المقالة الخامسة والعشرون

رجال الغد١

إذا شئت أن تعرف مستقبل أمة فابحث عنه في أطفالها؛ فهم نتاج الماضي وعنوان المستقبل. ابحث عنه في صحتهم وفي تربيتهم وفي تعليمهم، من يوم يُحبل بهم أجنَّةً إلى يوم يُولَدون ويُربَّون في حجر أمهم، إلى يوم يخرجون من المدارس وينضمون إلى الهيئة الاجتماعية أعضاءً عاملين.

فعلى صحتهم وكثرتهم يتوقف نمو الأمة، وعلى حسن تربيتهم وتعليمهم يتوقف نجاحها؛ فالأم أول عامل يؤثِّر في الطفل وأهمه، وتأثيرها فيه أشد من تأثير الأب؛ فهي تُغذيه من دمها أشهرًا، وتسقيه لبنها أشهرًا، وتُربِّيه في حجرها سنين. وما يكتسبه الطفل من أمه بالإعداد الطبيعي والتربية الأدبية والتعليم العقلي قد لا تقوى عليه المؤثِّرات اللاحقة، ومهما قوِيت فلا تُزيل أثره.

تصوَّرْ أمًّا حمقاء لا تعرف من قوانين الصحة إلا الأكل حتى على الشبع، ومن أدب التمدن إلا البهرجة والتزين بالحُلي العاطلة، وهي عاطلة من حُليِّ الآداب الحقيقية، ومن العلوم غير ما تقوى به الأوهام، وتفسد معه الأحكام. عقلها أوسخ من بدنها، تدفع العين عن طفلها بالقذارة، وتمنعه عن إتيان ما لا يجوز بتخويفه بالغول والبُعبع، بعد الأب والطبيب، وتدفع به بعد أن تُغذيه بدم الجهل وتسقيه لبن الحمق إلى مُرضِع لا تفضلها في شيء من هذا القبيل، وتنقص عنها في فُقدان الحنو الوالدي الذي هو من العواطف التي تؤثِّر في اللبن تأثيرًا عصبيًّا، وتُكيفه تكييفًا حسنًا يستمرئ به الرضيع. فماذا تكون حالة هذا الطفل المسكين صحيًّا وأدبيًّا وعقليًّا؟ لا شك أنها تكون رديئة جدًّا.

ثم قَابِلْ هذا الطفل بطفلِ أمٍّ هي على نقيض ما تقدَّم؛ عاقلة، مُتهذبة، مُتعلمة، مُتحلية بالآداب الصحيحة، عالمةٌ أن نبلها قائم ببساطتها في معيشتها لا ببهرجتها، وأن جمالها قائم بترتيبها ونظافتها، لا بطَلْي وجهها. ليس للأوهام عليها سلطانٌ يدفعها إلى الاستمساك بالخرافات، وزرعها في رأس طفلها حتى يشبَّ على الاعتقادات الفاسدة والأحكام الباردة، بل تُربِّيه تربيةً تجعل عقله حرًّا غير مقيَّد بقيود الجهل والأوهام، تُحافظ على صحته بالمبالغة بنظافة جسده وملابسه، والاعتناء بطعامه وشرابه، ونقاوة هواء غرفته، مُتحاشيةً التأنُّق الذي يجرُّ إلى الرفاهة المُرهِّلة للأبدان والآداب، حافظةً له شيئًا من الخشونة الجائزة المُقوِّية للأجسام والأخلاق.

فإن مثل هذا الطفل يشبُّ صحيحًا أديبًا عاقلًا، ليس فيه شيء من ميوعة المُترهِّلين أو خشونة الجافين، مُتحليًا بالرجولة التي هي من صفات الحازمين، مِقدامًا ولو زلَّت قدمه، جليدًا ولو خارت هممه، سخيًّا ولو نضبت كفه، كريم الأخلاق، يملكه المعروف ولا يلتئم للمتلوف، يعذر حيث يجب العذل، فللجهل عذرٌ لا يفوت ذوي الفضل:

كريمٌ يُقيم العذر في موضعِ العذلِ
فللجهل عذرٌ لا يفوت ذوي الفضلِ
إذا ما رأى المعروف في بذل نفسه
جفاها ولم يقبل فداه سوى البذلِ

والحكم بين الطفلَين كالحكم بين الأمَّين لا يقبل التردد، وهذه النسبة تختلف بين أطفال أمة واحدة لاختلاف الأمهات، والغلبة حينئذٍ للأكثرية، كما أنها تختلف بين أطفال أمة وأمة، والغلبة هنا للأمة المُتمدنة. فإذا خرج الطفل من حجر أمه إلى المدارس صادف هناك عقباتٍ كثيرة، كثيرًا ما تهدم جسمه وتُطفئ نور عقله، من سوء المعاملة في التربية وفساد التعليم. وهذه المسألة المهمة جدًّا في مستقبل الطفل ومستقبل كل أمة تحتمل بسطًا واسعًا إذا أردنا الإلمام بكل أطرافها، والمقام لا يحتمل ذلك، فنقتصر فيها على كلامٍ إجمالي يكون تمهيدًا للتوسع في هذا البحث لمن أراد. ولا نُطيل الوقوف على المدارس الصغرى؛ فإن عدمها أفضل من وجود كثير منها، ونحصر كلامنا في المدارس الكبرى. فنقول إن التعليم على ما هو شائع، وخصوصًا في مدارس المشرق؛ ناقص جدًّا، فنظام المدارس في التعليم والتربية قديم لا ينطبق في جملته على احتياجات العصر ومقبولات العقل وسنن الارتقاء؛ فالأسباب الصحية مُهمَلة في أكثرها للغاية، من حيث نظافة الهواء والماء والمأكل والملبس. فإن القائمين بهذه التربية أكثرهم لا يعتنون بذلك، وربما عدَّه بعضهم من الأمور المخالفة للمبادئ القائمين بتأييدها، فعدُّوا القذارة نوعًا من التقشف الفضيل، والنظافة إفراطًا في الترهل الذميم. وكثيرًا ما يكون ذلك سببًا لأمراضٍ تؤدي إلى الموت بعد الاعتلال. خذ مثلًا لذلك من أمثلةٍ كثيرة، وهو مثال السكين والملعقة والشوكة التي يستعملها التلامذة في طعامهم؛ فإن كثيرًا من المدارس حتى اليوم لا يسمح بغسل هذه الأواني إلا مرة في كل أسبوع.

والتربية ناقصة كذلك، وأكثر القائمين بها أناسٌ يجهلونها، فيعدُّون العقاب ومعاملة التلامذة بالخشونة والقساوة من القواعد الأساسية، ويُساوُون فيها بين العموم، لا يُفرِّقون بين تلميذ وتلميذ، جاهلين الحكمة من قول الشاعر:

ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا
مُضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى

أي إن استعمال العصا حيث يمكن الاكتفاء بالتوبيخ اللطيف مُضرٌّ كاستعمال هذا في موضع ذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة، وكل واحد منا في وسعه أن يذكر كثيرًا منها. وأروي لك مثالَين وقعا لي في مدرستَين مُتباينتين في التربية، وبينهما فترةٌ طويلة؛ أحدهما: أني كنت ذات ليلة قبل ميعاد النوم واقفًا مع صفِّي في مكانٍ مكشوف للهواء، وفي أيام الشتاء، فخانني الصبر من طول الانتظار، وقرصني البرد، فتأفَّفت من ذلك طالبًا العجلة، فلم يرُق ذلك في عينَي المُلاحظ علينا، وكأن رجلًا أحمق اسمه الأب بيانكي، أحقُّ به مستشفى المجاذيب من مدرسةٍ يتولى تربية الصغار فيها، فعاقبني للحال عقابًا أوسخ من عقله، فاعترضت فشدَّد العقاب، فرضخت للظلم لصِغر سني وضعفي، وحفظت الغل في قلبي حتى اليوم، ولو كان لي حينئذٍ قوة تُمكِّنني من الدفاع عن نفسي لنتفت ذقنه شعرةً شعرة.

ثم وقع لي بعد ذلك بسنين في مدرسةٍ أخرى ما أخجل أنا نفسي من ذكره؛ فإني طلبت يومًا وأنا على المائدة طعامًا غير موجود، وكان ذلك جائزًا لنا، فأباه العشي عليَّ، فغضبت لذلك جدًّا، وقمت من عن المائدة، واندفعت إلى المطبخ كالآلة العمياء، وتناولت الشيء الذي طلبته، ثم رميت به إلى الأرض ودسته تحت قدمي، ثم رجعت إلى مكاني وأنا أنتظر العقاب على ذلك، وأقله الطرد، وكان للمدرسة رئيسٌ من أفاضل الرجال، عاقلٌ حكيمٌ اسمه الدكتور بلس، أطال الله بقاءه، فأبلغوه الأمر، فكأنه نظر إلى سوابقي الحسنة، وربما راعى اجتهادي في الدرس كذلك، فأمهلني يومَين ولم يُقابلني، وأنا أنتظر من دقيقة إلى أخرى أن يطلبني. فلما كان اليوم الثالث كنت في ساحة المدرسة وحدي، فرأيته مُقبِلًا عليَّ وبيده كتاب، فجمدت في مكاني، وعلاني اصفرار الوجل، وخفق قلبي، فلما دنا مني تبسَّم ومال إلى أذني كأنه يريد أن يُسرَّ إليَّ أمرًا، وقال لي بصوتٍ مُنخفض: «إذا غضبت مرةً أخرى فلا تُرتِّب على غضبك عملًا إلا بعد أربع وعشرين ساعة.» وتركني. فبقيت جامدًا في مكاني لا أتحرك، وعلاني احمرار الخجل، واستولى عليَّ الدوار، ولا أعلم كم بقيت في هذه الحالة لا أنتقل من مكاني، وإنما الذي أعلمه أنني اعتبرت بهذا العقاب كثيرًا، وحسبته أشد من الضرب والطرد، وأدْعَى إلى الإصلاح.

وأي قساوة وحشية تفُوق ما أرويه لك عن معاملة المُعلمين للتلامذة في بعض هذه المدارس الكبرى؟ فإني يوم كنت تلميذًا وسنِّي بين ١١ و١٢ سنة، كان مُلاحظ غرفة منامتنا كلما رأى تلميذًا مكشوفًا وهو نائم يُوقظه بضربه بعصًا رفيعة على رجلَيه عوضًا عن أن يُغطيه كما كان يفعل أبوه أو أمه، مع أن عمل الضرب لا يُوجِب على حضرته صرف قوة أقل ممَّا يُوجِب عمل التغطية، فماذا يفعل هذا الطفل المسكين القاصر عن معرفة الجائز وغير الجائز، وعن معرفة متى يكون مسئولًا ومتى لا يكون، إذ يرى مثل هذا الوحش المُتولي أمر تربيته يفعل ذلك، سوى أن يقوم في اعتقاده أن تكشُّفه في نومه ذنبٌ لا يُغتفر، ولكنه ذنب ليس في طاقته أن يجتنبه؛ فتقلُّ ثقته بنفسه، ويقع في رعبٍ قد يؤدي به إلى الخمول. وأذكر أني كي أتَّقي هذه المعاملة الوحشية عمدت إلى اللحاف وثبتُّه في السرير، ثم فتقت مِلحفته، وصِرت أُدخل جسمي بين اللحاف والملحفة كأني في كيس، ولكني كنت حينئذٍ كالمُستجير من الرمضاء بالنار؛ فقد اتقيت بهذه الحيلة عصا الرقيب، ولكني وقعت بين أنياب البق؛ لأن مسامير اللحاف، كما يُسمُّونها، كانت ملآنة بقًّا.

ولذلك ينبغي أن يكون المُعلمون من الذين تربَّوا جيدًا، وبرعوا في علم الأخلاق؛ حتى يدرسوا طبائع كل تلميذ، ويُعاملوه بحسب طبيعته. وينبغي أن يكونوا كذلك من النبهاء؛ ليُلاحظوا ميل كل تلميذ وقابلية عقله؛ ليردعوه عن الفاسد، ويُنشطوه في الاستعداد الحسن. والأكثرون لا يفهمون مقدار الضرر الناشئ عن عدم مُراعاة ذلك؛ فإن عقولًا كثيرة من أذكى العقول ينطفي نورها كل سنة في المدارس من سوء المعاملة، ومقاومة أميال العقل. ولا ريب عندنا أن المستقبل سيجعل فن سياسة الأطفال فنًّا قائمًا بنفسه، تؤلَّف فيه المؤلفات، ويتلقَّنه المُعلمون في مدارسَ خصوصية تُجيز لهم التعليم، كما يُفعَل اليوم للأطباء والمُتشرعين.

أما التعليم في المدارس فقسمان: العلوم الأدبية، والعلوم الطبيعية. أما العلوم الطبيعية، ويدخل تحتها العلوم الرياضية، فلا يُعترض عليها؛ لأنها واحدة في كل المدارس، وهي من أصدق العلوم، وتأثيرها في العقل جيد جدًّا؛ إذ تُربِّيه على القياس الصحيح.

أما العلوم الأدبية فواسعة جدًّا، ويدخل تحتها علوم اللغة، لا من حيث وضعها ونشؤها؛ فإن ذلك من المباحث الطبيعية الحسنة والمُهمَلة في المدارس، بل من حيث تعليلها. والمنطق والفلسفة العقلية، وعلم الآداب والسياسة واللاهوت، إلى غير ذلك من اجتهادات العقل وأوضاعه، ففيها كثير من المبادئ التي يُدخلونها في رءوس التلامذة قسرًا كأنها قضايا مسلَّمة، وكثير منها ما يكون مغلوطًا. ويُربُّون العقل عليها حتى يفقد ما له من القُوى الذاتية، ويصبح كأنه مصنوع على قالبٍ معلوم، وناهيك بهذا المصنوع المبني على المغلوط. وبعد أن يصنعوه على هذه الصورة يُفرغون فيه العلوم، حيث تبقى فيه عقيمة أو تظهر بمظاهر مُتناقضة؛ ولذلك كان أكثر الذين يُقيمون في هذه المدارس زمانًا طويلًا، ويدرسون دروسها القانونية، يخرجون منها مُتعلمين كثيرًا، ولكن فاقدين كل امتياز ذاتي في عقولهم. وأكثر الناس الذين امتازوا بخاصةٍ ذاتية في عقولهم هم من الذين لم تسمح لهم الأحوال، إما لمرض وإما لسببٍ آخر، باتباع هذه الدروس القانونية على النسق المعوَّل عليه في أكثر المدارس، ونجَوا بذلك من الوقوع تحت سلطان هذه التربية العقلية.

فالمدارس لا يجوز لها أن تضغط على العقول لتصنعها على قالبٍ معلوم، وتُضيق عليها المذاهب، بل يلزم لها أن تُعدَّها إعدادًا عامًّا، وتُوسع لها المنافذ حتى يسهل عليها التصرف في العلوم التي تعلَّمها، والبحث في جميع الأشياء التي تعرَّض لها.

وبين المدارس الموجودة بيننا فرقٌ عظيم في ذلك، وأفضلها ما هجر الخطة الأولى، وكان أقرب إلى الخطة الثانية. والفرق بين تلامذة المدرستَين واضح، وأرجحية الجانب الواحد لا تحتاج إلى بيان، ولو كانت حكومات المشرق من الحكومات المُرتقية لاهتمَّت بهذا الأمر جدًّا على الأسلوب الذي ألمعنا إليه، والذي يحتاج بسطه إلى تفصيلٍ طويل.

ولو كنت ناظرًا للمعارف — لا أقول ذلك من باب التمني — لأكثرت التردد على المدارس، لا في الحفلات الرسمية للأكل والشرب والطرب على نغم الموسيقى، واستماع خطب المدح الباردة، ومُبادلة العبارات الفارغة، بل للوقوف على أحوال التلامذة في أدق أمورهم؛ في مائهم وهوائهم وغذائهم ونظافتهم ومطبخهم وأسرَّتهم وملابسهم، فضلًا عن طريقة تعليمهم، بل للوقوف على حال المُعلمين من ذلك أيضًا؛ فإني أذكر أن مُعلمًا من مُعلمي المدارس الكبرى حضر مرة للتداوي عندي، فلما كشفت لباسه الأسود كِدت أتقيأ ما في معدتي من شدة سواد قميصه لشدة قذارته، فكيف يُرجى ممَّن هو بهذه القذارة في جسمه أن يكون أنظف من ذلك في عقله، وأن يكون مُرشدًا لهؤلاء الأطفال إلى ما يصحُّ به جسمهم ويذكو عقلهم وتسمو آدابهم؟

ولا ريب أن بعض المدارس أصلح من البعض الآخر في هذه الأمور، وأن كثيرًا منها اصطلح جدًّا عمَّا كان عليه من عشرين سنة، خصوصًا في أوروبا، إلا أن البعض الآخر لم يزَل كما كان عليه من عهد أربعين أو خمسين سنة، خصوصًا في سوريا ومصر من البلاد التي يهمُّنا التعليم فيها. والإصلاح الذي حصل في المدارس في النصف الثاني من هذا القرن هو في جملته دون الممكن ودون المطلوب، خصوصًا إذا قِسناه بالإصلاح الذي حصل في المستشفيات والفنادق. ولا ندري كيف تصبر الهيئة الاجتماعية والحكومات المُتمدنة على ذلك مع علمها أن هؤلاء الأطفال هم رجال الغد؟ فعلى صحة أبدانهم يتوقف نماء الأمة، وعلى صحة عقولهم يتوقف نجاحها.

وإهمال الرحمة بالأطفال بالغ الغاية القصوى في بلاد المشرق، وإذا ألقينا نظرنا إلى الأطفال في هذه البلاد خصوصًا، ضاق علينا قاموس اللغة لوجود ألفاظ تُعبِّر عمَّا يجيش في النفس من الاحتقار لرجال الأحكام ولهيئة البلاد نفسها، ولا سيَّما بعد أن عدُّوا أنفسهم في عداد الحكومات والأمم المُتمدنة يتقلدون كأنهم لا يعقلون، فيؤلفون الجمعيات للرفق بالحيوان، كأنهم استوفَوا ما يلزم لنوع الإنسان، مع أن الحاجة إلى إقامة الجمعيات للرفق بالأطفال خصوصًا في هذه البلاد أشدُّ وأولى. فلا نظن أن العاهات التي تُشوِّه الأبدان، والوفيات التي تذهب بالأرواح، بالغةٌ في بلادٍ مَبلغها في هذه البلاد. فالرفق بهؤلاء الأطفال من أول واجبات الأمة وواجبات الحكومة إذا كانتا تريدان أن تعملا عملًا معقولًا مشكورًا، ولا أقلَّ من أن تُنشئ لهم المستشفيات الكافية.

ولا تستغرب أيها القارئ إذا قلت لك إن في كلٍّ من تركيا ومصر لا يوجد مستشفًى واحد للأطفال؛ فالحكومة تعتذر من عدم وجود المال (إلا إذا شاءت)، وغالب أغنياء الأمة ليس فيهم من يفهم قوة هذه الأعمال؛ لجهلهم وقلة عقلهم، مع أن الذي أنفقته حكومة تركيا ومصر على سياحة إمبراطور غني، كان في إمكانه أن يسوح على نفقته وما تُنفقه الأمة من وقت إلى آخر على الاحتفالات الصِّبيانية البليدة كان وحده يكفي لإنشاء مستشفيات تأوي فيها أطفال البلدتَين معًا.

والمُضحك المُبكي أن الحكومة والأمة اللتَين لا تهتزَّان لهذا الأمر الجلل تنتفض أعصابهما رعبًا لعملٍ مشجوب، يأتيه بعض الرعاع من وقت إلى وقتٍ آخرَ بعيد، كالإيقاع بعظيمٍ يسهل تعويضه لهوسٍ تسهل مُداواته، ويأسٍ تسهل مُلافاته، فتقوم قيامتهما، وتبثَّان العيون والأرصاد، وتأخذان البريء بجريرة المُذنِب، كأن القيامة قد قامت ويوم الحشر قد دنا. وأغرب من ذلك أن هذه الغيرة قد امتدَّت إلى جرائدنا في هذه الأيام، فقامت تُجسم الأوهام، وتؤكِّد المزعوم، وتُحذِّر وتُندِّد وتُنبِّه رجال الأحكام إلى خوفٍ بعيد عنها قريب منهم. كأنهم أحرص منهم على حياتهم، وأشد استمساكًا منهم بنظاماتهم، مع بُعْدها عن امتيازاتهم، مُناديةً بالويل والثبور، ذارَّةً الرماد على مُسترسل سطورها، كأنها خافت على قصور أصحابها أن تُنسَف، وأموالهم أن تُسلَب، وأرواحهم أن تُنهَب، وهم منها أفرغ من فؤاد أم موسى، حتى أرواحهم لم يبقوا على استقلالها مدفوعة بعوامل لا يصحَّ أن تُسمَّى الانعطاف؛ لأن هذه الحاسة النبيلة كثيرًا ما تخونها في حوادث أشد من أعمال الفوضويين ضررًا، وأكثر منه مساسًا بهم، فكم نرى الحاكم الواحد يُضحي مئات الألوف من النفوس والملايين من الأموال على مذابح الطمع والجهل، ولا تنبس ببنت شفة، فلو كانت هذه الحاسة الشريفة هي التي تدفعها إلى ذلك، لوجب أن تظهر فيها على نفس النسبة، وحينئذٍ لملأت العالم ضجيجًا وعجيجًا، فالحكمة تقضي في مثل ذلك أن يبحث عن السبب لمُلافاته من أصله. فالفوضوية والاشتراكية وكل الجمعيات المُقاومة للنظام الحالي، بقطع النظر عن كونها صالحة أو غير صالحة، دليلٌ على أن الهيئة الاجتماعية تشعر بتعبٍ موجودٍ حقيقةً تقصر النظامات الحاضرة عن تداركه، فإصلاح هذه النظامات لإزالة هذه الأسباب أحقُّ وأولى. وما إهمال تربية الأطفال الذين فيهم بحثنا من جانب هذه الهيئة والنظامات إلا سببٌ واحد من أسبابٍ كثيرةٍ اجتماعيةٍ داعية إلى تأفُّف الهيئة الاجتماعية.

فلعل جرائدنا تجد في هذا الموضوع ما يشغلها البحث فيه أشهرًا وسنين فتُفيد وتستفيد، وخصوصًا نحن الشرقيين الذين نشعر بثقل وطأة الأجنبي، ونُحاول التخلص منه؛ فهذا لا يتم لنا إلا إذا وجَّهنا كل قوانا إلى الاعتناء بأطفالنا الذين هم رجال الغد حتى نستطيع أن نُناظر بهم من هم أرقى منا، وحتى لا نبقى بهم كما قال الشاعر:

صِبياننا في القبح مثل شيوخنا
وشيوخنا في العقل كالصبيانِ
١  نُشرت في البصير سنة ١٨٩٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤