المقالة العاشرة

كشكول طبيب١
أُودِع هذا الكشكول كل ما يدور في الخاطر من منظور وغير منظور ومنقول ومعقول، غير مُتعمد ترتيبًا، أو ضامن صوابًا، أو مُتكلف عناءً لانتقاء الألفاظ أو الإبداع في المعاني، أو التأنق في الإنشاء، غير فاتح كتابًا، أو مُسهد جفنًا، أو جاهد فكرًا، أو مُختلس وقتًا،٢ أو مُصلِح خطأً، أو مُتوخٍّ حقيقة، مدفوعًا إلى الورق عن غير قصد، مادًّا ساعدي إلى الدواة عن غير جهد، ومُمسكًا القلم بيدي عن غير سابق علم بما أخط، مُحققًا ما يؤثَر عن العلماء — والعلماء كالشعراء قد يصدُقون وقد لا يصدُقون — من أن الوظيفة تكوِّن العضو. فقد رُوي عن كثيرين من الكُتاب أنهم لا يستطيعون إبداء فكر أو إنشاء سطر، ولا يعرفون ماذا يكتبون — ولعلي واحد منهم — حتى يُمسكوا القلم بيدهم، فيقبضون عليه وهو مثلَّم كقناة مهديِّ السودان، فإذا هزُّوه على القرطاس أصبح كأنه سيف بطل أم درمان الذي أثبت للناس حقيقةً كبرى طبَّل العالم لها وزمَّر؛ ألا وهي أن الحضارة أرقى من البداوة، والعلم أفضل من الجهل، وأن الرجل المدجَّج بالسلاح أقوى من الأعزل، فاستردَّ عن مقدرةٍ ما أضاعوه لا عن عجز، وإنما هي المصلحة تُؤتى من أبوابها.

وقد ذكَر أناسٌ تغلِب عليهم الشراسة إذا حملوا العصا، ويُبالغون في الكياسة إذا لبسوا القفَّاز، ولعل هذا هو السبب الذي لأجله لم أحمل عصًا في عمري، وأنا أكره لبس القفاز؛ لا لأني أريد أن أبقى بين السكَّر والحنظل.

لا تكن سكَّرًا فتأكلك النا
س ولا حنظلًا تُذاق فتُرمى٣

بل لأني أعتقد فيه عدم الصحة، وأقل أضراره حبس اليد وحبس البخار الجلدي، وأنا أكره كل تقييد. ولعل هذا الذي حمل القيصر أيضًا على إصدار منشوره طالبًا نزع السلاح، يريد بذلك أن يُعجل مجيء الدور الثالث من أدوار حكم العالم؛ إذ يؤثَر عن أهل التثليث أنهم يعتقدون أن العالم حكَمه أولًا الآب بالجبروت، ثم الابن باللين، وسيأتي عصر يحكم فيه الروح القدس بالرحمة.

أخطُّ كل ذلك غير مُقاوم ما بي من الكسل والملل، أو مُجاهد في سبيل العمل، كأني صرت من أهل التمني لا أحب أن أُلقي دلوي في الدلاء، خوفًا من أن يجيء بحمأة وقليلِ ماء. وأنا أكره التقتير ولو مع اليسر، وأُفضل عليه البذل ولو مع العسر. أنام على القرطاس حتى يجفَّ الحبر على القلم إن لم يأتِ الفكر عفوًا، ولا أبذل أقل عناء لحثِّ مطايا الأفكار للجري في هذا المِضمار، فإن أقبلت قابَلتها بالترحاب، وإن أدبرت أوصدت وراءها الباب. ولا أُكلِّفك أن تقبَل كلامي كالنقد في اليد. أتناول تارةً البحث في الحقائق قُرِّرت أم لم تُقرَّر، وطورًا أخوض عُباب الأحلام أحلام اليقظة وأحلام المنام، ولو كانت دون حلم القيصر مقامًا؛ فقد جاء في كشكول أرباب السياسة أن أحلام الملوك ملوك الأحلام. وأنا بعيد جدًّا عن هذا المقام.

وكأني بالقيصر يدعو طوائف الحيوان، من كل شَرْقَاء وَلُود وصَمَّاء بَيوض، للاجتماع في مؤتمرٍ تتفق فيه على نزع سلاحها، فيُقلِّم الأسد مخالبه كما تُقلم السيدة أظفارها، ويكسر الخنزير أنيابه حتى إذا افترَّ يفترُّ عن لؤلؤٍ رطب وعن برَد، ويقصُّ الفيل خرطومه لئلا يبقى كأنف ابن حرب، ويتخلى كل واحد عما خصَّته به الطبيعة من سلاحٍ يذود به عن حوضه، فكأنه يقول للإنسان: ضَعْ حدًّا لقوى عقلك لتقف عن استنباط الوسائل التي هي عنوان قوَّتك وضمان استقلالك، ولا تغترَّ بقول الشاعر:

ومن لم يذُد عن حَوضه بسلاحه
يُضرَّس بأنياب ويُوطأ بمنسمِ

فإن مثل هذا القول حديث خرافة اليوم، وتنازَلْ عن مطامعك، وارضَ بما أنت فيه، صغيرًا فقيرًا فصغيرٌ فقير، وغنيًّا كبيرًا فغنيٌّ كبير. فليرضَ كل واحد بحالته، ولا يطلب الخروج عنها. ولو أصاب واضع منشور نزع السلاح لخفض من استبداده، ودعا إلى ذلك إخوانه في المعمور، وبدأ بإصلاح بلاده، وردَّ من قفاره الشاسعة آلافًا من النفوس، واستخدمها في المنافع العمومية عوضًا عن قطعها من الهيئة الاجتماعية لذنوبٍ سببها جور حكومة لم تعرف للجمهور حقًّا تُطالبها بالعدل، فتقول: «عدلك ظلم لي.» وتطلب منها نشر العلم، فتقول لك: «جهلك أضمن لحقوقي، فكيف تريد مني أن أتنازل عن هذه الحقوق الموروثة التي تجعلك أنت لي، وأنت تريد أن أكون أنا لك؟ أتجهل أني أنا الكل وفي الكل، ألست أنا ظل الله على الأرض؟ فإن مررت بي فلا ترفع نظرك إليَّ، بل اخفض رأسك، واضرب بجبينك مَوطئ قدمي، وارفع عجزك؛ فإن بذلك احترام الملوك. وإن خالفتَ هذه الفروض الواجبة لي عليك وطالبتني بحقوقٍ لا أعترف لك بها، فإن هناك قفارًا شاسعة تعلِّمك الأدب.» هذا هو نظام تلك الحكومة التي تطلب اليوم نزع السلاح.

ولعل القيصر يمزح، أو هو يمتحن عقول الناس، وخصوصًا أصحاب الجرائد الذين يتهافتون على كل كلمة تسقط من أفواه الملوك تهافُت الجياع على القصاع، ويستمسكون بها كأنها الدر والجوهر، مُثبتين أنهم كسائر الناس ينظرون إلى من قال لا إلى المقال. ولا يصحُّ أن يكون القيصر قد قصد غير ذلك، أو ما يُماثله مع بقاء احترامنا لمداركه؛ لأن مثل هذا القول ينقض ناموسًا طبيعيًّا لا يُستطاع نقضه، ولو شرع فيه قيصرٌ يحكم على الملايين من البشر؛ لأنه ناموسٌ يحكم على ما هو أعظم وأوسع من حكمه، يحكم على الطبيعة من جماد ونبات وحيوان، ألا وهو ناموس تنازُع البقاء.

ويُخطئ من يظن أن إعداد السلاح والتأهُّب للنزال والكفاح مُضرٌّ بالهيئة الاجتماعية مُوقِف لنجاحها، بل هو بالضد من ذلك مُوجِب لارتقائها؛ فناموس تنازُع البقاء في الطبيعة هو قاعدة ناموس النشوء والارتقاء، وكلما قلَّ التنازع وقفت حركة الارتقاء، بل دار دولابها إلى التقهقر والتاريخ الطبيعي، بل تاريخ المجتمعات البشرية شاهدُ عدلٍ على ذلك، ألَا ترى أن الأمم التي صرفت قُواها عن استنباط وسائل الدفاع كيف وقفت حركتها، وقلَّت اختراعاتها، وضعفت مصنوعاتها، وطُمست علومها، وساد الجهل عليها، حتى حلَّ بها القضاء بحكم تنازُع البقاء؟ ومن يُنكر أن الاستعداد للحرب منذ حرب السبعين قد بلغ مبلغًا لم يسبق له مثيل في التاريخ؟ ومن يُنكر مع ذلك أن تقدُّم الهيئة الاجتماعية في هذه السنين القليلة في العلوم والصنائع والشرائع يفوق ما حصل الإنسان على ما يُضاهيه في قرونٍ كثيرة؟ فطلب نزع السلاح مُخالف للنظام الطبيعي من جهة ومُوقِف لحركة الارتقاء من جهةٍ أخرى، ولعل قيصر الروس حسد إمبراطور الألمان على نيل شهرته بالشدة، فأراد أن يُباريه في الحصول على هذه الشهرة باللِّين، فطلب للناس عصرًا لا يُروى إلا عن تخيلات المُتقشفين وأحلام الزاهدين.

١  نُشرت في البصير سنة ١٨٩٨ على إثر مشروع القيصر في نزع السلاح، وعلى إثر موقعة أم درمان، وانتصار كتشنر سردار الجيش المصري.
٢  مُخالفة للعادة القبيحة المشهورة.
٣  وقد طرأ على الكاتب منذ سنتَين ما أعجزه في يدَيه ورجلَيه مدة من الزمان، ألجأه إلى حمل العصا ولبس القفاز، فقال:
مضى الزمن الذي قد كنت فيه
أقول كأنني في الناس عنترْ
أخاف الشرَّ من آلات شر
فلم أحمل عصًا كي لا أغرَّرْ
وما قيدت كره القيد كفي
بقفاز الفتى الحلو المغندرْ
فصرت إذا مشيت وقد رأتني
كلاب الحي مثل الأُسْد تزأرْ
تخاف يداي من خطرات ريح
ورجلي إن مشت بالظل تعثرْ
فقفازي حفاظ يدي ولولا
عصاي أخاف أن الظهر يُكسرْ
وما أنا حنظل بعصاي يُخشى
ولا أنا في حفاظ يديَّ سكَّرْ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤