من هي المرأة الصالحة؟

أصبح الحجاب المادي أو الروحي (أو كلاهما معًا) يحجب النساء عن الحياة، والسياسة أو الدين أو الأخلاق أو غيرها. يتغيَّر الحجاب ونوعه حسب تطوُّر المجتمعات؛ قد يكون حجابًا ماديًّا بالكامل يخفي جسد المرأة وعقلها وروحها وشخصيتها (كما يحدث في بعض البلاد حتى اليوم تحت اسم الدين والأخلاق)، وقد يكون حجابًا من نوع آخَر لا تراه العين، تفرضه التربية في البيوت والمدارس والأحزاب السياسية التي يسيطر عليها الفكر السائد الذي يميِّز الرجال عن النساء.

هذا الفكر السائد يحكم عقول أغلب الرجال والنساء في بلادنا، إلا قلة من النساء والرجال في بلادنا قد استطاعوا دائمًا أن يخترقوا هذا الحجاب العقلي، وتصبح لهم أفكارٌ أكثر تقدُّمًا وسلوكٌ أكثر إنسانية.

كان أبي يحترم أمي احترامًا كبيرًا، يناديها أمام الناس بلقب زينب هانم، يساعدها في إعداد مائدة الطعام، يرتِّب ملابسه بنفسه، ولا ينتظر منها أن تخدمه، أو تسقيه وهو مضطجع في السرير أو تسليه بالحكايات حتى ينام مثل الملك شهريار. كان شهريار مثار سخريتنا ونحن أطفال؛ فهو أكثر مِنَّا طفولةً؛ لأنَّنَا ننام وحدنا دون الاعتماد على الحكايات. أمَّا شهرزاد فلم تحظَ أيضًا باحترامنا؛ لأنَّها كانت بلا عمل، ولا شيء يشغلها إلا تلهية زوجها بالحكايات مثل الجواري والإماء.

وكان أخي الأكبر يحاول السيطرة على أخواتي الصغيرات؛ أحيانًا يضطجع في السرير مثل الملك شهريار ويطلب من أختي أن تسقيه، لكن أبي كان ينهره ويفرض عليه أن ينهض ويسقي نفسه.

هكذا أدركنا منذ الطفولة أن كرامة البنت لا تقل عن كرامة الولد، وأن واجب الولد أن يخدم نفسه بمثل ما تخدم البنت نفسها.

لهذا السبب لم تكن شهرزاد مَثَلي الأعلى في الحياة، ورغم كل ما قرأت عنها من مديح وثناء على أنوثتها وأمومتها وقدرتها بالمكر والحيلة على أن تحوِّل شهريار من سفَّاك للدماء إلى إنسان متحضر. منذ طفولتي لم أحترم وسائل المكر والحيلة، ربما سمعت أبي يذم الماكرين وأصحاب الدهاء والحيلة، يقول عنهم «المداهنون، المخادعون، المنافقون، الماكرون والماكرات»، ولم تكن أمي ذات مكر وحيلة، بل كانت تواجه المشاكل بشجاعة ووضوح، وبالمنطق دون الحاجة إلى الالتواء والمراوغة.

لقد قرأت الكثير عن شهرزاد، وكيف روَّضت شهريار، لكني لم أقرأ عن شهريار ولماذا تمتَّع بهذه السلطة المطلقة لسفك الدماء، أو لماذا حظيَ بهذه الحرية ليقتل كما يشاء، أو لماذا حظيَ بهذه الفوضى ليفعل ما يشاء؛ فالفرق كبير بين الحرية والفوضى. إن الحرية مسئولية ترفع المَلِك أو الحاكم إلى مستوى الإنسانية فيحترم حقوق الآخرين، لكن الفوضى التي حظيَ بها شهريار هي الفوضى ذاتها التي يحظى بها الملوك والحكام في ظل العبودية وحتى يومنا هذا. فهل استطاعت شهرزاد أن تعالج زوجها من هذا الداء بتلك الحكايات المسلية؟!

لم تغيِّر شهرزاد شيئًا من سلطة زوجها المطلقة في الدولة والعائلة. لقد كفَّ عن سفك دماء البنات البريئات، إلا أنه لم يكفَّ عن السلطة المطلقة؛ لقد ظلَّ السيد المُطاع دون مناقشة ودون محاسبة، وظلت زوجته شهرزاد أسيرة له، تلعب دور الجارية والعشيقة والزوجة والمسلية، تحكي له الحكايات كالطفل حتى ينام. كان شهريار رجلًا مريضًا بالسلطة المطلقة، مُدلَّلًا كالطفل، لم تعالجه زوجته من هذا المرض، بل زادته تدليلًا وأنجبت له ثلاثة أبناء ذكور كأنما لتشبع ذكورته حتى الثُّمالة.

إن أبرز ما يميز شهرزاد هو الدافع الجنسي الذي يمنحها المكر والدهاء للسيطرة على الرجل، وهنا يمكن الوهم بأنها علَّمَت شهريار الإنسانية، والحقيقة أنها علمت النساء المكر والدهاء، وكيف يسيطرون على الرجال بالخداع والمراوغة، وليس بالمواجهة والشجاعة والمنطق، لم تغيِّر شهرزاد شيئًا من القيم العبودية المتوارثة، والتي تشكِّل العلاقة بين الرجل والمرأة، أو بين السيد المُطاع والعبد المطيع، والتي تؤكد على الفكرة العبودية التي تقول إن الطبائع البشرية هي هي في كل زمان ومكان، والمرأة هي هي المرأة، التي هي محل الانفعال أو مكان العاطفة، تتحلَّى بالطاعة وحُب الحكاية والكلام والمحاورة والمراوغة والمكر، والميل إلى التفكير والفلسفة والدين والأخلاق والسياسة والحرب.

لا شك أن الأفكار في قصة شهرزاد قد خرجت من المنبع ذاته الذي خرج منه شهريار، وهي العبودية؛ حيث تكون المرأة واحدة من اثنين: الملاك الطاهر، الأم العذراء المضحية التي تلد الذكور، أو الشيطانة التي تمارس الجنس دون أن تلد أطفالًا.

لقد كان شهريار ضحية هذه المرأة الشيطانة الفاسدة، لكن امرأة صالحة هي شهرزاد أخذت بيده وأرشدته كالأم إلى الطريق الصحيح. هنا أيضًا يتضح التناقض؛ فالمرأة هي الفاعلة، سواء في مجال الشر أو الخير، والرجل هو المفعول به.

ولم يكن لشهرزاد دور في الحياة خارج بيتها؛ لقد انحصر دورها داخل الأنوثة والأمومة، داخل الأسرة التي يحكمها الزوج، ولم يكن لها دور في الحياة الاجتماعية والسياسية العامة؛ لهذا السبب أصبحت شهرزاد نموذجًا للمرأة الصالحة المثالية حتى يومنا هذا، لم يحكم عليها أحد بالمرض النفسي كما حدث لغيرها من النساء اللائي لم يتزوجن ولم يلدن، وحاولن المشاركة في الحياة العامة، من مثيلات الكاتبة مي زيادة.

لقد ثبت أن مي زيادة لم تكن مريضة نفسيًّا، لم تكن مريضة بعقلها، بل العكس، كانت تتمتَّع بموهبة عقلية نادرة، إلا أنها لم تكن مثل شهرزاد، لم تلعب مي زيادة الدور الأنثوي الأمومي لرجل واحد، بل فتحت صالونها الأدبي لعدد من الرجال يزيد على العشرين، ولا أدري لماذا لم تفتح مي زيادة صالونها للنساء أيضًا؟ ألم يكن في عصرها نساء أديبات أو على الأقل هاويات للأدب؟ كان هذا السؤال يدور في عقلي كلما قرأت عن صالون مي زيادة الأدبي. لقد ظل صالونها مسرحًا لعالم الرجال، رجال عجائز متزوجون وغير متزوجين، يتبارون في معركة غامضة أيهم يكون الفائز الأوَّل أو الفائز الوحيد، وكانت مي زيادة هي المرأة الوحيدة وسط الرجال، لا تنافسها امرأة أخرى، يفوح عطرها الأنثوي وشبابها الغض وسط بحر من الكهول الذكور، تركوا زوجاتهم في البيوت وراء الحجاب، واتجهوا للسهر والفرفشة والترويح عن النفس من كآبة الشيخوخة وملل الحياة الزوجية.

كانت مي زيادة أديبة مبدعة وامرأة حرة، عاشت بلا زوج وبلا أطفال، كانت على قدر كبير من الشجاعة، إلا أنها لعبت دورًا في صالونها الأدبي يشبه دور شهرزاد، شهريار لم يكن واحدًا بل عشرين شهريار، بحر من العيون والآذان الذكورية المتطلعة المتعطشة للحب، رجال تجاوزوا الستين عامًا وعاشوا جَدْب العواطف داخل مؤسسة الزواج، خرجوا من بيوتهم يبحثون عن الحب تحت وهم الأدب أو الشعر، يستمعون إلى مي زيادة وهي تتحدث بصوتها الأنثوي الناعم، فيطربون كما كانوا يطربون لسماع أم كلثوم، يخلعون الطرابيش ويصفِّقون: الله الله.

وقد يقع أحدهم في حبِّها أو قد يقع جميعهم، إلا أنه حبٌّ هشٌّ لا يصمد أمام ضوء النهار، ويسقط أمام أية محنة أو امتحان.

لهذا السبب تبخَّر هؤلاء الرجال في الهواء حين تعرَّضت مي لأزمتها، حين أُودعت المستشفى النفسي في لبنان إثر مؤامرة الأقارب للاستيلاء على أموالها، تلاشت مي زيادة من خيال هؤلاء الرجال، لم يزرها أحدهم بالمستشفى. ثُمَّ نجحت مي زيادة في الخروج من الأزمة وعادت إلى مصر، وبدأت تلقي المحاضرات ويتألق نجمها من جديد، إلا أنها ظلَّت وحيدة، رفضت أن تلتقي بهؤلاء الذين تخلَّوا عنها وقت المحنة، وماتت وحيدة. هكذا تفوِّقت مي زيادة على شهرزاد في الشجاعة والإقدام، واستطاعت أن ترفض الدور العبودي للأنوثة وللأمومة، وأن تترك وراءها ثروة أدبية أكثر أهمية من أن تلد ثلاثة من الذكور.

ما الذي يدور في مخيِّلة وعقول الرجال والنساء في بلادنا حين نقول كلمة امرأة؟ هناك مَن ينطقها بلهجة دارجة ويقول مَرَهْ، وتُعتبر هذه الكلمة في مصر نوعًا من السباب أو الشتيمة أو التحقير، هناك مَن يقول «أنثى»، وهي لا تقل تحقيرًا عن كلمة مَرَهْ، بل تنطوي أكثر على إدانة أخلاقية أو جنسية، بمعنى أن الأنثى هي تلك التي تصرفها أنوثتها الجنسية الشبقية عن أمومتها الطاهرة.

لقد مَجَّدَت الديانة المسيحية عذرية الأم الطاهرة مريم. أصبحت العذرية مقدسة يجب ألا تفقدها المرأة ذات الأخلاق الحميدة وإن أصبحت أُمًّا. أصبحت العذرية مقدَّسة في حياة النساء فحسب، وانطلق الرجال الذكور يمارسون الجنس قبل الزواج وبعده دون القيود المفروضة على النساء!

إن هذه الازدواجية الأخلاقية جزء أساسي من القيم الطبقية الأبوية التي تقوم على النَّسب الأبوي فقط، يقتضي هذا النَّسب الأبوي ألا يتشكك الرجل في أبوته للأطفال، فكيف يحدث ذلك دون تقييد حركة المرأة بالمفاهيم والقوانين التي تفرض عليها العذرية (قبل الزواج)، والزوج الواحد (بعد الزواج)؟ أمَّا الرجل فإن من حقه المطلَق تعدُّد الزوجات والطلاق وإشباع شهواته الجنسية دون قيد؛ لأن ذلك لن يؤدي إلى خلط الأنساب أو عدم معرفة اسم الأب.

ومن أجل التأكُّد من الأبوة لا بد من قانون الاحتباس المفروض على النساء في بلادنا حتى اليوم، ولا بد من قوانين للأحوال الشخصية تقوم على سيطرة الرجل على زوجته وامتلاكه لجسدها وعقلها واحتباسها عند اللزوم؛ فلا تسافر إلا بإذنه، ولا تخرج من البيت للعمل إلا بإذنه، وقد ثار أغلب أعضاء البرلمان المصري (خلال يناير ٢٠٠٠) ضد مشروع جديد للأحوال الشخصية يسمح للمرأة أن تسافر دون إذن زوجها، وانتهى الأمر بحذف هذا البند من مشروع القانون، وبقيت المرأة المصرية على حالها من حيث الخضوع لقانون الاحتباس.

ونقرأ في جريدة الأهرام، صفحة ١٠ الصادرة بالقاهرة (٢٦ يناير ٢٠٠٠) ما يلي:

للزوج حريةُ السفر دون قيد أو شرط؛ لما تفرضه عليه طبيعة تكوينه ومهمته في الحياة الدنيا من السعي في مناكب الأرض لتحصيل رزقه وأسبابه، والجهاد في سبيل الله.

تعني هذه الفقرة أن الجهاد في سبيل الله مهمةُ الرجال فقط، فلماذا حاربت النساء مع الرجال في معارك النبي محمد ضد أعدائه الكفار؟ ولماذا ماتت منهن مَن ماتت وجُرِحَت منهن مَن أصابها الجِراح؟ ولماذا تحارِب النساء الفلسطينيات واللبنانيات والعراقيات في المعارك العسكرية الجارية حتى اليوم؟ ولماذا تمتلئ الساحة العربية بالشهيدات من النساء؟

أمَّا السعي في مناكب الأرض من أجل الرزق، فلماذا تخرج ملايين الفلاحات في بلادنا من بيوتهن يزرعن الأرض من الفجر حتى الغروب؟ ولماذا تخرج آلاف العاملات في المصانع والمتاجر والمكاتب الحكومية وغير الحكومية حتى اليوم؟ أليس هذا سعيًا للرزق؟ ثُمَّ تأتي الفقرة الثانية بجريدة الأهرام تقول التالي:

بالنسبة للزوجة، الأصل هو المنع من السفر، والاستثناء هو السماح به بإذن الزوج أو مَن يقوم مقامه … الأساس في منع الزوجة من السفر هو الالتزام الناشئ عن عقد الزواج الذي يفرض عليها واجب الطاعة للزوج، والذي ذكره فقهاء الشريعة الغراء على أنه حق للزوج في احتباس زوجته في مقابل التزامه بالإنفاق عليها … للزوج أن يمنع زوجته من العمل وكل عمل ولو قابلة أو مهندسة؛ فإن عصته وخرجت بلا إذنه كانت ناشزًا … للزوج منع زوجته من الخروج من منزله ولو لزيارة الوالدين أو عيادتهما أو حضور جنازة إحداهما … وهذا الذي أجازه الفقهاء يستند إلى ما منح الله تعالى للرجال من حق القوامة على النساء بمقتضى قوله الحكيم: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (الآية ٣٤ من سورة النساء).

بسبب هذا المنطق الذي يستند إلى أغلب آراء رجال الدين أصبح من حق الرجل أن يحبس زوجته أو يمنعها من الخروج أو السفر لمجرد أنها امرأة، من حقه القوامة عليها لأنه ينفق عليها، لكن إذا أنفقت المرأة على نفسها وعلى أطفالها بل وعلى زوجها أيضًا (في الحالات المتزايدة اليوم بسبب البطالة والتي يكون فيها الزوج بلا عمل أو يعمل بأجر صغير)، فإن القوامة لا تكون للمرأة؛ لأن القوامة ليست للإنفاق فحسب، ولكن لأن الله فضَّل الرجالَ على النساء لأنهم رجال حسب قوله الحكيم بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ أو الآية القرآنية الأخرى التي تقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.

ويقول الرسول (عليه السلام): «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.»

وإذا كانت التقوى هي أساس التفضيل بين الرجال، فلماذا لا تكون أيضًا أساس التفضيل بين الرجال والنساء؟

والسؤال: هل تَقلُّ المرأة عن الرجل في قدرتها على التقوى؟

هناك مَن يَنسبون حديثًا للنبي محمد يقول فيه: «النساء ناقصات عقل ودين.» وتختلف الآراء حول هذا الحديث، بعضهم ينكره تمامًا ولا ينسبه للنبي محمد، بعضهم يقول إنه حديث ضعيف، إلا أن الوجدان العام والخيال الجمعي للرجال قد ورث منذ العبودية هذه الصفات الخاصة بالمرأة، ومنها نبعت قيم الأنوثة والأمومة والطهارة والفضيلة والأخلاق.

مَن هي المرأة المثالية الصالحة في نظر المجتمع في بلادنا حتى اليوم؟ إنها المرأة المطيعة الخاضعة لقانون الطاعة، المرأة التي تضحي بعملها ومستقبلها وإبداعها من أجل طاعة زوجها، المرأة المستكينة القابلة لوضعها الأدنى بالنسبة لزوجها دون مناقشة أو جدل، التي تخضع لقانون الاحتباس، والتي تصبح ناشزًا إن خرجت لعملها دون إذن زوجها وإن كانت طبيبة تعالج أرواح الناس وأجسادهم، أو إن سافرت دون إذن زوجها وإن كانت وزيرة في طريقها إلى مؤتمر دولي هام.

وما معنى امرأة ناشز؟ إنها تعني كل الصفات غير الحميدة، ومنها التمرُّد على طبيعتها الأنثوية أو عصيان أوامر الله أو الخروج عن الدين والأخلاق، أو المرض النفسي أو العقلي الذي يستوجب إدخالها المستشفى للعلاج بالجلسات الكهربية أو العقاقير الكيماوية لتعود مثل بقية النساء، هادئةً خاضعةً مستكينةً، تطيع الأوامر دون نقاش أو جدل.

وكم يعجز معظم أطباء النفس عن فهْم أو علاج هؤلاء النساء اللائي يتعرضن للمشاكل النفسية، ولي دراسات متعددة في هذا الميدان (راجع كتاب المرأة والصراع النفسي)، وقد تتعرض المرأة منهن لمضاعفات نفسية تزيد حالتها سوءًا على يد الطبيب المعالج، وهذا أمر لا يدعو إلى الدهشة؛ لأن الطبيب مثله مثل أي رجل آخر، يتعرَّض منذ طفولته للقيم الأخلاقية والدينية السائدة، إنها تتسرب في أعماقه، في الوعي واللاوعي أو الوجدان، يصبح الطبيب مثل أغلب الرجال عاجزًا عن فهْم المرأة الكاملة الإنسانية والكرامة أو المتمردة على المجتمع الذي يسلب منها إنسانيتها وكرامتها. إن هذا التمرُّد طبيعي وإنساني يدل على الصحة النفسية وليس المرض، لكنْ كثير من الأطباء يعجزون عن فهْم هؤلاء النساء، وتصبح مهمة الطبيب هي قتل هذا التمرُّد الطبيعي داخل المرأة (عن طريق العقاقير أو الجلسات الكهربية) من أجل إعادتها إلى حظيرة الخضوع للقيم السائدة عن الأنوثة أو الصحة النفسية أو الأخلاق.

ودار جدل صاخب في مصر خلال شتاء ٢٠٠٠ حول قانون الأحوال الشخصية الجديدة، على الأخص البند الخاص بحق المرأة في خلع زوجها (بغير رضاه) إذا كرهته وكرهت الحياة معه، واستطاعت أن ترد له ما دفعه لها من صداق، وتنازلت عن حقوقها المالية الأخرى مثل النفقة. والبند الآخر الذي يتعلق بحق المرأة في السفر دون إذن زوجها.

وقد تم الموافقة على حق المرأة في الخلع، وهو حق قديم مكفول لها في القرآن والسنة. أمَّا حق المرأة في السفر دون إذن زوجها فلم يُوافَق عليه، رغم أن هذا البند يتعارض مع الدستور المصري الذي يعطي جميع المواطنين حق السفر والتنقل.

هكذا ندرك أن قانون الأحوال الشخصية في مصر لا يزال ينظر إلى المرأة الزوجة على أنها ناقصة الأهلية (أو قاصر)، وزوجها هو الوصي عليها.

حتى اليوم تقوم فلسفة قوانين الزواج في أغلب بلاد العالم (ومنها بلادنا العربية) على الفلسفة العبودية القديمة التي تجعل الرجل مالكًا لزوجته، لكن الزوجة لا تملك زوجها؛ لأن السيد يملك العبد، لكن العبد لا يملك السيد.

منذ نشأة العبودية أو الرِّق في التاريخ اندرجت الزوجة (سُمِّيَت الرقيقة من كلمة الرِّق) ضمن أملاك زوجها من عبيد وماشية وأشياء أخرى، أصبحت المرأة شيئًا أو جسدًا يملكه زوجها؛ أمَّا زوجها فهو يملك جسده ونفسه؛ لأنه إنسان وليس شيئًا.

لهذا نسمع هذا الصراخ حين تحدث محاولة صغيرة لتغيير هذا الوضع الذي يتعارض مع جميع حقوق الإنسان. يتغنَّى الرجال بحقوق الإنسان في كل مكان، فإن أصبحت المرأة هي هذا الإنسان فزعوا وصاحوا: أمسك المرأة باللجام وإلا أفلتت من الحبس أو الاحتباس.

هذه الكلمة (الاحتباس) التي ترن في الأذن مؤلمة نابية، تُذكِّرنا بعصر العبيد، هذه الكلمة أصبحت تتردد على الألسنة في بلادنا كأنما هي كلمة عادية كأنما نعيش في عصر الرِّق، رغم أن ثورات العبيدِ في التاريخ قد حرَّمت الرِّق، ولم يَعُد من حق أحد أن يملك جسد أحد، وانتشرت حقوق الإنسان على شكل قوانين تكفل لكل فرد حق امتلاك جسده وعقله ونفسه، وحقه في العمل بأجر يناسب العمل، وحقه في السفر والتنقُّل دون قيد أو شرط (إلا إذا كان محكومًا عليه في جريمة قتل) وغير ذلك من حقوق الإنسان الإنسانية التي نحفظها عن ظهر قلب.

إلا أن المرأة في بلادنا لم تَعُد إنسانًا بعدُ في نظر أغلب الرجال، بل في نظر النساء أيضًا. شاهدت خلال يناير ٢٠٠٠ امرأة على شاشة التليفزيون (وهي أستاذة بالجامعة) تصرخ دفاعًا عن حرية الطلاق وحرية السفر للزوج دون قيد أو شرط؛ أمَّا الزوجة فهي لا يحق لها الطلاق أو الخلع أو السفر دون موافقة زوجها، إن عقد الزواج يفرض على الزوجة طاعة زوجها؛ فهو يُنفِق عليها وله الحق مقابل الإنفاق في احتباسها.

خرجت كلمة «احتباسها» من فم امرأة بصوت منفِّر، وهي أستاذة بالجامعة تلقِّن الطلبة والطالبات في بلادنا هذه القيم القائمة على احتباس النساء مقابل الإنفاق، ثُمَّ نشكو بعد ذلك من تفسُّخ القيم الأخلاقية، وهل هناك شيء ضد الأخلاق أكثر من إجبار المرأة على الحياة مع رجل مكروه لمجرد الإنفاق عليها؟ وما الفرق بين امرأة تقدِّم جسدها لزوج مكروه مقابل قروشه وبين البغي التي تبيع جسدها؟ مع ذلك تَشْمَخ الأستاذة الجامعية بأنفها وتلعن النساء اللاتي يطالبن بحرية المرأة، كما حدث في البلاد الغربية المنحلة الأخلاق؛ حيث تمتلك المرأة جسدها كاملًا ولا وصاية لأحد على جسدها.

هذا هو كلام الأستاذة الجامعية الذي وافقها عليه أغلب الرجال الحاضرين في تلك الندوة فوق الشاشة، وهو كلام يبدو في ظاهره مع الأخلاق، لكنه في الحقيقة ضد الأخلاق؛ لأن الأساس في الأخلاق هو أن يملك الإنسان جسده وعقله، وتكون له الحرية دون وصاية من أحد.

•••

الفضيلة لا تكون فضيلة إلا بالحرية والاختيار؛ أي المسئولية. أمَّا الفضيلة التي تُفرَض بالقوة والإجبار والوصاية فهي ليست فضيلة، وإنما مجرد خضوع للقهر.

لهذا فإن قضية حرية الإنسان، الرجل والمرأة، هي جوهر الدين الصحيح والقانون الصحيح. إن الحرية حق من حقوق الإنسان وليست منحةً يعطيها الزوج لزوجته، وتكتسب المرأة حريتها بمثل ما يكتسب الرجل حريته، وهناك في الكتب السماوية آياتٌ متعددة تؤكد مبدأ الحرية والمساواة بين البشر نساءً ورجالًا، وفي القرآن خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا … (الزمر، الآية ٦)، ومن أحاديث الرسول محمد: «النساء شقائق الرجال.» و«الناس سواسية كأسنان المشط.» وغير ذلك كثير.

لكن الأستاذة الجامعية كانت تدافع عن رأيها تحت اسم الشرع والدين، وقد أيَّدها في رأيها عدد من الرجال، ومنهم أحد كبار أطباء النفس الذي تحدَّث باسم علم النفس، وراح يؤكد أن النفس نزَّاعةٌ للهوى، تجاهلَ أن هذه النفس قد تكون ذكرًا أو أنثى، وقصرَ كلامه على المرأة، وقال إنها بطبيعتها الأنثوية تغلبها نزعات دونية جنسية لأسباب نفسية، فإن وجدت طريق الخلع أو الطلاق سهلًا (لمجرد أن ترد لزوجها الصداق وتتنازل عن النفقة) فإنها قد تتخلى عن أسرتها وزوجها لمجرد نزوة جنسية؛ أمَّا إذا وجدت طريق الطلاق مسدودًا أمامها فسوف لا تجد أمامها إلا طريق الخير والصلح مع زوجها حفاظًا على الأسرة المقدَّسة.

كان بين شفتيه «بايب» كاد يسقط من فمه وهو ينطق كلمة «الأسرة المقدَّسة»، وضحكت من هول المفارقة؛ لأن هذا الأستاذ الطبيب النفسي كان زميلًا لي في كلية الطب، وتزوَّج زميلة لنا كانت طالبة مثالية أصبحت طبيبة ناجحة، لكنه فرض عليها بعد الزواج أن تتفرغ لخدمته وخدمة الأطفال، عاشت معه ثلاثين عامًا وأكثر، أنجبت منه خمسة من الأولاد والبنات، أخلصت للحياة العائلية، لم تكن لها حياة أخرى إلا الأسرة المقدَّسة.

إلا أن هذه الأسرة المقدَّسة تلاشت فجأة أمام نزوة جنسية طارئة لزوجها بعد أن بلغ السبعين عامًا؛ لقد استطاعت ممرضة صغيرة في عيادته أن تسيطر عليه، وأصبح يشتري حبوب الفياجرا ويركع عند قدميها يتمسح في ساقيها مثل الخروف في قصة ألف ليلة وليلة، وكان قبل ذلك رجلًا من بني آدم سحرته امرأة على هيئة خروف. وقد جاءتني زميلتي القديمة تبكي زوجها الأستاذ الكبير الذي ضحَّى بها وبالأسرة المقدَّسة من أجل فتاة تصغره بأربعين عامًا، تعامله بجفاء وقسوة، لا تريد منه إلا المال؛ فهي تحب شابًّا من عمرها ولا تطيق أن يلمسها هذا الرجل العجوز ذو السبعين عامًا، مع ذلك تُقدِّم له نفسها مقابل المال وهو يعرف ذلك، ويقول واجب الزوج الإنفاق وواجب الزوجة الطاعة.

كنت أرمقه وهو يتحدث على الشاشة يرتدي قناع العلم والوقار، يتحدث عن الأسرة المقدَّسة وضرورة سد الطريق أمام المرأة لتحافظ على هذه الأسرة. بالطبع لم يتحدث الأستاذ الكبير عن سد الطريق أمام الزوج ليحافظ على الأسرة المقدَّسة، بل راح يسهب في قدسية الأسرة، وأنها كِيان واحد ملتحم وليست أفرادًا منفصلين أو مجموعة من الغرباء لا شأن لأحدهم بالآخر، وبالتالي فهو يعارض التصريح في القانون بحق الزوجة في السفر دون إذن زوجها؛ فهذه أمور تُحَلُّ داخل الأسرة المقدَّسة وليس بقرار خارجي من وزير العدل.

وبالطبع تجاهلَ هذا الأستاذ الكبير أنه سافر عشرات المرات دون موافقة زوجته، بل إنه طلَّقها دون موافقتها، وتزوَّج من فتاة تصغره بأربعين عامًا دون أن يعترض القانون، وأنفق عليها في عامين فقط مدخرات عمره وعمر زوجته وأسرته، وعلى شراء حبوب الفياجرا دون جدوى؛ فالزمن لا يعود إلى الوراء، والعجوز لا يصبح شابًّا وإن صوَّرت له الأوهام غير ذلك. لقد هجرته العروس الشابة بعد عامين فقط، وذهبت إلى حبيبها الشاب.

مع ذلك يَشْمَخ هذا الأستاذ الكبير بأنفه الكبير، ويعلن على شاشة التليفزيون أن المرأة لا يحق لها السفر دون إذن زوجها؛ لأنها في حاجة إلى حماية، ولا يصح أن تحظى بالحرية التي تحظى بها المرأة في الغرب، وإلا تفككت الأسرة المقدَّسة التي هي نواة المجتمع.

بالطبع لم يسأله أحد: ولماذا يحظى الرجل بالحرية التي يحظى بها؟ ولماذا لا نضع القيود على حرية الرجل من أجل الحفاظ على الأسرة المقدَّسة؟ لم يسأله أحد لأن أغلب الناس في بلادنا تفكر بنصف عقل، أو بعقل مزدوج لا يرى التناقض فيما يقولون وغياب المنطق والعدل. أغلبهم رجال أعْمَتهم رغباتهم عن رؤية الحقيقة. إنهم يخافون على ضياع آخِر القلاع في أملاكهم الخاصة، وهو امتلاك الزوجة. لقد تحرَّر العبيد في التاريخ بعد أن امتلكوا القوة السياسية لانتزاع حقوقهم.

وليس أمام النساء طريق آخَر للتحرُّر من قانون الاحتباس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤