هل يريدونها فلسطين أخرى؟
لم أتألم لشيء — بعد ذلك اليوم الأسود الذي غزت فيه الجيوش العراقية أرض الكويت — بقدْر تألُّمي لصورة المظاهرات التي خرجت في بعض المدن العربية تضامُنًا مع ذلك الغزو، ولموقف القيادة الفلسطينية المُساند للعدوان العراقي السافر.
ذلك لأن الشعب الفلسطيني كان منذ ما يقرُب من نصف قرن، أشد شعوب الأرض معاناةً من الاستعمار الاستيطاني، الذي تقوم فيه دولة مُدجَّجة بالسلاح باحتلال أرض شعبٍ آخر بالقوة، ولا تكتفي بالمُمارسات التقليدية للاحتلال، بل تعمل على إحلال الغزاة محلَّ أصحاب الأرض، وعلى محوِ هويتهم وسلْب مواردهم وإدماجهم قسرًا في كيانٍ مُغاير لهم. وأنا لا أشك لحظةً واحدة في أن القيادة الفلسطينية هي خير من يُدرك معنى أن يترُك المرء دارَه على أمل العودة إليه بعد وقتٍ قصير، فيجِد غيره قد شغل الدار، وأنكر عليه العودة إلى بيته وأرضه، والبلدة التي تحمِل ذكريات طفولته، والشجرة التي زرعَها الأجداد ورواها الآباء واستظلَّ بظلِّها الأبناء.
فهل يختلف ما حدث للكويت في يوم الخميس الحزين عما حدث لأهلنا في فلسطين منذ نكبة ١٩٤٨م؟ وهل يتصوَّر أي عاقل أن تقبل قيادة شعب مُقتلَع من جذوره، اقتلاع شعبٍ آخر من جذوره أمام أعيُنها وتقِف مؤيدةً للاغتصاب مُصفقةً له؟ ألا يدري أولئك المُحرِّكون للمظاهرات والمؤيدون في المحافل الرسمية أن المبدأ في الحالتَين واحد، وأن القبول بمبدأ احتلال الكويت وضمِّها بقوة السلاح إلى دولةٍ أشدَّ بطشًا، يهدم الحجة المعنوية الكبرى التي كان العرب جميعًا — وليس أصحاب القضية وحدَهم — يرتكِزون عليها في التنديد بالاحتلال الاستيطاني الغاشم لأرض فلسطين؟
إني لأومن إيمانًا قاطعًا بأن احتلال العراق لأرض الكويت أبشع، في جوانب أساسية، من نكبة فلسطين. ففي حالة فلسطين جاء الاغتصاب من عدوٍّ تاريخي للعرب، لم يكن يُخفي نواياه منذ ما يقرُب من قرن من الزمان، وهو عدو له برامجه المعروفة ومطامعه المكشوفة التي كنَّا نعلم، منذ البدء، أنها تتعارَض مع أمنِنا وأمانينا تعارُضَ الظلمة والنور. أما في حالة الكويت فقد جاء العدوان غادرًا، مُباغتًا كالموت، يحمل في طيَّاته قدرًا من الحقد والكراهية لم يكُن يخطُر ببال أحد. والأهم من هذا كلِّه، أنه جاء من أقرب الأقربين.
والحق أن كثيرًا من المُقيمين في الكويت، من غير مواطنيها، قد مرُّوا طوال ما يقرُب من سنواتٍ عشرٍ بتجربة ذات دلالة بالِغة، ظلَّت تتكرَّر إلى ما قبل العدوان الأخير بأيامٍ قلائل. فطوال أيام الحرب العراقية الإيرانية كان من يجرؤ منهم على التشكيك في جدوى تلك الحرب العقيمة، ومن يتزحزح قيد أنملة عن التأييد الكامل للعراق، يَلقى مِن رفاقه الكويتيِّين هجومًا حادًّا ونقدًا مريرًا؛ فلم يكن الانحياز إلى العراق في نظرهم موضوعًا للنقاش. وسواء أكان مُستندًا إلى مفهوم العروبة، أم إلى صِلة الجوار، أم إلى الرابطة القومية، فقد كان في كلِّ الأحوال انحيازًا مُطلقًا، يكفي أيُّ تشكيك فيه لزرع بذور الخصومة بين أصدقِ الأصدقاء.
هكذا كان موقف الكويت معنويًّا طوال سنوات الحرب العراقية-الإيرانية. وأنا ممَّن يؤمنون بأن الموقف المعنوي أعظمُ أهميةً أو أقوى دلالةً بكثيرٍ من الموقف المادي. وإذا كان معروفًا في العالم أجمع أن الكويت لم تقصِّر في دعم العراق ماديًّا خلال هذه الحرب المُكلفة، وأنها أدَّت واجب الأخوة العربية كاملًا، فإنَّ الأهم من ذلك في نظري هو ذلك التعاطُف الذي كان متأصِّلًا في وجدان الإنسان الكويتي البسيط، ذلك التوحُّد الكامل مع قضية العراق، والإيمان الذي لا يقبل جدلًا أو مناقشة، والانحياز المُطلق الذي يعرف طريقَه حتى وهو مُغمض العينين.
وفي تصوُّري أنَّ الطعنة الحقيقية التي أصابت الإنسان الكويتي في الصميم، خلال ساعات الغزو، جاءت من هذا المصدر بعينِه؛ أعني أن يكتشف فجأة، وفي لحظةٍ أليمة، أن ذلك الجار والحليف الذي كان كلُّ كويتي يؤمِن بقضيتِه ويدافع عنها ويهاجِم من يتشكك فيها بكل عُنف، هو ذاته الذي كان يختزن في داخله كل هذا القدْر من الحقد، وهو الذي يعمل الآن كلَّ ما في طاقته لكي يُحوِّلَه خلال أيامٍ قلائل من مُواطن مُسالم كريم إلى لاجئٍ مُشرَّد في آفاق الأرض، أو إلى غريبٍ بلا هويةٍ في قلب وطنِه. إنها مأساة فلسطين وقد تكرَّرَت من جديد، مع فارق أساسي أشد إيلامًا، هو أن المُعتدي عربي والضحية عربية.
فعلى أي أساس «يُفلسف» قادة المظاهرات موقفهم المؤيد لهذه النكبة الجديدة؟ هل تساءل واحدٌ من هؤلاء المُنظِّرين الذين يُعقِّدون الأمور البسيطة ويلوون الحقائق الواضحة المُستقيمة، عن مدى الجهد الذي بذلَه ذلك النظام، الذي يُصفِّق له الآن، من أجل القضية الفلسطينية؟ لقد كان الكثيرون يتعجَّبون طوال الحرب العراقية-الإيرانية، من تلك الجهود المُضنية والتضحيات الأليمة التي لم تُوجَّه ضد العدو الحقيقي. ففي خضمِّ حروب الصواريخ ومعارك المدافع والدبابات، لم تُطلَق رصاصة واحدة على إسرائيل، وحتى عندما اقتحم الإسرائيليون سماء العراق وضربوا المُفاعل في قلب عاصمتها، لم يُحرك أحد ساكنًا، برغم استمرار المعارك بكلِّ ضراوتها في كلِّ مكان. وأغلب ظنِّي أن التهديدات ذات النبرة الحادة، التي انطلقت خلال الشهر الماضي من بغداد ضد إسرائيل، والتي أنذرت بإفناء نصف سُكانها في حربٍ كيمائية لا تُبقي ولا تذَر؛ أغلب ظنِّي أن هدفها الحقيقي كان التمهيد لغزو الكويت، عن طريق اكتساب شعبية عارمة وسط أمةٍ عربية تحلُم بزعامة تكيل لإسرائيل الصاع صاعَين. وأغلب ظني أيضًا أن إسرائيل كانت تعرِف أن لهذه التهديدات هدفًا آخر غيرَها، بدليل أنها سكتت وكأنَّ الأمر لا يَعنيها. فعلى أي أساسٍ إذَن يَبني هؤلاء المُنظرون، الذين يُعقِّدون الأمور البسيطة ويلوون الحقائق المُستقيمة، تفاؤلهم المُفرِط واعتقادهم الراسخ بأن ضياع استقلال الكويت ومحو هويتها الوطنية، هو الخطوة الأولى في طريق تحرير فلسطين؟
لقد قالوا إن الاستعمار وضع حدودًا مُصطنعة خلق بها دويلاتٍ صغيرة، وإن توحيد العرب يقتضي إزالة هذه الحدود. ولكن هل يُمكن أن تنجح وحدة تتمُّ بالقتل ونهب الأموال وتهديد الآمنين في حياتهم وأرزاقهم؟ وماذا يمكن أن يكسبه المُحتل من ضمِّ شعبٍ رافض للاندماج فيه حتى النخاع؟ هل هناك درس — عن نتائج الضمِّ المزعوم — أبلغ من رفض الكويتيين جميعًا، أن يشاركوا في حكومةٍ يُقيمها المُحتل على أسنة الرماح؟ وأي مستقبل لعملية الإدماج هذه، سوى القهر الدموي؟
وقالوا إن الكويت تخضع، مع سائر دول الخليج، للنفوذ الإمبريالي، وإن الجار، القوي يسعى إلى ضمِّها كيما يكتسِب قوةً تُعينه على التصدي لهذا النفوذ. وكم أودُّ أن يُجيبني أحد على تساؤلٍ سمعتُه يتردَّد منذ سنواتٍ طويلة: هل هناك ما يُسعد القوى الإمبريالية ويخدم أغراضها، أكثر من تلك الحرب العقيمة، التي خاضتها دولتان إسلاميَّتان تُعانيان مشاكل التخلُّف، وتحتاجان إلى كلِّ قرشٍ من مواردهما لبناء مُستقبل أفضل؛ تلك الحرب التي استنزفت أعظم الطاقات البشرية والمادية لأهم البلاد المُنتجة للبترول في الشرق الأوسط، وأضاعت — ربما إلى وقتٍ طويل في المستقبل — فُرَص بناء تنمية حقيقية لهذه البلاد، ومعها المنطقة كلها، وستدخُل بها عالم القرن الحادي والعشرين مُفلسة ومُثخنة بالجراح — تلك الحرب التي انتهت كما بدأت، ولم يجنِ منها أي طرفٍ سوى الخسائر التي لا تعوَّض؟
وقالوا إن الكويت دويلة صغيرة هائلة الثراء، وإنه ليس من العدل أن يظلَّ هذا التفاوُت الضخم في الثروة بين البلاد المتجاورة. ولكن من لا يرى في الكويت سوى صِغر حجمها وثرائها، سيكونُ قد أغفل أهمَّ مزايا هذا البلد الفريد. ففي الكويت من الإشعاع العقلي والثقافي ما يفوق إمكانات بلادٍ أكبر منها حجمًا بكثيرٍ. وما من إنسانٍ مُحبٍّ للثقافة، في كل أرجاء الوطن العربي، إلا ويحتفظ في قلبه بمكانةٍ عزيزة لِما يصدُر عن الكويت مِن كُتبٍ ومجلَّاتٍ ودورياتٍ رفيعة المستوى، زهيدة السعر. وما مِن مُثقفٍ عربي ذي شأن إلَّا ويحمل ذِكرى غالية لمؤتمرٍ أو ندوةٍ أو مهرجان عُقِد في الكويت، ولم يلقَ فيه إلَّا التكريم، ولم يُحاوِل الداعون أن يَستغلوا حضوره لكي يُنافقوا من خلالِه هذا المسئول أو يتملَّقوا هذا الحاكم.
هذا هو الوجه الآخر، الفريد، للكويت، وكل من لا يُدرك هذا الوجه ولا يصف الكويت إلا بأنها دويلة صغيرة واسعة الثراء، لا يعرف عن هذا البلد أهمَّ ما فيه، فهل يتصور المنظِّرون الذين يُعقدون ما هو بسيط ويلوون ما هو مباشر ومستقيم، أنَّ مثل هذا الإشعاع الثقافي سوف يستمرُّ في ظل القهر والاحتلال؟ وهل قدروا — وهم قطعًا من المُثقفين — مدى الخسارة التي ستلحق بالعقل العربي إذا انطفأ هذا الإشعاع؟
إن جريمة كبرى قد ارتُكبت في حق دولةٍ كان عطاؤها أكبر بكثيرٍ من حجمِها، ولكن الجريمة التي لا تقلُّ عن ذلك فداحة هي أن تتصدَّى فئات من أصحاب العقول الملتوية لتصوير الأمر وكأنه في جوهره نزاع بين الشعوب والإمبريالية العالمية، فتُسدل بذلك ستارًا كثيفًا على الجريمة الأصلية التي جرَّت من ورائها ذلك كله، وتُقدم تبريرات مُغالطة لمسلكٍ شائن خالف فيه بعض العرب كل الأعراف الدولية، وفرضوا نغمةً نشازًا على عالَمٍ يسير كله نحو عهدٍ من السلام الشامل، وحلِّ أعقد النزاعات بالتفاوُض المُتحضر. ويبلغ الألم ذروته حين تقف قيادات شعب عانى أشد المعاناة من الاحتلال الغاشم وطمس الهوية، وأصبحت مِحنته مضرب الأمثالِ لظُلم المُستكبرين، فتُصفق لمن يسعى إلى تكرار المحنة بين أبناء أُمته وجيرانه.
ولكنَّ العالم لن يقِف مكتوف الأيدي أمام هذا الظلم الصارخ. وأخشى ما أخشاه أن تتركنا هذه المحنة وقد ازددنا انقسامًا، وازددنا ابتعادًا عن قضايانا الأصلية وإغراقًا في مُستنقع النزاعات الفرعية المُصطنعة التي ينقلِب بها الصديق عدوًّا والعدو صديقًا.
١٣ / ٨ / ١٩٩٠م