الْفَصْلُ الرَّابِعُ

(١) لِقَاءُ الصَّدِيقَيْنِ

لَمْ يُضِعْ «أَنْطُنْيُوسُ» شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ سُدًى (بِلَا فَائِدَةٍ)، بَلْ أَسْرَعَ إِلَى لِقَاءِ صَدِيقِهِ «أُكْتَفْيُوسَ»، وَأَفْضَى إِلَيْهِ بِكُلِّ مَا حَدَثَ فِي أَثْنَاءِ غَيْبَتِهِ عَنْ «رُومَةَ». وَدَارَ بَيْنَهُمَا حِوَارٌ طَوِيلٌ، ثُمَّ اجْتَمَعَ رَأْيَاهُمَا عَلَى أَنْ يُسْرِعَا إِلَى حَشْدِ جَيْشٍ عَظِيمٍ — مِنْ أَنْصَارِهِمَا — لِمُهَاجَمَةِ «بُرُوتَسَ» وَ«كَسْيَاسَ» اللَّذَيْنِ نَشِطَا إِلَى النِّضَالِ، وَأَسْرَعَا إِلَى الْقِتَالِ، وَجَمَعَا حَوْلَهُمَا جَيْشًا كَبِيرًا، وَلَمْ يَأْلُوَا جُهْدًا (لَمْ يُقَصِّرَا) فِي جَمْعِ أُلُوفٍ مُؤَلَّفَةٍ — مِنَ الْجُنُودِ — لِغَزْوِ أَصْحَابِ «قَيْصَرَ»، وَالْقَضَاءِ عَلَى كُلِّ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالِانْتِصَارِ لِعَظِيمِ «رُومَةَ» الرَّاحِلِ.

فَأَقَرَّهُ «أُكْتَفْيُوسُ» عَلَى رَأْيِهِ، وَأَعَدَّ عُدَّتَهُ، وَجَمَعَ جَيْشَهُ، وَسَارُوا مُجِدِّينَ؛ لِيَنْكِلُوا بِالْغَادِرِينَ، وَيَثْأَرُوا ﻟ «قَيْصَرَ» (يَنْتَقِمُوا لَهُ) مِنْ قَاتِلِيهِ.

(٢) بَيْنَ «بُرُوتَسَ» وَ«كَسْيَاسَ»

وَنَشِبَ خِلَافٌ (ثَارَ وَاشْتَبَكَ) بَيْنَ «كَسْيَاسَ» وَ«بُرُوتَسَ»، فَكَادَتْ تَذْهَبُ رِيحُهُمَا (كَادَا يَفْنَيَانِ)، وَأَوْشَكَ الْخِلَافُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْعَصِيبِ (الشَّدِيدِ). وَكَانَ مَبْعَثُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ «بُرُوتَسَ» قَدْ أَصَرَّ عَلَى مُعَاقَبَةِ أَحَدِ أَنْصَارِ «كَسْيَاسَ» لِاعْوِجَاجِ سَيْرِهِ، وَقَبُولِهِ الرِّشْوَةَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ «كَسْيَاسُ» مُتَشَفِّعًا فِيهِ؛ فَلَمْ يَقْبَلْ «بُرُوتَسُ» شَفَاعَتَهُ. فَأَسَرَّهَا «كَسْيَاسُ» فِي نَفْسِهِ، وَقَبَضَ يَدَهُ عَنْ إِمْدَادِ «بُرُوتَسَ» بِالْمَالِ. فَلَمَّا الْتَقَى الصَّدِيقَانِ، بَدَأَ «كَسْيَاسُ» صَدِيقَهُ «بُرُوتَسَ» بِالْعِتَابِ لِرَفْضِ شَفَاعَتِهِ.

فَقَالَ لَهُ «بُرُوتَسُ»: «مَا كَانَ أَجْدَرَكَ أَنْ تُبْعِدَ نَفْسَكَ عَنْ مَوَاطِنِ الرَّيْبِ (أَمَاكِنِ التُّهَمِ)، فَلَا تُعَرِّضْهَا لِلشَّفَاعَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَثِيمِ الْمُرْتَشِي!»

فَقَالَ لَهُ «كَسْيَاسُ»: «مَا كَانَ أَجْدَرَكَ أَنْ تَتَغَاضَى (تَتَسَمَّحَ) عَنِ الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَالْعِقَابِ عَلَى الْهَنَوَاتِ (الذُّنُوبِ الْيَسِيرَةِ) فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْعَصِيبَةِ!»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «إِنَّ مِثْلِي خَلِيقٌ بِأَنْ يَزِنَ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (الْمِيزَانِ الْعَادِلِ)، وَأَنْ يُعَاقِبَ الْمُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَيَجْزِيَ الْمُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ. وَلَكِنَّكَ تَتَغَاضَى عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الزَّلَّاتِ (السَّقَطَاتِ وَالْغَلَطَاتِ) لِأَنَّكَ مُلَوَّثُ الْيَدِ، مُتَّهَمٌ بِإِسْنَادِ الْمَنَاصِبِ الرَّفِيعَةِ إِلَى غَيْرِ الْأَكْفَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ، طَمَعًا فِي مَالِهِمْ، وَاسْتِجْلَابًا لِرِفْدِهِمْ (طَلَبًا لِمَا يُعْطُونَهُ إِيَّاكَ مِنَ الْعَطَايَا).»

فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «أَلِمِثْلِي يُقَالُ هَذَا الْكَلَامُ؟ أَتَقْبَلُ فِي نَزَاهَتِي مَطْعَنًا؟ أَمَا — وَاللهِ — لَوْ قَالَهَا غَيْرُكَ لَكَانَ لِي مَعَهُ شَأْنٌ آخَرُ، وَلَكَانَتْ آخِرُ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فِيهِ (فَمِهِ)!»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «أَمَا — وَاللهِ — لَوْ غَيْرُ «كَسْيَاسَ» اقْتَرَفَ (ارْتَكَبَ) مِثْلَ هَذَا الْإِثْمِ، لَاسْتَحَقَّ مِنِّي أَعْدَلَ الْقِصَاصِ (الْجَزَاءِ وَالْعُقُوبَةِ).»

فَصَاحَ «كَسْيَاسُ»: «هَلْ بَلَغَ الْأَمْرُ حَدَّ الْقِصَاصِ؟»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «أَنَسِيتَ مُنْتَصَفَ مَارِسَ؟ خَبِّرْنِي: فِي أَيِّ سَبِيلٍ قَتَلْنَا «قَيْصَرَ»؟ أَلَيْسَ فِي سَبِيلِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ قَتَلْنَاهُ؟ فَكَيْفَ نَغْتَالُ سَيِّدَ «رُومَةَ» وَنَفْتِكُ بِهِ، مِنْ أَجْلِ ذَنْبٍ نَغْفِرُهُ لِمِثْلِكَ وَلِمِثْلِ قُوَّادِكَ الْمُرْتَشِينَ؟ قُلْ لِي: كَيْفَ أَتَغَاضَى عَنِ اللُّصُوصِ، وَأَصْفَحُ عَنِ الْأَثَمَةِ، وَأَخُونُ وَطَنِي، وَأَخْفِرُ عَهْدِي (أَنْقُضُهُ)، وَأَعُقُّ ضَمِيرِي؟ خَبِّرْنِي: كَيْفَ أَقْبَلُ شَفَاعَتَكَ فِي مُجْرِمٍ أَثِيمٍ؟ إِنِّي لَأُوثِرُ أَنْ أُمْسَخَ كَلْبًا عَلَى أَنْ أَكُونَ رُومَانِيًّا آثِمًا!»

فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «أَلَا لَا تُحَاوِلَنَّ أَنْ تَأْخُذَنِي بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الْخَادِعَةِ، وَتَسْحَرَنِي بِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْخَلَّابَةِ! فَإِنِّي لَنْ أَحْتَمِلَ مِنْكَ هَذِهِ الْإِهَانَةَ، وَلَنْ أَصْبِرَ عَلَى تَطَاوُلِكَ بَعْدَ الْآنَ! أَنَسِيتَ أَنَّنِي أَقْدَمُ مِنْكَ عَهْدًا بِالْجُنْدِيَّةِ، وَأَوْفَرُ مِنْكَ تَجْرِبَةً؟ فَكَيْفَ تُلْصِقُ بِي مِثْلَ هَذِهِ الشُّنَعِ (الْفَضَائِحِ)؟»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «أَقْصِرْ (كُفَّ عَنِ الْكَلَامِ)، فَمَا أَنْتَ بِذَاكَ!»

فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «حَذَارِ أَنْ تَمْتَحِنَ صَبْرِي، يَا «بُرُوتَسُ»؛ فَمَا أَنَا بِغَافِرٍ لَكَ إِسَاءَةً بَعْدَ هَذِهِ. وَمَا أَجْدَرَكَ أَنْ تُؤْثِرَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ!»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «مَا أَحْقَرَ وَعِيدَكَ، وَمَا أَعْجَزَكَ عَنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْهَذَيَانِ!»

(٣) حِوَارٌ صَاخِبٌ

وَهُنَا ثَارَ «كَسْيَاسُ»، وَاشْتَدَّ غَيْظُهُ، وَنَشَبَتْ مُلَاحَاةٌ (ثَارَتْ مُشَاتَمَةٌ) صَاخِبَةٌ بَيْنَ الصَّدِيقَيْنِ. فَقَالَ «كَسْيَاسُ» مُهْتَاجًا: «كَيْفَ اجْتَرَأْتَ عَلَيَّ، وَزَيَّنَ لَكَ الْغُرُورُ أَنْ تَرْكَبَ هَذَا الْمَرْكَبَ الْوَعْرَ (الصَّعْبَ)؟ إِنَّنِي لَا أَكَادُ أُصَدِّقُ مَا تَسْمَعُهُ أُذُنَايَ!»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «خُذْهَا كَلِمَةً حَاسِمَةً: أَتَرَانِي أَفْرَقُ (أَتَظُنُّنِي أَخَافُ) وَأَجْزَعُ لِصَخَبِ أَحْمَقَ، أَوْ هَذَيَانِ مَجْنُونٍ؟»

فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «يَا لِلهِ! كَيْفَ أَحْتَمِلُ هَذِهِ الْجُرْأَةَ؟»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «مَا أَجْدَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ أَضْعَافَ مَا سَمِعْتَ، حَتَّى تَنْشَقَّ مَرَارَتُكَ غَيْظًا، وَيَنْفَطِرَ قَلْبُكَ حُزْنًا! وَمَا أَدْرِي: كَيْفَ سَوَّلَتْ (زَيَّنَتْ) لَكَ نَفْسُكَ أَنْ تُفَاخِرَنِي وَتُكَاثِرَنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ تَخْشَى عَاقِبَةَ هَذَا الطَّيْشِ؟ أَلَمْ يَكُنْ أَحْجَى (أَجْدَرَ وَأَوْلَى) بِكَ، وَأَهْدَى لَكَ: أَنْ تَرْعَدَ وَتَثُورَ عَلَى خَدَمِكَ وَأَرِقَّائِكَ؟ إِنَّكَ — لَوْ فَعَلْتَ — لَرَأَيْتَ فَرَائِصَهُمْ تَرْتَعِدُ، خَوْفَ تَهْدِيدِكَ، وَرَهْبَةَ وَعِيدِكَ (وَالْفَرَائِصُ: هِيَ مَا بَيْنَ الْجُنُوبِ وَالْأَكْتَافِ). أَمَّا أَنَا فَلَأَتَّخِذَنَّكَ — مُنْذُ الْآنَ — ضُحْكَةً (وَهُوَ مَا يُضْحَكُ مِنْهُ)، وَلَأَلْهُوَنَّ بِكَ مَا حَيِيتُ؛ لِأَتَفَكَّهَ بِغَضَبِكَ، وَأُرَوِّحَ عَنْ نَفْسِي بِإِيلَامِكَ وَتَنَغِيصِ عَيْشِكَ!»

فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «مَا أُرَاكَ إِلَّا مُتَمَادِيًا فِي الْإِسَاءَةِ!»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «لَقَدْ فَاخَرْتَنِي بِأَنَّكَ أَجْلَدُ مِنِّي عَلَى الْقِتَالِ وَأَقْوَى، وَزَعَمْتَ أَنَّكَ أَخْبَرُ بِالْحَرْبِ وَأَدْرَى؛ فَهَلَّا حَقَّقْتَ مَا زَعَمْتَ وَأَرَيْتَنِي كَيْفَ بَصَرُكَ بِالْعِرَاكِ، وَمَعْرِفَتُكَ بِالْمُحَارَبَةِ؟»

فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «مَا أَكْثَرَ مَا تَتَجَنَّى عَلَيَّ، يَا «بُرُوتَسُ» (مَا أَكْثَرَ مَا تَنْسُبُهُ إِلَيَّ مِمَّا لَمْ يَقَعْ مِنِّي)! فَقَدْ قُلْتُ لَكَ: إِنَّنِي أَقْدَمُ عَهْدًا، وَأَوْفَرُ تَجْرِبَةً، وَلَمْ أَقُلْ: إِنَّنِي أَشْجَعُ مِنْكَ وَأَقْدَرُ.»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «لَوْ قُلْتَهَا لَمَا أَبَهْتُ لَكَ (لَمَا اهْتَمَمْتُ بِكَ)، وَلَا أَقَمْتُ لِمَا تَقُولُ وَزْنًا!» فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «إِنَّ «قَيْصَرَ» نَفْسَهُ مَا كَانَ لِيَجْتَرِئَ عَلَيَّ — فِي حَيَاتِهِ — فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلْتَ!»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تَكُنْ لِتَجْرُؤَ عَلَى اسْتِثَارَةِ «قَيْصَرَ» وَإِغْضَابِهِ، وَلَوْ عَرَّضَ حَيَاتَكَ لِلتَّلَفِ.»

فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «إِنَّ لِكُلِّ بِدَايَةٍ نِهَايَةٌ، وَإِنَّ لِلْحِلْمِ غَايَةً لَا سَبِيلَ إِلَى تَجَاوُزِهَا. وَمَا أَخْوَفَنِي أَنْ أُقْدِمَ عَلَى أَمْرٍ جَلَلٍ (عَظِيمٍ خَطِيرٍ) أَنْدَمُ عَلَيْهِ بَعْدُ!»

فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «لَا عَلَيَّ (لَا ضَيْرَ وَلَا خَوْفَ مِنْ وَعِيدِكَ)، فَإِنِّي — بِمَا لِي مِنَ الشَّرَفِ وَالنَّزَاهَةِ — لَفِي حِصْنٍ حَصِينٍ، وَلَنْ يَبْلُغَ وَعِيدُكَ مِنِّي إِلَّا مَا تَبْلُغُ الرِّيحُ مِنْ ذِرْوَةِ الْجَبَلِ! أَتَذْكُرُ كَيْفَ ضَنِنْتَ عَلَيَّ بِالْمَالِ أُنْفِقُهُ عَلَى جَيْشِي؟»

فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «مَا أَذْكُر أَنَّنِي ضَنِنْتُ عَلَيْكَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَطْلُبُ، وَلَكِنَّهَا حَمَاقَةُ الرَّسُولِ، وَأَفَنُ رَأْيِهِ (سُوءُ تَدْبِيرِهِ). وَمَا كَانَ أَجْدَرَكَ — إِنْ كُنْتَ صَدِيقًا — أَنْ تَغْفِرَ لِصَدِيقِكَ هَنَوَاتِهِ، وَتَتَجَاوَزَ عَنْ إِسَاءَاتِهِ؛ فَإِنَّ عَيْنَ الْحُبِّ عَمْيَاءُ، لَا تَنْظُرُ إِلَى الْمَسَاوِئِ وَالْعُيُوبِ.» فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «إِنَّ عَيْنَ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ هِي — وَحْدَهَا — الَّتِي تَعْمَى عَنِ الْغَلَطِ، وَلَا تَرَى الْعُيُوبَ، وَلَوْ عَظُمَتْ حَتَّى أَصْبَحَتْ مِثْلَ الْجَبَلِ.»

(٤) صُلْحُ الصَّدِيقَيْنِ

فَقَالَ «كَسْيَاسُ» مُتَأَلِّمًا: «هَلُمَّ يَا «أَنْطُنْيُوسُ» وَيَا «أُكْتَفْيُوسُ»، وَتَعَالَيَا إِلَى «كَسْيَاسَ»، فَاقْتُلَاهُ، وَأَزْهِقَا رُوحَهُ؛ فَقَدْ مَلَّ الْبَقَاءَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، بَعْدَ أَنْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ قَلْبُ صَفِيِّهِ الْحَبِيبِ «بُرُوتَسَ»، وَتَنَكَّرَ لَهُ أَوْفَى النَّاسِ، وَأَبَرُّهُمْ بِهِ.

أَلَا لَا خَيْرَ فِي الْحَيَاةِ — أَيُّهَا الصَّدِيقُ — بَعْدَ أَنْ فَسَدَ مَا بَيْنَنَا مِنْ حُبٍّ وَإِخْلَاصٍ. فَهَاكَ خِنْجَرِي، فَأَغْمِدْهُ فِي قَلْبِي، وَأَرِحْنِي مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ!»

فَهَشَّ لَهُ «بُرُوتَسُ» وَبَشَّ، وَقَالَ لَهُ: «أَغْمِدْ خِنْجَرَكَ — أَيُّهَا الصَّدِيقُ — فَإِنِّي مُتَجَاوِزٌ لَكَ عَنْ كُلِّ مَا حَدَثَ، وَمُعْتَذِرٌ لَكَ مِنْ كُلِّ إِسَاءَةٍ بَدَرَتْ مِنِّي. وَلْتَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ بِأَنَّ قَلْبِي لَا يَحْمِلُ حِقْدًا وَلَا ضِغْنًا: فَهُوَ كَالزَّنْدِ: إِذَا أَوْرَيْتَهُ (قَدَحْتَ بِهِ لِتُخْرِجَ نَارَهُ) أَرْسَلَ شَرَارَةً ضَئِيلَةَ الْخَطَرِ (حَقِيرَةَ الشَّأْنِ)، ذَاهِبَةً فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ الزَّنْدُ أَنْ يَعُودَ كَمَا كَانَ.»

وَهَكَذَا تَصَافَحَ الصَّدِيقَانِ، وَعَادَ إِلَى قَلْبَيْهِمَا الصَّفَاءُ، وَشَدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى يَدِ الْآخَرِ، مُجَدِّدِينَ الْعَهْدَ عَلَى الْوَفَاءِ.

وَقَدْ حَزِنَ «كَسْيَاسُ» حِينَ أَخْبَرَهُ «بُرُوتَسُ» أَنَّ مَبْعَثَ آلَامِهِ وَحَنَقِهِ عَلَيْهِ، مَا بَلَغَهُ عَنْ مَصْرَعِ زَوْجِهِ «پُرْشَا». فَقَدْ عَلِمَ — فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ — أَنَّ غِيَابَهُ قَدْ أَضْنَى جِسْمَهَا، وَأَذْهَلَهَا مَا رَأَتْهُ مِنْ تَأَلُّبِ أَعْدَائِهِ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ؛ فَقَتَلَتْ نَفْسَهَا إِشْفَاقًا عَلَى «بُرُوتَسَ»، حَتَّى لَا تَرَى — بِعَيْنَيْهَا — مَصْرَعَهُ الْوَشِيكَ.

فَشَارَكَهُ «كَسْيَاسُ» فِي حُزْنِهِ، وَأَسَاهُ فِي مُصَابِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «لَمْ يَبْقَ أَمَامَنَا إِلَّا الْجِدُّ وَالْإِقْدَامُ، حَتَّى لَا يَدْهَمَنَا الْأَعْدَاءُ.»

ثُمَّ وَدَّعَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، عَلَى أَنْ يَلْتَقِيَا فِي الْغَدِ.

(٥) طَيْفُ «قَيْصَرَ»

وَقَضَى «بُرُوتَسُ» لَيْلَةً مُفْزِعَةً، مُسْتَسْلِمًا لِأَشْجَانِهِ، وَهُمُومِهِ وَأَحْزَانِهِ. وَإِنَّهُ لَغَارِقٌ فِي وَسَاوِسِهِ يُقَلِّبُ بَعْضَ أَوْرَاقِهِ، إِذْ لَاحَ أَمَامَهُ شَبَحُ «قَيْصَرَ» فِي هَيْئَةٍ مُزْعِجَةٍ؛ فَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الدَّهْشَةُ، وَتَمَلَّكَهُ الْعَجَبُ مِمَّا رَأَى، وَصَاحَ فِيهِ مَذْعُورًا: «أَيُّ طَيْفٍ أَنْتَ؟ فَقَدْ أَزْعَجْتَنِي، وَكَادَ يَجْمُدُ الدَّمُ فِي عُرُوقِي لِرُؤْيَتِكَ.»

فَقَالَ لَهُ الطَّيْفُ: «لَسْتُ إِلَّا رُوحَكَ الْخَبِيثَةَ، يَا «بُرُوتَسَ»!»

فَقَالَ لَهُ وَجِلًا: «فَمَا بَالُكَ تَزُورُنِي الْآنَ؟»

فَقَالَ لَهُ طَيْفُ «قَيْصَرَ»: «إِنَّمَا زُرْتُكَ لِأُخْبِرَكَ بِأَنَّ لِقَاءَنَا وَشِيكٌ (قَرِيبٌ).»

ثُمَّ اسْتَخْفَى شَبَحُ «قَيْصَرَ» عَنْ نَاظِرِهِ. فَصَاحَ «بُرُوتَسُ» فَزِعًا رَاهِبًا؛ فَانْتَبَهَ خَادِمُهُ مَذْعُورًا مَرْعُوبًا، وَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ صِيَاحِهِ.

فَقَالَ لَهُ «بُرُوتَسُ»: «لَسْتُ أَذْكُرُ أَنَّنِي صِحْتُ، وَلَعَلَّكَ حَالِمٌ فِي هَذَا؛ فَخَبِّرْنِي: هَلْ أَبْصَرْتَ فِي مَنَامِكَ طَيْفًا؟»

•••

فَقَالَ لَهُ خَادِمُهُ: «كَلَّا يَا سَّيِّدِي، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا.»

فَقَالَ لَهُ «بُرُوتَسُ»: «لَا عَلَيْكَ، فَاذْهَبِ الْآنَ إِلَى «كَسْيَاسَ»، وَاطْلُبْ إِلَيْهِ أَنْ يُبَكِّرَ فِي زَحْفِهِ، صَبَاحَ الْغَدِ، لِأَنَّنِي قَدِ اعْتَزَمْتُ مُهَاجَمَةَ الْأَعْدَاءِ فِي إِثْرِهِ، وَإِنَّا عَلَيْهِمْ لَمُنْتَصِرُونَ!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤