تقديم

بقدر ما كانت أزمة الخليج أزمة عدوان وطغيان واستبداد، كانت أيضًا أزمة «فضح» وأعني بذلك أنها فضحت الكثير مما كان خافيًا، وكشفت عن حقائق أليمة كانت بعيدة عن الحسبان. ومن هذه الحقائق الأليمة، أن حلم الوحدة العربية، ينتمي إلى عالم الأمنيات أكثر مما ينتمي إلى عالم الواقع، وأن بين الشعوب العربية حواجز، بل حزازات، لا تقلُّ عما بين أنظمة الحُكم فيها من منافسات وعداوات،١ وأن العقبات التي تحول دون تحقيق الديمقراطية في عالمنا العربي ترجع إلى عدم تأصيل الفكرة، بل إلى عدم الاكتراث الذي يُبديه الكثيرون إزاء مبدأ الحرية ذاته، بقدْر ما ترجع إلى المعوقات التي تضعها «السلطة» في طريقها.

على أن أخطر ما فضحته أزمة الخليج هو التكوين الفكري للمُثقف العربي. فقد ظللنا طويلًا نُضفي على هذا المثقف كل صفات السمو الأخلاقي والوعي العقلي، ولا نراه إلا ضحيةً لسلطةٍ غاشمة تقمع توجُّهه (الصحيح في معظم الأحيان)، وتكبت نزوعه إلى تحقيق أنبل القيم وأسمى غايات المجتمع الذي يعيش فيه. وظللنا طويلًا نرى في هذا المُثقف مرشدًا لجمهوره وموجِّهًا لأمته، وننظر إلى النكسات التي تلحق به على أنها من صُنع قوًى اجتماعية جامدة، تعجز عن اللحاق بفكره «الطليعي»، وتعمى عيونُها عن استيعاب رؤيته المُستقبلية.

ثم جاءت كارثة الثاني من أغسطس، فأدركنا كم كنَّا نعيش في الوهم! لم يكن دور المُثقفين، في ابتلائنا بهذه الكارثة، يقلُّ في رأيي عن دور النظام الدموي الذي تجسَّدت على يدَيه. وأنا على وعي تامٍّ بأن شريحة هامَّة مِن مثقفي العالم العربي قد وقفت منذ اللحظة الأولى، بل وقبلها، موقفًا شريفًا يُلبي توقُّعاتنا من تلك الفئة الواعية التي تُجسِّد ضمير أمَّتها. غير أن الحقيقة المذهلة التي كشفت عنها أحداث ذلك الصيف الأليم هي أن الشريحة المؤيدة للعدوان، بالكلمة الصريحة، أو بالمساندة المكتوبة على استحياء، لم تكن تقلُّ عددًا وانتشارًا في كافة أرجاء عالمنا العربي عن تلك التي تصدت لهذا العدوان، مستجيبةً لِما تُمليه عليها قِيَمها الأخلاقية والعقلية.

كان هذا الكشف، أو على الأصح تلك الحقيقة المريرة، صدمةً أليمة لكاتب هذه السطور. فقد بدا لي، حالَما ترامت إلى سمعي أول أنباء الغزو الهمجي، أن هذا المسلك الفريد في تاريخ العلاقات العربية، بل في تاريخ الإنسانية، سيلقى استنكارًا من الجميع، وأن المثقفين العرب سيقفون صفًّا واحدًا في التصدِّي الحازم لهذا العمل البربري. وكانت المفاجأة الصاعقة أن سمعت، منذ أيام الغزو الأولى، أصواتًا عالية تُدافع عنه، أو تتستر على جريمته من خلال التركيز على نتيجةٍ ما كانت لتحدُث لولاه (هي تواجُد القوات الأجنبية في بعض أراضينا)، أو تعجز عن إخفاء حُزنها وغضبها كلَّما اتخذ المجتمع الدولي إجراءً ضد العدوان (بحجة أنه لم يتَّخذ إجراءً مُماثلًا ضد إسرائيل)!

كنت أتصوَّر أن المثقفين بالذات، وبغضِّ النظر عن حسابات الأنظمة الحاكمة ومصالحها، سيتَّخذون موقفًا إجماعيًّا ضد الطغيان، وكنت أتوقَّع حتى ممَّن انخدعوا من قبلُ بالنظام الباغي في العراق، وشاركوا في مهرجاناته اللاهية الزائفة طوال الثمانينيَّات، أن يُفيقوا من غفوتهم (وهي في رأيي غفوة غير مغفورة)، وأن يتنبَّهوا إلى الطبيعة اللاإنسانية للنظام الذي كانوا يُصفقون له، ولكن المفاجأة المذهلة، في هذا الحدث الذي ظننتُ أن أيَّ اثنين، ممَّن يحتكمان إلى عقلهما، لن يختلفا عليه، كانت تساقُط المثقفين في مشارق العالم العربي ومغاربه، وفي بلادهم أو في المهجر. فقد أخذت الأسماء اللامعة، التي أعرف من أصحابها الكثيرين، وأقرأ لهم، وأُقدِّر جهودهم في سبيل نشر النور في عالمنا الذي يكتنِفه الظلام من كل جانبٍ؛ أخذت هذه الأسماء اللامعة تتهاوى ملطَّخة بأوحال التنظير الزائف، والتبرير المُتهافت، والمنطق المعوج … وتكشفت لي حقيقةٌ ما كنتُ أتمنى أن أهتدي إليها في يومٍ من الأيام، وهي أنَّ قدرًا لا يُستهان به من رفاق طريق الفكر عاجزون عن رؤية أبسط الحقائق الواضحة، ولا يقيمون وزنًا كبيرًا لقِيَم الحرية والكرامة الإنسانية، التي طالما تحدَّثوا عنها وكتبوا، ولا يتميَّزون عن الجماهير غير الواعية تميزًا واضحًا، حين يتعلق الأمر باختبارٍ حقيقي لصلابة الإنسان الأخلاقية والفكرية.

بل إنني لأذهب إلى أن الخلل الذي طرأ على توجُّه الجماهير العربية طوال أيام الأزمة، كان يرجع في مُعظمه إمَّا إلى تضليلٍ مُتعمَّد من جانب مُثقفيها، من خلال وسائط إعلامية أصبحت قادرةً على تشكيل كل العقول، وإما إلى اختيارٍ واعٍ من جانب أولئك المُثقفين، قرَّروا فيه أن يُسايروا أشدَّ النزعات الجماهيرية غفلة، وأن يُضاعفوا من قصر نظرِ الرأي العام في بلادهم بالانقياد له، وتوظيف فكرهم وثقافتهم من أجل بناء موقفٍ كاملٍ على انفعالاتٍ وقتية، وردود فعلٍ ضيقة الأفق.

من أجل هذا كان خطابي، في معظم المقالات التي يضمُّها هذا الكتاب، موجهًا إلى المثقفين، وكانت اللهجة الغالبة عليه لهجة الخلاف والصراع. وما زال الجرح ينزف حتى اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، وأحسب أن نزفه سيدوم طويلًا. ذلك لأن كلَّ من أدلى برأيٍ حول هذه الكارثة ما زال على موقفه. وإذا كانت الأصوات قد هدأت قليلًا، فهذا لا يعني على الإطلاق أنها قد تفاهمت، أو أن أصحاب المواقف الباطلة قد راجعوا أنفسهم. بل إنني أستطيع أن أقول باطمئنانٍ كامل، إنه بعد أن أسفر المسار اللاحق للأحداث عن نتائج تُكذِّب مقولات جميع المُدافعين عن سياسات النظام العراقي والمُتعاطفين معه، لم نسمع من مُثقفٍ منهم كلمة اعتذار، ولم نقرأ لواحدٍ منهم ما يُنبئ بأنه استعاد وعيَه … وتلك في ذاتها محنةٌ أخرى!

•••

هذه على أية حال، مجموعة المقالات التي أوضحت فيها موقفي من أزمة الخليج، وقد راعيتُ في نشرها ترتيب ظهورها زمنيًّا. وآمُل أن يضع القارئ كلَّ مقالٍ منها في الإطار الزمني الذي ظهر فيه، حتى يكتسب المقال لدَيه أبعاده الكاملة.

وبعد، فلعلَّ هذا، من بين كل ما كتبت، هو الكتاب الوحيد الذي كنتُ أتمنَّى ألَّا أكتبه، أو كنت أتمنَّى — بعبارةٍ أصح — ألا تطرأ تلك الظروف الأليمة التي تدفعني إلى كتابته، وإلى تسجيل مواقفي في لحظةٍ من أحلك لحظات حياتنا … ولعلَّ ما يدعو إلى المزيد من الأسى والألم، أنَّ أحدًا لا يبدو أنه قد استوعب الدرس.

فؤاد زكريا
القاهرة في يونيو ١٩٩١م
١  سجلت آرائي حول هذا الموضوع في مقالات وأحاديث نُشِرت ببعض الصحف الأجنبية، منها على سبيل المثال:
Après la guerre du Golfe: fin du panarabisme?
مجلة Liberation الفرنسية، عدد ٣٠ مارس ۱۹۹۱م، (باريس).
(نشرت له ترجمة إنجليزية في جريدة Al-Ahram Weekly، القاهرة، عدد ١٦ مايو ۱۹۹۱).
Vers le déclin de l’islamisme.
مجلة Belvedere الفرنسية، العدد الأول، أبريل ١٩٩١م، (باريس).
وانظر أيضًا حوارًا مع، إيف لاكوست Yves Lacoste، في مجلة Hérodote الفرنسية، (يناير ١٩٩١م) وحوارًا حديثًا مع «جاك دوكين» Jacques Duquene، في مجلة Le Point الفرنسية، عدد ٢٥. ۳۱، مارس ۱۹۹۱م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥