جائزة تشويه صورة المرشَّحة لرئاسة الدولة١

كانت الشمس مُشرقة في مدينة القاهرة، رغم السَّحابة السَّوداء المُخيِّمة على كتل البيوت الأسمنتية، رغم زوال الخضرة وزحف المباني والجدران الخرسانية، رغم تصاعد صيحات أطفال الشوارع والقطط والكلاب الضالة حول صفائح القمامة، أفتح عينيَّ في الصباح مستبشرة باليوم الجديد، متفائلة بالطبيعة، أو بالجينات الموروثة في جسدي عن جدتي الفلاحة، وأمي المتمردة، وأبي الأزهري الذي ثار ضد الأزهر، يحتاج التمرُّد إلى حدًّ أدنى من التفاؤل أو الأمل في التغيير، مع انعدام الأمل يصبح التفاؤل نوعًا من الجهل أو السذاجة الطفولية أو حتى الجنون.

أطلقت عليَّ زميلاتي في السجن اسم السذاجة الطفولية، كنت أبتسم لكل صباح جديد وأقول لهن: سوف يموت «السَّادات» ونخرج نحن من وراء الجدران إلى الحياة! قالوا عني: طفلة ساذجة، وقالوا عني: نصف مجنونة أو غير واقعية، وقالوا: روائية حالمة، ولا علاقة لها بالسِّياسة.

وما هي السِّياسة أيها السَّادة والسيدات؟!

هل السياسة هي المناورات الحزبية والانتخابية للحصول على مقعد الرئيس؟ أو مقعد في البرلمان أو أي مجلس آخَر أعلى أو أدنى؟!

يقولون عني: عاشقة لطرح الأسئلة، ويقولون: مثيرة للجدل، كأنما طرْح الأسئلة أو إثارة الجدل عمل جنسي خارج الزواج الشرعي، ما العيب في إثارة الجدل أيها السادة والسيدات؟!

ألا يبدأ التغيير بالجدل وطرح الأسئلة؟ ألم تبدأ ثورة العبيد في العالم بسؤال واحد؟

بدأت ثورة العبيد بامرأة واحدة كانت تشرب الشاي في الصباح، في غرفة نومها في مدينة لندن، كانت «لندن» عاصمة الإمبراطورية البريطانية التي لا تغرب عنها الشمس، قامت الإمبراطورية على عَرَق ودم العبيد في أفريقيا وآسيا وغيرهما من قارات العالم، فتحت المرأة علبة السكر تضيف إلى فنجان الشاي ملعقة من السكر، قرأت على العلبة أن هذا السكر زُرع في أفريقيا السوداء، وبينما هي تقلِّب السكر في الشاي راودها السؤال: كم دفع العبيد السود من عَرَقهم ودمهم لزراعة قصب السكر؟! اختلط طعم الشاي في فمها بطعم العَرَق والدم، قذفت بعلبة السكر في صفيحة القمامة.

وبدأت الحركة الشعبية في لندن لمقاطعة السكر، وهي الحركة التي قادت الحركات الشعبية في العالم كله لإنهاء العبودية!

شارك الرجال مع النساء في هذه المقاطعة الاقتصادية للسكر، لكن النساء كانت العمود الفقري لهذه الحركة؛ لأن أمور الطعام (ومنها السكر) كانت (ولا تزال) من اختصاص النساء؛ ولأن المرأة هي التي تذهب إلى السوق وتشتري السكر، وهي التي تستطيع أن تكفَّ عن الشراء، أو تستبدل الطعام (المسمَّم بعَرَق العبيد ودمهم) بطعام آخر أكثر براءة أو أقل دموية.

قراءة التاريخ تدل على أن ثورات التحرير الشعبية في أي مكان من العالم بدأت بفرد يتمرد أو أفراد قلائل، ثُمَّ امتدت إلى الأغلبية، مثل شرارة صغيرة واحدة تمتد لتصنع نارًا أقوى من نيران الإمبراطورية الحاكمة بالحديد والنار.

هذا هو التاريخ الذي لا ندرسه في مدارسنا؛ لأن تاريخ الثورات التحريرية الشعبية من المحظورات أو من المحرمات؛ ولأن صحافة الإمبراطوريات الحاكمة داخليًّا وخارجيًّا تشوِّه صورة أي فرد يتمرد، سواء كان رجلًا أو امرأةً، وتنال المرأة من التشويه ضعف ما يناله الرجل، رغم أن الرجل (حسب العُرف) يساوي امرأتين؛ ولأن التمرُّد يبدأ بسؤال واحد يربط بين القريب جِدًّا (فنجان شاي في لندن)، والبعيد جدًا (العبيد في الجنوب الأفريقي).

واسمحوا لي أيها القراء والقارئات أن أسوق بعض الأمثلة من حياتي العامة والخاصة؛ ذلك لأنني أعرف عن حياتي أكثر مما أعرف عن حياة الآخرين أو الأخريات؛ ولأنني لا يحق لي أن أتكلم عن غيري دون أن أتكلم عن نفسي، وعندنا مَثَل يقول: ابدأ بنفسك.

منذ أن أعلنت عن ترشيح نفسي لرئاسة الجمهورية في مصر (خلال ديسمبر ٢٠٠٤) تسابقت الصحف الحكومية وغير الحكومية التي تُطلق على نفسها في مصر «الصحافة المستقلة»، والتي يسميها الناس «الصحافة الصفراء»، تسابقت هذه الصحف في تشويه صورتي على نحوٍ لم يُسبَق من قبل، وكأنما هناك «جائزة دولة» أو «جائزة تفوُّق» تحظى بها الجريدة الأقدر على تشويه صورتي، أو كأنما الإقلال من قيمتي يؤدي إلى الارتفاع بقيمة الرئيس الذي يريدون له النجاح في الانتخابات ﺑ ٩٩٫٩٪، وقد امتدت عملية تشويه الصورة لكل المرشحين لرئاسة الجمهورية في مصر.

مثلًا في جريدة الميدان في ١٣ يناير ٢٠٠٥ التي تصدر في القاهرة، جاء المانشيت الأوَّل الكبير في الصفحة الأولى يقول بخط أسود عريض:

صحيفة سوابق المرشحين لرئاسة الجمهورية …

صورتي المنشورة تحت العنوان تشبه صور المشبوهات أو المشبوهين المطلوبين للقبض عليهم، أمَّا الكلام المنشور فهو أكثر شبهة من الصورة؛ وَرَدَتْ كلمات تصف هذا الترشيح بأنه نوع من العَتَه السياسي أو البلاهة أو الجنون أو الرعونة والنزق، والرغبة في الشهرة والأضواء، وانعدام المؤهلات المطلوبة في رئيس الدولة.

وما هي المؤهلات المطلوبة في رئيس الدولة أيها السادة والسيدات؟

حين أطرح هذا السؤال لا يعرفون الإجابة، يفكِّرون في مؤهلات «أنور السادات» مثلًا، ثُمَّ يُطرِقون إلى الأرض ويصمتون، ثُمَّ يُردِفون رءوسهم ويقولون: على الأقل كان ذكرًا وليس أنثى! ثُمَّ يتذكرون أنني كتبتُ رواياتٍ وكتبًا تدافع عن حقوق النساء، وتكشف مضار ختان الإناث والذكور، وتتعرَّض للازدواجية الأخلاقية تحت قانون تعدُّد الزوجات، وغير ذلك من الأمور الاجتماعية.

تلتقط الصحف الصفراء والحمراء الخيط للهجوم على شخصي، ونقرأ المانشيتات في الصفحات الأُوَل تقول:

الداعية إلى التحرُّر الجنسي، المنادية بتعدُّد الأزواج، الضاربة عُرْضَ الحائط بالقيم والتقاليد، الرافضة لقدسية العذرية والشرف، المعارضة لختان الإناث والذكور، ثُمَّ تزيد جرعة التشويه بإضافة البُعد الإسلامي، يقولون: التي نقدت تعاليم الإسلام وتقبيل الحجر الأسود!

صحافة صفراء بالمعنى الصحيح، تثير الغثيان، يتحول تاريخ أي مرشح للرئاسة إلى صحيفة سوابق، كأنما المرشَّح أصبح مجرمًا له سوابق لمجرد نزوله الانتخابات منافسًا لرئيس الجمهورية.

تنقلب الإيجابيات (في حياة المرشَّح أو المرشَّحة) إلى سلبيات، تتحول المواقف الوطنية الجميلة إلى سوابق وفواحش وانتهاكات للقيم والدين والأخلاق.

أهذه هي الديمقراطية أيها السادة والسيدات؟!

لقد حاولت الرد على هذه الصحف ذاتها دون جدوى، يمنعون النشر، وإن نشروا يبترون ما أكتب حتى يبدو كلامي غير متسق، غير مقنع، يكاد يؤكد ما يقولونه عني.

هذا هو الإرهاب الصحفي بعينه، وهو إرهاب أشد خطورة من إرهاب القنابل والبنادق، تستخدمه الحكومات في بلادنا، وفي كل بلاد العالم، ضد مَن يهز أصحاب العرش، وأعوانهم من النخبة المستفيدة، هذا هو الإرهاب الحكومي، أو إرهاب الدولة، سواء كانت عربية أو غربية، أمريكية أو بريطانية أو إسرائيلية أو غيرها.

وفي الجريدة أيضًا ظهر مانشيت كبير في الصفحة الأولى يقول: إسرائيل ترشِّح نوال السعداوي لرئاسة الجمهورية في مصر!

وهي محاولة للإيحاء أنَّ إسرائيل تقف معي، تدرك الجريدة أنَّ أغلب النَّاس يقرءون المانشيت فقط؛ لأنَّ الموضوع تحت هذا المانشيت يُؤكِّد العكس، ويُثبت أنَّ مواقفي التَّاريخيَّة كلها ضد الحكومة الإسرائيلية، وضد السياسة الأمريكية في بلادنا، وكلها أمور معروفة، لا يمكن لأحد أن ينكرها.

لكن الصحافة الصفراء تلوي عنق الحقيقة، وتحاول عن طريق التشويه التقرُّب إلى ذوي السلطة، ومَنْ يَدري؟ ربما تحصل هذه الصحيفة أو غيرها على جائزة الدولة عما قريب!

١  القاهرة، ديسمبر ٢٠٠٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤