المقالة السادسة عشرة

الإذكار والإيناث١

إن نظر ديوزن اليوم في سبب تولُّد الذكر والأنثى يقرب جدًّا من نظر القدماء؛ فقد قال الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي في عرض كلامه على تولُّد الأجنَّة: «إن من الناس من يُولد إناثًا، فيستحيل أن يُولد ذكورًا؛ وذلك بسبب استحالة المزاج، لا بسبب أن الزرع تارةً خرج من الذكر وفيه أجزاء عضو الذكر، وتارةً خرج من الأنثى وفيه أجزاء عضو الإناث.» وهو قولٌ صريح بأن اختلاف جنس المولود ناشئ عن استحالة في الزرع لاستحالة في المزاج لا عن سببٍ آخر، وهو من أعجب ما وصل إلينا عن القدماء في شأن القول بالتحول. ولا يخفى أن استحالة المزاج إنما تكون بالتغذية، وهو عين مذهب ديوزن، والتغذية حاصلة في الزرع أيضًا. والقدماء علِموا ذلك؛ فقد قال محمد بن زكرياء: «إن الزرع في غاية القلة، فلا بد من قوةٍ غاذية تزيد في جوهره حتى يصير بحيث يمكن تكوُّن الأعضاء منه.» وهو عين مذهب الفزيولوجيين اليوم.

وقد علَّل الرازي ذلك بما لا يختلف عن تعليل ديوزن معنًى وإن اختلف عنه لفظًا، قال: «إن السبب الأصلي للذكورة سخونة الزرع، والأنوثة برده.» ولا يخفى أن سخونة المزاج وبرودته حالتان من أحوال التغذية، والبرودة أو، كما يُقال، الرطوبة أيضًا تكثر في أصحاب خصب البدن المُفرِط، وبعكس ذلك السخونة أو اليبوسة، فإنها تغلب في القضيف، وهذا هو نظر ديوزن، حيث قال إن كثرة الغذاء سبب الأنوثة، وقلَّته سبب الذكورة. ثم ذكر لهذه السخونة أسبابًا منها: «أن يكون زرع الأب غالبًا في الكيفية والكمية على زرع الأم.» وهو كقول ديوزن: «كلما غلبت قوة أحد الوالدَين التناسلية على الآخر، غلب أن يكون النسل من جنس الغالب.» ومنها أيضًا: «حصول هذه السخونة بسبب الأغذية والبلدان والفصول والأعراض النفسانية والحركات البدنية، أو ما يتركب منها.» وهو يعمُّ ما يتناوله مذهب ديوزن على الإطلاق؛ لأنه إذا ثبت أن التغذية سبب الإذكار والإيناث، فلا يعود في الوُسع إنكار ما للأحوال الخارجية والنفسانية من التأثير في ذلك، بناءً على ما لها من التأثير على القوة الغاذية نفسها، وبناءً على ما لهذه الأسباب من الأثر البيِّن، وعلى كثرتها واختلاف نتائجها باشتراكها مع سواها ومع بعضها. وقال أيضًا: «وإذا تعدَّدت أسباب الذكورة لم يلزم في من أشبه أباه في الذكورة أن يُشبِهه (في الصورة)، بل ربما أشبه الأم، أو ربما أشبه جدًّا بعيدًا.٢ وليس يبقى له زرع؛ فقد حُكي أن واحدةً ولدت من حبشي بنتًا بيضاء، ثم إن تلك ولدت ابنًا أسود.»٣ وممَّا ذكره في المُشابهة ممَّا يجلُّ النظر فيه عند المُتأخرين قوله: «وأما المُشابهة في الصورة والشكل، فقد عرفت أن زرع المرأة ليس فيه إلا القبول، وزرع الرجل ليس فيه إلا التأثير؛ فإن أطاع زرع المرأة لقبول صورة الأب، ومادة الأب لا شك أنها تقتضي تلك الصورة، لا جَرم يخرج الولد على صورة الأب؛ وإن كان لا يقبل إلا صورة الأم اضطرَّت القوة الفاعلة إلى أن تُفيدها تلك الصورة، فلا جَرم يخرج الولد على صورة الأم؛ وإن كان لا يقبل لا هذه الصورة ولا تلك، حصلت صورةٌ أخرى استعدَّت المادة لقبولها بحسبِ أسبابٍ معَدَّة جزئية لا يُحصى عددها.»

وقد بسط الكلام على هذه الأسباب، قال: «وقال قوم من العلماء إن من أسباب الشبه ما يتمثل عند العلوق في وهم الرجل أو المرأة من الصور الإنسانية تمثلًا مُتمكنًا. أقول [والقائل الرازي] والذي يدل على صحة ذلك وجوه؛ أحدها: أنَّا نرى الحيوانات البرية قريبة التشابه بعيدة عن الاختلاف، ونرى الصور الإنسانية قوية الاختلاف بعيدة التشابه، ونرى الحيوانات الأهلية متوسطة في ذلك؛ وما ذلك إلا لأن الإنسان بسبب إحساساته وتخيُّلاته الكثيرة تختلف صور أولاده، وأما الحيوانات فتخيُّلاتها قليلة جدًّا؛ فالحيوانات البرية لما كانت محسوساتها قريبة التشابه لا جَرم كانت إحساساتها كذلك، وكانت صورها مُتشابهة، وأما الحيوانات الأهلية فلما كانت محسوساتها مختلفة وتخيُّلاتها قليلة، كانت في التشابه والاختلاف في حد التوسط. وثانيها: أنَّا نرى الإنسان تختلف أحوال بدنه بحسب اختلاف أحواله النفسانية من الغضب والفرح وأمثالهما، فما المانع أن يكون لذلك أثر في اختلاف الزرع؟ وثالثها: أن الرعاة يشهدون لاختلاف حال الأنعام بحسب اختلاف محسوساتها في الألوان والأحوال، وإذا صحَّ ذلك ثبت ما أمر به الصادق المصدَّق من أن الإنسان ينبغي أن يتخيل حال المباشرة صور الصِّديقين الصالحين.»

ومِثل ذلك قال ابن سينا في كلامه على الإذكار، حيث ذكر أن الإذكار هو في حرارة زرع الذكر وغزارته وثخنه، أي في غلبته على زرع الأنثى، وفي البلد والفصل، وممَّا قاله في ذلك: «إن الريح الشمالية تُعين على الإذكار، والضد على الضد.» وما قال ذلك إلا لاعتقادهم أن الريح الشمالية تُجفِّف الأبدان. ثم ذكر تأثير الأحوال النفسانية واستحضار الصور في الذهن عند المُباشرة على نحو ما ذكره الرازي، قال: «ويكون الإنسان في أسرِّ حال وأطيب نفس وأبهج مثوًى، ويفتكر في الإذكار، ويحضر ذهنه الذُّكران الأقوياء ذوي البطش، ويُقابل عينَيه بصورة رجل منهم على أقوم خلته وأنبل هيئته.» وليس في هذا الأمر شيء من الغرابة إذا اعتبرنا ما تقدَّم من تأثير الأحوال النفسانية وسواها في التغذية، إنما لا ينبغي أن يطمع فيه بأكثر ممَّا تقتضيه الأحوال؛ لكثرة الأسباب التي تعترض ذلك، وثانيًا لأن أثر الأشياء، وإن يكن ينطبع على الأعضاء، إنما لا يثبت فيها إلا على مقدار مُلازمة عامله لها، ويضعف كلما كان مُفارقًا.

وممَّا ذكر الرازي في ذلك قوله: «والذكر من الأجنَّة تمامُ تكوُّن خلقته أسرع من تمام تكوُّن الأنثى؛ وذلك لأن الذكر أقوى حرارة وأقل رطوبة؛ فالزرع الذي هو مادته يكون كذلك.» وهو نتيجةٌ لازمة لما قدَّمه هو وديوزن في سبب الإذكار والإيناث. ولعل علم تولُّد الأجنَّة يُثبت ذلك؛ فإن المولودين في الشهر السابع يغلب كونهم ذكورًا. نقول ذلك عن ظن لا عن يقين.

واعلم أن التغذية المُفرِطة وقلة الحركة ربما أوْرَثا العُقر أيضًا؛ لما ينشأ عن ذلك من احتباس العضلات وضعف القوة الحيوية. ودليلنا قلة نتائج الحيوانات المُسمَّنة التي لا تعمل في الأرض، بخلاف القضيفة المجهودة في الأعمال الشاقة، فإنها كثيرة النتاج غالبًا؛ ولذلك كان يكثر العُقر في المنعَّمين القليلي الرياضة المُكثرين من الغذاء؛ ولهذا كان أحسن علاج لهم الإقلال من غذائهم والإكثار من حركتهم، حتى تنشط أبدانهم، وتعتدل قُواهم، وتحسُن أفعالهم؛ أي تنتظم وظائفهم.

وفي هذا المعنى أيضًا٤

قال بقراط: «لكل شيء سببٌ طبيعي، وبدون سبب طبيعي ليس يكون شيء.» وكلما تعمَّق العلماء في مباحثهم تحقَّق لهم صدق هذا القول. ولقد طالما عدَّ الناس تولُّد الذكر والأنثى من الأسرار التي يُقصِّر العلم من إدراكها، والظاهر أن هذه المسألة، كسِواها من المسائل الطبيعية، لا تخرج عن هذا القيد؛ فقد ذكر «هكل» من عهدٍ غير قريب في كتابه الأنثروبولوجينا، وكتابه تاريخ الخلق الطبيعي، أن التذكير والتأنيث من أفاعيل التغذية. وقد ذكرت الجرائد في هذه الأثناء كتابًا لأحد العلماء المدعو ديوزن، طرَق صاحبه فيه باب البحث عن سبب التذكير والتأنيث، وقال فيه إن زيادة الغذاء وشدة التغذية سبب تولُّد الأنثى، وقلة الغذاء وضعف التغذية سبب تولُّد الذكر. وقد أورد على ذلك براهينَ كثيرةً وأدلةً مختلفة. وقد ذكر المقتطف في عدده الماضي تحت عنوان «سرُّ التذكير والتأنيث» ملخَّص هذا الكتاب بأوفى بيان وأحسن أسلوب، ومرادنا هنا أن نذكر ثلاثة أدلة ترجيحًا لهذا القول، وهي:
  • أولًا: أن النحل إذا ماتت ملكته عمد إلى نحلة من النحل الجاني، الذي ليس بذكر ولا أنثى، وحوَّلها إلى أنثى تقوم مقام الملكة التي ماتت؛ وذلك بوضعها في بيتٍ خصوصيٍّ أكبر من سائر بيوته، وبالاعتناء بغذائها والزيادة فيه. ومعلومٌ أن بيض النحل الغير الملقوح يُولِّد الذكور، والملقوح يُولِّد الإناث، ومعلوم كذلك أن البيضة من الكائنات الحية التي تغتذي، وأن اللقاح من الغذاء، وهذا كله دليلٌ بيِّن على أن الجنسية نتيجة التغذية.
  • ثانيًا: قد تبيَّن من امتحانات «دُزن» و«يونغ» على دعاميص الضفادع أن الدعاميص التي يكثر غذاؤها يغلب تحوُّلها إلى إناث، والتي يقلُّ غذاؤها إلى ذكور.
  • ثالثًا: أن في الحمل التوءمي ثلثَي التوائم ذكور، كما يُعلَم من علم الإمبريوجنيا؛ أي علم تولُّد الأجنة، وسبب ذلك قلة الغذاء. فإذا استوت تغذية التوءمَين، كأن لم يكن لهما سوى كيسٍ واحد ومشيمةٍ واحدةٍ متصلةٍ أوعيتُها بعضها ببعض، كانا كلاهما من جنسٍ واحد، إما ذكرَين وإما أنثيَين. فإن كانت المشيمة مزدوجة، فتختلف تغذية التوءمَين غالبًا، ويكونان غالبًا من جنسَين مختلفين. وكل ذلك يُوافق ما ذكره ديوزن من أن كثرة الغذاء تُولِّد الإناث وقلته تولِّد الذكور، وهنا أيضًا ترى الأسباب الطبيعية تقوم مقام الأسباب الغائية.
١  نُشرت في المقتطف سنة ١٨٨٢.
٢  وذلك ما يُعرَف في مذهب داروين بناموس الرجعة أو الأثافيسم.
٣  مراده أن تلك البنت ولدت من أبيض ابنًا أسود.
٤  نُشر في المقتطف سنة ١٨٨٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤