المقالة السادسة والستون

الحاجيات والكماليات١

قرأت تعليق المؤيد على ما كتبته بخصوص شكوى المُستأجرين ومسألة «العرض والطلب»، وشكرت لسعادة صاحبه الفاضل الشيخ علي يوسف لاهتمامه بالنظر في المواضيع التي بحثت فيها بحثًا إجماليًّا، وإن كان قد خالف نظره نظري في بعضها؛ لأن كلامي لم يذهب عنده من غير صدًى، ولعل ما علَّقه المؤيد لا يكون الوحيد والأخير، وأنا مُنتظرٌ أن جمهور المُفكرين يشتركون في هذا البحث الاجتماعي الاقتصادي، الذي هو لنا أهم جدًّا من جميع المباحث الأخرى العقيمة السياسية، وما نحن في مركزٍ سياسي يُعوَّل فيه على كلامنا بشيءٍ عظيم، فلا أقل من أن نهتمَّ بشئوننا الداخلية؛ لعلنا بتعمُّقنا في المسائل الكبرى الاجتماعية نُلقي أساسًا متينًا نُقيم عليه بناء إصلاحنا المنشود، ولا سيَّما أن كلامي أعم من أن يقتصر على غرضٍ واحد من أغراض الاجتماع، أو طائفةٍ واحدة من طوائفه، وسأنتظر ما يكون لجمهور كُتابنا من الجولة في هذه المواضيع لاستئناف البحث معهم فيها على ما يقتضيه المقام حينئذٍ.

فإني أشرت في كلامي الماضي إلى جملة أمور اعتبرتها من النقائص في نظام هيئتنا الاجتماعية، سواء اقتصرت علينا وحدنا أو شملت أرقى الأمم اليوم. ووجود النقص في هيئةٍ راقية ليس بحجة علينا للوقوف حيث نحن واقفون، وللإغضاء عن عيوبنا، ساوت عيوبهم أو زادت عليها، مُكتفين بهذه المُقابلة، وناظرين فقط إلى مقامنا النسبي بالقياس إليهم فيما زاد منها، فما هذا بالدليل الذي يجب أن يمنعنا عن أن نفتكر ونصبو إلى الأحسن. كيف لا والقلاقل التي نراها تُمزق أحشاء المجتمعات الراقية، كما نُسميها اليوم؟ أليست دليلًا كافيًا على أن تمدُّنها الذي تفُوقنا فيه شامل لعيوبٍ كثيرة هي سبب هذه القلاقل؟ ممَّا يدل على أنه ليس التمدن الحقيقي، بل طور انتقال إليه، أفلا يجوز لنا، وإن كنا أحط ممن هم أرقى منا، أن نسعى لكي نبني على أساسٍ أحسن؟ وهل من الحكمة أو من العدل إذا كانت نظاماتنا المُعتلة المُختلة تُقيم الحوائل دوننا ودون مطالبنا أن نعتبر هذه المطالب أفكارًا عقيمة وأحلامًا كأحلام الشعراء؟ وكم من هذه الأحلام الاجتماعية التي كانت تُعد هكذا في عصورٍ خلت صارت حقائق باهرة اليوم.

والمسائل التي ذكرتها في مقالي السابق تنحصر فيما يأتي:
  • أولًا: حق الفرد على الاجتماع كحق الاجتماع على الفرد.
  • ثانيًا: إطلاق مبدأ «العرض والطلب» على جميع معاملات الإنسان الحاجية والكمالية نقصٌ في الشرائع وحيفٌ عظيم.
  • ثالثًا: المسكن كالقوت والفحم … إلخ حاجيٌّ، وأهم من هذا الأخير، وما يجوز على الواحد يجوز على الآخر.
  • رابعًا: إذا عسر الفصل في مسألة المساكن فليس لأن المسألة يجب أن تخرج عن هذا الحد، بل لأن النظامات في الاجتماع ناقصة.
  • خامسًا: شرائعنا نحن خصوصًا ناقصة نقصًا مركبًا، والحيف يقطر منها من كل أطرافها.
  • سادسًا: حكومتنا أقلُّ ما يُقال فيها إنه لا يصح أن تُعتبر حكومةً ذات نظامٍ معلوم، فهل من راءٍ غير ذلك؟ ومجال القول ذو سعة.
١  نُشرت في المؤيد سنة ١٩٠٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤