المقالة الخامسة

تاريخ الاجتماع الطبيعي

كلما ارتقى الإنسان في العلوم الطبيعية قلَّت الحاجة به إلى إجهاد القُوى العقلية، والالتجاء إلى العلوم الجدلية، والتعطش إلى قراءة الأقاصيص الخيالية الخرافية والتحليلية المزعوم أنها وصفٌ حقيقي للعواطف، وأصبح شأنها حقيرًا، وهو اليوم يحسبها من صناعات الآداب الراقية، وما هي بالحقيقة إلا من مُختلَقات الوضع المُناقضة للطبع، والتي ضررها اليوم أشد جدًّا من ضرر الفلسفة القديمة، ومن ضرر علم الكلام وعلم اللاهوت في العصور المُظلمة؛ لأنها طمَّت على الاجتماع كالسيل الجارف حتى أغرقته فيها، وما كان فضل فرنسا في ثورتها الاجتماعية السياسية ليُعادل ضررها بعد ذلك في منهجها هذا النهج، وهي عماد هذه الأقاصيص اليوم.

***

تقدَّم القول في مقالة «الاجتماع البشري والعمران» أن من الناس من يذهب إلى أن الاجتماع نتيجة الفكرة وحدها وخصَّه بالإنسان، ومنهم من يذهب إلى أنه طبيعيٌّ فيه وأطلقه على الحيوان. أما الأول فقول أكثر الحكماء المُتقدمين، وأما الثاني فقول أكثر الحكماء والطبيعيين المتأخرين. وسترى ممَّا نبسطه لك فيما يأتي أي القولين أحق وأولى.

إن البحث في العمران لم يكن في القديم إلا من همِّ بعض الحكماء، ولم يُبنَ على قواعد راهنة إلا في هذا العصر وقريبًا من هذا العهد، وعمَّا قليلٍ سيصير درس سُنَنه من أول الضروريات للإنسان؛ لأن ارتقاء الإنسان في التمدن له نتيجتان لازمتان، وقد طالما عدَّهما الناس مُتناقضتَين، وهما نمو الحياة الشخصية ونمو الحياة الاجتماعية معًا. فقد كان الاعتقاد سابقًا أن ما يبذله الفرد في مصلحة الجمهور إنما يبذله من مصلحة نفسه وبالعكس، ولم يكن يُظنُّ أن بين المصلحتَين ارتباطًا شديدًا؛ ولذلك كانت شرائع البشر في القديم أشدَّ انحرافًا لجانب الاستبداد، وأقلَّ احترامًا لجانب العدل في التعاون والاشتراك في المنفعة، ولم تنجلِ هذه الحقيقة كما ينبغي إلا في هذا العصر؛ أي بعد أن رسخت معارفُ البشر في العلوم الطبيعية، وانجلى لهم بها ارتباط سُنة هذا الكون، فرأوا اتفاقًا حيث كان سواهم يرى انفصالًا. فرأوا مصلحة الفرد مُرتبطة بمصلحة الجمهور وبالعكس ارتباطًا شديدًا، حيث لا تتمُّ حياة الواحد إلا بحياة الآخر؛ لأنهم رأوا السنن الفاعلة في الاجتماع نفس السنن الفاعلة في الأفراد.

ولذلك قالوا: إن الاجتماع لا تتمُّ معرفة طبيعته وسننه إلا بمعرفة طبيعة الأفراد وسننها، كما أن الجسم الحي لا تتمُّ معرفة سننه إلا بمعرفة سنن الكُريات الحية التي يتركَّب منها؛ لأن كل صفات الاجتماع في الخلق والأخلاق متَّصِلة إليه من الأفراد التي تؤلِّفه، وكل صفات الأفراد كذلك مُتوارَثة فيهم ومُنتقِلة إليهم من الاجتماع. فإذا استقرينا هذه السنن في تاريخ نشوئها إلى أصلها الطبيعي خالِين من الغرض والتشيُّع، انتقل بنا البحث في الاجتماع من دائرة الشريعة والسياسة إلى دائرة علم الحياة، ودخلنا في قسم من العلم الاجتماعي يمكن تسميته تاريخ الاجتماعات الطبيعي؛ لأن البحث حينئذٍ لا يقتصر على الحكم الوازع والاجتماعات السياسية، بل يعمُّ الاجتماعات البشرية كافةً، حتى الاجتماعات الحيوانية أيضًا.

ولا يخفى ما يترتب على معرفة ذلك من الفوائد للعمران؛ لأن الفائدة إنما تحصل للعمران إذا جرى الإنسان فيه على سننه لا على ضدها، والبحث فيه على هذه الصورة واجب؛ ليُعلَم أي السياستَين أولى به؛ آلسياسة الحرة أم السياسة الاستبدادية؟ وذلك أوَّل ما يُعوِّل عليه أصحاب العقول الحرة لتأييد آرائهم؛ لأن أصدق الأدلة التي يجب الاعتماد عليها هي من العلوم الطبيعية، ثم إذا استقرينا هذه السنن إلى أصلها أيضًا انتقل البحث بنا ضرورةً إلى العلوم الطبيعية؛ لأن السنن الفاعلة في الكُريات الحية هي نفس السنن الفاعلة في جواهرها الفردة؛ ولذلك كان البحث في علم الاجتماع — تاج العلوم البشرية — من أعظم المباحث لمعرفة سر الحياة الكلية المُستولية على عامة سنن الكون.

•••

وتشبيه العمران بجسمٍ حي قديمٌ جدًّا؛ فالفلاسفة المُتقدمون كأفلاطون وأرسطو شبَّهوه بحيوانٍ كثير الرءوس، وفلاسفة القرن الثامن عشر كشكسبير وروسُّو وصفوا له أعضاءً أيضًا، ولكن هذه المُشابهة مجازية عند أكثر المُتقدمين، قياسية عند أكثر فلاسفة القرن الثامن عشر، وتُعتبر مُشابهة بالمُطابقة اليوم؛ فإن «سبنسر» الإنكليزي لا يُفرق بين سنن الاجتماع وسنن الحياة، و«شفل» الألماني يصف الجسم الاجتماعي كأنه يصف حيوانًا وصفًا طبيعيًّا، فيصف الخلية الاجتماعية، أي العائلة، والأنسجة الاجتماعية وأعضاء الاجتماع وروح الاجتماع، و«جيجري» يجعل الاجتماعات بين الأحياء في كتاب له في الحيوان، ويصفها وصفًا طبيعيًّا. وغيرهم ممَّن حذا حذوهم في هذا العصر كثير. فلنبحث معهم لنرى أولًا: هل يصحُّ تشبيه العمران بجسمٍ حي؟ وهل السنن الفاعلة في الجسم الحي كالحيوان هي نفس السنن الفاعلة في العمران؟

فالجسم الحي مركَّبٌ من أعضاءٍ مختلفة، ولكل عضو من هذه الأعضاء عملٌ خاص ومشترك معًا؛ أعني أن العضو الواحد يعمل غير ما يعمل الآخر، ويعمل له في آنٍ واحد؛ فإن المعدة مثلًا تعمل غير ما يعمل القلب، والقلب غير ما يعمل الدماغ، وكلٌّ من الدماغ والقلب والمعدة لازم للآخر. وكذلك العمران، فإنه مركَّب أيضًا من أعضاءٍ مختلفة تعمل لغايةٍ واحدة؛ فالزارع يعمل غير ما يعمل الصانع، والصانع غير ما يعمل الوازع، وكلٌّ من الوازع والصانع والزارع لازم للآخر؛ فهو من هذا القبيل كالحي تمامًا. ولا تقتصر هذه المُشابهة على الصفات الخاصة فقط، بل تتناول العامة أيضًا؛ فقد قال سبنسر، وقوله حق: «إن القُوى الكبرى في حيوانٍ تام التركيب ثلاث، وهي: الغاذية، وأفعالها تهيئة الغذاء، وآلاتها المعدة والكبد وما يتلوهما. والمُدبِّرة، وأفعالها تحصيل الغذاء، وآلاتها الدماغ والأعصاب وما يتلوها. والمُوزِّعة، وأفعالها توزيع الغذاء، وآلاتها القلب والشرايين وما يتلوها. وإن القُوى الكبرى في العمران ثلاث كذلك، وهي: الصناعة، وأفعالها الاعتمال للمعاش. والحكومة، وأفعالها تحصيل أسباب هذا المعاش. والتجارة، وأفعالها توزيع هذا المعاش.»

•••

ولقائلٍ يقول: إذا كان هذا التركيب شرطًا لازمًا للحياة، فهل يلزم منه أن تكون كل آلة مركبة حيةً؟ وهل الساعة حيَّة؛ فإنها مركَّبة من آلات أو أعضاءٍ مختلفة تعمل لغايةٍ واحدة كذلك؟ فعلى ذلك نُجيب أن الفرق بين الآلات الطبيعية الحية والصناعية غير الحية هو أن الأولى ذات أعضاء، حتى في أهم أجزائها تعمل لحفظ الكل نظيرها، بخلاف الثانية؛ فإن أعضاءها نفسها غير مركَّبة من أعضاءٍ مختلفة نظير تلك، ولا تفعل فيها نظير فعلها؛ أي إنها لا تعمل عملها من نفسها لحفظ الكل، بل بالضد من ذلك، فهي تميل دائمًا إلى إبطال هذا العمل. وهذا ما يمتاز به الحي عن غير الحي؛ ولذلك لم تكن الساعة حية، وأما العمران فحي؛ لأن كل عضو منه مركَّب من أعضاءٍ أخرى تعمل نظيره لحفظ الكل كما في الجسم الحي، فكل حيوان مركَّبٌ من حيواناتٍ أُخَر أقل منه في التركيب. فإن الكُريات الحية التي يتألف من مجموعها جسم كل حي، إنما هي أشخاصٌ حيةٌ ذاتُ حياةٍ خاصة بها، ولها أميالها وشهواتها وأمراضها، كأنها أفراد البشر الذين يتألف من مجموعهم جسم العمران. والحيوانات الدنيا كالمفصلة والديدان يمكن تقسيمها إلى أجزاءٍ تبقى حية بعد التقسيم كأنها مملكةٌ تقسَّمت، بخلاف الآلات الصناعية. ورُبَّ مُعترض يقول: «إن ذلك لا يمكن في الحيوانات العليا.» فنُجيب أن في إمكان بعض أجزاء هذه الحيوانات أن يبقى حيًّا بعد موت الحيوان كالأظفار والشعر، ويمكن فصلها كذلك من حيوان وإلصاقها بحيوانٍ آخر حيث تبقى حية،١ فهي أشبه شيء بأمَّةٍ أُضيفت إلى أخرى. وإذا كانت الحيوانات العليا لا تستطيع أن تبقى حية بعد تقطيعها إلى حدٍّ معلوم، فذلك لأن اختصاص الأعمال فيها أتمُّ منه في الحيوانات السافلة؛ فهي أشبه شيء باجتماعات بعض أنواع الحيوان التامة الانتظام كالنمل؛ فإن المُتعوِّد منها على تحصيل قُوْته بواسطة غيره يموت إذا فُصِل عن البعض الآخر.

•••

وهذا التعاون بين أعضاء الأجسام الحية، بحيث إن الواحد يعمل لنفسه وللكل في آنٍ واحد، جرَّ معه قضيتَين فاسدتين في حقيقة الحياة؛ إحداهما تتعلق بالسبب والأخرى بالغاية. أما الأولى فيُفرَض فيها أن كل جزء من الأجزاء الحية له فوق ميله الخاص قوةٌ خاصة تتولَّى أمره بالنسبة إلى نفسه وإلى غيره، وهي القوة الحيوية التي عضدها رجالٌ من أهل المكانة في العلم. والحق أنه لا يُفهَم بماذا تختلف هذه القوة عن سواها من القُوى التي توهَّموا وجودها قديمًا، ككراهة الطبيعة للفراغ والقوة النابضة للشرايين، وغيرهما من القُوى التي عدَّها القدماء أنيَّاتٍ مجردةً مستقلة، حتى أبان العلم فساد ذلك؛ إذ لم يرَ فيها سوى أسبابٍ طبيعيةٍ متَّصِلة ومُرتبطة بعضها ببعض. وأما الثانية وهي الغاية، فيُفرَض فيها على ما يظهر أن كل جزء من الحي موفَّق للكل بقوةٍ عاقلةٍ كائنة فيه أو خارجة عنه. فإن كان هذا هو المفروض حقيقة فالعلم اليوم في غنًى عنه؛ لإمكان تعليل المطلوب بأوفى بيان على وجهٍ لا يقتضي هذا الفرض، فإن هذا التعاون الذي فيه يخدم الواحد الكل والكل الواحد إنما هو نتيجة تفاعُل مُتبادَل بين الأعضاء، فالعضو الواحد لا يهتمُّ بغيره، ولا يشتغل إلا لخير نفسه، وإنما خيره مرتبط بخير غيره.

والأمر بالحقيقة كذلك، فإنه لا شيء أطمع من الكُريات الحية التي تؤلِّف الجسم الحي؛ إذ كل كرية تطلب كل شيء لنفسها وتجذبه إليها، والحياة ليست سوى اكتفاء هذه المطامع. فالناظر إلى النتيجة لا جرم يظن، في أول الأمر، أن كل كرية إنما اشتغلت لسواها، وهي في الواقع لم تشتغل إلا لنفسها بدون غاية سوى حفظ ذاتها، وهذا كائنٌ ضرورةً بحفظ سواها، ومُرتبط به ارتباطًا ميكانيكيًّا؛ ولذلك قال بعض الباحثين في العمران إنه ينبغي لكل واحد من البشر أن يشتغل لخير نفسه، فيشتغل لخير الكل. ولا يخفى أن تنازُع البقاء، كما هو مذهب داروين، يجعل بين هذه الكريات التي هي بالحقيقة حيواناتٌ صغيرة تنازُعًا شديدًا، تكون نتيجته مُلاشاة البعض العديم المُناسبة، وحفظ البعض الآخر المُناسب لحياة الكل بالانتخاب الطبيعي. فتأخذ الكريات بذلك صورًا معلومة، وتؤلِّف حيوانًا معلومًا. وهكذا على مر العصور ليس فيها شيءٌ ثابت ثبوتًا مُطلَقًا، بل كل شيء فيها في حال المصير. فالتعاون بين أعضاء الأحياء ليس قصدًا، وإنما هو نتيجةٌ لازمة فقط.

•••

وإذا تقرَّر ذلك فلننتقل من اجتماعات الكريات الحية الصغيرة التي تؤلِّف الأحياء الكبيرة إلى اجتماعات البشر التي تؤلِّف الأمم، فإننا نجد في الاجتماع البشري نفس ما في كل حي؛ أعني الميل الباطن لحفظ الذات، والتفاعل الظاهر مع الأشياء التي من خارج بما في ذلك من تنازُع البقاء والانتخاب الطبيعي. وإذا كان ذلك حياة فالعمران حي أيضًا كالنبات والحيوان، بل حياته أتمُّ من حياتهما؛ لأنه إذا كان هناك قصد فإنما هو في الاجتماع البشري؛ لأن هذا الاجتماع يُدرِك حاجته ويقصد غايته الخاصة والعامة معًا، وهذا الفرق نسبيٌّ أيضًا كارتقاء سلسلة الأحياء بعضها عن بعض.

وقد اعترض بعضهم على هذه المُشابهة بين جسم الحي وجسم العمران، فقال: «إن أعضاء الحي متَّصِلة، وأعضاء العمران مُنفصلة.» وهو اعتراضٌ ساقط وقولٌ منقوض؛ لأن أجزاء العمران غير مُنفصلة حقيقةً، وإلا لزم القول بالفراغ، كما أن أجزاء الحي غير متَّصِلة كذلك. وإذا كان بينهما فرق في ذلك فإنما هو في بُعْد المسافات بين الأجزاء فقط كالفرق بين جسمَيهما؛ فإن جسم العمران أكبر من جسم الحيوان، وهو فرقٌ نسبي لا يصح أن يكون اعتراضًا. واعترض غيره اعتراضًا يتعلق بالزمان، فقال: «إن الحي يُولَد ويحيا ويموت بعد أن يمرَّ بأسنانٍ معلومة، والعمران وإن كان يُولَد ويحيا كذلك إلا أنه [في زعمه] لا يموت.» وهو غير صحيح أيضًا؛ لأن الأمم والشعوب التي تتولد في العمران تهرم وتموت أيضًا، والفرق بين العمران والحي في طول العمر فقط، والعمران لم يتجاوز بعدُ سن الصِّبا، وربما كان المستقبل يتهدَّد العمران كله بالهرم والموت ككل حي سواه؛ إما لتغلُّبِ نوعٍ آخر من الأنواع الحية عليه، وإما لتغيُّر أحوال أرضه التي هي مهد حياته، فيعرض لها من القواسر الطبيعية ما يُفرِّق اتصالها ويُبدِّد أجزاءها ويُلاشي نظامها، فيموت الاجتماع البشري ضرورةً. على أن الأرض ككل شيء سواها لا تتلاشى حقيقةً، وإنما تتقلب أحوالها وتتبدل أشكالها وتتفرَّق أجزاؤها في محيط هذا الكون، وتتحوَّل من حال إلى حال، وتُبعَث من صورة إلى صورةٍ مُتحركة على الدوام ومُنتقلة في الزمان والمكان، وهذا هو بالحقيقة الموت.

وما الموتُ إلا عودةٌ بعد بدأة
وما البعثُ إلا بدأةٌ بعد عودةِ
ولكنه موتٌ لنا عن وُجودنا
وبعثٌ لأشتاتٍ لنا لا لجملةِ
سكونٌ لمن قد مات منَّا وراحةٌ
وإن لم يكن فيه له من سكينةِ

فترى ممَّا تقدَّم أن المُشابهة في الخلق بين العمران والحي تامةٌ من كل الوجوه، وفيما يأتي سنبحث عن هذه المُشابهة بينهما في الأخلاق.

•••

وإذا انتقلنا من النظر إلى الكليَّات الكبرى المُتعلقة بالعالم أجمع، والمُترتبة على تشبيه الاجتماع بالحي كما مرَّ آنفًا، إلى النظر فيما اختصَّ منها بالاجتماعات البشرية؛ كان لنا من ذلك نتائج تختصُّ بالسياسة ذات بال، نقتصر منها في هذا المقام على ما هو أهم.
  • أولًا: أن ارتباط أعضاء الجسم الاجتماعي بعضها ببعض على الصورة التي ذكرنا يجعل التأثير الواقع على العضو الواحد يمتدُّ ضرورةً إلى سائر الأعضاء. فالشارع كالطبيب يلزمه أن يكون حكيمًا في مُداواة عِلل الجسم الاجتماعي؛ لئلَّا يُداوي علة في عضو فيُحدِث علة في عضوٍ آخر. فالالتفات إلى طائفة من الناس وترك ما سواها يُنمي المُلتفَت إليها جدًّا ويُضعِف المتروكة، فتفقد النسبة بين أعضاء الاجتماع؛ إذ تصبح فيه على طرَفَي الضعف والقوة فيختلُّ نظامه، ويئول به الحال إلى السقوط والاضمحلال.
  • ثانيًا: إذا كانت الاجتماعات أجسامًا طبيعيةً لا صناعية، وكان الاجتماع نفسه حاصلًا لزومًا لا عارضًا؛ أفلا يُستدلُّ من ذلك على ما يكون من سوء العقبى للإصلاحات العنيفة الجارية على غير المجرى الطبيعي؛ أي الناشئة عن غير تغيُّر الإرادة العامة تغيرًا ذاتيًّا؟ فالحيُّ لا يستطيع أن يحتمل تغييرًا مهمًّا ما لم يكن هذا التغيير مُوافقًا لأميال أعضائه غير مختلف عن طبيعته. ولقد تقدَّم أن الاجتماع حيٌّ مُتراضٍ؛ أعني أن الذي يجمع أعضاءه ويربطها بعضها ببعض ليس المُلاصقة البسيطة، وإنما هو الرابط الإرادي. وهو بمثابة الرابط الميكانيكي؛ لأنه يوجد رابطٌ عقلي بين أهل المدنية، وهو بمثابة الرابط الميكانيكي بين الكريات؛ ولذلك وجب أن يكون التغيير الحاصل في الاجتماع مُوافقًا لإرادة الجمهور أو للقسم الأكبر منه. والإصلاحُ المُلقى على عاتق الاجتماع، ولا يُقصَد منه إلا خير البعض، أو هو ناشئ عن إرادة البعض فقط، إنما هو إصلاحٌ صناعي أو قسري؛ أي غير طبيعي، جيء به قبل وقته، ويُخشى من عواقبه. وبالضد من ذلك، كل إصلاح جزئي أو كلي ناشئ عن التراضي والاتفاق بين كثيرين أو بين الكل، فهو إصلاحٌ طبيعيٌّ قانوني. والفرق بين الطبيعي والصناعي ظاهرٌ كالصبح؛ الأول مُوافق للطبيعة والثاني مضادٌّ لها. وبما أن الإنسان طبيعيٌّ في الأصل كان كل ما يسير به على غير المجرى الطبيعي غير نافع له، بل مضرٌّ به؛ فسياسة الاجتماعات العاقلة ينبغي أن تكون طبيعية لكي تكون نافعة؛ أي يلزم أن تكون مُوافقة لإرادة الجمهور ولميله، وإلا لم تُحمَد عائدتها؛ لأن الأمر الجاري مجرًى لا يُوافق إرادة أعضاء الاجتماع إنما هو جارٍ على غير وفق الإرادة الحيوية التي هي الرابط للجسم السياسي.

ثم لمَّا كان إجماع الإرادات في العمران على أمرٍ غير ممكن غالبًا، وكان القسم الأكبر يبقى معه عددٌ قليل من الناس غير مُوافق له؛ كان لنا من ذلك قاعدةٌ ثالثة في السياسة، وهي ضرورة التدرُّج في الانتقال من حال إلى حال، بحيث لا تكون المُباينة بين القديم والحديث والحاضر والمستقبل كليةً، وإلا اعترض الانتقالَ موانعُ لا تُقاوَم ولا تُحمَد معها النتيجة. وتشتدُّ الحاجة إلى هذا التدرُّج كلما كانت النتائج الجامعة للإرادات السابقة كالعوائد والاعتقادات أشدَّ وأرسخ. والحاصل أنه يصعب جدًّا في جسمٍ كبير كالحيوان الاجتماعي تغييرُ الجسم كله دفعةً واحدة؛ للزوم استعداده إلى الأحوال الجديدة بتوفيقه لها شيئًا فشيئًا. قال سبنسر: «إن الضرر الذي يلحق بالاجتماع من نزع شرائعه القديمة قبل إحكام شرائعه الجديدة حتى تصلح لأن تقوم مقامها، ليس أقل من الضرر الذي يلحق بحيوانٍ من جنس ما يعيش بين الماء واليابسة إذا نزعت خياشيمه قبل أن تكمُل رئتاه. فالنتيجة الكبرى المُتحصلة من فيسيولوجيا الاجتماعات إنما هي تفضيل النشوء على الثورة. وأعظم وسائط الارتقاء بالنشوء إنما هو الاتفاق الذي لا يُقرِّر شيئًا إلا تدريجًا، وبعد أن يتمَّ التراضي عليه.»

•••

ولا ينبغي أن يُفهَم من ذلك أن الثورات مُضرَّة في جميع الأحوال، كما يزعم بعض المؤرخين؛ لأنه توجد أحوالٌ خاصة لا يمكن تخلُّص الجسم المُتواني والمريض فيها إلا بثورةٍ فيسيولوجية كبُحْران مثلًا، أو نوبة حمَّى تُخلصه من خطر الموت. وهذا يدلُّنا على أن الاجتماع لا بد له في بعض الأحوال من ثورةٍ تُخلصه من خطر الهلاك. ويلزم أن تكون الثورة صادرة عن استعدادٍ باطن، كأنها اتفاقٌ خفي بين أعضائه مُوافقة لأمياله؛ أي أن تكون عبارة عن صوت الشعب لكي تكون قانونية، وإلا انقلبت شرًّا عليه. والثورة التي تكون كذلك هي ثورةٌ لا تُغلب ولا تُقاوَم؛ لأنها ليست من أفعال الآحاد، بل هي عبارة عن تخلُّص الجسم كله مما ثقُلت وطأته عليه تخلصًا طبيعيًّا قانونيًّا؛٢ لأنها ليست بالحقيقة سوى فعلٍ سريع لقوًى مُتجمعة تجمعًا بطيئًا في زمنٍ طويل، أشبه شيء بالزوبعة التي تتجمع في سنين كثيرة ولا تثور إلا في يومٍ واحد، ثم تهجع؛ ولذلك يُقال إن النشوء هو القاعدة، وأما الثورة فأمرٌ شاذٌّ رديء غالبًا، وإن كان قانونيًّا نافعًا أحيانًا.

•••

فيُرى ممَّا تقدَّم أن كلًّا من نُصراء الثورة والمُحافظين يجد في التاريخ الطبيعي سندًا لمذهبه، واتفاقُهما إنما هو في الحرية، والحرية نتيجةٌ لازمةٌ مُتحصلة للسياسة من علم الحياة. فأهل الاستبداد الذين يعتمدون على العنف والقوة لا شك أنهم يجهلون الصفة الحية للاجتماع، ويعدُّونه كآلةٍ مُصطنعة، ويتصوَّرون النظام الاجتماعي كالنظام المادي غير الحي. ففي الآلات المُصطنعة غير الحية لا تجتمع الأجزاء بعضها إلى بعض إلا بقوةٍ خارجة عنها غير مستقرة فيها، تحفظها ساكنة أو تُحركها، والوحدة الظاهرة فيها آتية من الصانع، وهي في الصورة فقط لا في الحقيقة؛ فإن طبيعة العناصر فيها لم تتغير، فالخشب يبقى خشبًا والحديد حديدًا، والأجزاء المختلفة لا تُتمِّم العمل المطلوب إلا قهرًا بسلسلة أفعال قهرية، وكل جزء ميَّال من نفسه لإبطال فعل الآخر، وإذا كان بينها تعاوُن أو ظاهر اتفاق فإنما هو على ضد طبيعتها ولا يدوم. وكل نظام ملقًى قهرًا غير مرتضًى به لا بد من أن يختلَّ، وهو تضامُّ الأشياء المادية لا الحية، والسلام الظاهر والحالة هذه أشبه شيء بسلامِ مدينةٍ دخلها العدو؛ فإنه لا يدوم إلا ما دامت القوة المُثقِلة على حركاتها المُخمِدة لأنفاسها مُتغلِّبة عليها. فالرابط الذي يربط الاجتماع لا يتمُّ نظامه بالاستبداد والقوة وإن قام بهما أحيانًا؛ لأنهما ليسا من جوهر طبيعته، بل هما دليلٌ على عدم كماله. وفي الجملة فحينما يبتدئ الاستبداد والقوة ينتهي الاجتماع الحقيقي بين البشر، والاجتماع البشري لا يقوم حقيقة إلا بالشوق الغريزي، ولا يكمل إلا بالتراضي والاتفاق. فبذلك يتمُّ النظام الاجتماعي لا بسواه؛ إذ تكون القوة المُدبِّرة مستقرة في كل عضو من أعضائه، بحيث يشتغل لنفسه ولسواه معًا من ذاته وفي آنٍ واحد.

•••

ولننظر الآن إلى سياسة الطبيعة في الأحياء ونُقابلها بسياسة الاجتماعات؛ لعلنا نستنتج فوائد سياسية من ذلك. فاعلم أن في الحي كما في الجسم الاجتماعي أفعالًا متروكة لعهدة كل شخص، وغيرها متروك لعهدة مراكز ثانوية أو جمعيات خصوصية، وغيرها لعهدة المركز الأعظم القائم مقام الجسم كله. فأولًا: الحي يترك كل كُرية من الكريات المؤلَّف منها تشتغل لذاتها تحت سلطان القُوى المستقرة فيها. والعامل في هذه القوى مرجعه كما تقدم إلى أمرَين: المنفعة والشوق. فكل كرية تُحسُّ بنفسها وبجارتها بالشوق الكائن فيها إليها، بحيث تصير مصلحة جارتها عندها كمصلحتها. ثم تجتمع الكريات وتتألف باشتراك المنفعة والشوق، وتتبادل الغذاء والحركات. وذلك أشبه شيء بالمُبادلة التي تقع بين البشر، والحاصلة فيهم بدون تداخل القوة المركزية، أي الحكومة، بناءً على ما فيهم من الأميال، وما لهم من المنافع المشتركة لا لعلةٍ أخرى.

ثانيًا: يوجد في الحي مراكزُ ثانويةٌ وأعضاءٌ مهمة على جانب من الاستقلال، أشبه بممالكَ صغيرةٍ في مملكةٍ كبيرة، وهي الأحشاء المختصُّ بها إعدادُ الغذاء وتطهيره وتوزيعه؛ أعني بها المعدة والرئتَين والقلب. فهذه الأحشاء غير خاضعة للعضو المُدبِّر؛ أعني الدماغ. فالمعدة تهضم الطعام، والقلب يُوزِّع الدم في البدن، والرئتان تُطهرانه بتعريضه للهواء، أراد الدماغ أم لم يُرد. وقد يبلغ استقلال أعضاء التغذية مبلغًا عظيمًا جدًّا؛ فالأمعاء لا تزال تفعل أفعالها الخاصة ولو قُطعت الأعصاب التي تُوصِّلها بالدماغ، والقلب لا يزال يضرب بعد نزعه من الجسم، ولا سيَّما في الحيوانات ذوات الدم البارد، وفي بعض الحيوانات اللبونة أيضًا كدب القطب، والكبد لا تزال تُفرِز الصفراء وتولِّد السكَّر بعد ذبح الحيوان ونزف دمه. وقد يكون تركيب بعض الحيوانات السافلة المائية مُختلطًا جدًّا، بحيث تشتغل أجزاؤها بعضها لبعض وكلها للكل. ومع ذلك فليس لها جهازٌ عصبي؛ فهي هنا في غنًى عن سلطانٍ مركزي أو قوةٍ خارجة عنها تتولَّى تدبيرها، وإنما تفعل ذلك من نفسها بناءً على ما في العناصر التي تؤلِّفها من الأفعال الذاتية، أي من قابلية الحس والتهيج؛ ومن ثَم من الأميال المنفعية والاشتياقية المُوجبة لحصول المُبادلة بينها كما يحصل التعاون بين البشر. فوظائف التغذية والنمو تتمُّ بدون توسُّط الدماغ كما ترى.

وأما وظيفة الدماغ فقاصرة على الأعضاء الظاهرة؛ أي أعضاء النسبة التي بها يعرف الحي الأشياء التي من خارج، فيأمرها بأخذ اللازم منها واتقاء الضار؛ إذ يكون له عليها سلطانٌ يتصرَّف فيها بحسب مُقتضى الحال. فوجود جهاز عصبي، والحالة هذه، له مركز كالدماغ مُقتدر على أن يجعل الأعضاء تخضع له خضوعًا تامًّا، لازمٌ لسلامة الحي. على أن الجهاز العصبي نفسه لا يكون دائمًا خاضعًا لسلطان المركز، أعني الدماغ، بل للمراكز العصبية الثانوية. ففي الحشرات كل عقدة تُحرِّك الأطراف المُتعلقة بها لمُقاومة ما يُمانعها، وإذا دهم الإنسانَ أمرٌ يُخشى منه على عينَيه، فإن جفنَيه ينطبقان للحال بحركةٍ ذاتية؛ أي قبل أن يكون له فرصةٌ للتفكُّر بالخطر وبكيفية اتقائه، وإذا عثر إلى الأمام فإنه يقعنسس إلى الوراء بحركةٍ ذاتية لمُقاومة العثرة، أو إنه يستلقي الأرض بيدَيه خوفًا من السقوط على الأعضاء الرئيسة؛ ليتَّقي بذلك شرًّا أكبر بشرٍّ أصغر. فنرى ممَّا تقدَّم أن أعضاء النسبة الظاهرة نفسها تستغني في أحوالٍ خصوصية عن انتظار حكم الدماغ، وتستقلُّ عنه كما تستقل الأعضاء الباطنة.

•••

قال الذين يُقيمون حدًّا فاصلًا بين الاجتماع والجسم الحي: «إن أفعال أعضاء الاجتماع مُغايرةٌ في نوعها لأفعال أعضاء الجسم الحي؛ أعني أن أفعال أعضاء الحي ترتبط بعضها ببعض ارتباطًا فزيولوجيًّا، وأما أفعال الاجتماع فإنها ترتبط بعضها ببعض بالحس والأفكار؛ أي برباطٍ عقلي.» وقال غيرهم: «إن أفعال الفريقَين من نوعٍ واحد؛ لأن الكريات الحية التي هي أجزاء الحي، أي أعضاؤه، ليست عديمة الحس، بل بالضد من ذلك هي ذات حس أيضًا؛ إذ الحس الذي في الجسم الحي كله إنما هو هذا الحس عينه في حال التزيد والتجمع. فارتباط أعضاء الحي بعضها ببعض ليس بالحصر فزيولوجيًّا، بل فيه شيء من العقل أيضًا وإن يكن في حالةٍ دنيئة جدًّا؛ ولذا يُعتبر ارتباطًا عقليًّا. وهذا ما يجعل علم الاجتماع المعروف بالسوسيولوجيا داخلًا في علم الحياة المعروف بالبيولوجيا.» وليس في هذا القول شيءٌ من الغلو والتكلف؛ لأن الحدود المُميزة بين العلوم المختلفة كالحدود المُميزة بين مواليد الطبيعة، صناعية لا طبيعية.

•••

وإذا تأمَّلنا حقيقة الرابط الذي يربط كل اجتماع معًا، سواءٌ كان هذا الاجتماع بين كريات الجسم الحي أو بين أفراد الحيوانات أو البشر، وجدنا أنه واحدٌ في الأصل. فالرابط بين الكريات الحية التي يتألف الجسم الحي منها ليس إلا الميل البسيط المغروس في كل شيء لحفظ ذاته أولًا؛ لأن كل شيء في الأصل يدور حول مركز نفسه بالشوق الحاصل فيه إليه، وذلك هو محبة الذات المُنفردة، ثم يتحوَّل هذا الميل في الكريات إلى ميلٍ مركَّب لحفظ ذاتها بحفظ ذات سواها؛ لأن اجتماعها بعضها مع بعض اجتماعًا بسيطًا في أول الأمر لا بد من أن يؤثِّر في طبيعتها تأثيرًا مهمًّا، بحيث تصبح حياة بعضها مُتوقفة ضرورةً على حياة البعض الآخر. فالكرية حينئذٍ لا تميل لحفظ ذاتها فقط، بل لحفظ علاقتها مع سواها أيضًا؛ لأن كل شيء في الفرع يدور حول مركز غيره بالشوق الحاصل فيه إلى مركز نفسه، وذلك هو محبة الذات المشتركة، ثم تتحوَّل هذه المحبة المشتركة العمياء إلى محبةٍ مشتركةٍ عاقلة في أعضاء الاجتماعات التي لها قوة الإدراك، لا الحس والتهيج فقط.

•••

واختلفوا في سبب هذه المحبة العاقلة بين الحيوانات المُدرِكة؛ فذهب قومٌ وفي مقدمتهم سبينوزا إلى أنها مُسبَّبة عن اللذة الحاصلة لهذه الحيوانات من مُشاهدة صورها في أمثالها؛ بناءً على أن اللذة قائمة بسهولة الفعل. قالوا وأسهل الأفعال على الحيوان استحضار صورة على صورته، كما هو مقرَّر من أن الاستحضار لا يتمُّ بواسطة الدماغ وحده، بل بواسطة كل الجهاز العصبي؛ ولهذا كان الحيوان المُدرِك إذا أراد أن يتصوَّر هيئة أو أن يتذكَّر صوتًا يشرع في أن يُقلِّد تلك الهيئة ويُحاكي ذلك الصوت. ولا ريب أن الحركات والهيئات والأصوات المُتعوِّد عليها هي أسهل عليه من سواها ممَّا لم يتعوَّده، وكلما كانت عنه أبعد كان استحضارها عليه أصعب، فيُولد فيه الكراهة لها؛ ولذلك كان القرد يرتعب جدًّا من رؤية الحرباء. فإذا تكرَّرت هذه اللذة اشتدَّ الشوق لتجديدها حتى ينقلب الشوق مودَّة، وتصير المودَّة فزيولوجية بعد أن كانت عقلية، فتنتقل بالوراثة وتؤثِّر في الأعضاء، بحيث يصير الاجتماع معها ميلًا غريزيًّا، فيُولَد الحيوان المُدرِك وصورة أمثاله مُنطبعة على دماغه، كما يُولَد الطائر وصورة العش مُنطبعة على دماغه. ويشتدُّ هذا الميل بالانتخاب الطبيعي حتى يحصل الاجتماع أخيرًا بالسليقة الغريزية.

•••

وذهب غيرهم وفي مقدمتهم داروين إلى أن هذه المحبة سببها المنفعة. وردَّ عليهم أصحاب القول الأول بأنه مسلَّمٌ أن الحي لا يحفظ صفةً إن لم يكن له منفعة منها، ولكن قد يحدث أولًا أن تنشأ هذه الصفات عن أسبابٍ غير المنفعة؛ فإن الطائر المعروف بالأبتر Manchots مثلًا إذ يكون على الأرض يصطفُّ بحسب سنه الصغار في جانب والكبار في جانب والإناث في جانب، وتطرد كل فئة الفئةَ الأخرى عنها، والظاهر أن ذلك حاصلٌ فيه عن لذة اجتماع المثل بمثله لا عن سببٍ آخر. وثانيًا: أن تكون الصفة النافعة في الأحوال العامة مُضرَّة في بعض الأحوال الخاصة؛ فتعشيش بعض أنواع الطيور مثلًا بالقرب من مساكن البشر غير مُفيد له، وكذلك اجتماع الببغاء وصراخها حول ما يُقتَل منها غير مُفيد لها، وقِسْ عليه. فالميل الاجتماعي هنا لم ينمُ بالنظر إلى منفعته؛ لأنه قد يبقى هو ولا تبقى منفعته، وإنما بالنظر إلى اللذة الحاصلة للمثل من مثله. وإذا دقَّقنا النظر نرى أن اللذة والمنفعة مرجعهما المُوافقة بالمُطابقة. والموافقة بالمطابقة أعمُّ؛ فقد تكون اللذة، وقد تكون المنفعة، وقد تكون سواهما. وهذه المُوافقة لا تكون لجميع الأحوال بل لغالبها، والصفات المُكتسَبة عنها ترسخ حتى يعرض لها على مر الزمان ما يغلبها ويُحولها عن حالها؛ ولذلك كانت الصفات المسمَّاة غريزيةً أو بديهيةً تبقى زمانًا طويلًا ولو زالت المنفعة، كما في المثال المُتقدم ذِكره.

•••

ولنعُد إلى ما نحن بصدده، فنقول قد ظهر أن المُشابهة بين جسم الاجتماع والجسم الحي من حيث ارتباط أعضاء كل منهما بعضها ببعض هي مُشابهةٌ تامة؛ لأن الرابط الذي يربط كلًّا منهما هو واحد في الأصل، وهو الشوق الأعمى الحاصل في المثل إلى مثله، ثم يعقب ذلك في الاجتماع الحيواني تقسيم الأعمال والتعاون، وذلك شبيهٌ أيضًا باختصاص الوظائف في الجسم الحي. ولا يخفى أن اختصاص الوظائف في الجسم الحي كلما نما زاد معه خضوع الأعضاء بعضها لبعض، حتى يختصَّ السلطان الأعظم بواحد منها (أو بأكثر من واحد، ولكن بمقام الواحد)، إلى أن تصير حياة هذا الواحد بمقام الكل، كالدماغ في الجسم الحي المُرتقي. وهذا موجود في الاجتماع الحيواني أيضًا؛ فإن الحيوانات المجترَّة والصفيقة الجلد والقرود يكون لكل جماعة منها رؤساء تسُود على الكل، كما يسُود الدماغ في الحي على سائر أعضاء البدن، ثم يقوى سلطان هذا الرئيس حتى يصبح موضوع اعتناء الكل. ويتضح ذلك في جسم الاجتماع الحيواني أكثر ممَّا في جسم الحي نفسه؛ لأن أعضاء جسم الاجتماع الحيواني يكون في تعاوُنها وخضوعها من الإدراك والاختبار ما لا يكون في أعضاء الجسم الحي.

فالرئيس في الاجتماع الحيواني كثيرًا ما يستقرب إليه أتباعه بالتمليق، وهو غير ذاهل عمَّا له عندها من رفيع المقام، وما عليه لها من المسئولية أيضًا؛ فقد حكى «برهم» أن إناث القرود يجتمعن حول القرد الشيخ، ويبذلنَ العناية في تفليته من القمل، فيطيب نفسًا بذلك، ولكن لا تأخذه غفلة عن مصلحة الجمهور؛ فهو دائمًا يقظان يُجيل عينَيه من مكان إلى مكان، ويصعد من وقت إلى آخر إلى رأس شجرة عالية ليستكشف ما في الجهات المُجاورة، ثم يُخبر سائر القرود بنتيجة استكشافه، سليمة كانت أو غير سليمة، بأصواتٍ خصوصيةٍ مفهومة عندها. وهذه الأفعال التي تربط أفراد الاجتماع الحيواني، وهي تقسيم الأعمال واختيار العمال، هي الرابطة لأفراد الاجتماع البشري أيضًا. وهذا يدلُّنا على أن في الحيوان جرثومة ما هو نامٍ جدًّا في الإنسان، كما أن في الكريات الحية نفسها جرثومة ما هو نامٍ جدًّا في الحيوان.

•••

فالاجتماع الحيواني هو جسمٌ حيٌّ تتعاون أجزاؤه كلها، كما يقول أبقراط، وتؤلِّف كلًّا حيًّا يتعاون تارة في أعمالٍ مشتركة كتعاوُن القندر في بناء بيوته، وبعض أنواع الطير في بناء أعشاشه، وتارةً في أعمالٍ خاصة؛ ممَّا يدل على محبةٍ حقيقية بين أعضائه، كمُعاونة القرود بعضها بعضًا لنزع الشوك من جلدها، واجتماعها على حجرٍ كبير لكي تقلبه، وانتصار بعضها لبعض لدفع نازلة، ولو كان في ذلك خطر على حياة المُنتصر. وقد تبلغ هذه المحبة فيه إلى حد الإخلاص الشديد الذي هو من أخصِّ صفات البشرية وأرفعها شأنًا؛ فقد ذكر برَهم ما يُثبِت ذلك في القرود. قال: «بينا أنا واقفٌ سمعت فوق رأسي صراخ قرد، فنظرت وإذا قردٌ صغير على شجرة قد تركته أمه وهربت مذعورة، فصعد إليه أحد أتباعي، فلما أبصره القرد صرخ صراخًا شديدًا، فللحال جاوبته أمه وارتدَّت لتأخذه، فصرخ حينئذٍ صرخةً ثانيةً خصوصية، جاوبته أمه عليها بصرخةٍ خصوصية كذلك، فرماها أحد الواقفين بالرصاص، فانجرحت وولَّت هاربة، لكن صراخ ابنها لم يدعها تبتعد كثيرًا حتى رجعت إليه، فرُمِيت ثانيةً بالرصاص فأُخطئت، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تثب إلى الغصن بعد عناء عظيم، فلما وصلت إلى ولدها أسرعت فوضعته على ظهرها، وأوشكت أن تبتعد به، وإذا برصاصةٍ ثالثة أُطلقت عليها، رغمًا عن مُمانعتي، فكانت القاضيةَ. ومع ذلك فلم ترمِ بولدها إلى الأرض، بل ضمَّته إلى صدرها، وهي تجُود بالروح، حتى قضت نَحْبها وهي تُحاول أن تهرب به.»

وقال أيضًا: «إن قردًا شيخًا هجم على الكلاب هجمة الأُسود؛ لكي يُخلص قردًا صغيرًا من بين أنيابها، وما ارتدَّ عنها حتى رجع به، وقد حمله على منكبه.» فلا شك أن المبدأ الباعث على هذه الأفعال يقرب جدًّا من مبدأ أخلاق الإنسان، لا نقول في إنسانٍ مثل أرسطو ونيوتن مثلًا، بل في مُتوحش أو طفلٍ صغير، ثم يتحوَّل هذا المبدأ من الشوق الأعمى في الكريات الحية إلى بديهيات الحيوان، إلى معقولات الإنسان حتى يكتمل في الاجتماع البشري، فيصير الشوق محبةً والمحبة إخاءً والإخاء تعاونًا والتعاون عدلًا، وتعيين الوظائف الرفيعة وانتخاب الرجال لها حكومة، فتكتمل حياة الاجتماع العقلية كما تكتمل أيضًا حياته الفزيولوجية.

على أن سبنسر الفيلسوف الإنكليزي لا يرى هذا الكمال في حياة الاجتماع الفزيولوجية؛ لأنه يقول إن في الحيوان جهازًا عصبيًّا هو مركز الأعمال العقلية، وأما في العمران فليس يوجد ما يُشبِه ذلك. وردَّ عليه بعضهم بقوله: «بل ذلك موجود أيضًا؛ فإن أدمغة الأمة بمثابة الدماغ، وإن العواطف والحواس والنطق وسائر العلامات والكتابة والتلغراف وكل وسائط الاتصال بمثابة الأعصاب التي تنقل الحس، وتُوصل الحركة إلى كل أجزاء البدن، وإن العيال بمثابة العُقَد العصبية التي هي عبارة عن أدمغةٍ صغيرة يجتمع الحس فيها ويقوى، والمدن بمثابة الفقرات، والعاصمة من المدن بمثابة الرأس الذي هو فقرةٌ عظمت حتى سادت على سواها، والعلماء والحكماء وكل الذين يُرشدون الأمة هم بمثابة الكريات المُرتقية في الدماغ، الذي هو نفسه لا يزيد عن عقدةٍ عصبيةٍ عظمت على سواها كما عظم الرأس على سائر الفقرات. فإن كان اشتراك كل أعضاء العمران بالفكرة يجعل العمران أرفع جدًّا من سائر الأحياء، فهذا الارتفاع لا يجوز أن يكون فرقًا جوهريًّا، كفرق الإحياءِ نفسها عمَّا هو دونها. وعليه ففي الجسم الاجتماعي جهازٌ عصبي لوظائف النسبة، كما فيه جهازٌ دوري وجهازٌ غذائي، فهو حيٌّ تامٌّ لا ينقصه شيء فزيولوجيًّا.»

لولا الهوى وبديعُ الشوق يَهديهِ
ما صحَّ في الكون معنًى من مَعانيهِ
ولا سرى النجمُ في العلياء وانتظمت
له المواقعُ تُقصيه وتُدنيهِ
ولا استقامت حياةٌ في الوجود ولا
تمَّ الوجودُ ولا تمَّت مبانيهِ
شوقٌ تكامَلَ من أدنى الوجود ولا
أعلى فأعلى إلى أعلى أعاليهِ
حتى تناهى وقلبُ المرء تُلهبه
نارٌ من الحب يُذكيها وتُذكيهِ
نارٌ من الشوق في قلب المشوق ثوَت
تذكو فيُصلى ويغذيها فتُفنيهِ
ما زال والنارُ تذكو في جوانبه
حتى تفانى بما قد كان يُحييهِ
قال أحد الحكماء: «إذا كان الإنسان الكامل دليلًا على الجنين، فبالأولى أن يكون الاجتماع دليلًا على سائل الموجودات التي تؤلِّف الطبيعة، وعلى السنن الفاعلة فيها حتى طبيعتها أيضًا؛ لأن الاجتماع أولى باسم العالم الأصغر من الإنسان نفسه.»٣

قد رأينا فيما مرَّ أن كل اجتماع إنما هو تعاوُن، يبتدئ طبيعيًّا بمحبة الذات والشوق، وينتهي عقليًّا باتفاق الإرادات أو التراضي في البشر. لكن ما هي محبة الذات؟ أو ما هو الشوق نفسه سوى أول أفعال الإرادة؟ فهذه بعد أن تريد ذاتها وحدها تريد سواها من الإرادات الأُخَر لها، ثم تريده لنفسه أيضًا؛ لأن كل شيء كما قلنا يدور في الأصل حول مركز نفسه بالشوق الحاصل فيه إليه، وفي الفرع حول مركز نفسه بالشوق الحاصل فيه إلى مركز سواه، فالإرادة على اختلاف أنواعها، جاهلة أم عالمة، ذاتية أم مُشتركة، هي أسُّ كل اجتماع وجوهر كل حي. وبهذا الاعتبار يُقسم العالم إلى ثلاث رُتَب؛ أولًا: الرتبة التي تكون الإرادات فيها عمياء ذاتية، كل واحدة منها تشتغل لنفسها كأن لا يوجد سواها، وهي الجماد. ثانيًا: الرتبة التي تبتدئ الإرادات فيها أن يُحسَّ بعضها ببعض ويجتمع بعضها ببعض، لكن على سبيل الشوق البسيط فقط، وهي النبات الحيوان. ثالثًا: الرتبة التي تَصير الإرادات فيها عاقلة، تُدرك نفسها ويعرف بعضها بعضًا، ويجتمع بعضها ببعض على سبيل الاتفاق والتراضي، وهي الاجتماع البشري.

فالاجتماع البشري هو الجدير بأن يُسمَّى حيوانًا مُريدًا مُتراضيًا. وهنا مكان الوفاق بين مذهب الطبيعيين في الحيوان الاجتماعي ومذهب العقليين في العمران، فالواحد إنما يبين أصل الاجتماع والثاني غايته، والصحيح أن الواحد لا ينبغي أن يُفصَل عن الآخر؛ فتاريخ الاجتماع كله قائم بالشوق البسيط أولًا، والتراضي أخيرًا باستمالة الواحد إلى الآخر، ولا ريب أن ذلك تاريخ العالم أجمع. فالأفعال في الطبيعيات عمياء والسنن ثابتة، وهي بالحصر كذلك في العقليات، وإنما اكتسبت في هذه من القابليات ما جعل فعل الإرادات التي صارت عاقلةً أظهر فيها؛ فارتباط أعضاء الاجتماع بعضها ببعض اختيارًا كارتباط أعضاء الحيوان بعضها ببعض اضطرارًا.

•••

ومَرجع أبسط صفات الحي إلى الحس والحركة، وهاتان الخاصتان هما بالحصر الحياة. والظاهر أن الحس والحركة هما أيضًا صورتان لشيءٍ واحد؛ إحداهما باطنة والأخرى ظاهرة، فهما أشبه شيء بالمقعَّر والمحدَّب. فالحسُّ هو الكيفية التي تتصل الحركة بها إلى مشاعرنا الباطنة، والحركة الكيفية التي يتصل الحس بها إلى المشاعر الظاهرة. حرِّكْ ذراعك وأغمضْ عينَيك، فإنك تُدرك الحس لا الحركة، بخلاف الناظر إليك فإنه يُدرك الحركة لا الحس. فالحسُّ إذن هو إدراكنا الحركة الحاصلة فينا، والحركة هي إدراكنا الحس الحاصل في سوانا. والأصل الذي يرجع إليه الحس والحركة هو القوة، أو بالحريِّ الإرادةُ التي هي أسُّ كل وجود، وكل ما نعلمه يحملنا على الاعتقاد بأن الحس موجود في العالم، حيث توجد الحركة على صورٍ تتفاوت في الوضوح والخفاء. ولا يخفى أن الفاصل بين الحيوان والنبات يُعتبر اليوم صناعيًّا لا حقيقيًّا، والظاهر أنه كذلك أيضًا بين النبات والجماد.٤ نعم إنه لم يستطع أحدٌ أن يولِّد كريةً حية من كريةٍ غير حية، لكن هل يستطيع أحد أن يولِّد دقيقة من الكبريت من غير الكبريت، أو دقيقة من الأكسيجين من غير الأكسيجين، أو من مادةٍ لا أكسيجين فيها؟ أم هل يلزم من ذلك الاعتقاد ببساطة الأجسام الكثيرة المسمَّاة عناصر؛ ومن ثَم القول بخَلقٍ خاص لكل من الكبريت والأكسيجين والكربون والهيدروجين والحديد والذهب … إلخ؟ وهل يلزم كذلك القول بقوةٍ خاصة لكل دقيقةٍ معدودة في الكيمياء بسيطةٍ شبيهة بالقوة الحيوية؟ فالعلم يميل إلى ضد ذلك؛ أي إلى التسليم بأن الجواهر الفردة الكيماوية ليست غير قابلة الانقسام قطعًا، وإنما لا تقبله مع بقاء خصائصها فيها على حالها، كما أن الجسم الحيَّ لا يقبله مع بقاء خصائصه فيه. كذلك الإنسان؛ فإنك لو شطرته شطرَين ما بقي إنسانًا، فهو من هذا القبيل جوهرٌ فرد، وأما من قبيلٍ آخر فهو اجتماع.

•••

فهذه الاعتبارات تدلُّنا على أن الحياة موجودة في الطبيعة حيث توجد الإرادة على درجاتٍ مُتفاوتة، تارةً هاجعةً خفية كما في الجماد، وأخرى مُتنبهةً ظاهرة كما في النبات، وطورًا مُتمالكةً مُتعارفة كما في الحيوان، وأخيرًا مُتكاثرةً مُتقوية باشتراك الإرادات العاقلة كما في الاجتماعات والممالك. فالحياة كالأزوت تتحوَّل من حال إلى حال مُرتقيةً من أدنى إلى أعلى، إلى أن تبلُغ أرفع مقاماتها المعروفة. ألا ترى أن الفعل المسمَّى طبيعيًّا كالحرارة والكهربائية لا يُغيِّر إلا أعمَّ خصائص الأجسام، فإذا زاد عن حدٍّ معلوم تحوَّل إلى الفعل المسمَّى كيماويًّا الذي يُغيِّر تركيبها وهو هو في الحالَين، ولم يتغير إلا في الكمية؟ ولو كان في إمكاننا أن نفعل على ما هو أدق تركيبًا، ونُسلط على الأجسام حالةً خصوصية من الحرارة أو الكهربائية أو الحركة؛ لاستطعنا أن نُنبِّه الحس، ونُوقِظ الحياة أو الإرادة من نومها العميق. فقد مرَّ على الكون زمنٌ كان فيه النظام الشمسي مُشتعلًا، ولم تكن العوالم سوى دخان، ومع ذلك فلا يبعد أن شرارة الحياة كانت موجودة في هذا الأتُّون المُلتهب؛ لأنه ما لبث أن برد حتى ظهرت الحياة فيه. فالذي لا يعتقد المعجزات، أي الذي لا يعتقد إلا العلم، لا تفرَق الحياة عنده عمَّا يُسمِّيه المادة، التي هي نفسها ليست سوى مجموع قوًى أو إرادات. فكل شيء في العالم حي، وكل شيء فيه فرد واجتماع معًا. فعلم الحياة وعلم الاجتماع وعلم التكوين هي بالحقيقة علمٌ واحد، والعالم نفسه مملكةٌ عظيمة في حال التصوُّر، وربما يظهر فيه يومًا ما على صورة الفكر والإرادة العاقلة، كما ظهر فيه في الأصل على صورة حرارة أو حركة أو قوة.

•••

على أن الحكماء والطبيعيين غير متَّفِقين على النتيجة السياسية المُتحصلة من التاريخ الطبيعي. بسبب ذلك حصل نزاعٌ شديد بين اثنَين من كبار الطبيعيين والحكماء في هذا العصر، وهما هكسلي وسبنسر الإنكليزيان. فهكسلي يكره جدًّا تشبيه الاجتماعات بالأحياء لاستخراج القواعد السياسية من ذلك؛ لأنه يزعم أن التاريخ الطبيعي لا يدل إلا على السياسة الاستبدادية. وأما سبنسر فيذهب غير مذهبه، حيث يقول إن التاريخ الطبيعي يدل على السياسة الحرة. ولا يُنكَر أن هكسلي مُصيب في تنكُّره من التهافت على الاستقراء السريع؛ لأن علم الحياة وإن كان يُعلمنا على نوعِ ما هو الجسم السياسي، وكيف صار إلى ما هو عليه؛ إنما لا يُركَن إليه في معرفةِ ماذا يصير إليه يومًا ما. والعقل البشري أرفَعُ من أن يتخذ الأحياء الدنيا مثالًا له، وينقاد لها انقيادًا أعمى. ومن الخطأ أيضًا الاعتماد على مُشابهةِ ظاهرةٍ ناقصة، كما يفعل كثيرٌ من السياسيين ممَّن يُبالغ أو يُخطئ في استدلالات التاريخ الطبيعي، مُبيِّنين فضل الحكم الملكي بمثال النحل، أو فضل الحكم الجمهوري بمثال النمل. إنما لا يُنكَر أيضًا أنه لا يجب أن يُغفل أدنى شيء في هذا الوجود، حيث كل شيء ذو شأن.

فتمثيل الجسم الاجتماعي بالحي يؤدي، في نظر هكسلي، إلى حصر الحكومة في مركزٍ معيَّن حصرًا شديدًا، حيث يقول: «إن الدماغ يفتكر للجسم كله، ويشتغل له، ويحكم فيه حكمًا مُستبدًّا، وإلا لكان يحقُّ لكل عضلة في انقباضاتها، ولكل غدَّة في مُفرزاتها، ولكل كرية في أفعالها؛ أن ترفض كل حق للجهاز العصبي في ذلك بشرط ألا تضرَّ بسواها. وكيف تكون حالة الجسم يا تُرى لو كان كل عضو من أعضائه يفعل أفعاله من نفسه؟» وردَّ عليه سبنسر أن الأعضاء قسمان: ظاهرة وباطنة. فإذا كانت القوة المُنحصرة لازمة للظاهرة فليس الأمر كذلك في الباطنة؛ فهي تحتاج فقط لِما فيها من القوة الغريزية، ولا تطلب من الغذاء إلا المقدار اللازم لتُعوَّض به عن العمل الذي تعمله، وهذا هو العدل في الأحياء. والأمر كذلك في العمران؛ فإن الناس المُحاربين في الخارج، والذين هم بمثابة أعضاء النسبة الظاهرة في الحي، يحتاجون ضرورةً إلى حكومةٍ مركزية تُدبِّر أمرهم. وأما الذين في الداخل، القائمون بحركة التجارة والصناعة، والذين هم بمثابة أعضاء التغذية والدورة الباطنة؛ فبالضد من ذلك يحتاجون إلى الحرية. فاحتياج الاجتماع إلى حكومةٍ حرة أو مُستبدةٍ يختلف باختلاف كَوْنه مؤلَّفًا من أمةٍ مُتعلقة على الصناعة أو الحروب. فعلم الحياة لا يدل على الفوضى، كما يتوهم بعضهم، كما أنه لا يدل على الاستبداد.

وتداخُل الحكومة ضروريٌّ في كل الأحوال، إنما هذا التداخل، كما يقول سبنسر، نوعان: موجَب وسالب. فالموجَب كما لو زرعَت الحكومة أرضي، أو أكرهتْني على اتباع طريقة معلومة في الزراعة. والسالب كما لو اقتصرتْ فقط على ردعي عن التعدي على أرض جاري، وإلحاق الضرر به. وهذا النوع الأخير من التداخل هو اللازم في الجسم الاجتماعي، فلتضمن الحكومة تنفيذ المُعاهدات؛ أي العدل. وهكذا تكون قد تمَّمَت الوظيفة المطلوبة منها. قال الاقتصادي هويتلي: «إن أهم الأفعال التي تقوم بها حياة المملكة تتم بواسطة أناس لا يفتكرون بها، ولا يعلمون أنهم مُتشاركون، بل يسعى كلٌّ منهم وراء مصلحته فقط، وتتمُّ بضبط واعتناء وانتظام لا يصل إليه جهد أفضل المُنتبهين.» فلو فُرِض أن رجلًا عُهِد عليه أن يُقدِّم كل يوم لمدينةٍ كبرى، كإحدى العواصم المعروفة، كفافَها من الزاد وسائر ما تحتاج إليه؛ لَمَا أمكنه القيام بهذه العهدة؛ لكثرة الاحتياجات المذكورة واختلافها. ولو أُلقيت هذه العهدة إلى حكومة لَمَا تمَّ لها القيام بها بانتظام، ولأنفقَت عليها النفقات الباهظة؛ إذ يحصل حينئذٍ ما يحصل لو كان الدماغ مكلَّفًا بالانتباه لكل ما يلزم لتمثيل الدم، ولدورته في البدن، ولإخراج كل مُفرز من غدَّته. فغذاء كل مدينة يصل إليها يوميًّا بدورةٍ ذاتية، حركاتها مُنتظمة كحركات النبض. وتداخُل الحكومة الموجب لا تكون له نتيجة سوى تعاقُب الشبع والجوع على المدينة، وتداخُلها السالب يضمن لها حياتها؛ إذ تستقيم معه حركة أسواقها، ويصبح أناسها في مأمن، بعضهم من بعض، في أعمالهم وسائر أحوالهم. فتعاوُن الناس بعضهم مع بعض، بحيث لا يرفع أحدهم نظره إلى ما وراء مصلحته، كافٍ لأن يفعل في صلاح حال العمران ما لا تستطيعه حكمة أعظم الحكماء، وانتباه أعظم الحكومات.

•••

ولقائلٍ: «إن الأفعال التي يفعلها الأفراد تحت عامل المنفعة الذاتية وإن كانت كافية في الاحتياجات المادية إلا أنها ليست كذلك في الاحتياجات التي من غير هذا المعنى.» فعلى ذلك يُجيب سبنسر أنه من الخطأ أن يُظنَّ أنه لا يوجد خارجًا عن المنفعة الذاتية إلا قوةٌ اجتماعية، وهي قوة الحكومة. أليس للبشر ما عدا احتياجاتهم الذاتية احتياجاتٌ حبِّية، وهذه سواءٌ فُعلت وحدها أو اشتركت ألَا تُحدِث أفعالًا جليلة كالأفعال الحاصلة عن المنافع الذاتية؟ أتريد أن تعرف الأفعال الاجتماعية للمحبة مُنفردةً كانت أو مُشتركة؟ انظر إلى أعمال أهل البر والإحسان الصادرة عن الأفراد أو عن جمعياتٍ خصوصيةٍ لا يد للحكومة فيها.

فالمنفعة والمحبة في نظر سبنسر كافيتان وحدهما للقيام بكل احتياجات الجسم الاجتماعي، كما أنهما تكفيان لاحتياجات الجسم الحي، والحكومة لا يُطلب منها إلا أن تؤدي وظيفةً شبيهة بوظيفة الدماغ؛ أي أن تكون النائبة عن الأمة في احتياجاتها المنفعية والحبِّية سالكةً في ذلك سبيل العدل. فدماغ الحيوان مَقرٌّ لنيابةٍ حقيقية عن الجسم كله يلزم أن تكون نموذجًا للحكومة. والأمر بالحقيقة كذلك؛ فإن الأعضاء تُرسِل أنباءها إلى الدماغ، وتحصر فيه لذَّاتها وآلامها، وتشكو له حاجاتها، وتُخبره باختلال أحوالها. كأن الجسم كله مُختصر فيه. ووظيفة الدماغ الصحيح، كما يقول سبنسر، هي التعديل بين المصالح المختلفة الطبيعية والعقلية والأدبية والاجتماعية، وذلك هو وظيفة الحكومة المطلوب منها التعديل بين مصالح البشر المختلفة، بحيث إن كلًّا منهم ينال حقه بدون أن يضرَّ بالآخر.

•••

على أن بعضهم يرى أن نظر سبنسر في تعيين وظيفة الدماغ والحكومة وإن كان مُصيبًا إلا أنه قاصر في بابه؛ لأن الدماغ وإن كان نائبًا عن الجسم كله في مصالحه المنفعية والحبية، إلا أنه ليس نائبًا بسيطًا وقاضيًا يقضي في المصالح المذكورة لتعديلها فقط بدون أن يزيد شيئًا عليها، بل هو أيضًا عضو الفكرة والإرادة والرويَّة؛ فكثيرًا ما يدفع الجسم من نفسه نحو أمر انقيادًا لفكرٍ رفيع، والإنسان كثيرًا ما يُنكر مصلحة نفسه القريبة لقضاءِ مصلحةٍ أعظم، كنشر حقيقة أو إبداء تصوُّر جليل. فالحكومة لا يكفي أن تكون بمقام قاضٍ بسيطٍ يقضي في مصالح الأمة لتعديلها مُقتصرة على الحاضر القريب، بل يلزمها أن ترتفع فوق نفسها وفوق مصلحة البعض للنظر في المستقبل البعيد؛ لأن الجسم وإن كان يُحسُّ باحتياجاته إنما إحساسه بها مُبهَم، ولا يتضح على صورة الحس ولا الفكرة إلا في الدماغ. كذلك الاجتماع فيه حقوقٌ كثيرة لا يُحسُّ بها إلا إحساسًا مُبهمًا مع شدة لزومها له، ولا تنجلي إلا للحكومة؛ فالجهلاء مثلًا لا يشعرون بالاحتياج إلى العلم مع شدة لزومه؛ ولذلك كان ينبغي على الحكومة أن تسعى من ذاتها لتتميم المشاريع اللازمة، كإقامة التعليم الإلزامي مثلًا، وعدم إغفال كل ما من شأنه أن يحفظ مستقبل الأمة؛ لئلَّا يسبقها غيرها من الأمم في مَعرِض الارتقاء في هذا الوجود، فتسُوء حالها، وتسقط في مهواة التهلكة والخسران.

•••

فسبنسر وإن كان قد استوفى ما للميل الغريزي من اليد القوية في ارتقاء الأمم، إلا أنه في نظر بعضهم قد أغفل أمر الرويَّة المُتجمعة في الدماغ عن إحساسات أجزاء البدن المُبهَمة التي يلزم أن تبلُغ الغاية في الحكومة. هذا، وإذا نظرنا إلى هاتَين القوتين، أي الميل الغريزي والرويَّة، ولم نفصل بينهما؛ نرى أنهما ليستا فقط علة كل اجتماع، بل علة كل شيء حتى العالم نفسه؛ إذ العالم نفسه إنما هو اجتماعٌ كبير، كل جزء من أجزائه يشتغل لسلامته وسلامة الكل، بما فيه من الميل لحفظ ذاته، وحفظ علاقاته مع سواه؛ وبهذا تمام النظام في الكون.٥
١  من غريب ما يزعم بعضهم أن الأرجُل المنزوعة من حيوان والمُلصَقة بحيوانٍ آخر لا تزال تخصُّ المنزوعة منه، وأنها تحيا بقوَّته الحيوية. قال والدليل على ذلك هو أن لون الشعر لا يتغير. كأنه لا يمكن تعليل ذلك بتكوين الشعر نفسه وباستقلال الأعضاء التي تُغذيه فيه، مع استمدادها الغذاء والحياة من الحيوان الثاني. ويترتب على زعمه هذا أن الحيوان يمكن انقسامه بدون انقسام حياته، وهو من أغرب الأسرار.
٢  كالثورة الفرنساوية؛ فإنه لم يصدَّها شيء، ولم يقوَ عليها شيء، مع أنه اعترضتها موانع داخلية وخارجية قوية جدًّا؛ وما ذلك إلا لأنها كانت مُوافقة لميل الشعب كله وناشئة عن استعداده، بخلاف الثورة المصرية العُرابية؛ فإن نارها ما لبثت أن شبَّت حتى انطفأت، ولم يبقَ منها في الأمة جذوة كالنار في الهشيم؛ لأنها لم تكن ناشئة عن استعداد الأمة، بل عن مطامع بعض ذوي المناصب.
٣  إشارة إلى قولهم: «العالم الأصغر دليل على الأكبر.»
٤  قال «تولت» في مقالةٍ نشرها المقتطف من عهدٍ قريب: «إن الحد المُقام بين النبات والحيوان لا وجود له، وكلما تعمَّقنا في درس الجمادات نرى أوجه الفرق بينها وبين الأحياء تقلُّ؛ فالإنسان يُولَد من أبوَين، والحيوان السافل من نظيره بالانقسام، والنبات من نباتٍ نظيره.» والظاهر أن ذلك كذلك في الجماد؛ فقد بيَّن «جرنز» بالامتحان أن الجماد كالحيِّ يتولَّد من جمادٍ نظيره.
٥  عقَّب المقتطف على هذا البحث بالكلام الآتي، قال:

حيوانٌ هائل. هذا حيوان لم تمرَّ صورته بمُخيلة إنسان من المُتقدمين، ولم يكتشفه إلا جماعة من فلاسفة المُتأخرين. والمُعتاد أن يُوصَف الحيوان بالهول إذا كان كبير القد ضخم الجثة، كالحوت والفيل وغيرهما، أو كان قبيح الصورة شديد الضرر، أو نحو ذلك ممَّا يُوقِع الرهبة والخوف في نفس ناظره ومُتصوره. على أن الحيوان الذي نحن بصدده لم يُعهَد له مثيل في الكِبَر، ولم يخطر على بال إنسان قبل الآن أن الأرض يمكن أن تربِّي مثله؛ فهو شاغل لكل أنحاء المعمورة، سائدٌ على وحش البر وحوت الماء وطير الهواء، يسبح الناس ألوفًا في نقطة من دمه، وتتعاقب الملوك والرؤساء في رأسه، وتقطن القبائل والشعوب في جوفه، وتحيا الأمم وتموت وهو باقٍ، فيحيا بموتها وينمو بحياتها. وقد صار عمره ألوفًا من السنين، وربما عاش بعدُ ألوفًا منها وربوات، حتى يقبض روحَه باري الأرواح، ويُعيد جسده إلى التراب الذي جُبل منه. لا نقول هذا من باب المجاز، وليس في كلامنا أحاجيٌّ ولا ألغاز، وإنما هو حق اليقين إذا صدقنا ما يقوله جماعة من فلاسفة المتأخرين.

تقول وما هذا الحيوان العجيب؟ فنُجيب أنه الاجتماع الإنساني الذي أنت في عضو من أعضائه بمثابة الكرية التي لا تراها عينك لصِغرها في عضو من أعضائك. وإذا أمعنت النظر في المقالتَين المعنونتين بتاريخ الاجتماع الطبيعي في هذا الجزء والذي قبله (بقلم الدكتور شبلي شميل)، رأيت هناك ما يقوله أولئك الفلاسفة في إثبات وجود هذا الحيوان، وبيان المُشابهة التامة بينه وبين كل جسم حي.

وسواء صدَقوا فيما قالوا أو لم يصدُقوا، فلا غَرْو أن المُشابهة بين الجسم الحي وجسم الاجتماع جديرةٌ بأن يُمعِن الإنسان نظره فيها؛ ليعرف مقامه بين أقرانه، ولزومه لقيام هذا الاجتماع وبنيانه. فكما أن الرأس في البدن لا يستغني عن اليد، ولا اليد عن الرجل، ولا الرجل عن البطن؛ كذلك أعضاء الاجتماع الإنساني لا يستغني بعضها عن بعض؛ فالزارع لازم للصانع، والصانع للوازع، والوازع لكلٍّ منهما. ولا فرق في لزوم الأعضاء لجسم الاجتماع ما دامت حياته موقوفة على عملها وقضاء وظائفها، وتفاوُتها في المقام اعتباريٌّ لا حقيقي؛ فلا الحاكم أشرف من التاجر ولا التاجر من الصانع في حقيقة الواقع، كما أنه لا فرقَ حقيقيَّ بين مقام المعدة والقلب والدماغ في البدن، وإنما الفرق اعتباريٌّ يتغير بتغيُّر العوائد والأحكام على مر الأيام.

ولا يبرحن من الأذهان «أن القُوى الكبرى في كل حيوان تام التركيب ثلاث، وهي: الغاذية، وأفعالها تهيئة الغذاء، وآلاتها المعدة والكبد وما يتلوهما. والمُدبِّرة، وأفعالها تحصيل الغذاء، وآلاتها الدماغ والأعصاب وما يتلوها. والمُوزِّعة، وأفعالها توزيع الغذاء، وآلاتها القلب والشرايين وما يتلوها.» وبها قيام الحيوان ودوام حياته، وكذلك «القُوى الكبرى في العمران ثلاث، وهي: الصناعة، وأفعالها الاعتمال للمعاش. والحكومة، وأفعالها تحصيل أسباب هذا المعاش. والتجارة، وأفعالها توزيع هذا المعاش.» فمن يزعم أن العمران يتم بقوة أو قوَّتَين من هذه الثلاث دون الثالثة، أو أن إحداها أشرف بالطبع من غيرها؛ فزَعْمه باطل، وهو في جسم العمران كرية لا تخلو من العفونة، بل يُخشى أن ينتشر منها الفساد. ا.ﻫ.

المجلد العاشر من المقتطف، سنة ١٨٨٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤