التَّصدير

للدكتور طه حسين١

هذه طرفة قيمة تُهديها مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر إلى قرَّاء العربية، فتمتِّع بها عقلهم وذوقهم وشعورهم وحسَّهم معًا، وتقديمها إليهم في هذه الأيام المظلمة المُؤلمة التي قلَّما يظفر الناس فيها بهذا المتاع الممتاز الخالص الذي ينعمون به في أيام السلم، فضلٌ يضاف إلى فضل، وإحسانٌ يُضافُ إلى إِحسَانٍ.

في هذه الأيام التي لا يلتقي الناس فيها إلَّا تحدث بعضُهم إلى بعضٍ عن آلام الحرب وآثامها، والتي لا يخلو الناس فيها إلى أنفسهم إلَّا فكروا في سيئات الحرب وموبقاتها، والتي لا يصبح الناس فيها ولا يمسون إلَّا على أنباء، منها ما يسرُّ ولكنه سرور فيه حمرة الدم وريح الموت، ومنها ما يحزن ويسوء؛ ولكنه حزن لا كالأحزان؛ حزن عميق كثيف مطبِق، يُعرف أوله ولا يُعرف آخره.

في هذه الأيام التي يُحاول الناس فيها أحيانًا أن يفِرُّوا من أنفسهم، وأن يفزعوا إلى القراءة وإلى غيرها من وسائل المتاع العَقلي؛ لعلهم يجدون فيها راحة من أنباء الحرب وخطوبها الباهظة، فلا يقرءون إلَّا ما يتصل بالحرب، ولا يجدون من لذات الفن إلَّا ما بينه وبين الحرب سبب قريب أو بعيد.

في هذه الأيَّام المُؤذية المُضنية يحمد الناس لمطبعة المَعارف ومكتبتها أن تقدِّم إليهم هذه المتعة القديمة الجديدة، التي مضت عليها القرون والقرون، وستمضي عليها القرون والقرون، وهي محتفظة دائمًا بشباب نضر غض لا يعرض له الذواء، ولا يدركه الذبول، وهم ينظرون فيها كما تُقدَّم إليهم الآن، فيجدون لذة لأبصارهم، ولا يكادون يقرءون فيها؛ حتى يجدوا هذه اللذة الفنية الممتازة النقية التي تخرجهم من هذه البيئة الثقيلة البغيضة التي يُكره الناس على الحياة فيها الآن؛ فهي منفذ يخلصون منه بين حين وحين ساعة من نهار أو ساعة من ليل إلى جوٍّ نقيٍّ طاهرٍ فيه للقلب رضًا، وفيه للعقل غذاء، وفيه للحسِّ راحة، وفيه للنفس رَوح.

ويروقني أن أرى في هذه الطبعة الجديدة من كتاب «كليلة ودمنة» رموزًا سامية صادقة لمعانٍ ساميةٍ نحبها أشد الحب، ونطمح إليها أشدَّ الطموح.

ففي هذا الكتاب حكمة الهند، وجهد الفرس، ولغة العرب، وهو من هذه الناحية رمزٌ صادقٌ دقيقٌ لمعنًى سامٍ جليل، هو هذه الوحدة العقلية الشرقية التي تنشأ عن التعاون والتضامن وتظاهر الأجيال والقرون بين أمم الشرق على اختلافها، والتي حققتها الحضارة الإسلامية على أحسن وجه وأكمله أيامَ كانت هذه الحضارة حية قوية مؤثرة في حياة الأمم والشعوب، والتي نُريد الآن أن نردَّ إليها قوتها الأولى وجمالها القديم.

هذه الحكمة الخالدة الساذجة التي أفاضها روح الهند، ونقلها عنهم جهد الفرس، وصاغها في هذه الصورة العربية الرَّائعة ذوق العرب، وتوارثتها الأجيال بعد ذلك، فنقلتها من بيئة إلى بيئة، ومن شعب إلى شعب، حتى جعلتها جزءًا من التراث الإنساني الخالد، هذه الحكمة في صورتها العربية رمزٌ لما نحبُّ أن يكون من تعاون الأمم الشرقية على إشاعة البر والتقوى، وإذاعة الخير والمعروف، ومقاومة الإثم والعدوان.

وفي هذه الطبعة التي تقدِّمها مطبعة المعارف ومكتبتها إلى الناس رمزٌ آخرُ صادقٌ دقيقٌ لمعنى آخر سامٍ جليل، نُحِبُّه أشد الحب، ونطمح إليه أشد الطموح، وهو هذا التعاون المنتج بين قديمنا العربي القيِّم ونشاطنا العصري الخصب؛ هذا الجهد الذي أنفقه ابن المقفع في نقل «كليلة ودمنة» إلى العربية، وهذه الجهود التي أنفقها المسلمون بعده في درس الكتاب وتصحيحه وتنقيحه والاستفادة منه والانتفاع به لم تذهب سدًى، بل لم تنقطع ولم تقف عند حدٍّ محتوم، ولكنها اتصلت بين الأجيال، يضيف إليها كل جيل ما قصرت عنه الأجيال الأُخرى؛ حتى وصلت إلينا فلم نُعرض عنها، ولم نزهد فيها، ولم نأخذها كما هي في قناعة وكسل وفتور، وإنما أقبلنا عليها مشغوفين بها راغبين فيها، وأخذنا نضيف إليها ما عندنا كما أضاف إليها الذين سبقونا ما كان عندهم.

فالجهد القيِّم الذي بذله الأب شيخو حتى أخرج للناس أقدم نسخة ظفر بها لم يقف عند الحد الذي وصل إليه الأب شيخو، ولكن زميلي الدكتور عبد الوهاب عزام يضيف إليه جهدًا جديدًا قيِّمًا، فينشر نسخة جديدة أقدم من نسخة الأب شيخو بأكثر من قرن من الزمان، ويمكِّن التاريخ الأدبي والنقد الأدبي من أن يُعيدا نظرهما في هذا النص القديم، ويستخلصا منه نتائج جديدة لها قيمتها وخطرها. ومن المُحَقَّق أنَّ هذا الجهد الذي بذله الدكتور عبد الوهاب عزام لن يقف عند هذا الحد، ولن ينتهي إلى هذه الغاية؛ فقد كان يُريد — وكانت مطبعة المعارف ومكتبتها تريد معه — جمع أكثر عددٍ ممكن من النسخ المخطوطة لهذا الكتاب، ومُعارضتها، والموازنة بينها، واستخراج أصح نص ممكن من هذه المعارضة والموازنة، فحالت الحربُ بينهما وبين ما كانا يريدان، ولكنها لم تمنعهما من أن يُقدِّما إلى النَّاس أقدم نص لهذا الكتاب عُرِف إلى الآن.

والحرب منقضية يومًا ما، والسلم مقبلة يومًا ما، وجهود الذين يحبون العلم ويعملون على إحيائه وتنميته وإذاعته إن وقفت الآن فهي مُستأنَفة غدًا أو بعد غدٍ، وما أشُكُّ في أنَّ الدكتور عبد الوهاب عزام سيستأنف الجد والبحث، وسيجمع النسخ المخطوطة التي لم يظفر بها بعد، وسيمضي في المُعارضة والمُوازنة، وسيتقدم بنص «كليلة ودمنة» إلى الصحة والدقة والقِدَم خطوات أبعد من هذه الخطوة البعيدة التي خطاها بطبع هذه النسخة، وما ينبغي أن نُسرف في الطمع، ولا أن نتعجل الزَّمن، ولا أن نجاري طموحنا الجامح، ولا أنْ نغض مما يُتاح لنا من التوفيق والفوز؛ فليس قليلًا، بل كثيرٌ جدًّا أن يخطو الدكتور عبد الوهاب عزام، وتخطو معه مطبعة المعارف ومكتبتها، فإذا خطوتهما تقدم كتاب «كليلة ودمنة» نحو الصحة والدقة والقِدَم أكثر من قرن من الزمان.

وفي هذه الطبعة رمزٌ آخرُ صادقٌ دقيقٌ لمعنى آخر سامٍ جليل، نحبه أشد الحب، ونطمح إليه أشد الطموح، وهو التعاون المنتج بين علمائنا الشرقيين المحتفظين بشخصيتهم، وبين علماء الغرب الذين برَّزوا فيما حاولوا من البحث العلمي؛ فقد أصبحت العزلة العلمية سخفًا لا يطمع فيه إلَّا الذين قصُرت هممهم، وفترت عزائمهم، وضعُفت عقولهم عن فهم الحياة كما ينبغي أن تُفهم، وأصبح الجهد العلمي حظًّا شائعًا بين الأمم المتحضرة جميعًا، قوامه التعاون الصادق بين العلماء مهما تختلف أوطانهم وأجناسهم وبيئاتهم. وقد بذل الدكتور عبد الوهاب عزام في هذه الطريق جهدًا قيِّمًا حقًّا، فهو لم يقف — وما كان له أن يقف — عند الجهود الشرقية الخالصة التي بُذِلت لنشر هذا الكتاب، ولكنه ألمَّ بالجهود التي بذلها الأوروبيون والأمريكيون منذ عرفوا «كليلة ودمنة»، فأصلح منها ما أصلح، وقوَّم منها ما قوَّم، وأضاف إليها ما أضاف، وعرض ذلك علينا في مُقدمته الممتعة مع هذه الأمانة الساذجة المتواضعة التي تليق بالعُلماء، والتي لا يليق غيرها بالعلماء، ويكفي أن الذين يقرءون هذه المُقدمة سيحيطون إحاطة دقيقة شاملة بكل الجهود التي أُنفِقت حول هذا الكتاب منذ أخذه الفرس عن الهند إلى أن وصلت إلينا طبعته الأخيرة في هذا العام.

وفي هذه الطبعة رمزٌ آخرُ صادقٌ دقيقٌ على سذاجته ويسره لمعنى سامٍ جليلٍ نحبه ونؤثره، وتطمئن إليه نفوسنا اطمئنانًا فيه كثيرٌ من الدعةِ والحنان؛ فمطبعة المعارف ومكتبتها إنما عُنيت بنشر هذه الطبعة، وأنفقت في ذلك ما أنفقت من جهدٍ ومالٍ، واحتملت فيه ما احتملت من مشقةٍ وعناءٍ، لم تصرفها عنه الحرب، ولم تصدها عنه الظروف التي تصد أمثالها عن أمثاله، ووفِّقت فيه إلى ما وفِّقت إليه من الإجادة والإتقان، فعلت هذا كله لسبب يسيرٍ ولكنه خطير، فهي تُريد أن تحتفل بمرور نصف قرن على إنشائها، وهي لم تجد إلَّا هذا العمل العلمي الأدبي الفني وسيلة إلى هذا الاحتفال؛ وهي بهذا تحيي ذكرى منشئ المطبعة ومكتبتها، فتسجِّل وفاء الأبناء البررة للأب العطوف، وهي بهذا تحيي هذا الجهد المتصل الذي أُنفِق في غير ضعفٍ ولا مللٍ أثناء نصف قرن في نشر العلم وإذاعة الثقافة في الشرق العربي كله. وهي بهذا — آخر الأمر — تحيِّي هؤلاء القرَّاء، أو قُل هذه الأجيال من القرَّاء الذين اتصلوا بها منذ نشأت، والذين عرفوا العلم والثقافة من طريقها، تحيِّيهم لأنهم وفوا لها كما وفت لهم، وتحيِّيهم لأنهم يثقون بها كما تثق بهم، وهي حين تهدي إليهم هذه التحية الرَّائعة تنبئهم في ظُرفٍ وخفةٍ بأنها ستمضي في مستقبل الأيام — كما مضت من قبل — في طريقها إلى نشر العلم والأدب والثقافة، متوخيةً ما يجبُ أن يتوخاه الناشر الأمين من العناية بالدقة العلمية والجمال الفني، والحرص على إرضاء العقل والذوق والشعور جميعًا.

وأظنُّ أني لا أتجاوز إرادة القرَّاء إذا أهديت إلى مطبعة المعارف ومكتبتها وإلى الدكتور عبد الوهاب عزَّام تحية ملؤها التقدير والإعجاب والأمل.

١  القاهرة في ٥ أبريل سنة ١٩٤١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤