المقالة الرابعة عشرة

«القضاء على القضاء»١ استئناف

العادة أن الكاتب إذا نشر شيئًا في إحدى الصحف، ولو كانت سيَّارة، يمسُّ شخصًا آخر، سواءٌ كان انتقادًا أو مدحًا أو طعنًا، أن يُرسل نسخة من العدد المنشور فيه ذلك إلى صاحب الشأن؛ افتراضًا منه أنه غير مُشترك في تلك الجريدة، أو تنبيهًا له إذا كان مُشتركًا.

وكثيرًا ما وقع لي ممَّا دلَّني على أن هذه العادة الحميدة المتَّبَعة في البلاد المُتمدنة غيرُ مرعية في هذه البلاد بين كُتابنا، وخصوصًا عند جرائدنا، ولا يخفى ما يوجب ذلك من المؤاخذة، ومن ضياع الفائدة أحيانًا كثيرة. وما حملني على التنبيه إلى ذلك الآن إلا ما وقع لي مع جريدة السلام الغرَّاء التي تُطبع في الإسكندرية، فإنها نشرت مقالة لحضرة الكاتب البارع الشيخ نجيب الحداد، ردَّ فيها على مقالتي «القضاء على القضاء» التي نُشرت في أحد أعداد البصير الأغر، ولم يبلغني خبرها إلا بعد نشرها بثلاثة أيام، ولم يتيسر لي الحصول على العدد المنشورة فيه إلا في اليوم الرابع؛ إذ قصدتُ إدارة جريدة الأخبار البهيَّة، وسألتها أن تُنيلني هذه الأمنية، وقلت في نفسي: «هذا عقابي على مُحاولتي نقض العقاب.» ولم أدرِ أنه أخفُّ العقابَين.

فاغتنمت هذه الفرصة لإبداء ملاحظتي من هذا القبيل، ورجائي أن كُتابنا وجرائدنا عمومًا يقبلون ذلك مني من وجهه الحميد، ويضمُّون هذا الواجب إلى ما لهم من الفضل في إعلاء شأن الكتابة والصحافة في بلادنا العربية.

•••

وقد تصفَّحت هذه المقابلة بما يجب على كل امرئ من الاعتبار للأفكار والاحترام للأشخاص، تاركًا الأعراض والأغراض مُتمسكًا بالجوهر. وشكرت حضرة الكاتب على حُسْن ظنه بي، وإطرائه عليَّ بما توهَّمه بي من قوة الحجة وحُسْن البيان وحب الخير والإحسان، وإن لم يُشفق عليَّ في انتقاده، ولم يعترف لي بشيء من صحة البرهان؛ إذ عدَّ مقالتي نسيج أضاليل وأباطيل وزخارف أوهام تجوز على بعض الأفهام، وتناقضًا من أغرب ما ورد عليه، وضعف نتيجة ممَّا تكفي أفهام القُراء للحكم فيه. ولا عجب؛ فإن الناس ينظرون إلى الأشياء كل واحد من الجهة التي ألِفها. وأنا لم أكن أشك لمَّا كتبت ما كتبت، وخالفت فيه من خالفت ووافقت من وافقت، أني سأُصادف عقباتٍ تَميد لها الجبال الرواسي، وألقى مُقاوَمات تَشيب لها النواصي؛ فليس من السهل هدم بنيان راسخ تنزل أُسُسه إلى أصل الإنسان وتمتد إلى الحيوان، وتقطيع سلاسل تربطه إليها من يومِ هامَ في الأوهام، وحل عقائد صُقلت عقدها، لشدَّ ما تقادمت حتى صارت كالعروة الوثقى، ومنشؤها أضغاث أحلام، وأصل كل ذلك فيه بعيد، وأثره فيه حتى اليوم شديد.

نعم لم أكن أشكُّ في مُلاقاة كل هذه الصعوبات، ولم أنخدع بحكم الجمهور الصارم في أمري، ولكن الذي لم أكن أتوقَّعه صدورُ مثل هذا الحكم القاسي ممن هم في مقام الخاصة كحضرة الشيخ الفاضل، والخاصة هم قادة العامة، وواسطة مرقاتها من حضيض الجهل إلى ذروة العلم؛ إذ لا فكر للعامة إلا بهم، ولا رأي لهم إلا منهم.

وغاية ما كنت أتوقَّعه مخالفتي في بعض الأوجُه مع الموافقة، ولو على البعض الآخر، وأقلُّ ما كنت أنتظره أن تُحدِث مقالتي في العقل تأثيرًا يُحدِث فيه تفكيرًا يُزحزحه عن مألوفه المُتقادم عليه، ويُطلِقه من عِقاله المربوط فيه، ويُجيز له النظر في كل شيء وانتقاد كل شيء، ويُسهل له سبيل الارتقاء والخروج عما ألِفه بالعادة وتمكَّن فيه بالوراثة، وصار في اعتباره من البديهيات التي لا تقبل النقض؛ لأنَّا إن لم نُطلِق العقل من عقاله كيف نطمع بأن نُزحزحه عن ضلاله؟

إلا أن حضرة الشيخ لم ينظر إلى مقالتي هذا النظر، ولم يرَ فيها هذا الرأي، ولم يرُق له ما فيها من المبادئ، ولا ما يترتب عليها من النتائج، فلم يرُق له قولي: «إن العقاب الذي هو أساس القضاء أثر من آثار الهمجية وبقيةٌ من بقايا توحُّش الإنسان الأول، بل هو سبب الشر الكثير في العمران.» وأغفل قولي: «إن لم يكن سببه الحقيقي، فهو السبب المُساعد على إنمائه.» فكنت بذلك في نظره «كالذي يُثبت أن المقدمة تزول إذا زالت النتيجة، وهو عكس القياس العقلي تمامًا؛ لأن الشر في الدنيا إنما كان أولًا، ثم كان العقاب من بعده؛ فهو كالداء الذي لم نُوجد له الدواء إلا بعد وجوده. والفاضل الشميل يقول: «إذا منعنا العقاب منعنا الشر.» أي إذا كسَرنا زجاجة الدواء زال الداء.» ا.ﻫ.

•••

ولا نصعد إلى أصل الإنسان في الحيوان لنُبين كيف تولَّد الشر؛ لأن حضرة الشيخ ربما كان لا يُوافقنا على ذلك، وإن كان من الحقائق المقرَّرة اليوم، بل نكتفي بالقول إن الإنسان وُجد في أول الأمر على الأرض وكل شيء مُباح له، ويصعب أن يكون كثيرَ الشر في هذه الحالة طالما يجد كوخًا يأويه، وأرضًا تُخرج نباتًا يُغذيه، وماء يرويه، ثم حظر على الضعيف ما نالته يد القوي، والحاجة تدفع الضعيف إلى السعي وراء رزقه، والأثرة تحمل القوي على الاستبداد بما ملكت يداه، فنشأ عند ذلك المِلكُ بوضع اليد عن قوة. وكيف يستبدُّ المالك بملكه إن لم يحمِه بمُعاقبة كل من مد إليه يدًا؟ ثم كيف يسع الضعيفَ أن يقصر يده عن أن يمدَّها إلى ما به قوام حياته؟ فنشأت السرقة، ثم أخذ يتفنَّن في الشر كلما زاد علمًا وزاد صاحب الملك استبدادًا فيه. ومن هذا نستفيد فائدتَين؛ أولًا: الاستبداد والعقاب صِنوان، وهما قديمان في الإنسان غريزيَّان فيه يوم كان أقرب إلى الحيوانية. وثانيًا: هما سبب أكثر الشرور التي لجأ الإنسان إليها في أول الأمر؛ دفعًا للظلم ورضوخًا لحاجاتٍ ضرورية لا يسعه أن يُصمَّ أُذنَيه عنها.

فالعقاب لم يُوضع في أول الأمر ردعًا للشر؛ لأن الإنسان الذي يسعى وراء رزقه لا يُعتبر سعيه شرًّا، وسعيه في أول الأمر كان وراء رزقٍ مُباحٍ ما لبث أن حُظر عليه باستبدادِ يدٍ أقوى من يده فيه، وهو من آثار التوحُّش كما رأيت. ثم كثُرت المحظورات بتكاثُر عدد الناس وانتظامهم في جمعيةٍ كُبرى، وتسلَّط القوي على الضعيف، ووُضعت الحدود على ما شاء الأقوياء، ونُظمت الشرائع على هذا المبدأ، ثم ألِفها الإنسان بالعادة، وسوَّى نفسه عليها؛ لأن الإنسان في استطاعته إن لم يستطع أن يُغيِّر الأحوال له أن يُغيِّر نفسه لها. وهكذا بعد أن كان العقاب سببًا للشر صار بحكم هذه الحدود رادعًا له.

•••

فبهذا الاعتبار يزول ما نسبه إليَّ حضرة الشيخ من تقديم النتيجة على المقدمة، ويستوي القياس العقلي. ولا إخالُ حضرته إلا يعلم حقيقة الأسباب والمسبَّبات؛ فالشيء الواحد يكون سببًا أو نتيجة بحسب الوجهة التي تنظر إليه منها. ومهما يكن من ذلك، فإن ضَرْبه مَثَل كسر زجاجة الدواء لشفاء الداء فيه شرود؛ فإن هذا المثل لا يصحُّ إلا إذا صحَّ قياسه، وصحَّ أن العقاب هو الدواء اللازم الذي لا يقوم مقامَه دواءٌ لشفاء أمراض الاجتماع؛ لأن نسبة القضاء إلى أمراض الاجتماع إنما هي كنسبة الطب إلى أمراض الجسم، وما نسبة العقاب إليه إلا كنسبة الدواء إلى الطب. والاختبار يدلُّنا على أن الدواء مُتغير، وسير الهيئة الاجتماعية في أمر العقاب دليل على أنه يمكن الاستغناء عنه، واستبداله بطُرقٍ تدفع عن الهيئة الاجتماعية شر الجاني، وتُوفِّر لها منفعته بإصلاحه لا بالعقاب، بل بمعاملته معاملة الجاهل والمريض معًا، كما أبنَّا في مقالتنا السابقة.

على أن العقاب لا يسعه أن يُصلِح الجاني، ولا أن يُقوِّم اعوجاج الهيئة الاجتماعية، لا بصورته القديمة ولا بصورته الحاضرة، وهو في كلا الصورتَين وحشي، ونسبته إلى الهيئة الاجتماعية واحدة. فلما كان يتناول العذاب والقتل للتشفي والانتقام، كان الإنسان في حالة من الهمجية تُبعده جدًّا عنه اليوم. فإذا كان العقاب قد تلطَّف اليوم، فالإنسان قد ترقَّى كذلك. فإذا كنَّا اليوم نرمي الأقوام الذين تقدَّمونا وكانوا يستعملون العقاب على صورته القديمة بالتوحُّش، فسيقوم أبناؤنا من بعدنا ويرموننا في العقاب الذي نستعمله اليوم بالتوحش كذلك، بل العقاب على صورته الحاضرة ما زال مُفسدًا للأخلاق مُساعدًا على إنماء الشر، يدخل به الجاني إلى السجن بشر ويخرج منه بشرور. وخوف العقاب لا يردع جانيًا عن جنايته، ولا يردُّ فاسدًا عن فساده، بل يحمله على الكذب خصوصًا. وفي الشرائع الاجتماعية ينبغي أن تكون وجهة الشارع إصلاح الفاسد، لا حَمْله على التفنن في أساليب الفساد خوف العقاب. ولو جاز لي أن أُسرَّ إليك ما تُخاطب به ربك عند اعترافك له بخطاياك لأبَنتُ لك أن الإنسان يخجل من أن يكون الدافع له نحو ربه خوف العقاب أو الطمع في الثواب (لا خوفًا من جهنم ولا طمعًا في النعيم، بل حبًّا بك يا رب)، أو يكون مثل هذا القول كذبًا.

•••

ولا أدري بأي قياس عقلي جاز لحضرته أن يُنكر أن خوف العقاب هو الذي علَّم الإنسان أن يكذب، وكيف يفهم قوله: «إننا لم نُعاقب المُجرم لأنه يصدُق، بل لأنه يُقرُّ بذنبه في ذلك الصدق.» ومتى علم الإنسان أنه إذا صدق في إقراره بذنبه يُعاقَب، ألا يرى حضرته أنه يُحاول حينئذٍ عدم الإقرار به؟ وما هو الكذب يا تُرى غير ذلك؟ وأليس خوف العقاب من قول الصدق في ذلك الإقرار هو الذي حمله عليه، أم لا يجوز لنا أن نقصد النتيجة البعيدة من قولنا: «ألسنا نحن الذين علَّمنا الإنسان أن يكذب؛ لأنه رآنا نُعاقبه على الصدق؟» وهل يجوز أن يُفهم منه غير ما تقدَّم؟ أمَا كان يُغنِينا هذا الفهم عن التلاعب بالألفاظ حرصًا على المعاني؟ فمهما يكن من ذلك، أليس خوف العقاب هو الذي يدفعنا إلى الإنكار؟ فأقل شرور العقاب الكذب، وهو أم المعاصي، ألا ترى الطفل الصغير قبل أن نُعوج طبيعته المُستقيمة، أو نزيد اعوجاجها إذا كانت عوجاء بتربيتنا له التربية السيئة، كيف يميل إلى قول الصدق، ولا يعدل عنه إلى الكذب إلا خوفًا منا ومن عقابنا؟ فإذا كسر ابنك صحنًا أو زجاجة دواء ولو فارغة، وسألته بأنسٍ أقرَّ لك بالحقيقة، فإن بادرته بالتهديد والوعيد أو كنت قد عاقبته على ذنبٍ سابق، فأنا أضمن لك أنه لا يُقرُّ لك مُطلَقًا، ويُحاول بكذبه النجاة من غضبك؛ ولهذا السبب، ولسوء معاملة الوالدَين لأولادهم، كان أكثر الأطفال ينشئون كذَّابين، فهل يُنكر هنا تأثير العقاب في إفساد طبائع الأطفال؟

•••

أم بأي قياس عقلي يرى التناقض في هذه الحقيقة الواضحة في قولي: «ألسنا نحن الذين علَّمنا الإنسان أن يسرق لأنا حجبنا عنه ما يحتاج إليه؟» وهل له أن يُفهمنا كيف تولَّدت السرقة في الإنسان أولًا؟ ولا نخاله إلا يُسلِّم بأن السرقة نشأت في الأصل عن احتياج الإنسان إلى شيءٍ حُجِب عنه، وهذا الشيء في أول الأمر كان من الضروريات لحياته؛ لأن احتياجاته الأولى كانت بسيطة جدًّا لسدِّ جوع أو إرواء ظمأ. وقد أبنَّا فيما تقدَّم كيف حُجِبت عنه هذه الحاجات الضرورية، وكيف اضطرَّ أن يسلك للاستحصال عليها بالالتجاء إلى السرقة وغيرها من الوسائل التي صارت ذنوبًا، ووُضعت لأجلها الحدود وسُنَّت الشرائع، ولا نريد من ذلك الرجوع بالإنسان إلى الإباحية التي تجعل كل شيء مُباحًا له، وإنما غرضنا أن نُبيِّن أن الشرائع التي وُضعت في الأول لصيانة حقوق القوي — التي صارت حقوقًا بالطرق التي تقدَّم بيانها — لم تستدرك مراعاة حقوق الضعيف؛ فلم تفرض على القوي ما يكون بمثابة تعويض للضعيف على ما اهتضم من حقوقه ولا ذنب له إلا ضعفه، بل جُعلت كلها لصبِّ جامِ النقمة على رأسه. وهذا الذي يسعى رجال الإصلاح في كل الأقطار لتحويل الأنظار إليه لاستدراكه.

وأما إلماعه في عرض ذلك إلى ذكر الفوضوية والاشتراكية، وذكرهما على أسلوب يُوهم القارئ أنهما وصمةٌ لا يريد أن ينسبهما إليَّ لئلَّا أتلطَّخ بعارهما؛ فلا أريد منه أن يخجل عني منهما إذا فهمهما بمعناهما الحقيقي، وكما أفهمهما أنا، فما هما إلا أخوات تلك الجمعيات أو بناتها — ومنها الجمعيات المسيحية في أول عهد النصرانية — التي ما فتئ الإنسان يؤلِّفها منذ صار عقله قادرًا على أن يفهم مبدأ الشرائع وما فيها من الحيف، والتي ليس لها غرض سوى مُقاومة أصحاب السلطة، وتحويلهم عن اعوجاجهم، وحملهم على السلوك في سبيلٍ أقرب إلى مصلحة العموم.

ولولا فضل هذه الجمعيات في كل العصور، على اختلاف أسمائها واتفاق معانيها، لَمَا تزحزح الإنسان شبرًا عن المكان الذي أجلسته فيه شرائعه الأولى. والفوضوية أو الاشتراكية لا تطلب حقيقة إلا ما نراه كل يوم في نظام الطبيعة الصامتة من اشتراك الجمهور في مصلحة الجمهور، واعتبار الأفراد ضروريين للجمهور، وإلزام الجمهور بمراعاة مصلحة الأفراد. فلو وُجد في الحكومات (وسوف يوجد في المستقبل) نظام مثلًا ينظر إلى مصالح الأفراد، بحيث يجعل الجمهور ينتفع من قُوى كل فرد، ولا يُضيع قُوى فرد، ويجعل هذا الفرد ينتفع كذلك ممَّا فيه من القوى؛ ألا كنت تظن أن الحالة الاجتماعية تكون أصلح ممَّا هي الآن، فتقلَّ مصائب الأفراد، وتقلَّ الشرور وتكثر منافع الجمهور؟ ولا يخدعنا في غايات هذه الجمعيات ما نراه من الوسائط المشجوبة التي يعمد إليها أكثرها، فنظنَّها الغاية المقصودة منها؛ فما هي بالحقيقة إلا سلاح الضعيف لمُقاومة القوي وتحويل الأفكار إليها، وإيقاظ العقول الخامدة وتنبيهها إلى التبصُّر والافتكار.

•••

ثم دفع قولي إن العقاب من آثار التوحش القديم، قال: «وكان دليله على ذلك تعديل القصاص وتلطيف أنواع العقوبات والعذاب، فكأنه بذلك يستدل على أن كل شيء يجري فيه الإصلاح بعد حدوثه يكون فاسدًا في أصل وضعه، وأن القضاء ما دام يمكن إصلاحه فهو فاسد الوضع، وأن العقاب ما دام يصلح ويلطف فهو ظلم من أصله ولا وجوب له في هيئة الاجتماع. فإذا قلنا له إن الطب ممكن الإصلاح دائمًا (وهو في مقالته قد شابه بين الطب والقضاء)، فهو إذن من آثار التوحش الذي لا وجوب له في هذا العهد … إلخ.» ففيه من التكلف والاضطراب ما لا يخفى، ويجرُّنا إلى مبحثٍ يصرفنا الاشتغال فيه عمَّا نتوخَّاه في بحثنا من المعاني. فأنا لم أقل إن القضاء لا وجوب له، وهو للاجتماع كالطب للأبدان، وهل يجوز أن يستنتج ذلك من طعني في العقاب، أم هل العقاب هو القضاء نفسه، أم ليست نسبة العقاب إلى القضاء كنسبة الدواء إلى الطب؟ فإذا حكَمنا بفساد الطرق العلاجية (والطب قديم، وقد تغيَّرت هذه الطرق فيه جدًّا) بدليل تعديلها أو تبديلها، فهل يلزم من ذلك أن نستنتج أن الطب لا وجوب له؟ وهنا يعذرني حضرة الشيخ إذا أظهرت مُنتهى استغرابي، ورحم الله الشيخ جمال الدين الأفغاني؛ فإنه كان كلما عرضت له مشكلة من هذا الطراز لا يجد جوابًا عليها أحسن من قوله: «سبحان الله!»

وأما كلامه في السجون فلا يختلف عن كلامنا؛ فهو يُوافق على إصلاحها، إنما يُخالفنا في غايتها؛ فهو يريدها أن تبقى محلًّا للعقاب، ويزعم أن الإصلاح لا يتم بدون ذلك. وهو بذلك متفق مع نفسه؛ لاعتباره العقابَ الدواءَ الأفضل لتقليل الجرائم. ونحن نريدها مدارس ومستشفيات لتهذيب الأخلاق وتقويمِ المعوجِّ من الطبائع. وغرضه أن يدفع الشر عن الهيئة الاجتماعية، ولو بتضحية هذه الهيئة لقلة اعتداده بالأفراد، وغرضنا دفع الشر عن هذه الهيئة مع توفير المنفعة لها بتوفير أعضائها. وقد تقدَّم أن العقاب بمعناه وطُرُقه لا يفي بذلك، بل هو عقبةٌ كُبرى في سبيله. هذا وإني في الختام أشكر حضرة الشيخ الفاضل؛ لأن مقالتي لم تذهب عنده من دون صدًى، وإن كان على غير ما أُحب؛ فلكلٍّ منا فكرٌ يلزم اعتباره، فهو يرى أن ليس في الإمكان أبدع ممَّا كان، وأنا أرى أن في الإمكان أبدع جدًّا ممَّا كان.

•••

١  نُشرت في البصير سنة ١٨٩٨، وهي رد على رادٍّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤