مظاهرات النساء والرجال ضد القمة في برشلونة ٢٠٠٥١

الساعة الواحدة بعد الظهر يوم الأحد ٢٧ نوفمبر ٢٠٠٥، ونحن نسير في شوارع مدينة برشلونة، الآلاف من النساء والرجال والشباب والأطفال، من مختلف الجنسيات والأجناس والأشكال والألوان والأديان واللغات والهوايات …

نسير في صفوف لا نهائية من البشر، تمتد من ميدان كاتالونيا في قلب المدينة حتى ميدان دي بالو، مرورًا بالشارع الرئيسي «الرامبلا» وميدان كولومباس، حين ينتصب التمثال مشيرًا بإصبعه إلى البحر الأبيض المتوسط.

نسير بخطوة واحدة نحو هدف واحد، هو كشف أكذوبة هذه القمة في برشلونة، التي يسمونها القمة اليورو-متوسطية، والتي تسعى إلى تثبيت أركان سيطرة الحكومات الأوروبية في شمال البحر الأبيض المتوسط على الشعوب في الجنوب، خاصةً الشعوب العربية.

هؤلاء الرؤساء في دول أوروبا شمال البحر الأبيض المتوسط، يرأسهم الاستعماري الكبير «توني بلير»، رئيس وزراء بريطانيا، الذي تَخَفَّى تحت اسم العمال والاشتراكيين وصعد إلى الحكم، ثُمَّ انقلب وأصبح حليف الإمبراطورية الأمريكية الصهيونية الجديدة، مثله مثل «أزنار» رئيس حكومة إسبانيا السابق، الذي أسقطه الشعب الإسباني نساءً ورجالًا وجاء من بعده «زباتيرو» الذي صعد مثل توني بلير تحت اسم العمال والاشتراكيين والاشتراكيات ثُمَّ انقلب هو الآخر وأصبح راعيًا لهذه القمة الاستعمارية في برشلونة.

أصرَّ المنظِّمون على المظاهرة على أن أقف في الصف الأوَّل، أنا والدكتور شريف وعدد من الشخصيات العربية من فلسطين والعراق وسوريا والمغرب وتونس وليبيا واليمن والسودان، كانت أغلب الهتافات ضد جورج بوش وكونداليزا رايس وتوني بلير، تدوي الأصوات بلغات ولهجات متعددة:
  • بوش، بلير، أساسين (أساسين بالإسبانية تعني سفاحَيْن، مجرمي حرب، قتلة وإرهابيين).

  • من أجل تحرير فلسطين والعراق من الاحتلال الأمريكي الصهيوني.

  • لا للاستعمار الجديد في قمة برشلونة.

واقترب مني أحد الصحفيين وسألني: لماذا تعترضين على القمة اليورو-متوسطية مع أنها تنادي بالتعاون أو الشراكة، والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق النساء، والتنمية والازدهار، والاستقرار والسلام والأمن والقضاء على الإرهاب؟

وضحكت وقلت: القضاء على الإرهاب؟

قال: نعم.

قلت: إذًا عليهم القضاء على جورج بوش، وتوني بلير وجميع أعوانهم في بلادنا العربية.

وسألني: هل تؤيدين الانتحاريين في فلسطين والعراق؟

قلت: ماذا تعني بالانتحاريين؟

قال: الذين يُفجِّرون أنفسهم.

قلت: وهل الذي يقتل نفسه يكون إرهابيًّا؟ إنَّ الإرهابي هو مَن يقتل غيره ويستولي على موارده، مثل: الجيش الأمريكي الإسرائيلي في العراق وفلسطين، أمَّا هؤلاء الذين يقاومون هذا الجيش فهم أهل البلاد الأصليون، هم القوى الشعبية التي من حقِّها مقاومة الاحتلال والاستغلال.

إنَّ المقاومة حقٌّ من حقوق الإنسان، وقد أصبحت كلمة الإرهاب في نظر الإمبراطورية الأمريكية الصهيونية هي المقاومة الشعبية.

وقال الصحفي: لكن هذه القمة اليورو-متوسطية تؤمن بالشراكة والتعاون بين بلاد المنطقة شمالًا وجنوبًا، وكذلك التنمية والازدهار والسلام والأمن والاستقرار.

قلت: هذه كلها كلمات خادعة ومراوغة ومزدوجة؛ فالازدهار المطلوب هو زيادة ثراء الأثرياء وزيادة فقر الفقراء، أمَّا التعاون فهو ليس إلا المزيد من التبعية للحكومات القوية في الاتحاد الأوروبية، المزيد من الخضوع لشروط البنك الدولي والسوق والتجارة الحرة، وهي ليست إلا حرية الأقوياء لاستغلال الأقل قوة، وأيضًا المزيد من الجهل والتجهيل عن طريق أجهزة الإعلام، والترويج للتفرقة بين الناس تحت اسم الدين أو الثقافة أو الهوية أو الخصوصية الثقافية.

كانت المظاهرة تنمو مع اقترابنا إلى مكان الاجتماع النهائي، التحمت الآلاف القادمة من الشوارع الجانبية، رافعين اللافتات الحاملة للشعارات التي تقول:

لا للقمة اليورو-متوسطية، يسقط بوش وبلير وشارون! هؤلاء السفاحين «الأساسين»، يسقط النظام الرأسمالي الأبوي، لا تفرقة بين النساء والرجال.

كانت الطائرات تُحلِّق فوق رءوسنا من طراز أواكس التابعة لحلف شمال الأطلنطي، لكن هتاف الآلاف طغى على أزيز الطائرات، ثُمَّ اعترضت سيارات البوليس طريقنا، رأينا الشوارع أمامنا مُغلَقة بالعربات البوكس المصفَّحة المحمَّلة بالجنود ذوي الأسلحة والخوذات الحديدية، كانوا يُغلِقون جميع الشوارع المؤدية إلى المكان حيث تنعقد القمة، وقد تم أيضًا تشديد الرقابة على جميع مداخل إسبانيا، من الموانئ إلى المطارات إلى محطات القطارات، واعتقال أي شخص بدون أوراق رسمية من المهاجرين الفقراء، وإيداعهم السجون تحت بند مكافحة الإرهاب.

وجاءت صحفية شابة تسألني عن غياب جميع الرؤساء العرب عن هذه القمة اليورو-متوسطية (إلا محمود عباس الرئيس الفلسطيني).

وقالت: هل ضغط عليهم جورج بوش حتى لا يقعون تحت سيطرة الاتحاد الأوروبي؟ حرصًا على استقلال العرب!

وقلت: جورج بوش لا يحرص على استقلال العرب؛ إنه يخشى الوحدة العربية المستقلة القادرة على التصدي لإسرائيل، لكن المصالح الأمريكية تتعارض أحيانًا مع المصالح الأوروبية، وما يريده جورج بوش هو احتكار الكعكة العربية البترولية وإبعاد المطامع الأوروبية عنها.

وقالت الصحفية الإسبانية: الرؤساء العرب حضروا جميعهم اجتماعات المبادرة الأمريكية لمشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو مشروع أمريكي صهيوني، أمَّا الحكومة المصرية فقد قادت الحكومات العربية إلى قمة برشلونة عام ١٩٩٥، وهي لا تقل خطورة عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، فما الذي حدث فجأة حتى يتغيب الرؤساء العرب عن هذه القمة؟!

وضحكت وأنا أقول: ربما غيابهم أفضل من حضورهم، ربما هناك بعض المقاومة ضد هذه القمة، نرجو ذلك من باب التفاؤل على الأقل!

وسألتني: ما رأيك في الحوار بين الثقافات الذي روَّجت له السيدة «أنا ليندا» قبل وفاتها (وزيرة الخارجية السويدية)؟ وفي مدينة الإسكندرية تعقد هذه الاجتماعات للحوار بين الثقافات والحضارات.

قلت: إذا لم يقم الحوار على العدالة والمساواة بين الشعوب، فلا يمكن أن يكون حوارًا، سواء كان حوارًا في مجال الثقافة أو السياسة أو الاقتصاد أو التجارة، إلا أن هذه العدالة أو المساواة مفقودة تمامًا في الحوار الثقافي أو الاقتصادي أو غيره؛ ولهذا لا تعني كلمة «التعاون» إلا المزيد من التبعية، ولا يعني الازدهار إلا المزيد من الفقر، ولا يعني السلام إلا المزيد من الحرب، أمَّا كلمة «الشراكة» فهي تعني الشَّرَك أو المصيدة.

ثُمَّ سألتني: وما رأيكِ في فكرة احترام الهوية أو القيم أو الخصوصية الثقافية؟

قلت: أي خصوصية ثقافية لا تساوي بين الناس جميعًا (بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو العِرْق أو العقيدة) هي خصوصية غير ثقافية وغير إنسانية، ولا بد من تغييرها حتى يحظى الناس جميعًا بالعدالة والحرية والمساواة.

في المظاهرة كان يسير إلى جواري مجموعة من الشباب العرب الذين هاجروا إلى إسبانيا من المغرب والجزائر، وكانت الشابة الصحفية تسألني عن مشكلة المهاجرين في إسبانيا وفرنسا، وردَّ عليها أحد الشباب من المغرب قائلًا: لا يمكن حل مشكلة المهاجرين دون تغيير جميع القوانين التي تُفرِّق بيننا وبينكم أنتم الإسبان، أصابتنا حكومة زباتيرو الاشتراكية بخيبة الأمل؛ إنها تريد مِنَّا أن نكون العبيد الجدد، وأن نعمل خدمًا أو حراس سواحل لدى إسبانيا.

وقلت: هذه القمة في برشلونة ٢٠٠٥ تسير في الطريق ذاته الذي سارت فيه قمة برشلونة ١٩٩٥؛ مزيد من الاستغلال للفقراء، مزيد من مقاومة هجرة الفقراء إلى بلاد أوروبا، يسمونها الهجرة غير المشروعة.

وقالت الصحفية: اقترح زاباتيرو على فرنسا دفع معونة جديدة مقدارها ١٫٥ بليون يورو خلال عام ٢٠٠٦ للقضاء على هجرة الفقراء إلى أوروبا. وقال الشاب المغربي: هذه خدعة؛ لأن هذه المعونة توجَّه لحماية أوروبا مِنَّا نحن المهاجرين الفقراء وليس لحمايتنا …

وقلت: إن المعونات لا تحُلُّ مشكلة الفقر أو الهجرة، مثل قرص الأسبرين، لا يعالج المرض الأصلي، بل هو من المسكنات فقط، والمفروض علاج أسباب الفقر باقتلاع النظم الرأسمالية الاستعمارية دوليًّا، وتوابعها من الحكومات المحلية التابعة.

وسأل الشاب المغربي: وكيف نقتلع هذه القوى ذات الجيوش العسكرية والأسلحة النووية بزعامة بوش وبلير وشارون؟

وقالت الصحفية: عن طريق المقاومة وعدم اليأس، هذه المظاهرة تضم الآلاف من شعوب البحر الأبيض المتوسط، وهي قوة شعبية هائلة!

وقلت: نعم هي قوة شعبية هائلة، ولكنها في حاجة إلى الاستمرار، وإلى مزيد من التنظيم والوعي بالأساليب الجديدة للاستعمار الأوروبي أو الأمريكي الصهيوني؛ إن المظاهرات وحدها لا تكفي لانتصار الشعوب على الجيوش العسكرية المنظمة، وعلينا التفكير في طرق جديدة للمقاومة الشعبية المحلية والعالمية.

وقال الشاب المغربي: لماذا لا يُطالِبون في هذه القمة اليورو-متوسطية بنزع جميع أسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة النووية في إسرائيل وفي بلاد أوروبا، بل وفي أمريكا نفسها؟

وقالت الصحفية الإسبانية: وكيف ينزعون عن إسرائيل قوَّتها النووية وهم يجتمعون في هذه القمة من أجل المزيد من حمايتها ضدكم يا عرب يا إرهابيين!

وارتفعت الهتافات حتى السماء: أساسين أساسين سفاحين سفاحين، بوش وبلير وشارون!

١  القاهرة، ٢٧ نوفمبر ٢٠٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤