المقدمة

للدكتور عبد الوهاب عزام١

(١) القسم الأول: طبعات الكتاب وأصولها

(١-١) لماذا نُعنى بهذا الكتاب؟

كأني ببعض من يطَّلِعون على هذه الطبعة لكتاب «كليلة ودمنة»، أو يسمعون بها، يقولون: ما لهذا الكتاب يُعنى به، ويُبذل في تصحيحه وتوضحيه ومُقابلة نسخه وبيان تاريخه هذا الجهد العظيم، وتُنفق على نشره هذه الأموال الكثيرة، وهو كتاب تكرر طبعه في الشرق والغرب، وتوالت طبعاته في مصر منذ عهد محمد علي باشا إلى اليوم، واتخذته وزارة المعارف كتابًا مدرسيًّا، فلا تجد في مصر عالِمًا ولا مُتعلِّمًا إلَّا اطَّلع عليه وقرأه كله أو بعضه؟ وإني أعجل الجواب لهؤلاء فأقول: قليلٌ من الكتب نال من إقبال الناس وعنايتهم ما نال هذا الكتاب؛ فقد تنافست الأمم في ادِّخاره منذ كُتِب، وحرصت كل أمة أن تنقله إلى لغتها؛ فليس في لغات العالم ذات الآداب لغة إلَّا تُرجِم هذا الكتاب إليها، وبحقٍّ عُنيت الأمم بهذا الكتاب العجيب الذي يحوي من الحِكم والآداب وضروب السياسة وأفانين القَصص ما يملأ القارئ عِبرة وإعجابًا وسرورًا.

والأمم العربية أولى أن تُعنى بهذا الكتاب في لغتها، وأجدر أن تهتمَّ بتأريخه وتوضيحه ونقده لأسبابٍ عدة:

  • أولها: أن النسخة العربية أصلٌ لكل ما في اللغات الأخرى — حاشا الترجمة السريانية الأولى — فقد فُقِد الأصل الفهلوي الذي أُخِذت عنه الترجمة العربية، وفُقِد بعض الأصل الهندي الذي أُخِذت عنه الترجمة الفهلوية، واضطرب بعضه؛ فصارت النُّسخة العربية أُمًّا يرجع إليها من يريد إحداث ترجمة أو تصحيح ترجمة قديمة، بل يرجع إليها من يُريد جمع الأصل الهندي وتصحيحه.
  • والثاني: من الأسباب: أنَّ هذا الكتاب كُتِب باللغة العربية في مُنتصف القرن الثاني من الهجرة، فهو مِن أقدم ما بين أيدينا من كتب النثر العربي، وأسلوبُه مثالٌ من أقدم أساليب الإنشاء في لغتنا، وهو لذلك جديرٌ بعناية مؤرخي الأدب العربي.
  • والثالث: أنَّ هذا الكتاب نُقِل من الفارسية إلى لغتنا، ولمؤرخي الآداب كلامٌ كثيرٌ في تأثير الأدب الفارسي في الأدب العربي في تلك العصور، والترجمة من أقوى الوسائل لتأثير أدب في آخر، فدراسة هذا الكتاب تُبيِّن صلة ما بين الفارسية والعربية في القرن الثاني، وتُبيِّن أنَّ الأساليب العربية أخذت من الأساليب الفارسية أو لم تأخذ.
  • والرَّابع: من دواعي العناية بهذا الكتاب: أنَّ عندنا منه نسخًا مختلفة لا تتفق اثنتان منهما اتفاقًا تامًّا، ويعظم الخلاف بين بعضها بالزيادة والنقص في بعض الأبواب، وبعض القِصص والأمثال، وبالإطناب والإيجاز، واختلاف الألفاظ في الموضع الواحد؛ حتى يعجب القارئ الذي يقيس نسخًا من الكتاب بأُخرى، ويغلب على ظنِّه أنَّ الكتاب تُرجِم إلى العربية أكثر من مرة، وسيأتي بيان هذا.
وقد عثر الأستاذ هرتيل Johannes Hertel على كتاب «بنج تنترا» الهندي، وهو أصل من أصول «كليلة ودمنة»، ودعا بعض المستشرقين إلى تحرِّي النص الصحيح العربي ليُستعان به على تصحيح الأصل الهندي.
وعُنِيَ الأستاذ برستيد James H. Brestead رئيس المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو بدراسة النصوص العربية لكتاب «كليلة ودمنة»، وكتب الأستاذ سبرنجلين Sprengling من أساتذة هذه الجامعة مقالًا مفصَّلًا في الجريدة الأمريكية للغات والآداب السامية The American Journal of Semitic Languages and Literatures عدد يناير ١٩٢٤ بيَّن فيه عناية هذه الجامعة بتصحيح النص العربي للكتاب، وعدد المخطوطات الكثيرة التي جُمِعت من أرجاء العالم لهذا المقصد، ودعا الأدباء في الشرق والغرب إلى إمداده بما عندهم من نصوص وآراء لهذا العمل.

(١-٢) طبعات الكتاب

فإن كان الكتاب لهذه الأسباب جديرًا بعناية أدباء العربية قمينًا بأن يُطبع مستوفيًا حقَّه من التصحيح والنقد، فهل طبع الكتاب مرة على هذه الشاكلة؟ ليس في طبعات الكتاب التي ظهرت في أوروبا والبلاد العربية وبلاد الشرق الإسلامي طبعة واحدة جديرة بثقة القارئ الناقد، صالحة أن يعتمد عليها مُؤرخ لهذا الكتاب أو مؤرخ للأدب العربي، وبرهان هذه الدعوى فيما يلي:

طبعة دي ساسي

طُبِع الكتاب لأول مرة في باريس سنة ١٨١٦م طبعه المستشرق الكبير سلفستر دي ساسي Sylvestre de Sacy. ويتبين من المُقدمة التي كتبها الناشر أنَّه رأى كثرة الاختلاف بين النسخ التي وجدها في باريس؛ فاختار أقدمها في رأيه، وصحَّحها ونقَّحها من نُسخ أخرى، وكانت هذه النسخة التي اختارها في حاجة إلى التكميل والتصحيح والتنقيح، فيها نقص تداركه بعض القرَّاء بخط حديث، وفيها مواضع ذهب بها البِلى، وكلمات مُحيَت فوُضِعت موضعها أخرى؛ فالكتاب الذي نشره دي ساسي لا يقدِّم للناقد نسخة واحدة تصلح للنقد والمقايسة، ولكن نسخة ملفقة؛ ولهذا لم يثق بها المستشرقون الذين عُنُوا بالموضوع أمثال فلكنر Falconer، وجويدي Guidi، ورايت Wright، وزتنبرج Zotenberg، وشاركهم الأب شيخو في رأيهم، يقول نلدكه Noldeke: «يمكن أن يُقال إن اختيار أي مخطوط رديء للطبع كان أجدى على النقد» (Kalilah and Dimnah by Falconer P. XVII). وقد وجد نلدكه أنَّ النُّسخة التي كانت أقل النسخ حظًّا من عناية دي ساسي هي أقرب النصوص إلى النسخة السريانية القديمة.

الطبعات المصرية

وكل الطبعات التي طُبِعت في مصر كانت تكرارًا لهذه الطبعة، فالطبعتان اللتان أخرجتهما مطبعة بولاق سنة ١٢٤٩ وسنة ١٢٥١ﻫ في عهد محمد علي باشا صورتان من طبعة دي ساسي إلَّا كلمات قليلة، يقول مصحح الكتاب في المقدمة:

فصادف سعده (أي: محمد علي باشا) المقترن من الله بالمنة وجود نسخة مطبوعة بالعربي في غير بلاد العرب من كتاب كليلة ودمنة، وهي التي ترجمها عبد الله بن المقفع الكاتب المشهور في أيام أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور، وكانت ترجمتها من اللغة الفهلوية إلى اللغة العربية، واتفق الناس على صحة تلك النسخة لشهرة مصححها بالألمعية. (وهنا ينقل المصحح فقرات من مُقدمة دي ساسي تبيِّن طريقة هذا المستشرق في تصحيح الكتاب).

ثم إنَّ تلك النسخة المطبوعة عُرِضت هي وغيرها على شيخ مشايخ الإسلام وقدوة عُمَد الأنام مولانا الشيخ حسن العطَّار — أدام الله عموم فضله ما دام الليل والنهار — فقال: يصحُّ ألَّا يوجد لها في الصحة مثال؛ لشهرة مُصححها بالضبط وسعة الاطِّلاع على الأقوال، وحينئذٍ اتفقت الآراء على أن يكون المعوَّل في طبع ذلك الكتاب عليها، ومنتهى اختلاف النسخ ووفاقها إليها، فبادرتُ إشارة الأمر بصريح الامتثال، وسرَّحت في رياض تلك النسخ سائم الطرف والبال، فوجدتُ المطبوعة أفصحها عبارة، وأوضحها إشارة، وأصَّحها معنى، وأحكمها مبنى، غير أنَّ فيها لُفيظات حادت عن سَنَن العربية، وبعض معانٍ مالت بها الركاكة عن أن تُفهم بطريقة مَرْضِيَّة، فَقَرَيْتُ أضياف المعاني بأي لفظ تشتهيه، وربُّ البيتِ أدرى بالذي فيه، خصوصًا مع وجود المواد التي تكشف عن وجوه الصحة نقاب الاشتباه، وما كان ذا مَكِنة فلينفق مما آتاه الله، مستعينًا على ذلك بما لديَّ من النسخ التي بخط القلم، معوِّلًا على عناية من علَّم الإنسان ما لم يعلم.

وكل الطبعات التي توالت في مصر كانت تكرارًا لطبعة بولاق إلَّا فصولًا وجملًا أُلفِيَتْ غيرَ ملائمة للآداب فحُذِفت.

طبعتا اليازجي وطبارة

والطبعات الشامية كذلك اعتمدت على طبعة دي ساسي وما حاكاها من طبعات مصر مع تصحيح أو تلفيق بينها وبين بعض المخطوطات.

ذكر الشيخ خليل اليازجي في مُقَدِّمة طبعته أنه عثر على نسخة مكتوبة منذ ثلاثمائة سنة، وقايس بينها وبين النُّسخة المطبوعة في مصر ونسخة دي ساسي، ووجد بينهما اختلافًا كثيرًا، ثم قال: «وقد جمعت بين النسخ الثلاث وطبَّقت بينها بأن اخترت من كلٍّ منها أحسنها، مع نقل المزيد في نسخة الخط المشار إليها، وإصلاح ما في النسخ الثلاث من أغلاط النسَّاخ وغيرها، وزياداتٍ أُخر زدتها مما عنَّ للخاطر الضعيف للربط بين فواصل الكلام، أو لاستدعاء المقام لها، أو لاستحسان موقعها، أو استطرادًا جرَّ إليه سياق الكلام مما يظن أنَّ النُّسخة الأصلية لم تخلُ عن شيء بمعناه، وغير ذلك مما جرأني عليه الرغبة في ردِّ هذا الكتاب الجليل ما أمكن إلى رونقه القديم، وإن كان يقصر عن ذلك ذرعي، ويضيق وُسعي، ولكني فعلتُ رجاء أن أستعين به عليه وأتطرق منه إليه؛ فتيَسَّر لي أن أجمع من النسخ الثلاث نسخة وافية جديرة بأن تُنزل منزلة النسخة الأصلية.»

ثم يذكر أنه حذف أمثالًا وعبارات لا تلائم آداب العصر، ولا تصلح لقراءة التلاميذ.

وأمَّا نُسخة أحمد حسن طبارة التي استعان على تصحيحها السيد مصطفى المنفلوطي، فيقول في مقدمتها إنه عثر على نسخة مصوَّرة كُتِبت سنة ١٠٨٦ﻫ، فعزم على طبعها، ثم يقول: «فعنيت أولًا بمقابلتها على ما توفَّر لديَّ من نُسَخِها كنسخة باريس المطبوعة سنة ١٨١٦ ونسخة مصر المطبوعة سنة ١٢٩٧ ونُسخ بيروت الشهيرة، واخترت منها ما كان أقربها إلى الأصل، وأبعدها عن التحريف والتبديل، وأسلمها من الزيادة والنقصان.»

فترى من هذا أنَّ نسخَتَي اليازجي وطبارة — على ما لقيتا من تصحيح وعناية — قد لُفِّقت لهما نسخٌ مختلفة، ووقع فيهما من تصرف الناشرين ما يذهب بقيمتهما التاريخية، ويقلل خطرهما في رأي الناقد.

طبعة شيخو

يقول الأب شيخو في المُقدمة الفرنسية التي قدَّمها لطبعته إنَّه عثر في دير الشير في لبنان على مخطوط من كتاب «كليلة ودمنة»، كُتِب سنة ٧٣٩ﻫ، وإنه رأى في أسلوبها شبهًا بما يُعرف من أسلوب ابن المقفع، ورأى أنها أقرب النُّسخ إلى الأصل الهندي «بنج تنترا» وإلى الترجمتين السريانيتين: الترجمة القديمة المأخوذة عن الفهلوية، والحديثة المأخوذة عن العربية، وإنه طبع الكتاب كما هو، لم يصحِّح أغلاطه ولم يوضح غامضه؛ ليكون أمام المستشرقين صالحًا للمقارنة والنقد.

ثم يقول إنه ألحق بالكتاب الأبواب التي ليست في نسخته، مطبوعةً بحروفٍ صغيرةٍ تميِّزها عن الأبواب التي في نسخته.

ولا ريبَ أن طبعة شيخو — على ما فيها من سقطٍ وغلطٍ وتحريفٍ كثيرٍ، بعضه يُدرَك صوابُه لأول نظرة، وبعضه لا يدرَك إلَّا بعد طول بحث ومقارنة — لا ريبَ أن هذه الطبعة أول طبعة في اللغة العربية تقدِّم للقراء نصًّا كاملًا غير ملفَّق من كتاب «كليلة ودمنة»، وتصلح أن تكون حلقة في سلسلة البحث عن أصل هذا الكتاب، كما تُرجِم عن الفهلوية.

ثم قال الأب شيخو في آخر مُقَدِّمته إنه سيصحح نسخته من مخطوطات أخرى؛ ليجعل منها نسخة مدرسية، وقد أخرج مِنْ بعدُ نسخة مدرسية مصححة.

وهذا مثالٌ من نسخة شيخو يبيِّن تحريفها، ويُرى استدراك الأب شيخو بين هاتين العلامتين ( ) واستدراكنا بين العلامتين الأخريين [ ]: «ولست أجدني مخصوصًا [مخصومًا] في هذه المقالة؛ لأني لم أُخالفه في شيءٍ من ذلك قط على رءوس جنده إلَّا وقد تدبَّر [تدبرت] فيه المنفعة والزين. ولم أجاهره بشيءٍ من ذلك قط على رءوس جنده ولا عند خاصته وأصحابه، ولكن كنتُ أخلو به فألتمس ما أكلِّمه من ذلك كلام القانت لربه الموقن له، وعرفتُ أنه من طلب الرخص من النصحاء عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرضى، وعند الفقهاء في الشبهة (كذا) [والفقهاء عند الشبهة] أخطأ منافع الرأي، وازداد في الرأي المرض (كذا) وجعل الوزر في الدين [فقد أخطأ الرأي وزاد في المرض واحتمل الوزر]. فإن لم يكن هذا فعسى ذلك أن يكون من بعض سكرات السلطان، فإن من سكراته أن يرضى عن من [عمَّن] استوجب السخط، ويسخط على من استوجب الرضا (الرضى) من غير سبب معلوم. وكذلك قالت العلماء: خاطَرَ من لجَّج في البحر، وأشدُّ منه مخاطرة صاحب السلطان، فإن هو صَحِبَهم (كذا) [يستعمل السلطان جمعًا وهو استعمال صحيح قديم] بالوفاء والاستقامة والمودَّة والنصيحة، خليقٌ (كذا) لأن يعثر فلا ينتعش أو يعد (يعود)، وقد أشفى على الهلكة أن ينتعش وإن لم يكن هذا؛ فلعلَّ بعض ما أعطيتُه من الفضل جُعل فيه هلاكي؛ فإن الشجرة الحسنة رُبَّما كان فسادها في طيب ثمرتها إذا تُنُوِّلت [تنوولت] أغصانها وجُذِبت حتى تُكسر وتفسد، والطاووس ربما صار ذَنَبُه الذي هو حسنه وجماله وبالًا عليه فاحتال (فإذا احتال) [لا حاجة لما بين القوسين] إلى الخفة والنجاة ممن يطلبه فيشغله عن ذلك ذَنَبه، والفرس الجواد القويُّ ربما أهلكه ذلك فأُقصد (كذا) [فأجهد] وأتعب، واستعمل لما عنده من الفضل حتى يهلك» شيخو (الطبعة الثانية ص٨٢). وليست هذه الفقرات أكثر من غيرها تحريفًا.

(١-٣) نسختنا

يُرى مما قدمت أن كتاب «كليلة ودمنة» طُبِع طبعات مدرسية كثيرة تفي بتعليم الناشئة، ولكنه لم يُطبَع طبعة واحدة يطمئن إليها الناقد الذي يتحرى ما كتبه ابن المقفع.

فلم يكن عجيبًا أن يطول البحث والعناء ليُطبع الكتاب طبعة أخرى، وكان من سوء الاتفاق أنَّ هذه الحرب الماحقة التي يَصْلَى بنارها جُناتها وغير جُناتها شبَّت ونحن نتأهب لنشر هذا الكتاب، فلم يتيسَّر لنا تحصيل المخطوطات التي أردناها، ولكن كان من حسن الحظ أن عثرنا على نسخة في مكتبة أيا صوفيا بإسطنبول كُتِبت سنة ٦١٨ﻫ، فهي أقدم من كل المخطوطات التي وصفها المستشرقون، وأقدم من نسخة شيخو المكتوبة سنة ٧٣٩ﻫ والتي رآها شيخو أقدم نسخة مؤرخة فكتب على صفحة العنوان: «أقدم نسخة مخطوطة مؤرخة لكتاب كليلة ودمنة.»

لم يكن القِدَم وحده سببًا لاختيارنا هذه النُّسخة واحتمال العناء الطويل في نشرها، ولكن اجتمعت فيها مزايا ظننا معها أنها جديرة بالنشر، وأن نشرها خطوة سديدة في سبيل نقد الكتاب وتقريبه من أصله جهد المستطاع.

وهذا وصف النسخة وتبيين مزاياها وعيوبها:

عنوان النسخة: «كتاب كليلةٍ ودمنةٍ مما وضعَتْه علماء الهند على لسان الطير والوحش وغير ذلك في الحكم والأمثال»، وتحت العنوان: «يثق بالكافي محمد بن الحجافي»، وتحت هذا ثلاثة أسطر مشطوبة شطبًا يمنع من قراءتها.

وفي آخر النسخة:

تمَّ الكتاب بعونِ اللهِ وتوفيقهِ، وكان الفراغ منه في مُستهل جمادى الآخر من شهور سنة ثمانية عشر وستمائة، غفر الله لكاتبه ولصاحبه ولمن نظر فيه ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، كتبه لنفسه الفقير إلى الله تعالى المعترف بالتقصير عبد الله بن محمد العمري عفا الله عنه.

وبعد هذا خمسة أبيات في وصف الكتاب.

وبعدها «وحسبنا الله ونعم الوكيل» في سطر، وفي سطر آخر: «كعمعق زهزوق»، وفي سطر آخر: «الحمد لله وحده اه اه اه.»

وبعد هذا سطران فيهما اسم بعض من ملكوا النسخة، ثم البيتان:

[لئن] نال غيري وهو دوني وصالها
وأصبح ذكري عندها غير نافقي [نافقِ]
فكم بيدق للشاه أصحب قاهرًا
ولا زال قدر الشاه فوق البيادقي [البيادقِ]

والظاهر من صفحتي العنوان والخاتمة أنَّ صاحب النُّسخة اسمه محمد بن الحجافي، وأنَّ كاتبها اسمه عبد الله بن محمد العمري، وأنَّ الكاتب من عامة النسَّاخ الذي لا يُجيد النحو ولا رسم الحروف، فقد كتب: «كليلةٍ ودمنةٍ» بالصرف، وكتب: «جمادى الآخر من شهور سنة ثمانية عشر وستمائة»، والصواب: جمادى الآخرة من شهور سنة ثماني عشرة وستماية، وكتب في أبيات في الصفحة الأخيرة: «ألسنتٍ فصيحة» بتاء مفتوحة بدل: «ألسِنةٍ».

ولهذا وقع في النُّسخة تحريفٌ شنيعٌ، وسقطٌ في جملٍ وكلماتٍ وحروفٍ، ورُسِمت بعض الكلمات وأُعجِمت على صورة عجيبة لا توافق حروف العربية، حتى ظننت أنَّ الكاتب لا يحسن قراءة الكتاب، وكان يرسم الحروف كما يراها فيخطئ في كثيرٍ منها، وبيِّنٌ أنَّ نصيب الكلمات الغريبة من هذا التحريف أوفر، وبعض التحريف لا يُفسَّر إلَّا بأنَّ الكاتب كان يستملي فيسيء السمع أو يخطئ الرسم.

figure
نموذج من نسختنا الخطية (الصفحة الأولى).
وهذه أمثلة من التحريف، وقد وضعتُ تصويبها بين هاتين العلامتين [ ]:
«ثم إن شتربة لم يلبث أن عكن وشحن وسر [… أن عكد وشحم وترَّ]».٢
«كان أسدَّ البصيرة، وأبلج الصدر، وأحرى أن يُقدم المزيدة على غيره الشبهة والشك [كان أسدَّ للبصيرة وأثلج للصدر، وأحرى أن يُقدِم المرء به على غير الشبهة والشك]».٣
«فإن الكاتم لدم المجرم في رتغ منتفع شركه إياه فيه [فإنَّ الكاتم لجرمِ المجرم في وتغ مبتغ شركه فيه]».٤
«لم يقبض المحتال ولا للحسب [لم يقيَّض للجمال ولا للحسب]».٥
«كذلك العالم يبصر الإثم قبيحه والبغي فيعلمه [… يبصر الإثم فيجتنبه، والبر فيعمله]».٦
«فاطمئن إلى ما ذكرت وتؤمني [فاطمئن إلى ما ذكرت، وثق به منِّي]».٧
ومن التحريف الذي أحسبه نشأ عن الإملاء:
«لقد أورتني [أورطني] الحرص والشره على كبر السن شر مورط».٨
«لم يأتي [يأتِ] إليك شيئًا إلَّا وكنتي [كنتِ] ركبتي [ركبتِ] من غيرك مثله».٩

وإذا عرف القارئ أنَّ كثيرًا من هذه الجمل المحرَّفة تنفرد بها نسختنا، فلا يُمكن تصحيحها من النسخ الأخرى، وأنَّ بعضها يقابله تحريف مثله أو أشنع منه في نسخة شيخو، تبيَّن مقدار العناء الذي احتُمِل في رد هذه الجمل إلى صواب يطمئن إليه الباحث.

ويرى القارئ مثالًا من تتبُّع الجمل المُحرَّفة في مواضعها من تراجم الكتاب المختلفة في تعليقات باب «البوم والغربان» حيثُ يرى كيف صُحِّحت الجملة: «فإن من يرا كل القتل يرا كل الحيف»، فرُدَّت إلى أصلها: «فإنَّ من يواكل الفيل يواكل الحيف».

مزايا هذه النسخة

ولكنَّ هذه النسخة — على تحريفها وما فيها من سقط — تفضُل النسخ المطبوعة كلها، وتحوي نصًّا يُخالف ما في تلك النسخ مُخالفة بيِّنة، وتمتاز بمزايا منها:
  • (١)

    احتواؤها جُملًا طويلة تُشبه ما يُعرف من كلام ابن المقفع في كتبه، وهذه الجمل تُلفَى مختصرة أو مُيَسَّرة في النُّسخ الأخرى، وواضح أنَّ تصرُّف النُّسَّاخ والقُرَّاء يكون بتقريب الكتاب وتيسير جمله لا العكس، فالجمل الطويلة المستغلقة في نسختنا حَريَّة أن تكون أقرب إلى الأصل من الجمل القصيرة اليسيرة التي تقابلها في النُّسخ الأخرى.

  • (٢)
    ومنها أنَّ في نسختنا جملًا يتبين فيها أثر الأسلوب الفارسي، وقد غُيِّرَت في النسخ الأخرى بما يُدخلها في الأساليب العربية المألوفة، وهذه أمثلة منها:
    «حتى غلب على صاحب البيت النعاس، وحمله النوم»،١٠ فجملة: «حمله النوم» ترجمة لفظية للجملة الفارسية: «خواب أورا برد»، وفي النُّسخ الأخرى: «فغلب الرَّجل النعاس.»
    «وعرفت أني — إن أوافِقه على ما لا أعلمُ — أكُن كالمصدِّق المخدوع الذي زعموا أنَّ جماعة من اللصوص ذهبوا إلى بيتِ رجلٍ من الأغنياء … إلخ»،١١ وظاهرٌ أن «الذي» هنا ليست ملائمة للسياق، وليس بعدها عائدٌ على الموصول، ويُقابل «الذي» في الفارسية: «كه»، ولكن «كه» تأتي أيضًا للتعليل أو التفريع، فكان ينبغي أن تترجم الجملة: فقد زعموا … إلخ، ولكن المترجم وضع «الذي» هنا موضع «كه» التي جاءت في الأصل الفارسي للتفريع، وهي في غير موضعها، وفي النسخ الأخرى: «الذي زعموا فيه» أو «في شأنه» وهي زيادة لتعريب الجملة، وفي شيخو (ص٣٤): «كالمصدِّق المخدوع مثل الذي (كذا) زعموا أنه ذهب سارق … إلخ.»
    «وأمَّا مَن دونه فقد تجري أمورهم فنونًا يغلب على أكثر ذلك الخطأ»،١٢ فوضْع «ذلك» موضع الضمير فيه شبَه بالعبارة الفارسية.
    «فسأله رجلٌ فقال»،١٣ تشبه هذه الجملة التعبير الفارسي: «برسيده گفت»، «وتركوا التاج على رأسه»،١٤ فاستعمال «تركوا» في موضع «وضعوا» يشبه أن يكون ترجمة للكلمة: «گذاشتند»، وهي تأتي بمعنى «الترك» وبمعنى «الوضع»، وقد تُرجمت هنا بالمعنى الأول، والأولى بها المعنى الثاني.
  • (٣)
    ومن مزايا نُسختنا كذلك استعمال كلمات صحيحة غير شائعة، وهذه الكلمات تغيَّر في النسخ الأخرى إلى كلماتٍ مألوفة، ومن أمثلة هذا:
    «آلمال أم اللذاتُ أم الصوتُ أم أجرُ الآخرة؟»،١٥ فاستعمال «الصوت» بمعنى «الصيت» صحيح، ولكن النسخ الأخرى غيرته إلى «الصيت» أو «الذِّكر»، وفي نسخة «شيخو» (ص٣١): «الصون»، وهو تحريف «الصوت».
    «فقال الأسد لقرابينه»،١٦ فاستعمال كلمة «قرابين» بمعنى خاصة الملك، وتغييرها في النسخ الأخرى إلى «جلسائه» ونحوها إيثارًا للكلام المألوف.
    «السلطان»١٧ استُعمِلَت هذه الكلمة بمعنى الجمع، وهو استعمال قديم صحيح، وقد استعمِل في النسخ الأخرى بمعنى المفرد.
    «وكانت لملكهم ابنة كريمة، وكانت حاملًا فأصابها بَطَن»١٨ «البطن» وجع البطن، وقد غُيِّرت في النسخ الأخرى إلى «وجع البطن.»
    «فإنَّ أولى أهل الدنيا بطيب العيش وكثرة السرور وحسن الثناء من لا يزال رَحله موطوءًا من إخوانه»١٩ ومثل هذا في شيخو من التحريف؛ يُقابل هذا في النسخ الأخرى: «من لا يزال ربعه من إخوانه وأصدقائه معمورًا»، فقد غيَّر «رحله موطوءًا» إلى «ربعه معمورًا» تقريبًا للعبارة.

    فتغيير النسخ الأخرى هذه الجمل أُريد به تيسير الكتاب، والنسخة التي تشتمل على الألفاظ الصحيحة المُستعملة عند خاصَّة الكتَّاب أقرب إلى الأصل من النسخ التي تُقابل هذه الألفاظ بألفاظ شائعة مألوفة عند عامة القراء.

  • (٤)
    ويقرب من هذا حرص نُسختنا على ذكر أسماء للمدن والأشخاص لا تُذكَر في النسخ الأخرى، وحفظها لبعض الأسماء صيغًا أغرب مما في غيرها، وهذا كثيرٌ يمكن تتبعه في كل فصول الكتاب، ومن أمثلة هذا اسما الرجلين: «آذرهربد»،٢٠ و«أزويه»،٢١ واسم الأسد: «بنكلة»،٢٢ وأرض «مردات»،٢٣ ومدينة «برود»،٢٤ وانظر الأسماء في باب «إبلاد وإيراخت وشادرم».

    والظاهر أنَّ النسخ الأخرى حذفت هذه الأسماء الأعجمية اختصارًا وتخفيفًا على القرَّاء.

  • (٥)

    والخامس مما تفضل به نسختنا النسخ المطبوعة أنَّ نصوصها أقرب في الجملة إلى النصوص التي تُلفى في كتب قديمة مثل كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦، ففي هذا الكتاب جملٌ كثيرة منقولة عن كتاب «كليلة ودمنة» ينسبها المؤلف إلى هذا الكتاب تصريحًا، أو يقول: «وقرأت في كتاب للهند»، والظاهر أنَّ ابن قتيبة لا يلتزم نص الكتاب دون تغيير، ولكن ما نقله يصلح أن يكون بألفاظه أو معانيه مقياسًا بين النسخ المتأخرة من هذا الكتاب.

    ويرى القارئ أمثلة فيما يأتي:
    • (أ)

      عيون الأخبار: «وإنما تشبه بالجبل الوعر فيه الثمار الطيبة والسباع العاديَة، فالارتقاء إليه شديد، والمقام فيه أشد» (ج١ ص١٩).

      نسختنا: «وإنما شبَّه العلماء السلطان بالجبل الوعر الذي فيه الثمار الطيبة، وهو معدن السباع المخوفة، فالارتقاء إليه شديد، والمقام فيه أشد وأهول».٢٥

      النسخ الأخرى: «وإنما شبَّه العلماء السلطان بالجبل الصعب المرتقى الذي فيه الثمار الطيبة، والجواهر النفيسة، والأدوية النافعة، وهو مع ذلك معدن السباع والنمور والذئاب وكل ضارٍّ مخوف، فالارتقاء إليه شديد والمقام فيه أشدُّ» طبارة (الطبعة الرابعة ص٩٦).

    • (ب)

      عيون الأخبار: «إنَّما مثل السلطان في قلة وفائه للأصحاب وسخاء نفسه عمَّن فقد منهم مثل البغي والمكتَّب كُلَّما ذهب واحد جاء آخر» (ج١ ص٢٥).

      نسختنا: «إنما مثلهم في قلة وفائهم لأصحابهم وسخاء أنفسهم عمَّن فقدوا منهم مثل البغي كلما ذهب واحد جاء آخر مكانه».٢٦

      النسخ الأخرى: لا تلفى هذه الجملة.

    • (جـ)

      عيون الأخبار: «ثلاثة أشياء تزيد في الأُنسِ والثقة: الزيارة في الرحل، والمؤاكلة، ومعرفة الأهل والحشم» (ج٢ ص٢٤).

      نسختنا: «إن أمورًا ثلاثة تزداد بها لطافة ما بين الإخوان، واسترسال بعضهم إلى بعض، منها المؤاكلة، ومنها الزيارة في الرَّحل، ومنها معرفة الأهل والحشم».٢٧

      النسخ الأخرى: لا توجد الجملة في المصرية وطبارة. وفي اليازجي: «فإنَّ أفضل ما يلتمسه المرء من أخلائه أن يَغْشَوا منزله، وينالوا من طعامه وشرابه، ويعرفهم أهله وولده وجيرانه» اليازجي (ص٢٧٢).

    • (د)

      عيون الأخبار: «ثلاثة يُهزأ بهم: مدَّعي الحرب ولقاءِ الزحوفِ وشدةِ النكاية في الأعداء وبدنُه سليم لا أثرَ به، ومنتحِل علم الدين والاجتهاد في العبادة، وهو غليظ الرقبة أسمن الأثمة … إلخ» (ج٢ ص٢٠).

      نسختنا: «ثلاثة ينبغي أن يُسخر منهم: الذي يقول شهدت زحوفًا كثيرة فأكثرت القتل ولا يُرى في جسمه شيءٌ من آثار القتال، والذي يُخبر أنه عالم بالدين ناسك مجتهد وهو بادن غليظ الرقبة لا يُرى عليه أثر التخشع … إلخ».٢٨

      النسخ الأخرى: في شيخو قريب مما هنا بعد تصحيح التحريف الشنيع، ولا توجد الجملة في النسخ الأخرى.

    • (هـ)
      وكذلك الجملة: «أربعة يخافون مما لا ينبغي … إلخ.» نسختنا٢٩ يُرى نظيرها في «عيون الأخبار»، ولا تُعرف في النسخ الأخرى.
    • (و)
      ونجد مثالًا آخر في هذه الجملة من نسختنا:٣٠ «كالأسد الذي يفترس الأرنب، فإذا رأى العَير تركها وأخذه»، في نسخة شيخو (ص٥٦): «فإذا رأى الأتان»، وفي النسخ الأخرى: «البعير»، وفي منظومة أبان بن عبد الحميد التي نظمها للبرامكة:
      كالأسد الذي يصيد أرنبًا
      ثم يرى العَير المجدَّ هربا
      فيرسل الأرنب من أظفاره
      ويتبع العَير على إدباره

(١-٤) نماذج من اختلاف النُّسخ

يحار قارئ الكتاب فيما بين نسخه من تخالف وتقارب واتفاق: في بعض الصفحات تختلف النُّسخ اختلافًا بيِّنًا، وفي بعضها تتقارب في المعنى واللفظ، وفي أُخرى تتفق؛ ولكن الاتفاق يندر بين نسختنا والنسخ المطبوعة في مصر والشام، حاشا شيخو فإنَّ موافقتها نسختنا كثيرة، بل توافقهما أكثر من تخالفهما.

وليست أبوابُ الكِتَابِ سواءً في تقارب النُّسخ وتباعدها، بل بعض الأبواب كباب «إبلاد وإيراخت وشادرم» يتضح فيه تقارب النسخ، وبعضها كباب «الأسد والثور» يتضح فيها التباعد، كأنَّ الأبواب الأكثر نصيبًا من عناية القرَّاء كانت أكثر نصيبًا من التغيير، على أنَّ الباب الواحد فيه فصول مُتقاربة وأخرى متباعدة.

وسأبحثُ في أسباب اختلاف نسخ الكتاب حين الكلام على ترجمته إلى العربية، وأعرض فيما يلي على القارئ قصة السمكات الثلاث منقولة من نُسخٍ مختلفةٍ؛ لتكون مثالًا لما بينها من تباعد وتقارب:
  • نسختنا: «زعموا أنَّ غديرًا كان فيه ثلاثُ سمكاتٍ: كيِّسة، وأكيسُ منها، وعاجزة، وكان ذلك المكان بنجوةٍ من الأرض، لا يكاد يقرُبه من الناس أحد، فلمَّا كان ذات يوم مرَّ صيادان على ذلك الغدير مجتازَيْن، فتواعدا أن يرجعا إليه بشِباكهما فيصيدا الثلاث السمكات اللواتي رأياهنَّ فيه، فلمَّا رأتهما الحازمة ارتابت بهما، وتخوَّفت منهما، فلم تعرِّج أن خرجت من مدخل الماء إلى النهر، وأمَّا الكيِّسة فتلبَّثت حتى جاء الصيادان، فلمَّا أبصرتهما قد سدَّا مخرجها، وعرفت الذي يريدان بها قالت: فرَّطتُ، وهذه عاقبة التفريط، فكيف الخلاص، وقلَّما تنجح حيلة المرهوق؟ ولكنَّ العالِم لا يقنطُ على كل حال، ولا يدعُ الأخذ بالرأي، ثم تماوتت وجعلت تطفو على وجه الماء منقلبة، فأخذاها فألقياها على الأرض غير بعيدٍ من النهر، فوثبت فيه فنجت منهما، وأمَّا العاجزة فلم تَزَلْ في إقبال وإدبار حتى صاداها».٣١
  • شيخو: «زعموا أنَّ غديرًا كان فيه ثلاث سمكات عظام، وكان ذلك الغدير بفجوة من الأرض لا يقربها أحد، فلَمَّا كان ذات يوم من هنالك (كذا) أتى صيَّادان مجتازان، فتواعدا أن يرجعا بشبكتهما فيصيدا تلك السمكات الثلاث التي رأيا فيه، وأن سمكة منهن كانت أعقلهن وإنما ارتابت وتخوَّفت فعاجلت الأخذ بالحزم، فخرجت من مدخل الماء الذي كان يخرج من الغدير إلى النهر، فتحوَّلت إلى مكان غيره، وأمَّا الأخرى التي كانت دونها في العقل فأخَّرت معاجلة الحزم حتى جاء الصيَّادان فقالت: قد فرَّطت وهذه عاقبة التفريط، فرأتهما وعرفت ما يُريدان، فوجدتهما قد سدَّا ذلك المخرج، فقالت: قد فرَّطتُ فكيف الحيلة على هذا الحال للخلاص؟ وقلَّ ما تنجح حيلة العجلة والإرهاق، ولكن لا نقنط على حال ولا ندع ألوان الطلب، ثم إنَّها للحيلة تماوتت فطفت على الماء منقلبة على ظهرها فأخذاها (فأخذها) الصيَّادان يحسبان أنها ميتة، فوضعاها على شفير النهر الذي يصبُّ في الغدير فوثبت في النهر فنجت من الصيَّادين، وأمَّا العاجزة فلم تزل في إقبال وإدبار حتى صِيدَتْ» (ص٧٥).
  • اليازجي: «زعموا أن غديرًا كان فيه ثلاث من السمك: كيِّسة وأكيس منها وعاجزة، وكان ذلك الغدير بنجوةٍ من الأرض لا يكاد يقربه أحد وبقربه نهر جارٍ، فاتَّفق أنه اجتاز بذلك النهر صيادان فأبصرا الغدير فتواعدا أن يرجعا إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك، فسمع السمكات قولهما، فأمَّا أكيسهن فلمَّا سمعت قولهما ارتابت بهما وتخوَّفت منهما، فلم تعرج على شيءٍ حتى خرجت من المكان الذي يدخل فيه الماء من النهر إلى الغدير فنجت بنفسها، وأمَّا الكيِّسة الأخرى فإنها مكثت مكانها وتهاونت في الأمر حتى جاء الصيَّادان، فلمَّا رأتهما وعرفت ما يريدان ذهبت لتخرج من حيث يدخل الماء؛ فإذا بهما قد سدَّا ذلك المكان، فحينئذٍ قالت: فرطتُ وهذه عاقبة التفريط، فكيف الحيلة على هذه الحال وقلَّما تنجح حيلة العجلة والإرهاق، غير أنَّ العاقل لا يقنط من منافع الرَّأي ولا ييأس على حال ولا يدع الرأي والجهد، ثم إنَّها تماوتت فطفت على وجه الماء منقلبة على ظهرها تارة وتارة على بطنها، فأخذاها الصيادان وظنَّاها ميتة، فوضعاها على الأرض بين النهر والغدير فوثبت إلى النهر فنجت، وأمَّا العاجزة فلم تزل في إقبالٍ وإدبارٍ حتى صِيدَت.» (ص١٤٤).

(١-٥) نسختنا ونسخة شيخو

أقرب النسخ إلى نسختنا نسخة شيخو، وهي على كثرة تحريفها واضطرابها تقارب نسختنا في أكثر الفصول، وقد تختلفان بالزيادة والنقص والإجمال والتفصيل واختلاف الألفاظ.

ونجد فيهما جملًا مستغلقة لم يتصرف فيها الكُتَّاب كما تصرفوا في الأخرى، نجد في باب «بعثة برزويه» أثناء الكلام على برزويه وصديقه الهندي هذه الجملة:
«فلم يطمئن إلى أحدٍ منهم إلَّا إلى صديقه ذلك عندما ورد عليه، وكيف فتَّش عقله ووثق به واطمأن إليه أن قال له … إلخ» نسختنا وقد أصلحتُ العبارة.٣٢
«وكان ممَّا حكم به برزويه صديقه ذلك، والذي ردَّ عليه، وكيف فتَّش عقله حتى وثق به واطمأنَّ إليه أن قال له» شيخو (ص٢٢).

وهي جملة مضطربة متشابهة في النسختين.

وبعد هذه الجملة بسطر نجد في النسختين:
«فاعلم أني لأمرٍ جئت، وهو غير ما ترى يظهر مني» نسختنا.٣٣
«فاعلم أني لأمر ما جئت له، وهو غير ما ترى يظهر مني» شيخو (ص٢٢).

فالجملة: «وهو غير ما ترى يظهر مني» على غرابتها مشتركة فيهما، وقد غُيِّرت في النسخ الأخرى إلى: «وهو غير الذي يظهر مني.»

وهذه الجمل المُستغربة في هاتين النُّسختين تدلَّان على أصل صحيح تنتهيان إليه، ومن العجيب أنهما تتفقان أحيانًا على تحريف، ففي قصة «الأسد والشعهر»:
«فلمَّا اجتمعوا على ذلك من كيدهم؛ دسُّوا ذاتَ يوم للحم كان الأسد استطرفه.» نسختنا.٣٤
«فلمَّا أجمعوا على ذلك لكيدهم دسُّوا ذات يوم للحمٍ كان الأسد استطرفه» شيخو (ص٢٢١).

والصواب: «دبُّوا» وقد حُرِّفت في النُّسختين إلى: «دسُّوا».

وفي الباب نفسه نجد في النسختين:
«وذلك سريعًا في إضاعة الأمر، وجلب عظيم الخطر.» نسختنا.٣٥
«وذلك سريعًا (كذا) في ضياعة الأمر وانتشاره وجلب عظيم الضرر والعيب» شيخو (ص٢٢٣).

والصواب: «سريع» وقد حرِّفت في النسختين إلى: «سريعًا».

وبعد هذا بقليل:
«كصاحب الخمر الذي أراد شراءها احتاج إلى اختبار لونها وطعمها.» نسختنا.٣٦
«كصاحب الخمر الذي أراد أن يشتريها احتاج إلى اختبار لونها وطعمها وريحها» شيخو (ص٢٢٤).

والظاهر أنَّ الصواب: «كصاحب الخمر إذا أراد … إلخ.»

وفي باب ابن الملك وأصحابه:
«ثم قال بعضهم لبعضٍ: انصرفوا يومكم هذا حتى نكسر عليكم ويرخصوه علينا.» نسختنا.٣٧
«انصرفوا يومكم هذا حتى نكسر عليهم فيرخصوا علينا» شيخو (ص٢٣٥).

والظاهر أنَّ كلمة: «نكسر» محرفة من: «يكسُد».

وفي باب «الناسك والضيف» في النسختين:
«وليس في بلادي الذي أسكنها» نسختنا.٣٨
«وليس في بلادي الذي (التي) أسكنها» شيخو (ص٢٤٣).

والصواب: «التي» وقد حُرِّفت في النسختين إلى: «الذي».

وأرى أنَّ الاتفاق على هذا التحريف يدلُّ على أصلٍ واحدٍ قد بعُدت الوسائط بينهما وبينه، وقد أصابَ نسخة شيخو من التحريف ما لم يُصِبْ نسختنا.

(٢) القسم الثاني: أصول الكتاب وتراجمه وأبوابه

(٢-١) الشرق مهد الأمثال

بلاد الشرق مهد القصص والأمثال المضروبة على ألسن الحيوان، وكانت الهند خاصةً مهد قصص حكيمة شاعت في أرجاء الأرض، انتقلت إلى بلاد الصين والتُّبَّت وإيران، وبلغت أوروبا في عصور قديمة، وكثيرٌ من أساطير إيسوب Æsop تتخللها أمثالٌ شرقية.

وذاعت من بين قصص الهند وأمثالها طائفةٌ من القصص جُمِعت في كتابين، أحدهما مأخوذ من الآخر، أو كلاهما مأخوذٌ من أصل واحد على اختلافهما في الأسلوب وفي بعض القصص.

يعرف أحد هذين الكتابين باسم: «بنج تنترا» أي: خمسة أبواب، وقد عثر عليه الأستاذ هِرتِل، وعُني به الباحثون، وطُبِع وتُرجِم إلى لغات أوروبية عدة، ويرى هِرتِل أنَّ مؤلفه حكيم هندي اسمه: بَرَهمن وِشنو، ألَّفه حوالي سنة ٣٠٠م.

ويُسمى الكتاب الثاني: «هِتوبادشا» أي: نصيحة الصديق، وقد شاع في أوروبا، وتُرجِم إلى بعض لغاتها وتُرجم إلى الإنجليزية ثلاثَ مرَّات.

(٢-٢) كليلة ودمنة: كتاب هندي

يقول ابن خَلِّكَان: «ويُقال إن ابن المقفع هو الذي وضع كتاب كليلة ودِمنة، وقيل إنه لم يضعه، وإنما كان فارسيًّا فنقله إلى العربية، وإن كان الكلام الذي في أول هذا الكتاب من كلامه.» وقد شكَّ بعض الناس في أمر الكتاب، ورددوا رواية ابن خلكان، وهذا كلام لا وزن له.

فلم يبقَ ريبٌ في أنَّ الكتاب هندي الأصل، وقد عُثِر على معظم أبوابه في الكتابين: «بنج تنترا» و«هتوبادشا» من الكتب الهندية.

وقد عَرَف هذا من قبل العلامةُ المحقق أبو الريحان البيروني، فقال في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة»:

ولهم (أي للهند) فنونٌ من العلم أُخر كثيرة، وكتبٌ لا تكاد تُحصى، ولكني لم أُحِط بها علمًا، وبودِّي أن كنت أتمكن من ترجمة كتاب بنج تنترا، وهو المعروف عندنا بكتاب كليلة ودمنة، فإنه تردد بين الفارسية والهندية ثم العربية والفارسية على ألسنة قوم لا يؤمَن تغييرهم إياه كعبد الله بن المقفع في زيادته باب برزويه فيه قاصدًا تشكيك ضَعْفَى العقائد في الدين، وكسرهم للدعوة إلى مذهب المنانية، وإذا كان متهمًا فيما زاد لم يخْلُ عن مثله فيما نقل.

ليس لدينا إذن ما يدعو إلى الشك في الرواية المتداولة أنَّ هذا الكتاب تُرجِم من الهندية إلى الفهلوية، ثم تُرجِم إلى العربية في القرن الثاني من الهجرة، وأمَّا الأخبار التي يتضمنها باب «بعثة برزويه» فسنعرض لها من بعد.

(٢-٣) نقل الكتاب من الهندية إلى الفهلوية

ليس عندنا ما يمنع من قبول ما تضمنه باب «بعثة برزويه» من أنَّ الكتاب نُقِل إلى الفهلوية في عهد كسرى أنو شروان، نقله بعض أطباء الفرس الذين ساحوا في بلاد الهند وعرفوا اللغة الهندية.

هذا هو الأصل الذي كُتِب عليه باب «بعثة برزويه»، وهو جدير بالقبول، وليس لدينا ما يدعو إلى الشكِّ فيه، وأمَّا إرسال كسرى برزويه إلى الهند لينقل الكتاب إلى الفهلوية، واحتياله للاطلاع على الكتاب، ومبالغة الهند في منع الأجانب أن يطلعوا على كتابهم، فهو مما حاكه الخيال لإكبار برزويه والإعجاب بعمله والإشادة به وتعظيم قدر الكتاب.

وقصة سفر برزويه إلى الهند ترويها «الشاهنامه» وكتب الثعالبي «غُرر أخبار ملوك الفرس»، ولكن قصة «الشاهنامه» تخالف ما هنا بعض المخالفة، وإليك إجمالها:

جاء برزويه إلى أنو شروان، وقال: أيُّها الملك، إني قرأت في كتاب هندي أنَّ في جبال الهند عشبًا إذا رُكِّب منه دواءٌ فنُثر على ميت ارتد حيًّا، فجهَّزه أنو شروان وسيَّره إلى الهند، وبعث معه كتابًا إلى الملك؛ فلمَّا أخذ ملك الهند الهدايا وقرأ الكتاب جمع علماءه وسيَّرهم مع برزويه لطلب هذا العُشب في الجبال، فجمعوا كل ضرب من العشب وجرَّبوه، فما أحيا ميِّتًا، فندم برزويه على ما جشم نفسه من مشاقِّ السفر والطلب، وتحيَّر ماذا يقول للملك أنو شروان، ثم سَألَ من كان معه من العلماء: أتعرفون في الهند أعلم منكم؟ قالوا: نعم، شيخٌ يفضلنا علمًا وسنًّا، فلما جاءه وقصَّ عليه القصص قال: أمَّا الجبال فهي العلوم، وأمَّا الموتى فهم الجُهَّال، وأمَّا العشب فكتاب في خزائن ملك الهند يُسمى «كليلة ودمنة» يحيي موتى الجهل، فأسرع برزويه إلى ملك الهند يرجو أن يطَّلع على الكتاب، فاغتم الملك، وقال: ما طلب أحد هذا الطلب من قبل، ولكنا لا نضنُّ على الملك أنو شروان بشيء، وأمر أن يؤتى بالكتاب وأن يطلع برزويه عليه أمامه حتى لا يظنَّ أحدٌ أنه نَسَخه، فكان برزويه يقرأ كل يوم فصلًا، إلى آخر ما في القصة التي في باب «بعثة برزويه».

(٢-٤) هل تُرجِم الكتاب إلى العربية أكثر من مرة؟

يقول صاحب «الفهرست» وهو يعدِّد أسماء كتب الهند في الخرافات والأسمار والأحاديث: «كتاب كليلة ودمنة، وهو سبعة عشر بابًا، وقيل: ثمانية عشر بابًا، فسَّره عبد الله بن المقفع وغيره»، والتفسير هنا معناه الترجمة.

وقد نقل الأب شيخو الجملة الآتية من نسخة محفوظة في مكتبة أيا صوفيا، مكتوبة سنة ٨٨٠ﻫ:

هذا كتاب كليلة ودمنة الذي استخرجه برزويه المتطبب الحكيم من بلاد الهند، ونقله من الهندية إلى الفارسية لكسرى أنو شروان بن قباذ بن فيروز ملك فارس، ونقله من الفارسية إلى العربية عبد الله بن علي الأهوازي ليحيى بن خالد بن برمك، في خلافة المهدي أحد خلفاء بني العباس، وذلك في سنة خمس وستين ومائة، وقد نظمه سهل بن نوبخت الحكيم الفاضل ليحيى بن خالد البرمكي وزير المهدي والرشيد، فلمَّا وقف عليه ورأى حسن نظمه أجازه على ذلك ألف دينار (مقدمة شيخو ص٢٠).

فهذا تصريح باسم مترجم غير ابن المقفع. وفي «كشف الظنون» لحاجي خليفة:

ثم ترجمه في الإسلام عبد الله بن المقفع كاتب أبي جعفر المنصور العباسي من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية، ثم نقله من الفارسية إلى العربية عبد الله بن هلال الأهوازي ليحيى بن خالد البرمكي في خلافة المهدي، وذلك في سنة خمس وستين ومائة، ونظمه سهل بن نوبخت الحكيم ليحيى بن خالد المذكور وزير المهدي والرشيد، فلمَّا وقف عليه أجازه بألف دينار.

لا يستطيع الباحثُ أن يقطع رأيًا فيما نقله شيخو عن نسخة أيا صوفيا حتى يرى النسخة، ويرى موضع هذه الجملة في مُقَدِّمتها، هل هي مُلحقة بقلم أحد القرَّاء أو هي من متن النسخة؟ فإن كانت الأولى فلعلها نقلت عن «كشف الظنون»، وإن كانت الثانية فلعل صاحب «كشف الظنون» نقلها، والعبارتان متشابهتان في الكتابين.

وأمَّا إغفال اسم ابن المقفع في النُّسخة التي ذكرها شيخو، فلا يدلُّ على أنَّها ترجمة أخرى تخالف النسخ التي بأيدينا، فإنَّ النخسة، وكما يتبين من قطعة نقلها شيخو من باب «الأسد والثور»، تُشابه النُّسخ الأخرى مشابهة قريبة، وأكبرُ الظَّنِّ أنَّ بعض النسَّاخ أو القرَّاء كتب في صدر الكتاب ما كتب نقلًا عن بعض الكتب التي ذكرت من ترجموا «كليلة ودمنة».

ومهما نَقُلْ في إغفال هذه النُّسخة اسمَ ابن المقفع واقتصارها على اسم المترجم الآخر، فقد اجتمع لنا ثلاثة نصوص تذكر غير ابن المقفع: صاحب «الفهرست» يقول: «فسَّره عبد الله بن المقفع وغيره»، ونسخة أيا صوفيا، و«كشف الظنون» يُسَمِّيان: «عبد الله بن علي الأهوازي» أو «عبد الله بن هلال الأهوازي».

وهذه مسألة لها خطرها في تاريخ الكتاب واختلاف نسخه.

(٢-٥) هل يُفسَّر اختلاف النسخ باختلاف الترجمة؟

قلتُ فيما تقدم إنَّ نُسَخ الكتاب تختلف اختلافًا يدعو الباحث إلى أن يظن أنَّ الكتاب تُرجِم أكثر من مرة، فهل اختلاف النسخ التي أمامنا يرجع إلى اختلاف الترجمة؟

هذا البحثُ لا يمكن أن يوفَّى حقَّه من النظر ومقابلة النصوص إلَّا بعد الاطلاع على مخطوطات صحيحة مُتَعَدِّدة، وليس لدينا الآن من النصوص التي يُوثَق بها بعضَ الثِّقَة إلَّا نسختنا ونسخة شيخو، وهما متقاربتان لا يمكن أن تكونا ترجمتين مختلفتين، وإنما الخلاف الكثير بينهما وبين النسخ الأخرى الملفَّقة كما بيَّنت آنفًا، وهذا التلفيق يمنعنا أن نقطع رأيًا في هذا الشأن، فإني أجدُ اختلافًا بين نسختنا وهذه النسخ يُشبه أن يكون اختلافًا بين ترجمتين، ثم أجد جملًا مُتَماثلة لا تصدر إلَّا عن كاتب واحد، ولستُ أستطيعُ أن أتبيَّن صلة هذه الجمل المتماثلة بالمتون المختلفة لما دخل النصوص من التلفيق.

figure

على أني — مع إعواز النصوص التي تُعِينُ على صحة الرأي — أرجِّح أنَّ اختلاف النسخ التي بين أيدينا ليس اختلاف ترجمة إلَّا في زيادة بعض الأبواب ونقصها، وهي أبواب يتبين فيها أسلوب يُخالف أسلوب ابن المقفع، وسيأتي بيان هذا.

فإن لم يكن اختلاف النسَخ اختلاف ترجمة، فكيف وقع في الكتاب؟ قبل إجابة هذا السؤال ينبغي أن نجيب سؤالًا آخر: لماذا تُرجِم الكتاب أكثر من مرة؟

ترجمه عبد الله بن المقفع، ثم ترجمه عبد الله بن هلال الأهوازي، ونظمه أبان اللاحقي ثم سهل بن نوبخت ثم ابن البتارية من بعد.

وكذلك تُرجِم من العربية إلى الفارسية أيام السامانيين، ثم ترجمه نصر الله بن عبد الحميد في عهد الغزنويين، ثم ترجمه الكاشفي في القرن العاشر، ونُظِم بالفارسية أكثر من مرة.

وكذلك تعددت تراجم الكتاب في بعض اللغات الأوروبية (انظر جدول التراجم).

سبب تعدد الترجمة في اللغة الواحدة أنَّه كتاب أدبي ذو قصص ومواعظ، يختلف الكتَّاب في إجمالها وتفصيلها، وفي طريقة قصصها وأسلوب بيانها، فرُبَّما يبدو لمترجم أن يُخالف من سبقه بالإجمال والتفصيل أو التأنق في العبارة وتيسيرها، وهكذا.

وهذا السبب الذي دعا إلى تعدد تراجم الكتاب في اللغة الواحدة هو الذي أدى إلى اختلاف نُسَخه وإن رجعت إلى ترجمة واحدة، فقد لقيَ هذا الكتاب من عناية الأدباء والمؤدبين ما جعله كتاب تأديب، وحاول بعض الكتَّاب والمؤدِّبين أن ييسِّروا بعض عباراته أو يُغرِبوا فيها، وأن يوجزوا فيها أو يُطنِبوا، فكان من ذلك اختلاف نُسخ الكتاب.

ولعل تعدد الترجمة قد يسَّر للناس التصرف في أسلوب الكتاب بعد قياس ترجمة بأخرى، أو سوَّغ لهم أن يدخلوا عبارات ترجمة في عبارات ترجمة أخرى وهكذا، ولعلَّ أسلوب ابن المقفع — وهو طويل الجمل مُستغلق أحيانًا — دعا إلى تغيير كثير في متن الكتاب.

وبعدُ؛ فهي قضيَّة لا بدَّ للفصل فيها من مقايسة مخطوطات لا نستطيع الاطلاع عليها الآن، وعسى أن تُتاح الفرصة من بعد بتوفيق الله.

(٢-٦) أبواب الكتاب

الأبواب التي تحتويها النسخ المُختلفة من هذا الكتاب تنقسم إلى الأقسام الآتية:
  • (١)

    المقدمات وهي: «مقدمة علي بن الشاه الفارسي»، «عرض الكتاب لابن المقفع»، «بعثة برزويه إلى بلاد الهند»، «باب برزويه الطبيب».

  • (٢)

    الأبواب الخمسة الأولى، بعد استثناء «باب الفحص عن أمر دمنة»، وهي الأبواب التي يحتويها الأصل الهندي «بنج تنترا»: «الأسد والثور»، «الحمامة المطوقة»، «البوم والغربان»، «القرد والغيلم»، «الناسك وابن عرس».

    ويتبع هذا القسم باب «الفحص عن أمر دمنة»، وهو بعد باب «الأسد والثور» ومكمل له، وباب «السائح والصواغ» وقد جاءت قصته في أثناء الباب الأول من «بنج تنترا».

  • (٣)

    والقسم الثالث: الأبواب الثلاثة التي تلي الخمسة المعدودة في القسم الثاني، وهي معروفة في كتاب «المهابهارتا»: «الجرذ والسنور»، «الملك والطائر»، «الأسد وابن آوى».

  • (٤)
    والقسم الرابع: الأبواب الأخرى، وهي قسمان:
    • (أ)

      الأبواب التي تتفق عليها النسخ وهي: «إبلاد وإيراخت وشادرم ملك الهند»، «اللبؤة والأسوار»، «الناسك والضيف»، «ابن الملك وأصحابه».

    • (ب)

      الأبواب التي توجد في بعض النسخ دون بعض، وهي: «ملك الجرذان»، «مالك الحزين والبطة»، «الحمامة والثعلب ومالك الحزين».

فهذه واحدٌ وعشرون بابًا تتضمنها نسخ الكتاب على اختلافها، وإذا تركنا المقدمات جانبًا، وأخرجنا الأبواب الأخيرة التي تختلف فيها النسخ؛ بقي أربعة عشر بابًا، منها تسعة معروفة في اللغة السنسكريتية، وهي الخمسة التي في «بنج تنترا» وباب «السائح والصواغ» الذي يتضمنه الباب الأول من ذلك الكتاب، والثلاثة التي في «المهابهارتا»، والخمسة الباقية لم تُعرف في اللغة الهندية حتى اليوم، وهي باب «الفحص عن أمر دمنة» والأبواب الأربعة الأولى من القسم الرابع.

ونجد في الترجمة الفارسية لنصر الله بن عبد الحميد فهرس الكتاب في نهاية باب «بعثة برزويه» على هذه الصورة: «وكتاب كليلة ودمنة هذا ستة عشر بابًا، منها الأصلي الذي وضعه الهند وهو عشرة أبواب، ومنها ما ألحقه الفرس وهو ستة أبواب»، ثم يذكر العشرة الهندية، وهي خمسة الأبواب الأولى التي يتضمنها «بنج تنترا»، وباب «الفحص عن أمر دمنة»، وثلاثة الأبواب التي في «المهابهارتا» يُزاد عليها باب «الأسوار واللبؤة»، ويعدِّد المترجم بعدها الأبواب التي ألحقها الفرس، وهي بابان من المقدمات وأربعة من أبواب الكتاب.

وهذا نسق الأبواب كلها كما ذكرت في هذا الفهرس:

الأبواب الهندية

  • (أ)

    «الأسد والثور»، «الفحص عن أمر دمنة»، «الحمامة المطوقة»، «البوم والغربان»، «القرد والسلحفاة»، «الناسك وابن عرس»، (وهي الخمسة التي في بنج تنترا).

  • (ب)

    «الجرذ والسنور»، «الملك والطائر»، «الأسد وابن آوى»، (وهي الثلاثة التي في المهابهارتا).

  • (جـ)

    «الأسوار واللبؤة».

الأبواب الفارسية

  • (أ)

    «ابتداء كليلة ودمنة» (وهو الذي يُسمَّى في النسخ الأخرى باب «عرض الكتاب لابن المقفع»، وهو في هذه النسخة منسوب إلى بزرجمهر)، وباب «برزويه الطبيب».

  • (ب)

    «الناسك والضيف»، «إبلاد والبراهمة»، «السائح والصايغ»، «ابن الملك وأصحابه».

وأعرض على القارئ في الصفحات التالية تفصيل الكلام في أبواب الكتاب كلها.

القسم الأول من أبواب الكتاب: المقدمات

فأمَّا «مُقدمة علي بن الشاه الفارسي» فلا ريبَ أنها زِيدَت على بعض النسخ العربية بعد ابن المقفع بقرنين أو أكثر، وقد خلت منها كثيرٌ من النسخ العربية القديمة كنسختنا ونسخة شيخو، كما خلت منها التراجم التي أخذت عن العربية كلها، ويرى نلدكه أنَّ كاتب هذه المقدمة هو علي بن محمد بن شاه الطاهري، من نسل الشاه ابن ميكال المتوفى سنة ٣٠٢ﻫ.

وهي مقدمة طويلة تضمنت بعض الأساطير التي خلفتها فتوح الإسكندر المقدوني في الشرق، وأُريدَ بها الإبانة عن السبب الذي من أجله وُضِع هذا الكتاب، والتعريف بدبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف اللذين يُذكران في فواتح الأبواب.

وإذا اكتفينا بهذه الكلمات عن هذه «المقدمة» بقي من القسم الأول ثلاثة أبواب: باب «عرض الكتاب لابن المقفع»، وباب «بعثة برزويه إلى بلاد الهند لتحصيل الكتاب»، وباب «برزويه الطبيب».

والترتيب الطبَعي أن تتوالى الأبواب على هذا النَّسق، وهي كذلك في نُسختنا، ولكن النسخ الأخرى — عدا نسخة شيخو — تضع باب «عرض الكتاب لابن المقفع» بين باب «بعثة برزويه» وباب «برزويه الطبيب»، ونسخة شيخو تضع باب «عرض الكتاب لابن المقفع» بعد البابين، وهو فيها ناقص سقَطَ أكثره، وبعض النسخ العربية وترجمة نصر الله الفارسية تضع فهرس الأبواب في آخر باب «بعثة برزويه» قبل باب «عرض الكتاب لابن المقفع».

ويتبين من هذا أنَّ النسخ العربية تختلف في الترتيب بين باب «بعثة برزويه» وباب «عرض الكتاب»، ولكنَّ هذه النسخ تتفق على نسبة عرض الكتاب إلى ابن المقفع، وتخالفها النسخة الفارسية، فتفتتح الباب بهذه الجملة: «ابتداء كليلة ودمنة، وهو من كلام بزرجمهر البختكان.»

وأمَّا باب «بعثة برزويه» فتنسبه نسختنا ونسخة شيخو إلى بزرجمهر، وتغفل بعض النسخ تسمية كاتبه، وتفتتحه النسخة الفارسية بقولها: «كذلك يقول أبو الحسن عبد الله بن المقفع.»

فالنسخة الفارسية تجعل الباب الأول: باب «بعثة برزويه» من إنشاء ابن المقفع، والبابين التاليين من إنشاء بزرجمهر، فترتيب الأبواب فيها مقبول إن صحت نسبة الأبواب إلى من نسبتها إليهم، ولكني أُبعد أن يكون باب «عرض الكتاب» لغير ابن المقفع للأسباب الآتية:
  • (١)

    اتفاق النُّسخ العربية التي في أيدينا على نسبته إلى ابن المقفع.

  • (٢)

    وأنه ينتهي في نسختنا بهذا الكلام: «وإنَّا لمَّا رأينا أهل فارِس قد فسَّروا هذا الكتاب وأخرجوه من الهندية إلى الفارسية ألحقنا بابًا بالعربية ليكون له أسًّا ليستبين فيه أمر هذا الكتاب لمن أراد قراءته وفهمه والاقتباس منه.»

    وظاهرٌ أنَّ الباب الذي يُبيِّن مقاصد الكتاب ويدعو القارئ إلى قراءته وفهمه هو باب «عرض الكتاب»، وأَبْيَنُ من هذا ما في نسخة اليازجي آخرَ هذا الباب: «قال عبد الله ابن المقفع: لما رأيت أهل فارس قد فسَّروا هذا الكتاب من الهندية إلى الفارسية، وألحقوا به بابًا وهو باب برزويه الطبيب، ولم يذكروا فيه ما ذكرنا في هذا الباب لمن أراد قراءته واقتباس علومه وفوائده؛ وضعنا له هذا الباب فتأمل ذلك تُرشَد إن شاء الله تعالى.»

  • (٣)

    والثالث أنَّ النُّسخة الفارسية نفسها تختم هذا الباب بقولها: «يقول ابن المقفع: لمَّا رأينا أهل فارس ترجموا هذا الكتاب من لغة الهند إلى اللغة البهلوية أردنا أن يكون لأهل العراق والشام والحجاز نصيب منه، وأن يترجم إلى العربية وهي لغتهم.»

    وإذا رَجح أنَّ باب «عرض الكتاب» من إنشاء ابن المقفع، فكيف وُضِع بين باب «بعثة برزويه» وباب «برزويه الطبيب» في بعض النسخ؟ أيُعدُّ هذا دليلًا على أنَّ باب «بعثة برزويه» زِيدَ على الكتاب بعد أن ترجمه ابن المقفع كما زيدت «مقدمة بهنود بن سحوان (أو علي بن الشاه الفارسي)»؟ أو يدلُّ على أنَّ ابن المقفع وضع هذا الباب وجعله مُقَدِّمة، ثم وضع باب «عرض الكتاب» كما وضع الفرس باب «برزويه الطبيب»، وهذا يوافق النسخة الفارسية، وهي تنص على أنَّه من كلام ابن المُقفع كما تقدم؟ أرجِّح أنه مزيد على الكتاب بعد ابن المقفع، وأمَّا نسختنا فتنسب باب «بعثة برزويه» إلى بزرجمهر كباب «برزويه الطبيب»، وتضعه بعد مقدمة ابن المقفع، وهو ترتيب لا إشكال فيه.

والخلاصة أنَّ الفرس زادوا على الكتاب باب «برزويه الطبيب»، وأن ابن المقفع زاد بابًا آخر هو باب «عرض الكتاب»، وأنَّ باب «بعثة برزويه» موضع نظر، أهو مقدمة لباب «برزويه الطبيب» كتبه بزرجمهر، أم هو من إنشاء ابن المقفع، أم هو مزيد على الكتاب بعد ابن المقفع؟ ولكني أُرَجِّح أنَّه مما زيد في النسخ العربية؛ لما ذكرت آنفًا من وضعه في بعض النسخ قبل باب «عرض الكتاب لابن المقفع»، ووضع الفهرس بعده، ولأنَّ الترجمتين السريانيتين خاليتان منه، والأولى مترجمة عن البهلوية والثانية عن العربية، وهو ليس في منظومة ابن الهبارية أيضًا، ومعنى هذا أنَّ النسخ العربية القديمة لم تُجمع على هذا الباب، فخلت منه الترجمة السريانية المأخوذة من العربية، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يكن في الفهلوية أيضًا، ويؤيد هذا أنَّه ليس في النسخة السريانية القديمة التي تُرجِمت عن الفهلوية.

القسم الثاني من أبواب الكتاب: الأبواب الخمسة التي يتضمنها كتاب «بنج تنترا»

تتفق النسخ العربية وغيرها على وضع هذه الأبواب الخمسة أول الكتاب بعد باب «برزويه الطبيب»، وعلى ترتيبها، وقد تضمنها كتاب مستقل في اللغة السنسكريتية، فهي أمَّهات الكتاب وأثبت أبوابه في التاريخ، وهي أجملها قصصًا، وأكثرها مواعظَ وعبرًا، وأطولها حوارًا؛ وقد سُمِّي الكتاب كله «كليلة ودمنة» باسم ابني آوى اللذين هما محور القصص في الباب الأول: باب «الأسد والثور» (تُنظر مقارنة القصص التي في هذه الأبواب بنظائرها في «بنج تنترا» في مقدمة الترجمة الإنجليزية لكتاب أنوار سُهَيلي الفارسي الذي ترجمه إدورد إيستوِك Edward B. Eastwick).

وأمَّا باب «الفحص عن أمر دمنة» فلا يُعرف في الأدب الهندي، ولا يُلفى في النسخة السريانية القديمة، وينتهي باب «الأسد والثور» في «بنج تنترا» بأنَّ الأسد لم يفكر في شتربة من بعد، وأنه جعل دمنة وزيره وعاش سعيدًا.

وليس في خاتمة باب «الأسد والثور» من نسختنا ونسخة شيخو ما يدلُّ على أنَّ وراءه بابًا للفحص عن أمر دمنة، والنسخ الأخرى العربية المطبوعة والنسخة الفارسية والسريانية الحديثة تختم الباب بأنَّ الأسد اطَّلع على كذب دمنة فقتله.

والظاهر أنَّه باب إسلامي وضعه ابن المقفع لئلا ينجو دمنة الخائن من العقاب الجدير به، وفي الباب مسحة إسلامية ولا سيما في الكلام على البيِّنة، وقد جاءت فيه كلمة «الإسلام» في نسختنا، ولعلها سهو من الكاتب (انظر تعليقاتنا).٣٩

وأمَّا باب «السائح والصوَّاغ» فقد جاء في الباب الأول من «بنج تنترا»، وهو باب «الأسد والثور»، وقد عُثِر عليه في مجموعة من الأساطير البوذية اسمها: «سَواهني» وكتاب آخر بوذي اسمه: «كرماجتكا»، فلا ريبَ أنَّه وُضِع بادئ بدء في الآداب الهندية.

القسم الثالث من أبواب الكتاب: أبواب «الجرذ والسنور» و«الملك والطائر» و«الأسد وابن آوى»

هذه القصص الثلاث تُلفى في الحماسة الهندية الكبرى التي تُسَمَّى: «مهابهارتا»، وقصة «الملك والطائر» تُلفى كذلك في كتاب آخر اسمه: «هرِوَنجه».

وهي تتوالى في النُّسخ كلها كما تتوالى الأبواب الخمسة التي يتضمنها كتاب «بنج تنترا»، وتليها في بعض النسخ، ويتخلل بين هاتين المجموعتين في نسخٍ أخرى بعض الأبواب، يفصل بينهما في نسختنا باب «إبلاد وإيراخت وشادرم» وباب «ملك الجرذان»، وفي نسخة شيخو باب «إبلاد وشادرم وإيراخت» وحده.

وهذه الأبواب الثلاثة والأبواب الخمسة الأولى داخلة في العشرة التي عدَّها نصر الله بن عبد الحميد أبوابًا هندية، وبقية العشرة باب «الفحص عن أمر دمنة» وباب «الأسوار واللبؤة».

ويظهر مما تقدم أنَّ النسخ التي تُوالي بين هذه الأبواب الثمانية أقرب إلى ما عُرِف من تاريخ الكتاب حتى اليوم، وأنَّ الفصل بين الأبواب الخمسة والأبواب الثلاثة طارئٌ على الكتاب، ثم أحد البابين الفاصلين في نسختنا، وهو باب «ملك الجرذان» ليس من كلام ابن المقفع بلا ريب، وفي هذا دليلٌ آخر على أنَّ الفصل بين الأبواب الخمسة والأبواب الثلاثة حادثٌ في الكتاب.

القسم الرابع من أبواب الكتاب

وأمَّا القسم الرابع فهو كما قدمتُ قسمان: أربعة أبواب تتفق عليها النسَخ، وثلاثة تختلف في إثباتها.

(أ) الأبواب التي تتفق عليها النسَخ

  • (١)

    والباب الأول من الأربعة المتفق عليها هو في نُسْخَتِنَا باب «إبلاد وإيراخت وشادرم ملك الهند»، وهو كما يرى القارئ باب هندي بوذي، يُمَثِّل العداوة بين البراهمة والبوذية ويشنع على البراهمة، وقد عُثِر على القصة في اللغة التبتية، والظاهر أنه نُقِل إليها من الهندية، ووضْعُه في نُسختنا ونسخة شيخو بين الأبواب التي عُرِف أصلها الهندي يؤيِّد هذا، ويرى القارئ أنَّ الباب قسمان مختلفان: الأول قصة الأحلام وتأويلها، والثاني المحاورة بين الملك ووزيره، والقسم الثاني مُختصر في نسخة دي ساسي والنسخ المصرية، ومُطنَب في نسختنا ونسخة شيخو والنسخة السريانية الحديثة.

  • (٢)

    وأمَّا باب «اللبؤة والأسوار» فظاهرٌ فيه النزعة الهندية: تحريم اللحم والاقتيات بالفاكهة، ثم التحرج من أكل الفاكهة والاجتزاء بالعُشب حينما شكت الوحوش قلة الفاكهة.

  • (٣)

    والباب الثالث: باب «الناسك والضيف» لا يوجد في السريانية القديمة المترجمة من الفهلوية، وليس فيه ما يدلُّ على أصل هندي، بل فيه من ذكر التمر واللغة العبرية ما يبعده عن الهند، فإمَّا أن يكون مزيدًا في اللغة الفهلوية وقد أُسقِط في الترجمة السريانية القديمة، وإمَّا أن يكون من زيادات النُّسخة العربية ألحقه ابن المقفع أو أُلحِق بعده، ولست أرى في أسلوبه ما يبعده من كلام ابن المقفع، واتفاق النسخ العربية عليه يرجح هذا.

  • (٤)
    وأمَّا باب «ابن الملك وأصحابه» فقد رأى بعض الباحثين شبهًا بينه وبين قصة جاءت في الباب الأول من «بنج تنترا»، ويرى الأستاذ فلكنر أنَّ هذه المُشابهة ضعيفة لا تبرر الحكم بأنهما من أصل واحد، وينقل عن بنفي Benfey رأيه في أنَّ الباب بوذي الأصل، وأرى أسلوبه ليس بعيدًا عن أسلوب ابن المقفع، فالظاهر أنه مما ترجمه كذلك.

(ب) الأبواب التي تُوجد في بعض النسخ دون بعض

  • (١)

    فأمَّا باب «ملك الجرذان» فهو لا يُوجَدُ إلَّا في نسختنا وحدها، ولا ريبَ أنَّ لُغته وأسلوبه بَعيدان من لغة ابن المقفع وأسلوبه كل البُعد، بل أرى فيه من الركاكة ومُقاربة العامية ما يُرجِّح أنه أُلحِق ببعض نسخ الكتاب بعد ابن المقفع بقرون، وهذا الباب يوجد في السريانية القديمة وهو آخر أبوابها، ويظهر أنَّه تُرجِم منها أو من كتاب آخر وأُلحِق بهذا الكتاب؛ ولذا تخلو منه نسخ عربية كثيرة، وتخلو منه أكثر التراجم التي نُقِلت عن العربية.

    ويرى الأستاذ نلدكه أنَّ هذا الباب فارسي لا هندي، وقد لخَّص فلكنر أدلة نلدكه ومنها: أنَّ الأسماء في هذا الباب ليست هندية وكثيرٌ منها فارسي، وأنه ورد أثناء الباب عبارة «في أرض البراهمة»، وهي عبارة لا تقال في كتاب هندي، وأنَّ في الباب جملة تذم الانتحار وهذا قريبٌ من مذهب الفرس لا الهند (انظر مقدمة فلكنر صXXXVI).
  • (٢)

    وأمَّا باب «مالك الحزين والبطة» فقد عثر عليه دي ساسي في بعض النسخ، وقد كتب ناسخه أنَّه باب زِيدَ على الكتاب من بعد، ويُخبرنا فلكنر أنه ورد في بعض المخطوطات العربية، ولم أجده في النُّسخ العربية المطبوعة كلها، ويُوجد في بعض التراجم المأخوذة عن العربية كالترجمة الإسبانية والعبرية.

  • (٣)

    وأمَّا باب «الحمامة والثعلب ومالك الحزين» فقد ورد في النسخ المصرية والشامية المطبوعة إلَّا في نسخة شيخو، وليس في نسختنا ولا في طبعة دي ساسي، وهو في بعض التراجم المأخوذة عن العربية كالإسبانية والعبرية كالباب الذي قبله.

وهذه الأبواب الثلاثة ليست في ظنِّي من كلام ابن المقفع.

•••

هذه خلاصة ما هدى إليه البحث في كتاب «كليلة ودمنة» وتاريخه، وعسى أن تكون هذه المقدمة وهذه الطبعة خطوتين سديدتين لم يظفر بمثلهما تاريخ الكتاب في اللغة العربية من قبل، وعسى أن يجدا من عناية الأدباء والباحثين ما يكافئ قيمتهما، ويُجازي ما بُذِل من اجتهاد ودأب، وما احتمِل من نفقة وعناء لإخراج الكتاب في صورة تفخر بها الطباعة في الأقطار العربية كلها. والله ولي التوفيق.

١  القاهرة، في ١٠ مارس سنة ١٩٤١.
٢  انظر: باب الأسد والثور (الناشر).
٣  انظر: باب الفحص عن أمر دمنة (الناشر).
٤  انظر: باب الفحص عن أمر دمنة (الناشر).
٥  انظر: باب البوم والغربان (الناشر).
٦  انظر: باب إبلاد وإيراخت وشادرم ملك الهند (الناشر).
٧  انظر: باب السنور والجرذ (الناشر).
٨  انظر: باب القرد والغيلم (الناشر).
٩  انظر: باب اللبؤة والشعهر (الناشر).
١٠  انظر: باب عرض الكتاب (الناشر).
١١  انظر: باب برزويه الطبيب (الناشر).
١٢  انظر: باب الفحص عن أمر دمنة (الناشر).
١٣  انظر: باب ابن الملك وأصحابه (الناشر).
١٤  انظر: باب ابن الملك وأصحابه (الناشر).
١٥  انظر: باب برزويه الطبيب (الناشر).
١٦  انظر: باب الأسد والثور (الناشر).
١٧  انظر: باب الأسد والثور (الناشر).
١٨  انظر: باب الفحص عن أمر دمنة (الناشر).
١٩  انظر: باب الحمامة المطوقة (الناشر).
٢٠  انظر: باب توجيه كسرى أنو شروان برزويه إلى بلاد الهند لطلب الكتاب (الناشر).
٢١  انظر: باب توجيه كسرى أنو شروان برزويه إلى بلاد الهند لطلب الكتاب (الناشر).
٢٢  انظر: باب الأسد والثور (الناشر).
٢٣  انظر: باب الأسد والثور (الناشر).
٢٤  انظر: باب الفحص عن أمر دمنة (الناشر).
٢٥  انظر: باب الأسد والثور (الناشر).
٢٦  انظر: باب الأسد والثور (الناشر).
٢٧  انظر: باب القرد والغيلم (الناشر).
٢٨  انظر: باب إبلاد وإيراخت وشادرم ملك الهند (الناشر).
٢٩  انظر: باب إبلاد وإيراخت وشادرم ملك الهند (الناشر).
٣٠  انظر: باب الأسد والثور (الناشر).
٣١  انظر: باب الأسد والثور (الناشر).
٣٢  انظر: باب توجيه كسرى أنو شروان برزويه إلى بلاد الهند لطلب الكتاب (الناشر).
٣٣  انظر: باب توجيه كسرى أنو شروان برزويه إلى بلاد الهند لطلب الكتاب (الناشر).
٣٤  انظر: باب الأسد وابن آوى (الناشر).
٣٥  انظر: باب الأسد وابن آوى (الناشر).
٣٦  انظر: باب الأسد وابن آوى (الناشر).
٣٧  انظر: باب ابن الملك وأصحابه (الناشر).
٣٨  انظر: باب الناسك والضيف (الناشر).
٣٩  انظر: باب الفحص عن أمر دمنة، هامش رقم ٧ (الناشر).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤