المقالة الثانية

الحياة وأصلها١
حيرة المرء في الوجود حياةٌ
كل يوم تريك منها شئونا
خاضت الناس في الظنون، ولكن
ما درى الناس سرَّها المكنونا

الحياة حيرة العلماء، والحيرة علة البحث؛ ولذلك لم يمرَّ عصر على الإنسان إلا وقام فيه يسأل: ما هي الحياة، ومن أين أتت، وكيف تولدت؟ مسائلُ ثلاثٌ مرتبطٌ بعضها ببعض، كلما أُغلقت عليه من وجه قام يعالجها من آخر لعلها تفتح لهُ. وهو في كل العصور لم يزد بها علمًا عما قاله فيها ملتون الشرق أبو العلاء المعري:

والذي حارت البرية فيه
حيوانٌ مستحدَثٌ من جماد

ومن المقرر في العلم اليوم أن كل حي مهما كان حقيرًا لا يولد إلا من جرثومة متضمَّنة فيها كل أجزاء هذا الحي، وهذه الجرثومة نفسُها صادرة من حيٍّ مثله. والخلاف بين العلماء والفلاسفة في أصل الجرثومة الأولى هل تولدت في الأرض نفسها، ومن مادتها وبقوةٍ من قواها أم كيف؟ فأصحاب رأي التولُّد الذاتي يذهبون إلى أن الأحياء جميعها نشأت في عالمنا هذا من نفس مادته وبقواه الخاصة، وقد كانت في الأصل مادة حية بسيطة جدًّا، ثم تكيفتْ وتحولت على مر السنين والعصور المتطاولة حتى رَسَتْ على ما هي عليه اليوم. وخالفهم أصحابُ مذهب الجراثيم الذين يُنكرون التولُّد الذاتي بناءً على ما يرونه اليوم من أن كل حي لا يولد إلى من حي مثله. ولما سئلوا عن أصل هذه الجراثيم ذهبوا فيها مذاهب، ومن أغرب ما ذهبوا إليه أنها أتت إلى عالمنا من عالم الكواكب. وهو قول لو تدبرناه لرأيناه لا ينفي التولد الذاتي، وإنما يبعد حله؛ لأنها سواء تولدت في أرضنا أو أتتها من عالم آخر، فلا بد أن تكون قد تولدت أولًا في نفس هذا العالم بالنشوء، ولا بد أن تكون مادة ذلك العالم الذي تولدت فيه أولًا وقواه شبيهة بمادة عالمنا وقواه أيضًا؛ لكي تستطيع أن تعيش فيه.

جاء في كتابنا الحقيقة ما نصه: «على أن بعض الفلاسفة يذهبون إلى أن الأرض التي كانت في البدء قاحلة وغير مسكونة، إنما عرضت فيها الحياة مما أتاها من الجراثيم من بعض الكواكب المصطدمة بها، وهو قول محتمل، إلا أنه غير مقنع، ويظهر لنا أنه لا يحل المسألة وإنما يزيدها ارتباكًا؛ فإن لم تكن الحياة قد ظهرت على الأرض ذاتيًّا بفعل أحوال طبيعية وكيماوية، فيلزم أن تكون قد ظهرت ابتداءً على أحد كواكب نظامنا الشمسي. وخصوم التولُّد الذاتي الذين يتعلقون بأهداب هذا التعليل كالملجأ الأخير لهم إنما يبعدون حل هذه المسألة، ولا يأتون فيها بتعليل شافٍ. ولا يخفى أن الحلَّ الطيفي الذي استطعنا بواسطته أن نعلم تركيب الكواكب الكيماوي أرانا أن هذه الكواكب متكونة من نفس المواد المتكون منها سيَّارنا؛ فالصوديوم والمغنيسيوم والهدروجين والأكسيجين والكربون والكلسيوم والحديد والتلوريوم والبزموت والزئبق … إلخ موجودةٌ هناك كما هي موجودة هنا. وقد عُلم كذلك من فحص الحجار الجوية أن هذه الأجسام تتحد هناك كما تتحد في أرضنا. فلا بدَّ، إذن، من أن تكون الأحياء الأوَل قد تكونت فيها من موادَّ جامدة شبيهة بموادنا. فوالحالة هذه ما الفائدة من الزعم بأن أرضنا إنما أتتها الحياة من كوكب اصطدم بها في مروره في الفضاء؟ إذ لا بد من الإقرار في كل الأحوال بأن التعضي قد وقع في المادة في أحد نجوم نظامنا الشمسي، فمن العبث، إذن، الإصرارُ على إنكار نُشوء الحياة في الأرض.»

•••

ولو لم يكن قائلُ هذا القول من ذوي المكانة في العلم لما عبأ أحدٌ به لغرابته، وإنما الناس في المسائل العلمية، كما في سواها، كثيرًا ما يعبرون الكلام التفاتًا بالنظر إلى مقام قائله. فصاحب هذا الرأي الغريب هو اللورد كلفن أي السير وليم طمسن أحد مشاهير العلماء الطبيعيين جاء في الحقيقة ما نصه: «والذي ارتأى أولًا أن جراثيم الأجسام الحية وقعت مع الرجم هو السير وليم طمسن الإنكليزي، ومنذ مدة خطب بعضهم خطبة طويلة في تكوُّن البرَد قال: إنه يتكوَّن من بخار موجود في الخلاء الذي بين الأجرام السماوية. فما أتم الخطبة حتى وقف السير وليم طمسن، وقال: أظن الخطيب يمزح فيما يقول؛ لأنه لو فرضنا أن البرَد تكوَّن في تلك الأعالي لذاب قبل أن بلغ الأرض بملايين من الأميال. ولَمَّا جلس قام اللورد ريلي وقال: أنا أعرف رجلًا ارتأى رأيًا أغرب من هذا، وهو أن بزور الأحياء هبطت على الأرض من السماء.»

وبَدِيهٌ أن الأحياء على موجب هذا الرأي لم تتساقط إلى أرضنا بأشكالها الحاضرة؛ أي: إن السماء لم تمطرنا من كل نوع من أنواع الأحياء زوجين ذكرًا وأنثى؛ زوجين من الكلاب، وزوجين من الفيلة، وزوجين من الأرانب، وزوجين من الحيتان … إلخ، تكاثرت وعمرت الأرض، فلا الإنسان ولا الحيوان لم يأتيا على هذه الصورة، وإنما الذي تساقط إلى أرضنا بزورٌ وبراعمُ ومكروبات، نمتْ فيها وتحوَّلت على مقتضى ناموس النشوء والتحوُّل، وارتقت وكوَّنت الأحياء المعروفة اليوم.

•••

ولا بدَّ لتحقق هذا الرأي — على فرض أن سلَّمنا به — من ثلاثة شروط:
  • أولًا: وجود صور حية في عالمٍ آخر غير عالمنا، وليس لنا ما يُثبت ذلك، ولا نُريد بهذا القول إثباتَ العمارة للأرض وحدها ونفيها عن سائر السيارات، وإنما نُريد به أن ليس لنا دليل قاطع على أن سائر العوالم مأهولةٌ بأحياء شبيهة بأحياء أرضنا أو مختلفة عنها، وإن كانت عمارتها محتملة بالقياس.
  • ثانيًا: وجود وسائل للنقل تحمل هذه الجراثيم من العوالم الأخرى وتنقلها إلى الأرض، وهذا الشرط متوفر في مُنْقَضَّات النيازك وسواقط الرجم، التي هي أجزاءٌ من الأجرام السماوية تتساقط على الأرض، كما لو تحطم أحد الأقمار وتساقطت أجزاؤه. ومثل هذه المنقضَّات على الأرض كثير ومن كل حجم، بعضها يزن القناطير وبعضها يقل عن المثقال. وقد حسب نيوتن ولوكيار أنه يتساقط منها على الأرض كل يوم نحو عشرين مليونًا، وأربعين مليونًا إذا عُدَّت الصغار منها. وقد أثارت هذه النيازك في بعض القبائل عواطفَ العبادة؛ يُحكى أنه سقط في سنة ١٨٥١ في زوروما في أفريقيا الشرقية نيزكٌ، فدَنا السُّودُ منه بكل احترام، ومسحوه بالزيت «كمأْلومٍ تداوي منه جرحًا»، وكَسَوه بالحُلل الثمينة «كي لا تخدش خدَّه الأبصار»، ونقلوه إلى أحد الأكواخ ونصبوه معبودًا لهم. وما أَمْر هؤلاء السود مع هذا الحجر السماويِّ بأعجبَ من أمر ذلك الفلاح الإنكليزي الذي رأى من عهد مائة سنة رجلًا راكبًا منطادًا نزل عليه، ولما سأله: أين أنا؟ جثا على ركبتيه، وقال: أنت في كولسدون (اسم بلدة) أيها الإله القادر على كل شيء.
  • ثالثًا: أن تكون النيازك آتيةً من عوالمَ فيها أحياءٌ وحاملة جراثيمَ حيةً، وغنيٌّ عن البيان أن جميعَ النيازك لا تستطيع أن تقوم بهذا الأمر. مثال ذلك النيازك المؤلَّفة من معدن كان مصهورًا من شدة الحرارة؛ على أنه يوجد نيازكُ شبيهةٌ بصخورنا، يمكن للجراثيم أن تستقر في شقوقها، بل نعرف نيازكَ تتضمن موادَّ عضويةً شبيهة بالراتينج. فهذه المواد وإن لم تكن الحياة نفسها إلا أنها فيما يرجح متكونة عن كائنات حية، أو فيها وجهٌ لهذا الفرض، فانتقال الجراثيم بمثل هذه النيازك، إذن، ممكنٌ.

    ولكن يقوم على ذلك اعتراض؛ وهو أن النيازك التي تخترق الهواء تمر فيه بسرعة عظيمة جدًّا، هي على تقدير لوكيار: من ٤٠ إلى ٦٠ كيلومترًا في الثانية، فتسخن إلى درجة تصير فيها نيرة من شدة ضغط الهواء. ودرجةُ الحرارة التي قد يبلغها النيزك، والحالة هذه، تختلف من ٤٠٠٠ إلى ستة آلاف درجة، فلا تستطيع الجراثيمُ أن تبقى حية في كل هذه الحرارة؛ إذ قد تبين من الامتحان أن البزور قد تقوى على احتمال ١٠٠ إلى ١٢٠ درجة من الحرارة الجافَّة بعض ساعات، وأما على حرارة ١٥٠ إلى ٢٠٠، فإنها تموت، والمكروبات تهلك في جميع أشكالها. غير أن النيازك لا تبلغ جميعها هذه الدرجة من الحرارة، ومن المؤكد أن التسخُّن هو غالبًا سطحيٌّ. وقد سقطت نيازك كانت فاترة وغيرها كان باردًا، وفي سنة ١٨٦٠ تساقطت في درمسالا في الهند قِطَعٌ كانت بحال وصولها إلى الأرض بالغةً من البرد درجةً صُقعت منها الأَكُفُّ التي لمستها.

وتعليل ذلك بسيط؛ فالنيازك، التي هي عبارة عن محطمات الكواكب، قبل أن تصل إلى الأرض تَمُرُّ في فضاء بارد جدًّا، تختلف درجة برده من ٥٠ إلى ١٥٠ تحت الصفر، فإذا صادمت الهواء فقد تسخن في كل كتلتها إذا كانت صغيرة، ولا تسخن إلا في سطحها ويبقى باطنها باردًا إذا كانت أكبر، فمن الممكن، إذن، أن يصل إلينا بعضُ النيازك من دون أن يسخن كثيرًا، فإذا كان حاملًا في بعض أجزائه الباطنة بعضَ الجراثيم فليس من الضروريِّ أن تحترق.

ولكن يَرِد علينا حينئذٍ اعتراضٌ آخرُ، وهو: إذا كانت الجراثيم لا تحترق، فمَنْ يضمن لنا أنها لا تموت من شدة البرد؛ لأن برد الفضاء شديد؟ ولكن الامتحانات الحديثة قد ذهبت بهذا الاعتراض؛ إذ قد تبين منها أن البزور وأنواع البكتريا تحتمل بردًا شديدًا من دون ضرر، لا درجة ٥٠ أو ١٠٠ فقط، بل ٢٠٠ تحت الصفر. فمن الجراثيم ما بقي حيًّا مائة ساعة في هواء درجة برده ١٩٠ تحت الصفر و١١٨ يومًا على درجة تختلف بين ٣٧ و٥٣ تحت الصفر. وهذه المعلومات كثيرةُ الفائدة إذا ضَمَمْناها إلى غيرها مما عُلم في هذه السنين الأخيرة.

فقد كان المظنونُ إلى أيامنا هذه أن البزور، ولئن ظهرت بحالة نوم، فلا تزال الحياة تعمل فيها، وإذا كانت تبدو لنا واقفة فما ذلك إلا في الظاهر فقط، فهي لا تزال تقضي بعض الوظائف الجوهرية كالتنفس والمبادلات الغذائية ولكن ببطء وضعف كُلِّيَّين، والحال أن ذلك خطأ؛ فإن هذه الوظائف الحيوية تقف وقوفًا تامًّا على درجات البرد المذكورة، كما تقف عندها في الأجسام الكيماوية ألفتها وخصائصها المميزة لها، كما تبين من الامتحان.

•••

وبالحقيقة كيف يمكن التصديقُ ببقاء وظيفة التنفس وسائر الأفعال الحيوية عاملةً، ونحن نرى بزورًا في الفراغ لا تفرز مقدارًا من الحامض الكربونيك يشعر به بالحل الطيفي، ونرى بزور البرسيم (القرط) تبقى ست عشرة سنة في غاز الأزوت والكلور والهيدروجين والكحول الصرف، ثم تنبت إذا أُخرجت إلى الهواء والرطوبة والحرارة. وحَبُّ الحمص المخنوق ضمن الزئبق يبقى حيًّا بعد خمس سنين، إلى غير ذلك من الامتحانات التي يكاد يكون التبادلُ الحيويُّ ممتنعًا فيها؟ ففي مثل هذه الأحوال لا بد من التسليم بوقوف الحياة وقوفًا تامًّا بحالة لا هي الموت؛ لأن الحياة ما زالت ممكنة، ولا هي الحياة؛ لأن الحياة هي التبدُّل والحركة، بل هي حالة متوسطة بين الموت والحياة، وعليه: فلا خوف على الجراثيم من برد الفضاء إذا صح انتقالُها إلينا من الأجرام الأخرى بواسطة النيازك.

وما بَسَطْنَا كل ذلك هنا إلا من باب الفكاهة العلمية، لا تأييدًا لهذا الرأي الذي هو في اعتقادنا غريبٌ جدًّا، كما تقدم، والشيء بالشيء يُذكر، فمن غرائب أحلام العلماء ما خطر في القرن الماضي لأحد مشاهير الجراحين والعلماء الطبيعيين، المدعو: هنتر، بالنظر إلى وقوف ظواهر الحياة كما تقدم. وهذا يَدُلُّك على أن هذا الفكر ليس حديثًا. فقد خطر له أن يجرب إيقاف الحياة، وأجرى امتحاناته على بعض أنواع الحيوانات الدنيا، فجرب أن يُوقف حياتها بالبرد فنجح في ذلك، ولكنه لَمَّا أراد إيقاظها بالحرارة وجدها لا حياة لمن تنادي.

وله من وراء ذلك غرض عظيم، قال في بيان هذا الغرض ما نصه: «قد ظننت أنه يمكن إطالةُ الحياة إلى ما لا نهاية له بإجلاد إنسان، بوضعه في مكان بارد جدًّا، واستندت في ذلك أن كل عمل ومن ثم كل خسارة في مادته تقف، والحالة هذه، إلى أن يسخَّن ثانية، وقلت في نفسي: إذا أراد إنسان أن يقف السنين العشر الأخيرة من حياته لإجراء هذا التعاقب بين العمل والراحة يمكن إطالة حياته آلافًا من السنين، يوقظ فيها كل مائة سنة مرة، فيقف على كل ما جرى في العالم مدة رقاده، وكنت معلقًا كل آمالي على نجاح هذا المشروع، ولكن «امتحاناتي خانتني»» انتهى.

فترى مما تقدم أن هنتر كان يحلم بالخلود الجسماني للجميع، ولكنه لم ينجح، والظاهر أن حلمه لن ينجح. على أننا لا نريد أن نثني عزم أحدٍ من الراغبين …

١  نُشرت في البصير سنة ١٨٩٨، وهي علمية فكاهية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤