خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ

(١) قُبَيْلَ الْمَعْرَكَةِ

الْتَقَى الْجَيْشَانِ فِي سُهُولِ «فِيلپِّي»، وَتَحَفَّزَ الْجَمْعَانِ لِلِاشْتِبَاكِ فِي الْمَعْرَكَةِ الْحَاسِمَةِ، وَالْقَضَاءِ عَلَى الْعَدُوِّ قَضَاءً مُبْرَمًا، لَا تَقُومُ لَهُ قَائِمَةٌ مِنْ بَعْدِهِ. وَتَشَاوَرَ «أَنْطُنْيُوسُ» وَ«أُكْتَفْيُوسُ» فِي خُطَّةِ الْحَرْبِ مَلِيًّا، ثُمَّ قَرَّ رَأْيُهُمَا عَلَى أَنْ يَنْحَازَ أَحَدُهُمَا (يَرْتَدُّ وَيَمِيلُ) إِلَى يَمِينِ السَّهْلِ، وَيَذْهَبَ الْآخَرُ إِلَى الشِّمَالِ.

•••

وَرَأَى زُعَمَاءُ الْمُتَحَارِبِينَ أَنْ يَتَحَدَّثَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قُبَيْلَ الزَّحْفِ. وَدَارَتْ بَيْنَ «أَنْطُنْيُوسَ» وَ«كَسْيَاسَ» مُلَاحَاةٌ (مُشَاتَمَةٌ) صَاخِبَةٌ، ثُمَّ قَالَ «أَنْطُنْيُوسُ»: «لَيْسَ لَنَا بُدٌّ مِنَ التَّنْكِيلِ بِكُمْ، بَعْدَ أَنْ غَدَرْتُمْ ﺑ«قَيْصَرَ» الْعَظِيمِ، وَقَتَلْتُمُوهُ غِيلَةً (مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي). وَقَدْ كُنْتُمْ — فِي حَيَاتِهِ — تَرْجُفُونَ (تَضْطَرِبُونَ)، وَتُقَبِّلُونَ مَوَاطِئَ نِعَالِهِ، وَلَا تَأْلُونَ جُهْدًا فِي تَمْلِيقِهِ وَالتَّزَلُّفِ إِلَيْهِ.»

فَأَجَابَهُ «كَسْيَاسُ»: «لَوْ أَنَّ «بُرُوتَسَ» أَخَذَ بِرَأْيِي فِي قَتْلِكَ — بَعْدَ أَنْ أَهْلَكْنَا «قَيْصَرَ» — لَأَسْكَتْنَا لِسَانَكَ السَّلِيطَ (الطَّوِيلَ)، وَارْتَحْنَا مِنْ مُبَاهَاتِكَ الْجَوْفَاءِ (الْفَارِغَةِ). عَلَى أَنَّ السَّيْفَ كَفِيلٌ بِالْقَضَاءِ بَيْنَنَا جَمِيعًا، وَهُوَ قَاضٍ عَادِلٌ، لَا يُرَدُّ لَهُ حُكْمٌ، وَلَا يُنْقَضُ لَهُ أَمْرٌ.»

(٢) هَزِيمَةُ «أُكْتَفْيُوسَ»

وَطَالَ الْحِوَارُ بَيْنَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ؛ فَامْتَشَقُوا سُيُوفَهُمْ (شَهَرُوهَا). وَالْتَقَتِ الْجُيُوشُ، وَاسْتَبْسَلَ جُنُودُ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْتَحَمَ جَيْشُ «بُرُوتَسَ» بِجَيْشِ «أُكْتَفْيُوسَ» فِي مَيْدَانٍ، وَالْتَقَى جَيْشُ «أَنْطُنْيُوسَ» بِجَيْشِ «كَسْيَاسَ» فِي مَيْدَانٍ آخَرَ.

•••

وَكَانَتِ الْقُوَى مُتَكَافِئَةً — فِي أَوَّلِ الْمَعْرَكَةِ — وَالنَّصْرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. ثُمَّ رَجَحَتْ — فِي مِيزَانِ الْقِتَالِ — كِفَّةُ «بُرُوتَسَ» عَلَى خَصْمِهِ «أُكْتَفْيُوسَ»، وَأَجْلَاهُ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَانْتَصَرَ عَلَيْهِ انْتِصَارًا بَاهِرًا.

(٣) مَصْرَعُ «كَسْيَاسَ»

وَقَدْ كَانَ أَحْجَى بِهِ أَنْ يَصْرِفَ جُهُودَهُ إِلَى مُهَاجَمَةِ «أَنْطُنْيُوسَ»، بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهُ النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِ. وَلَكِنَّ «بُرُوتَسَ» لَمْ يَفْعَلَ، وَأَبَى إِلَّا أَنْ يُنَكِّلَ بِخَصْمِهِ، وَيُحَرِّقَ خِيَامَهُ، وَيُخَرِّبَ سُرَادِقَاتِهِ، وَيُمْزِّقَ أَعْلَامَهُ وَرَايَاتِهِ.

•••

وَنَظَرَ «كَسْيَاسُ»، فَرَأَى النَّارَ تَشْتَعِلُ فِي سَاحَةِ الْحَرْبِ، فَلَمْ يَدْرِ مَكَانَهَا، عَلَى التَّحْقِيقِ. وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ «أَنْطُنْيُوسُ» قَدْ أَشْعَلَ النَّارَ فِي خِيَامِهِ — بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهُ النَّصْرُ — فَأَرْسَلَ قَائِدَهُ «تِتِنْيُوسَ»، لِيَتَعَرَّفَ جَلِيَّةَ الْأَمْرِ. وَمَا ذَهَبَ «تِتِنْيُوسُ» حَتَّى قَدِمَ خَادِمُ «كَسْيَاسَ» عَابِسَ الْوَجْهِ، كَالِحَ اللَّوْنِ: فَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ أَنَّ «أَنْطُنْيُوسَ» قَدْ تَمَّ لَهُ النَّصْرُ عَلَى جَيْشِهِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْسِرَهُ بَعْدَ قَلِيلٍ.

فَاشْتَدَّ جَزَعُ «كَسْيَاسَ»، وَحَسِبَ خَادِمَهُ مُتَثَبِّتًا مِمَّا فَاهَ (نَطَقَ) بِهِ؛ فَقَالَ لَهُ: «هَاكَ سَيْفِي — يَا غُلَامُ — فَاقْتُلْنِي بِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْفَرَ بِي «أَنْطُنْيُوسُ»؛ فَإِنَّ الْحِمَامَ (الْمَوْتَ) خَيْرٌ — عِنْدِي — مِنَ الْوُقُوعِ فِي أَسْرِ الْعَدُوِّ.» وَلَمْ يَكَدْ «بِنْدَارُوسُ» يُلَبِّي أَمْرَ سَيِّدِهِ مُضْطَرًّا، حَتَّى قَدِمَ الْقَائِدُ «تِتِنْيُوسُ» يَحْمِلُ أَنْبَاءَ النَّصْرِ، لِيَزُفَّهَا إِلَى «كَسْيَاسَ». وَلَا تَسَلْ عَنْ جَزَعِ الْقَائِدِ حِينَ رَأَى مَصْرَعَ صَاحِبِهِ، فَقَدْ بَلَغَ حَدًّا لَا يُوصَفُ.

(٤) مَصْرَعُ «بُرُوتَسَ»

وَلَمْ يَكَدْ «بُرُوتَسُ» يَتَعَرَّفُ هَذَا النَّبَأَ الْهَائِلَ، حَتَّى دَارَتْ بِهِ الْأَرْضُ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ السُّبُلُ، وَأَيْقَنَ أَنَّ رُوحَ «قَيْصَرَ» الْعَظِيمِ قَدِ انْتَصَرَتْ عَلَيْهِمْ بِقُوَّتِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَسَمِعَ جُنْدَهُ يَتَوَاصَوْنَ بِالْفِرَارِ؛ فَتَحَطَّمَتْ آمَالُهُ، وَشَعَرَ بِعَجْزِهِ عَنْ مُقَاوَمَةِ أَعْدَائِهِ، وَرَأَى خِذْلَانَهُ؛ فَلَمْ يَجِدْ غَيْرَ الْمَوْتِ مُنْقِذًا مِنَ الْوَرْطَةِ، وَمُخَلِّصًا مِنَ الْمَأْزِقِ.

وَرَأَى «أَنْطُنْيُوسَ» وَصَاحِبَهُ «أُكْتَفْيُوسَ» يَقْتَرِبَانِ مِنْهُ، فَقَالَ: «الْآنَ لَا خَيْرَ لِي فِي الْحَيَاةِ. فَوَدَاعًا أَيُّهَا الْأَصْدِقَاءُ، فَإِنِّي قَاتِلٌ نَفْسِي بِالسَّيْفِ الَّذِي أَغْمَدْتُهُ فِي صَدْرِ «قَيْصَر»! …»

ثُمَّ قَالَ: «لِتَهْدَأْ رُوحُكَ السَّاخِطَةُ — يَا «قَيْصَرُ» — فَإِنِّي مُنْتَقِمٌ لَكَ مِنْ نَفْسِي!»

وَمَا أَتَمَّ آخِرَ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، حَتَّى سَدَّدَ سَيْفَهُ إِلَى قَلْبِهِ؛ فَخَرَّ صَرِيعًا عَلَى الْأَرْضِ، وَفَاضَتْ رُوحُهُ.

(٥) مَرْثِيَّةُ «أَنْطُنْيُوسَ»

وَلَمَّا قَدِمَ «أَنْطُنْيُوسُ» وَ«أُكْتَفْيُوسُ» رَأَيَاهُ جُثَّةً هَامِدَةً؛ فَجَزِعَا لِمَصْرَعِهِ، وَأَضْنَاهُمَا الْحُزْنُ وَالْكَمَدُ.

وَرَثَاهُ «أَنْطُنْيُوسُ» قَائِلًا: «لَقَدْ كُنْتَ أَنْبَلَ رُومَانِيٍّ، وَيَعْلَمُ اللهُ أَنَّكَ مَا قَتَلْتَ «قَيْصَرَ» عَنْ حِقْدٍ وَكَرَاهِيَةٍ وَجُحُودٍ (إِنْكَارٍ لِلْفَضْلِ)، وَلَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ الدَّنِيَّةَ (الْفَعْلَةَ الْحَقِيرَةَ)، وَلَمْ تَكُنْ فِي شَمَائِلِكَ (أَخْلَاقِكَ) غَادِرًا وَلَا حَاسِدًا، وَلَكِنَّ «كَسْيَاسَ» الْأَثِيمَ هُوَ الَّذِي زَيَّنَ لَكَ هَذِهِ الْفَعْلَةَ الشَّنْعَاءَ، وَأَدْخَلَ فِي رُوعِكَ (قَلْبِكَ)، أَنَّ مَصْلَحَةَ بِلَادِكَ، وَخَيْرِ وَطَنِكَ، يُحَتِّمَانِ عَلَيْكَ اغْتِيَالَ «قَيْصَرَ»؛ فَأَوْدَى (مَاتَ) مَبْكِيًّا، وَأَوْدَيْتَ مَأْسُوفًا عَلَيْكَ!»

ثُمَّ خَتَمَ رِثَاءَهُ الْبَلِيغَ قَائِلًا:

«إِنْ يَخْدَعِ الْأَشْرَارُ أَنْبَلَ مَنْ وَفَى،
وَأَبَرَّ مَنْ عَادَى، وَأَكْرَمَ مَنْ مَجَدْ
أَوْ يَقْتُلِ الْأَشْرَارُ «قَيْصَرَ رُومَةٍ»
بَغْيًا، وَقَدْ أَضْنَى قُلُوبَهُمُ الْكَمَدْ
فَعِصَابَةُ الشَّيْطَانِ أَلْأَمُ عُصْبَةٍ
قَدْ سَجَّلَتْ — بِجُحُودِهَا — عَارَ الْأَبَدْ
إِلَّا «بُرُوتَسَ» وَحْدَهُ — مِنْ بَيْنِهِمْ —
إِنَّا عَرَفْنَا نُبْلَهُ فِيمَا قَصَدْ
كَانُوا جَمِيعًا — مَا خَلَاهُ — حُسَّدًا،
ذَابَتْ قُلُوبُهُمُ، وَأَشْقَاهَا الْحَسَدْ
حَيُّوا «بُرُوتَسَ»، وَاهْتِفُوا بِخِلَالِهِ
حَيًّا، وَحَيُّوا جِسْمَهُ لَمَّا هَمَدْ
فَلَيُثْبِتَنَّ الدَّهْرُ — مِنْ آيَاتِهِ —
سَطْرًا، إِذَا مُحِيَتْ صَحَائِفُنَا خَلَدْ
وَيَقُولُ: كَانَ «بُرُوتَسٌ» رَجُلًا، وَمَا
عَرَفَ الدَّنِيَّةَ — فِي شَمَائِلِهِ — أَحَدْ
وَيَقُولُ: أَوْدَى فَخْرُ «رُومَةَ» كُلِّهَا
وَأَجَلُّ ذِي فَضْلٍ تَسَامَى وَانْفَرَدْ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤