المقالة السابعة

ماذا قرأ وماذا رأى١

الإنسان لا يرى الحقيقة لأنه أعرق في جهلها، وإذا رآها لا يريد أن يعرفها لأنها تُروِّعه، فيدور حولها ويروغ منها لأنه ألِفَ التمويه في كل شيء، وإنه ليُفضِّل أن يكذب على نفسه إذا عرفها من أن يقولها.

***

هيولي تملأ الفضاء مُتحركةً حركةً دائمة، لا أول لها يُعرَف ولا آخر يُوصَف، كأنها سلسلة حلقات متَّصل أولُها بآخرها، أو نقطة من محيط دائرة لا يُعرَف أين تبتدي ولا أين تنتهي.

زوابع تثُور، فتتحوَّل جواهر تتضامُّ دقائقَ فذرَّاتٍ فأجسامًا فأجرامًا، تسبح في هذا الفضاء، تنقسم شموسًا تُضيء وأقمارًا تستمد وسياراتٍ تدور، وثوابت ليست ثوابت إلا بالنسبة إلى سياراتها، وإلا فالكل في فلكٍ يدور.

قُوًى تتجاذب مُتبايناتها وتتنافر مُتشابهاتها، تتَّحد بها أجزاء المادة صنوفًا، وتنتظم صنوفها صفوفًا، فيها الرفيع والوضيع، والبسيط والمركَّب، نماؤها من ظاهرٍ بطيئة النماء بطيئة الانحلال.

معدن نامٍ وما هو بحي، مُنفعل وما هو بحاسٍّ، يتعاظم وما هو بباقٍ، وينحلُّ وما هو بفانٍ، مُتحول وإن لم يبدُ لك في الحال، مُتغير ولكن على مر العصور والأجيال.

قُوًى تنتظم إلى أن تفقد الانتظام، تستولي على المادة فتُحوِّلها في الحال إلى أجسامٍ تتغذى وتُحسُّ وتتحرك، سريعة النماء سريعة الانحلال، نماؤها من داخل بالقلب والإبدال.

حيٌّ ينقسم نباتًا يتغذى، وحيوانًا يُحسُّ ويتحرك، ينبُت من بذرة قد لا تراها العين فيتعالى ويتعاظم، ثم يموت ولا يموت، بل يردُّ إلى المادة ما استعار منها، ثم يرقد في بذرة عائدًا من حيث أتى.

معدن ونبات وحيوان، هي موضوع الإعجاب والاستغراب، تراها مُنفصلة وليس بينها فواصل، أُفُق الواحد متَّصِل بأفق الآخر كأنه منه ومُتحول عنه.

مواد الكل واحدةٌ مَرجعها إلى الهيولي، وقُواه واحدةٌ مَرجعها إلى الحركة، والهيولي والحركة سيان فلا تنفصلان، والهيولي فرض لبسيط المادة، والحركة حقيقةٌ بيِّنة تتحول إلى كل القوى المعروفة، وتُردُّ إليها كل القوى المعروفة: الحرارة والنور والكهربائية والمغناطيسية والحياة نفسها. فالحركة أصل الكل.

الكل باقٍ لا يدثُر، وما هي إلا صورٌ تمرُّ وأشكالٌ تتحول وأوضاعٌ تتغير في حلقة هذا الدور.

أدوارٌ تنتظم أيامًا، وأيامٌ تنتظم شهورًا، وشهورٌ تنتظم فصولًا، وفصولٌ تنتظم سنين، ثم يعود الدور.

ينبثق نور فيُبدِّد غياهب الظلماء، ثم يعقبه ليلٌ بهيم يسدُّ مَنافس الغَبْراء، فيدور اليوم. يطلع القمر هلالًا كأنه الطفل وقد أهلَّ، ويكتمل بدرًا، ثم يتناقص عائدًا على بدئه كأنه يُمثِّل حياة الإنسان بالزيادة والنقصان، فيدور الشهر.

يبدو وجه الطبيعة كالحًا كأن الموت قد حل، وتلبس الأرض ثوبًا قاحلًا كأنه جلد الهرم، وتتلبَّد غيوم كأنها الهموم، وتلمع بروقٌ كأنها الآمال في وسط المصائب، وتقصف رعود كأنها غضب الآلهة، أو صُراخ أهل الجحيم وهم يُعذَّبون فيما يقولون، وتعصف رياحٌ تصفِر كصوت البُوم، على الرسوم، وينعقد البخار سحابًا فتتفتح عيون السماء كأنها تضحك ضحك القنِط من فارغ الأمل، أو تبكي بُكاء الثَّكْلى من دنوِّ الأجل، فتتفجَّر عيون الأرض ضاحكة لضحكها أو باكية لبكائها، فتسيل الجداول والأنهار، وتستردُّ البِحار ما أعطت، فتتعاظم كبرًا وتنتفخ عُجبًا، كأنها تقول: هَذِه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا، وتذبل عيون المسيل كأنها تتذكر الآية إِنَّا لِله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

فإذا انقضى الشتاء انبسط وجه السماء، وافترَّ له ثغر البسيطة باسمًا، وبرزت الأرض كالعروس تتهادى بحُلةٍ سندسية، وأخضلت الغصون كأنها القدود، وقد لانت وتمايلت طربًا كأنها الخصور وقد دقَّت، أو القلوب وقد رقَّت، وتفتَّقت الأنوار من أكمامها كأنها وجوه الحِسان وقد برزت من حِجابها، وفاح أرَجُ الأزهار على نغم الأطيار، فانتعشت لها الأنفاس كأنها الأعراس والكل فيها فرحون.

فإذا انقضى الربيع أقبلت الطبيعة مُثقَلة كالرجل وقد فارق زمن الصِّبا، وأقبل على زمن الجد والكد، ينظر إلى ما زرعه في ماضيه، وما يحصده في حاضره، وما سيدَّخره لمستقبله.

فإذا انقضى الصيف جاء الخريف بذبوله واصفراره، كالشيخ وقد فرغ منه الأمل، يتوقَّع حلول الأجل. وهكذا ينتهي الحَوْل ويرجع الدور.

وفي وسط ذلك كله قائمٌ ذلك الكائن العجيب مُلتقى النقيضَين، ومُجتمَع الضدَّين، أضعف من النبات والحيوان في بنيانه، وأقوى الكائنات بمُستنبَطات جَنانه، عاقلٌ جاهل، يرتفع بأفكاره تارة إلى السُّها حتى يقال: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ، وينحطُّ بأعماله طورًا إلى الحضيض حتى يقال: «إنْ هذا إلا شيطانٌ رجيم.» حيوانٌ إلى أقصى درجات الحيوانية وما هو بحيوان، إله إلى حد المعجزات وما هو من سكان الجِنان؛ ذلك هو الإنسان.

وقف على البسيطة عاريًا جائعًا خائفًا كأن أصله ليس من هذا المكان، وذهل أنه هو الإنسان «المطرود من الجِنان»، البرد يؤذيه، والحر يُعْييه، والجوع يُضنيه. فسكن المغائر، وخصف أوراق الشجر عليه، ورعى النبات كالسائمة، وأكل أشلاء الحيوان كالكواسر.

نظر إلى الحيوان فرَاعَه ما رآه فيه من القوة واكتمال العدة، فارتعدت فرائصه خوفًا منه، وليس له براثن تقيه أو مخالب تحميه، فعمد إلى كهوف الأرض يختبئ فيها عنه، وتسلَّق الأشجار العالية هربًا منه.

عمد إلى الحجارة يحكُّها حكًّا ليصنع منها سلاحًا يذُود به عن نفسه، ويسطو به على سواه. فاخترع السلاح واهتدى إلى الصيد، وتطايَر الشرار من احتكاك الحجارة فاكتشف النار، واهتدى إلى أكل طعامه مشويًّا بعد أن كان يأكله نيًّا، وكان ذلك أول «اختراع» وأول «اكتشاف».

نقَّب في الأرض فاهتدى إلى المعادن، ورآها تَلِين في النار، فاصطنع منها العُدد، وتفنَّن وأتقن، وشعر بنفسه أنه نال بها قوةً ذلَّلت له الطبيعة، فبنى البيوت واصطنع الكساء من ألياف النبات، وشقَّ الأرض وزرع وحصد، واستثمر النبات وذلَّل الحيوان، وكاد يتذكر «أنه المطرود من الجِنان».

رأى الأرض واسعة ومطامعه شاسعة، فامتطى الحيوان جوادًا يقطع به مَفاوز الغَبْراء، وبنى المَركبات لنقل الأثقال واستطلاع مناجع الكلاء.

ضاقت به الأرض على سعتها، واعترضته البِحار فبنى المراكب، وأخذ يجذف في عُرْض الماء، ثم اصطنع الشِّراع، واستقبل به مهابَّ الهواء. وهكذا أصبح سيد البر وسلطان البحر.

رأى التعاون أدْعَى إلى القوة، فانتظم جماعات، وبنى المدائن، واختطَّ الممالك، وشاد الحصون المَنيعة والقصور الرفيعة، وغرس الحدائق تجري من تحتها الأنهار، كأنه أراد أن يُعيد بها «الفردوس الضائع»، وتأنَّق في المأكل واللباس والأثاث، وأغْربَ في الكماليات بعد الحاجيات حتى تخطَّاها إلى الزخارف.

نظر في العلوم فحفظ المعلوم، وطلب المجهول فانكشفت له أسرار الطبيعة، فاستخرج من كنوزها وأسر قُواها، فاستسرى البخار واستنطق البرق، فاستعاض عن الشِّراع ببواخرَ تمخَر في عُرْض البِحار، وعن الجياد بقواطرَ تُسابق الرياح، وتُقرِّب الشاسع من الأقطار.

طمح ببصره إلى العلياء، فأخذ يُحدِّق في القبة الزرقاء، وقد كان ظنَّها «جلدًا» مصفَّحًا وكواكبها أنوار سكان السماء، فما لبث أن اخترقها بذكائه، فعرف حقيقتها ووقف على تركيبها، وقاس ما بينها من الأبعاد كأنها منه «على قاب قوسَين أو أدنى».

رأى الطبيعة قد دانت له قريبها وبعيدها، عاليها وسافلها، ظاهرها وباطنها، جمادها ونباتها وحيوانها، فعتا وتكبَّر، وطغى وتجبَّر، وشقَّ عليه أن ليس أمامه جبَّارٌ «يُهدِّد كل جبَّار عنيد» ليقول له: «فها أنا ذاك جبَّارٌ عنيد.» حتى شاد من الأوهام حقائق، وقام يُناصب آلهته العدوان، كأنه تذكَّر أنه «طريدها في سالف الأزمان».

رأى كل ذلك، فرآه حقيرًا في عينَيه ذليلًا لديه، «أيَّ مكانٍ يرتقي؟ أيَّ عظيمٍ يتقي؟» فلم يجد أصعب على نفسه منه هو نفسه، فسعى ليقهر بعضه بعضًا، ويسُود بعضه على بعض؛ إنسان على إنسان، وقبيلة على قبيلة، وأمة على أمة، وفرد على أمة. فسنَّ الشرائع، ووضع القوانين تُوافق أميال القوي وتهضم حقوق الضعيف، فظلم وهو يُنادي بالعدل، وتجبَّر وهو يُعلِّم الناس التواضع، وعتا وهو يُوصيهم بالحِلم.

شرائع أصلها «العادات»، وقوانين لم تتخطَّ المألوف، ثبَتَت على مر الأزمان، مع أن العادات تتغير، وكذلك الإنسان. شرائع لم يقتصر فيها على المعاملات، بل تناوَل بها ما وراء المنظور؛ لكي تكون أوقع في النفوس وأبلغ للمُنى.

رأى كل ذلك دونه، فصبا بنفسه إلى ما وراء الطبيعة، فبنى من الأوهام أبراجًا، وامتطى من الغرور مِعراجًا، وقال في نفسه: «لعلي إله ولا أدري. ألستُ سيد هذه المخلوقات وسلطان هذه الكائنات؟ فهل يصحُّ أن يكون عنصري كعنصرها وحظِّي كحظها؟ يومٌ يروح ويومٌ يجيء، وأرحامٌ تدفع وأرضٌ تبلع. لا، فأنا من عنصرٍ أعلى؛ لذلك نفسي تصبو إليه، أصلي منه ومَرجعي إليه، فأنا إله في صورة إنسان أو إنسان في نفس إله.»

إله ولكن عبد شهواته وأسير احتياجاته، يرتدي ثوبًا كثفت هيولاه، إليها مرجعه ومنها قواه. إلهٌ ينحلُّ كالجماد ويتغذى كالنبات ويتألم كالحيوان. فإذا انحلَّ لم يترك غير كثيف المادة، وإذا اغتذى فلا يغتذي إلا منها، وإذا تحرَّك فلا يتحرك إلا فيها وبها. إلهٌ يُولَد وما هو بباقٍ، ويموت وما هو بفانٍ. يُمثِّل الفصول في أدوارها والمادة في أطوارها. ينشأ بذرة كالنبات والحيوان، ينمو مِثلهما، ويتعاظم مُستعيرًا عناصر المادة إلى أن يهرم، فيرقد في بذرته عائدًا من حيث أتى بعد أن يكون قد رد إلى الطبيعة ثيابًا عارية وأخلاقًا بالية، استعارها منها ولم يكن له غنًى عنها.

علِم ذلك كله في هبَّةٍ مرَّت مرَّ السحاب، حطَّت من كبريائه وكسرت من خيلائه، ارتسمت له الحقيقة فيها مجردة عن زخرف الكلام وبهرجة الخيال. في هبَّة انتعاش هو مُنتهى الحياة وابتداء الموت، كالانتعاش الذي يسبق انطفاء النور. استيقظ فيها كالنائم وقد انتبه، فرأى الحقيقة مُرتسمةً أمامه بأحرفٍ نافرةٍ تنفُذ الأبصار ولا تفُوتها العين، قرأها ثم رقد. ماذا قرأ؟ وماذا رأى؟ لم يقُل.

١  نُشرت في البصير سنة ١٨٩٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤