاستقراء، لاقتناص العلة ومدى حضورها في الأصل والفرع، حتى يمكن تعدية الحكم. ففقد العقل بديهته وحدسه، ورؤيته المباشرة للواقع، واتحاده بالأشياء والقرب من المصالح العامة للناس. وفي الوعي العملي كانت الأولوية لمقاصد الشارع على مقاصد المكلف، وللشارع على المشرَّع له، وللمخاطِب على المخاطَب، وهي نفس البنية في أولوية النص على الواقع، والأعلى على الأدنى، ومن ثم كانت أضعف أجزاء علم أصول الفقه القديم «المفهوم» في الوعي النظري، و«النية» في الوعي العملي.
-
(ب)
ومع ذلك أتت هذه المحاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه القديم «من النص إلى الواقع»، أقرب إلى القديم منها إلى الجديد؛ أسوةً بالمحاولات السابقة «من العقيدة إلى الثورة»، لإعادة بناء علم أصول الدين، و«من النقل إلى الإبداع» لإعادة بناء علوم الحكمة. فما زال الهمُّ هو تحريك القديم، وإزاحة الغبار من فوقه، وإجلاء الصدأ من فوق تكوينه وبنيته. ما زال الهدف هو تجديد القديم أكثر من إبداع الجديد؛ خشيةَ أن يُترك القديم كما هو دون تحريك وتطوير؛ فيظل عنصر جذب للمحدثين وشدهم نحوه، وخشيةَ أن يأتي جديد مجتثُّ الجذور، كبديل عن القديم لا يلتف إليه إلا المحدثون، وتظل المسافة شاسعة بين قِدَم القدماء وحداثة المحدثين. من السهل اعتماد الحداثة كوصفة جاهزة ونقل للنموذج، ومن الصعب التمهيد لها بتحريك القديم وإعادة بنائه، طبقًا لمقتضيات حداثة كل عصر. طغى القديم على الجديد من أجل الحفر ونزع الجذور من التربة القديمة وإعادة غرسها في التربة الجديدة. ويترك الجديد للدراسات الجزئية والمقالات التحديثية على الأمد القصير لإثارة الأذهان.١٠٩ أما القديم ففي حاجة إلى زعزعة الأركان؛ مما يتطلب «بولدوزر» الجرافين أكثر مما يتطلب «ديكور» المحدثين. والحفر من أجل التأسيس هو التجديد على الأمد الطويل، وليس طلاء المحدثين. وقد يكون اتساع التحليلات القديمة ووفرتها إحدى آليات التخفي، حتى يتناثر الجديد ما بين السطور، كمياه جوفية تجرف البنيان القديم، بدلًا من التفجير من الخارج، حتى يقع البناء على رءوس القاطنين فيه، فيموت الجميع. أمام الهلع من القديم والحكم المتسرع برصده، قد يهرب الباحثون عن المتاعب والمتصيدون للأخطاء.
-
(جـ)
كان التحدي أمام إعادة بناء علم أصول الفقه القديم هو كيفية تحويله من علم فقهي استدلالي استنباطي منطقي، إلى علم فلسفي إنساني سلوكي عام. ويبدو ذلك في البناء الثلاثي للعلم: الوعي التاريخي (المصادر الأربعة)، والوعي النظري (مباحث الألفاظ)، والوعي العملي (المقاصد والأحكام). كما يبدو في إيجاد مصطلحات تتعلق بالمضمون، مثل «التجربة العامة» للقرآن، و«التجربة النموذجية» للحديث، و«التجربة المشتركة» للإجماع، و«التجربة الفردية» للاجتهاد. وربما أمكن إيجاد بعض الدلالات الجزئية المتناثرة داخل العلم، سواءٌ فيما يتعلق بالمكان في «أسباب النزول»، والزمان في «الناسخ والمنسوخ» في المصدر الأول، ونقد المتن بالإضافة إلى نقد السند في المصدر الثاني، وإعطاء الأولوية لأشكال الاستدلال الحر؛ من استحسان واستصلاح واستصحاب في المصدر الرابع. وفي الوعي العملي تم تطوير مقاصد المكلف والنية والفعل؛ نظرًا لتآكلها عند القدماء، وإبراز أهمية المباح، وتضمن الطبيعة شرعيتها في ذاتها. وهناك دلالات أخرى متناثرة بين السطور، مهمتها المقارنة المستمرة بين تحليلات القدماء ودلالات المحدثين. ربما نقَصه المزيد من تحليل التجارب الإنسانية الفردية والجماعية، ولكن ما ظهر منها يكفي لتطوير العلم من «الموافقات» للشاطبي إلى مرحلة أبعد.
-
(د)
بطبيعة الحال هناك متون أصولية أخرى لم يتم تحليلها؛ سواء المخطوطة منها أو المطبوعة، ومع ذلك ما تم تحليله منها يكفي لوصف العلم تكوينًا وبنية. وبالمقارنة بالصيغة الفرنسية الأولى في «مناهج التفسير»، التي تم الاعتماد فيها على ما لا يزيد عن الأربعين نصًّا بهذه الصيغة، التي تم الاعتماد فيها على ما يزيد عن المائة نص سُني وشيعي، فإنه يمكن الاعتماد على ما تم استعماله منها، دون أن يقلل ذلك من شأن صورة العلم، تكوينًا أو بنية، خاصةً وأن المتون يكرر بعضها بعضًا. هناك المتون الرئيسية التي تمثل «التمفصلات» الرئيسية للعلم في مساره التاريخي، وهناك أيضًا تحليلات وتفريعات جزئية، تتعلق بالفَرق بين المذاهب أو داخل المذاهب الواحد. ليس المقصود منها التاريخ، تاريخ المذاهب، بل الموضوعات والدلالات، بصرف النظر عمن قال ماذا. فبنية الموضوع لها الأولوية على القائلين به.١١٠
-
(هـ)
يكفي أن يراجع «من النص إلى الواقع» الأصوليون القدماء؛ لبيان إلى أي حد يرتبط المتن الجديد بالمتون القديمة، وهل قطع معها أم استمر فيها مع اختلاف في الدرجات وليس في النوع، تخصصًا بتخصص، وشيخًا لشيخ، وأصوليًّا قديمًا لأصولي قديم، كما يراجعه المحدثون والحداثيون، علماء اللسانيات والمتخصصون في علوم النص؛ لبيان إلى أي حدٍّ «من النص إلى الواقع» يمثل إسهامًا في علوم النص الحديثة، دون تكرار للقدماء أو نقل للمحدثين، ومن أجل الاستفادة منهم في مزيد من الحداثة، والارتباط أكثر بالمحدثين؛ للإقلال من غلبة تحليل القديم وتواري الجديد. ويراجعه أيضًا المجددون الذين ساروا على هذا المنهج منذ حركة الإصلاح الحديثة، خاصةً في النصف الثاني من القرن العشرين عند علال الفاسي، ومحمد باقر الصدر، وجمال الدين عطية ومجلة «المسلم المعاصر». إنها خطوة على طريق تجديد علم الأصول، سبقتها خطوات حثيثة وربما تتلوها خطوات أكثر جرأة.
(٢) علم الأصول والحضارات المقارنة
-
(أ)
علم أصول الفقه ليس علمًا خاصًّا بالحضارة الإسلامية وحدها، بل هو علم شائع وموجود في كل حضارة نصية، تبدأ من النص وتحل قضية تعارض النصوص، أو حتى غير نصية لنقد النص والتخلص منه، لقيد من الماضي على الحاضر. ومثال الحضارة النصية الحضارة اليهودية والحضارة المسيحية، وحضارات الكتاب، بل والحضارات الشرقية القديمة في الصين والهند.
ففي الحضارة اليهودية نشأ علم أصول الفقه، تحت تأثير علم أصول الفقه الإسلامي، فيما يسمى ﺑ «الحلقة» وطريق الاستدلال، واستنباط الأحكام الشرعية التي يقوم بها الأحبار، في مقابل «الهجداه» حلقات الذكر الصوفية. وكما نشأ الصراع في الحضارة الإسلامية بين «التنزيل» و«التأويل»، بين علوم الظاهر وعلوم الباطن، بين أفعال الجوارح وأفعال القلوب، نشأ نفس الصراع في اليهودية. نشأ الصراع داخل أصول الفقه اليهودي، بين أولوية النص على الواقع عند الربانيين، وأولوية الواقع على النص عند الإصلاحيين. وفي الحضارة المسيحية أسس القديس أوغسطين علم أصول الفقه في «القاضي المسيحي»، واضعًا قواعد التفسير ومُحللًا اللغة في محاورة «العلم».١١١ وكان تاسيان في «الدياتصرون» قد وضع من قبلُ قواعد النقد التاريخي للكتب المقدسة، بمقارنة الأناجيل الأربعة لمعرفة مدى اتفاقها واختلافها، واكتشاف «إنجيل» السيد المسيح وأقواله المباشرة.١١٢ واستمر هذا الدافع حتى بلورة هذا العلم في العصور الحديثة عند ريتشارد سيمون، وجان أوستريك، واسبينوزا، ولسنج، وفولتير. ثم أتى كبار النقاد في القرن التاسع عشر، ومدرسة «تاريخ الإشكال الأدبية» في القرن العشرين، والتحول من نقد السند إلى نقد التن، ومن نقد المصادر إلى نقد النص.١١٣ -
(ب)
ولم تخلُ حضارات الشرق القديم في الصين والهند من علم أصول الفقه في إعادة كونفوشيوس قراءة «كتاب التغيرات» في الدين الصيني القديم؛ لإعادة بنائه، ثم قراءة منشيوس لكونفوشيوس، ثم قراءة المحدثين للقدماء بتأويل جديد، يغلب عليه فن القراءة أكثر من نقد النص. وفي الهند نشأ علم أصول الفقه لحل التعارض بين النصوص الهندية المقدسة وتراكمها عبر الأجيال، وتأسيس أصول الفقه الفيدانتي.١١٤ لا يكفي وضع الفقه الإسلامي فقط في إطار مقارن، كما يفعل الحقوقيون والأزهريون، بل أيضًا ضرورة وضع علم أصول الفقه في إطار مقارن.
-
(جـ)
وقد اكتشف التراث الغربي الحديث علم أصول الفقه تلقائيًّا، من خلال علوم التفسير أو التأويل الحديث، منذ شيلرماخر حتى ريكور، بالإضافة إلى «النقد التاريخي للكتب المقدسة». فوضعت قواعد المنهج التاريخي في نقد المصادر وإعادة تركيب النصوص.١١٥ ثم أضافت اللسانيات وعلوم النص ومناهج تحليل الخطاب عنصرًا جديدًا في علم أصول الفقه فيما يتعلق بالمنظوم، كما أضاف علم المنطق فرعًا جديدًا لعلومه، وهو «منطق الواجبات»، وهو ما يعادل أحكام التكليف.١١٦ وكان المحدثون من قبلُ قد توصلوا إلى مناهج الاستنباط والاستقراء، والسير والتقسيم وحصر العلل، مثل «المنطق الاستنباطي-الاستقرائي» عند جون استيوارت مل. كما ساهم القانونيون في وضع أسس «منطق القانون» للتعرف على مناهج الاستدلال، وطرق الحِجاج، وإثبات التهم أو نفيها اعتمادًا على القرائن، ووضعوا لذلك «الأنساق القانونية».١١٧
-
(د)
يهدف علم أصول الفقه المقارن إلى التعرف على ما هو خاص داخل علم الأصول في كل حضارة، وما يتميز به عن غيره من العلوم المشابهة في الحضارات الأخرى، إذ يجمع علم أصول الفقه الإسلامي، في توازن متكامل، بين الوعي التاريخي والوعي النظري والوعي العملي، بالرغم من الميل نحو الوعي النظري على حساب الوعي العملي. بينما يتجه علم أصول الفقه اليهودي نحو الوعي النظري أيضًا، على حساب الوعي التاريخي والوعي العملي، لدرجة طغيان النص على الواقع، والوقوع في الصورية القانونية التي نقدها السيد المسيح في «الموعظة على الجبل». ويتميز علم أصول الفقه المسيحي الحديث بسيطرة الوعي التاريخي، والنقد التاريخي للكتب المقدسة، على الوعي النظري في علوم التأويل، ثم سيطرة كليهما على الوعي العملي. ويتميز علم أصول الفقه في الهند والصين على سيطرة الوعي العملي على الوعي التاريخي والوعي النظري، لغياب النقد التاريخي للنصوص أو مباحث اللغة والقياس في الوعي النظري. كان يهدف فقط إلى استمرار العمل عبر الأجيال وفي مسار التاريخ.
-
(هـ)
وبعد ذلك ربما يمكن تأسيس «علم أصول الفقه المطلق»، الذي يجمع ما هو مشترك وعام، بين علوم أصول الفقه في الحضارات الإسلامية المختلفة في الشرق والغرب، كما حاول ابن سينا من قبلُ تأسيسَ «علم الشعر المطلق»، الذي يتجاوز الشعر اليوناني والشعر العربي. فيوضع علم جديد يحدد العلاقة بين الوحي والعقل والواقع، بين اللفظ والمعنى والشيء. ويضع علومًا جديدة للنص خارج النص، حتى لا يقع في صورية تحليل الخطاب، عندما يصبح الخطاب عالمًا مستقلًّا بذاته، لا يحيل إلا إلى نفسه، وكأنه لا يوجد عالم من المعاني يتحكم فيه، أو عالم من الأشياء يحيل إليها، وبعيدًا عن التأملات النظرية الخالصة، وكأن علوم التأويل لا تخرج عن الذهن، وتظل أسيرة له ولتحليلاته المتناهية في الصغر، مثل بول ريكور، كما يبتعد عن الممارسات العملية المباشرة التي تعطي الأولوية المطلقة لتغيير العالم على فهمه، وتعتبِر النص أيديولوجية تُناقض العلم، ونتاجًا للبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مثل الأدب والفن، حينئذٍ يصبح علم أصول الفقه المطلق هو العلم المتكامل، الذي يجمع بين التاريخ واللغة والفعل، بين الأخذ بالوعي التاريخي والفهم بالوعي النظري، والعطاء بالوعي العملي، بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الرسالة والمرسَل إليه والمرسل إليهم، فتنتهي القطعية باسم النص، والحداثة باسم اللغة، ويتوجه الجميع نحو الفعل.١١٨

