عالمية المقاومة ضد الإمبراطور بوش١

لا شيء يبعث على التفاؤل إلا سماع دوي المظاهرات عبْر الإذاعة هنا في جنوب كاليفورنيا، هذا الراديو الذي ينقل إلينا أخبار العالم عبْر مئات المحطات، الراديو المعارض للإمبراطورية الأمريكية بقيادة جورج بوش، هذا الراديو الذي ينطلق من داخل الولايات المتحدة ذاتها، تشرف عليه مجموعات متعددة من المعارضين لإدارة جورج بوش وحكومة إسرائيل، وحكومات أخرى في أوروبا، منها حكومة روسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها.

خلال الفترة الأخيرة كان جورج بوش في جولته إلى أوروبا، يحاول إغراء الحكومات الأوروبية بالتعاون معه لاستنزاف الشعوب فيما يسمونه الشرق الأوسط، يقف على المنصة في الاتحاد الأوروبي، يخطب بلهجة الأباطرة، بزهو القتلة الذين يرتفعون عن المحاكمة والعقاب، يتحدث عن الديمقراطية بصوت دكتاتوري متسلط، ينطق كلمة السلام ولسانه أحمر مبلل بدم القتلى في كل مكان، يلوِّح بيده مهدِّدًا كل ما يخالفه الرأي، من إيران إلى سوريا إلى مصر إلى كوريا إلى روسيا، أصبحت روسيا مثل كوريا أو إيران، يمكن أن يهددها الإمبراطور الأمريكي، ويسألها عن سلاحها النووي دون أن تسأله، سؤال من طرف واحد، الطرف الأعلى، مثل الزوج الذي يسأل زوجته عن علاقاتها خارج الزواج دون أن توجِّه إليه السؤال ذاته.

يُعطي الإمبراطور الأمريكي نفسَه الحقَّ في التفتيش عن السلاح النووي في أي بلد (إلا إسرائيل)، ولا يستطيع أحد أن يقول له: ولماذا لا تنزع أنت سلاحك النووي؟ ولماذا لا تفتِّش عن السلاح النووي في إسرائيل كما تفتِّش عليه في إيران وسوريا وكوريا؟

ونسمع هتاف المتظاهرين ضد جورج بوش في ألمانيا، وهو يخطب في مدينة «مينز» إلى جواره شرودر وأعضاء الحكومة، كان بوش يردد الكلمة التي لا يملها «الحرب ضد الإرهاب»، وآلاف المتظاهرين في الشوارع يرددون: «جورج بوش الإرهابي رقم واحد!» يحملون لافتات كتبوا عليها:
  • «عُد إلى بيتك يا جورج بوش!»

  • «حارِب نفسك إن أردت الحرب ضد الإرهاب!»

  • «لا مزيد من الدم من أجل البترول!»

  • «كفى كذبًا عن الديمقراطية في العراق وفلسطين وأفغانستان وروسيا وإيران وسوريا وكوريا!»

  • «يمكنك يا بوش أن تقود العالم بالقنابل إلى الهلاك وليس إلى السلام.»

ولافتة أخرى عليها صورة جورج بوش يحمل فوق رأسه اسم «ماكدونالد» وكينتاكي فرايد تشيكين، وشركة بترول بوش في تكساس.

لكن رجال حكومة ألمانيا كانوا يُصفِّقون لجورج بوش، يشربون نَخْب الصداقة بين البلدين، ونَخْب جورج بوش الأب الذي زار المدينة نفسها (مينز) عام ١٩٨٩، في نهاية الحرب الباردة، وفي بداية الإعداد لحرب الخليج في يناير ١٩٩١، وخطب الأب بوش بمثل ما يخطب ابنه، طالبًا يد ألمانيا لتكون عونًا له في البطش.

يقرع جورج بوش كأسه بكأس شرودر ورجاله في السلطة، تبتلع الحكومة الألمانية هوانها وضعفها في مواجهة الإمبراطور الأمريكي؛ فهي تطمع في نصيبها من مكاسب الحرب، وتسعى للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، وتخطب ود أمريكا بمثل ما تحاول كسب ود روسيا والصين، لعبة مزدوجة ملتوية مثل كل اللُّعَب السياسية منذ أن بدأت الحكومات في العالم.

أصبح جورج بوش يحمل لقب «المسيحي الأصولي» عند الجماعات المعارضة داخل الشعب الأمريكي، يستخدم اللغة الدينية المسيحية كوسيلة للحصول على تأييد المتدينين الأمريكيين، لكنه لا يستطيع أن يلعب هذه اللعبة في أوروبا (لعبة الدِّين)؛ لأن أغلب الناس في أوروبا غير متدينين، لكنه يستطيع أن يمارس هذه اللُّعبة في بلاد الشرق الأوسط؛ حيث يلعب الدِّين دورًا بارزًا في السياسة، خاصةً في إسرائيل، رغم عدم إيمانهم بالتوراة، أو نسيانهم لما جاء فيها من آيات، إلا أنهم يحفظون الآية التي منحهم فيها ربهم الأرض الموعودة (فلسطين) مقابل قَطْع غُرْلة الذكور منهم (أي الختان)، هذا الجزء الأخير من الآية عن الختان بتروه من التوراة، واحتفظوا فقط بالجزء الأوَّل عن الأرض الموعودة.

منذ الاحتلال الأمريكي للعراق بدأ جورج بوش وأعوانه يلعبون بورقة الدِّين لتقسيم العراق إلى فِرَق متناحرة طائفيًّا، الشيعة ضد السنة، الأكراد ضد العرب، المسلمين ضد المسيحيين واليهود، وكم من دماء أُريقت في الحروب الدينية منذ بداية التاريخ حتى اليوم.

لكن اللَّعب بالدِّين مثل اللَّعب بالنار، وقد ينقلب الأمر ويحترق بالنار مَن أشعلها؛ ألم ينقلب أسامة بن لادن ضد جورج بوش؟ فلماذا لا ينقلب الشيعي العراقي أو الكردي ضد جورج بوش أيضًا رغم وصوله إلى الحكم بفضل الاحتلال الأمريكي وانتخاباته المفروضة تحت البنادق؟!

هذا ما يتخوَّف منه جورج بوش في العراق، يسعى أعوانه إلى فك رموز شخصية الحاكم الجديد في العراق، يقولون إنَّه مُعتدل، منخفض الصوت.

المهم أن أعوان جورج بوش يسعون إلى الدخول إلى قلب الحاكم العراقي، يستشيرون أطباء النفس لكشف أسراره الخبيئة، ويستشيرون علماء الاقتصاد لمعرفة مدى إيمانه بالرأسمالية والسوق الحرة، ومدى تسهيله للشركات الأمريكية لاحتكار عقود البترول، وعقود إعادة بناء العراق، وإدخال العراق إلى خندق الديمقراطية والإصلاح على النمط الأمريكي الإمبراطوري.

ويَزُمُّ جورج بوش شفتيه وهو يخطب، تخرج من فمه كلمة «إيران» مثل قنبلة موقوتة محكومة بعضلات شفتيه المشدودتين كالأسلاك المعدنية. قبل أيام وهو يخطب في واشنطن كان أكثر جرأة في تهديده إيران، ومساعدته المرأة التي يناديها «كوندي» (اختصار كونداليزا رايس) كانت تمط شفتيها وهي تتحدث عن البرنامج النووي لإيران، ومساعده الآخر أحد الصقور (نسيت اسمه) الذي قال إن من حق إسرائيل أن تضرب إيران عسكريًّا.

لكن جورج بوش يتحكَّم في صوته؛ فهو في أوروبا، وآلاف الأصوات في الخارج تهتف بسقوطه، واللافتات مرفوعة عليها عبارات ضد الحرب في العراق، وضد الحرب في إيران، الأصوات تدوي: لا مزيد من الدم في العراق وإيران من أجل البترول!

ويأتي صوت الراديو وجورج بوش يخطب، يتراجع ويقول بصوت إمبراطوري متغطرس: ليس في نيتنا الآن الحرب ضد إيران، لكن كل الأوراق موضوعة أمامنا فوق المائدة!

ويأتيني صوت رجل في الراديو، أحد المعارضين لإدارة جورج بوش، يقول: هذا السيناريو مع إيران يشبه السيناريو السابق مع العراق، لن يدخل جورج بوش الحرب الآن ضد إيران لأنها قوية، لكنه سيرسل إليها المفتشين للبحث عما يسميه السلاح النووي، سيقضي المفتشون بعض الأعوام في عملية التفتيش، يروحون ويجيئون كما فعلوا في العراق، ثُمَّ يأتي دور الأمم المتحدة لفرض العقوبات الاقتصادية على إيران كما فعلت مع العراق، وتستمر العقوبات بضع سنوات حتى تضعف إيران، وهنا يعلن جورج بوش الحرب عليها كما فعل مع العراق.

وأنا أستمع إلى الراديو، والمتحدث أستاذ كبير في إحدى الجامعات في ولاية كاليفورنيا، أدركت أن السيناريو وارد فعلًا، وسوف تستخدمه الحكومة الأمريكية مع إيران كما فعلت مع العراق.

أمَّا الأمم المتحدة فهي الأداة الفعالة في يد الولايات المتحدة الأمريكية، أداة لتوقيع العقوبات على أي بلد لا يستسلم للإمبراطور الأمريكي.

لماذا لا يقدِّم كوفي عنان استقالته ويكفُّ عن المشاركة في هذه اللعبة المفضوحة؟

إلا أن مثل هذه الاستقالة تحتاج إلى يقظة الضمير، وهذا أمر لم يَعُد يحدث لأصحاب المناصب العليا في أي مكان من العالم؛ لأنه لو حدث لاستقال حكامنا العرب جميعًا من مناصبهم.

١  كليرمونت، كاليفورنيا، ٢٥ فبراير ٢٠٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤