المكابرون
ربما كان الإصرار على الخطأ، في حالة الكارثة التي ألمَّت ببلادنا كلها منذ الثاني من أغسطس (آب)، أشد ضررًا وخطرًا من الوقوع منذ البدء في هذا الخطأ؛ فمن الجائز أن الرؤية لم تكن واضحة عند البعض في البداية، ومن الجائز أن الأمور قد اختلطت في أذهان هذا البعض، وأن هناك عقولًا لم تتمكن من التمييز بوضوح بين السبب الأصلي للكارثة وبين النتائج التي ترتبت عليها، وتداخلت فيها القضايا القديمة المعقدة مع القضية الجديدة الواضحة وضوح الشمس. هذا كله جائز، ولكنَّ الشيء الذي لا يُغتفَر هو أن تظل هذه العقول تدافع عن رؤاها القاصرة حتى بعد أن تنكشف الحقائق، وتفتضح الأوهام والأكاذيب. وأخشى أن أقول إن هذا الإصرار، وهذه المكابرة، دليل صارخ على أن فينا قطاعًا لا يُستهان به، عاجزًا عن استيعاب دروس المحنة الأليمة، ومُهيَّأ لتكرارها لو سنحت له الفرص.
ولنقُل، بادئ ذي بدء، إن أبشع المكابرين هم القادة والحكام الذين يرتكبون أخطاءً مُهلكة، ومع ذلك يتمسَّكون بالبقاء في مواقعهم، ويلجئون في سبيل ذلك إلى الكذب، كتصوير الهزيمة الساحِقة بأنها نصر، أو إلى القمع الدموي ضدَّ مَن يُمارسون حقَّهم الطبيعي في الاحتجاج على ما سبَّبته لهم تصرُّفات حكَّامهم من كوارث، أو الدعوة إلى نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة، أو الادعاء الكاذب بأن موقفهم قد أُسيء فهمه، وبأنهم كانوا منذ البدء في صفِّ الحق. هذه نوعيات من الحكام والقادة تتمسك بمفهوم بدائي للسيطرة والقيادة، لا يليق بأمةٍ تعيش على مشارف القرن الحادي والعشرين.
فهم أولًا لا يعترفون بمبدأ المسئولية عن الخطأ، مهما كانت فداحته. إن قوانين بلادهم، على سبيل المثال، تُدين المهندس الذي يخطئ في عمله على نحوٍ يؤدي إلى انهيار جزءٍ من المبنى الذي قام بتصميمه، وقد تحكُم عليه بالحبس وتقضي على مستقبله، أما رئيس الدولة الذي يُدمر بلدًا بأكمله، ويخرب اقتصاده، ويقضي على زهرة شبابه، فإنه لا يعترف بمسئوليته عن شيء، وإنما يُسخر أجهزة إعلامه لتزييف الحقائق والتهوين من شأن المصائب التي جرَّها على مجتمعه، وأقصى ما يفعله هو أن يُصور نفسه ضحيةً لمؤامرة لم يكن له فيها ذنب ولا جريرة وهكذا، فبقدر ما يسري مبدأ المسئولية عن الأخطاء على المحكومين، نرى الحاكم يُعفي نفسه منه، بل يظلُّ يكابر حتى يجعل من نفسه بطلًا أو شهيدًا. ولست في حاجة إلى عقد المقارنة التي تفرض نفسها حتمًا في هذا السياق، بين المُجتمعات التي تعيش عصرها، والتي يتحمَّل فيها صاحب القرار مسئوليةً كاملة عن كل خطأ يقع في نطاق سلطته، حتى لو كانت علاقته به غير مباشرة (كاستقالة وزير للنقل مثلًا بعد حادث قطار)، وبين المجتمعات التي يفرض عليها حكَّامها أوضاعًا بدائية، تُطبق القانون على الصغار وتترُك الكبار فوق مستوى المساءلة.
وهم ثانيًا ينظرون إلى عملية الحُكم ذاتها نظرةً غير مُتحضرة. فالقاعدة عندهم هي أن يظلَّ الحاكم — حتى لو كان يأتي إلى الحكم نظريًّا عن طريق الانتخاب — يشغل كرسيه بصورة دائمة، بحيث إن اعتزاله يُعَد شذوذًا، ولا يتم إلا بقوة قاهرة. وفي مثل هذه الحالة لا يقتصر التمسُّك بالحكم على الزعيم وحدَه، بل تُصِر عليه بطانة كاملة من شركائه، الذين تورَّط كلٌّ منهم في جرائم لا تقلُّ عن جرائمه، ومن ثم فإن سقوطه يعني تسليم رقابهم إلى الجلاد جزاءً على ما اقترفوا في حقِّ شعوبهم من آثام.
وهكذا تظل المكابرة مستمرة، وتتفتَّق الأذهان عن كل ألوان التلفيق والخداع من أجل التغطية على الكوارث الناجمة عن الخطأ الفادح في اتخاذ القرار، ولا يفكر أحد في حاجة بلدِه إلى توجيهٍ جديد وسياسة جديدة تُصلح ما أفسده القائمون على الحكم، وإلى قيادات مختلفة يستطيع العالم التعامُل معها وهو آمِن … فهذه الأمور المُتعلقة بتحقيق المصالح الحقيقية للوطن هي آخِر ما يخطر ببال أمثال تلك النُّظم.
هذه ظاهرة نلمسها حولَنا بوضوح صارخ في أيامِنا هذه، بعد أن بدأ النظام العراقي يستخدم ضد العُزَّل من مواطنيه الجيوش نفسها التي تهاوَت خلال ساعاتٍ أمام من هُم أقوى منها، ولا يستحي من أن يسحق كلَّ مَن يتطلع إلى تحقيق أكثر المَطالب منطقيةً ومشروعيةً في الوقت الراهن، وأعني به تغيير طاقم القيادة المسئول عن الهزيمة المُشينة.
ولكن، إذا كانت مثل هذه المكابرة مفهومة لدى القيادات التي تعلَم أن حياتها مُعلقة ببقائها في الحُكم، فكيف نُفسر مكابرة المُثقفين الذين ما زالوا يقذفوننا بأسخف الحجج وأشدها تهافتًا، لا لشيءٍ إلا لكيلا يعترفوا بأخطائهم السابقة؟ إن عدم التراجُع عن الخطأ بعد أن يُصبح واضحًا، إنما هو رذيلة كُبرى لدى أي مُثقف؛ بل إنني أعتقد أن معيار أمانة المُثقف، على المستويين العقلي والأخلاقي معًا، هو قُدرته على أن يقول: لقد أخطأت، حينما تُصبح دلائل هذا الخطأ غير قابلة للجدال.
غير أن فريقًا لا يستهان به مِن مُثقفينا يُفضلون أن يعيشوا بقية حياتهم مُدافعين عن مواقع هشة متهاوية، بدلًا من أن يستجمعوا شجاعتهم ويُصححوا مواقفهم. فإذا أدركنا أن هذا الفريق يضمُّ نُخَبًا يتَّخِذها كثير من شباب الجيل الجديد قدوة، سواء بوصفهم رموزًا للتقدُّمية أو رموزًا للإيمان الديني، لأدركنا مدى خطورة هذا الإصرار على الخطأ بالنسبة إلى تفكير أجيالٍ جديدة تجمع بين المثالية وعدم وضوح الرؤية والحاجة الماسَّة إلى القيادة والتوجيه.
ولنضرب لهذه المكابرة الفادحة الضرَر بعض الأمثلة المُستمدة من أحداث قريبة العهد؛ فقد ظهر بوضوح، من ردود فعل الشارع العربي في بلاد كالأردن وشمال أفريقيا والسودان، أن استجابات الجماهير، وخاصة الشباب، للأحداث كانت استجاباتٍ جزئية، قصيرة النظر، تستسلِم لانفعالات اللحظة دون أي تبصُّر أو تفكير في النتائج الحقيقية للأحداث. والمثل الواضح على ذلك ردود فعل الجماهير في هذه البلاد على الصواريخ الموجهة ضد إسرائيل؛ فكل ما خطر ببالهم هو أن العرب لم يمسُّوا إسرائيل من قبل بسوء، داخل حدودها، ومن هنا فقد صفَّقوا وهللوا، في طول العالم العربي وعرضه، لتلك الخسائر التي لحِقت بعدوِّنا التقليدي، والتي كان بعضُها كبيرًا. وكانت تعليقات الجماهير، كما تنقلها وسائل الإعلام، تحمِل كلها معاني البهجة لأن ذلك العدو الذي طالَما سعى إلى إذلال العرب وتخويفهم، قد أحسَّ بخوفٍ حقيقي للمرة الأولى في حياته، واضطرب مسار حياته اضطرابًا شديدًا.
هذا رد فعل يُمكن فهمه، والتماس العذر له، من جانب الشارع العربي، ولكن النخبة المثقفة في هذه البلاد ما كان ينبغي لها أن تنقاد وراء المشاعر الجماهيرية المتدفقة، السائرة في طريق مُتخبط، وإنما كان واجبهم، بوصفهم مسئولين عن توجيه العقول، يُحتم عليهم أن يُبصِّروا جماهيرهم بأن، صواريخ سكود (التي أصرُّوا على تسميتِها بالحُسين، وهي تسمية تُدنس المُقدسات الإسلامية إذ تربط رمزًا للفداء والاستشهاد بأداةٍ من أدوات القتل … إلا إذا كان المقصود منها تخليد ذكرى والد المهيب!) هذه الصواريخ لن تهزم إسرائيل عسكريًّا، وإنما ستجلب لها أعظم المكاسب المادية والعسكرية والسياسية. كان واجبهم يُحتِّم عليهم أن يُحذروا جماهيرهم من الاستجابات التلقائية القصيرة النظر، ويُوجهوهم إلى أن النتائج الحقيقية لهذه الصواريخ مُضادة لنتائجها الظاهرية المباشرة تَضادًّا تامًّا، ولكنهم لم يفعلوا، وآثروا ركوب موجة التهليل والابتهاج، وما زالوا إلى اليوم، بعد أن انفضح كل شيء، مُتشبِّثين بمواقفهم المشينة.
إننا نعلم حق العلم أن الجماهير العربية مُحبطة بسبب الظلم الفادح الذي يُمارسه الإسرائيليون وحلفاؤهم الغربيون على الفلسطينيين، ونعلم أن بلادًا عربية أخرى تعاني من الفقر ومِن عجز الأنظمة عن كفالة ضرورات الحياة لشعوبها، وأن منطقة كاملة مثل شمال أفريقيا ما زالت تحمل مرارة الاستعمار الغربي الذي أذلَّها وحاول طمس هويتها أمدًا طويلًا، كما نعلم أن هذه العوامل كلها يُمكن أن تدفع الجماهير غير الواعية إلى التصرُّف بطريقةٍ ميكانيكيةٍ خالصة، بحيث تقف آليًّا في صفِّ من يضرب إسرائيل ببعض المقذوفات، ومن يواجِه أنظمةَ حُكمها، ومن يُحاربه الغرب الذي كان استعماريًّا حتى عهدٍ قريب. هذا كله مفهوم، ولكن للقيادات الفكرية مهمة أخرى، هي أن تُبصِّرهم بالحقائق، والحقائق تقول إن الضربات المُوجَّهة إلى إسرائيل قد أسدت إليها أعظم الخدمات، وأن النظام العراقي ليس على الإطلاق هو النموذج الذي يُمكن أن يُتَّخذ بديلًا لأي نظامٍ عربي آخر يفشل في تحقيق ما يتوقَّعه شعبه منه، وأن الدول الاستعمارية السابقة هي التي خلقت صدَّام وجعلت منه وحشًا مخيفًا، ومن ثم فإن الصراع بينهما ليس بالضرورة صراعا بين حق وباطل، بل إنه صراع بين الدمية التي تجاوزت الدور المرسوم لها، وبين صُنَّاعها.
ولنُقارن في هذا الصدَد بين موقف إسرائيل وموقف الشعوب العربية المتعاطفة مع صدَّام، فقد كان الشارع الإسرائيلي بدَوره ينفعل أشدَّ الانفعال مع كل صاروخ يُصيب حيًّا من أحياء تل أبيب، وكان رد الفعل التلقائي لدى أعدادٍ كبيرة من الناس هو ضرورة خوض الحرب فورًا ضدَّ العراق. غير أن الجماهير وجدَت قياداتٍ فكرية وسياسية تُلجم نزوعها التلقائي إلى الانتقام، وتُبصِّرها بالحقائق البعيدة المَدى، وهي أن دخول إسرائيل في المعركة هو بعَينه ما يسعى إليه صدام، لكى يقلِب جميع الموائد، ويُرغم العالم، بعد أن تُصبح المنطقة في فوضى شاملة، وبعد أن يُضطر العرب إلى الوقوف في صفه ضد إسرائيل، على أن يترك له الكويت. وهكذا أمكن كبت هذه الانفعالات الفورية الجامحة في الشارع الإسرائيلي، لصالح هدفٍ أهم وأبعد مدًی، تنبَّهت إليه قياداتهم السياسية والفكرية، فأقنعت الجموع المُنفعلة الغاضبة بأن مصلحتها تُحتِّم عليها النظر إلى ما هو أبعد من ردِّ الفعل الانفعالي المُباشر. فهل قامت قياداتنا العربية، على المُستوى الفكري على الأقل، بأي شيءٍ مُشابه لذلك في عمان والجزائر والرباط وصنعاء؟ الإجابة معروفة بالطبع؛ إذ لم تكتفِ تلك القيادات بالسكوت، بل إنها زادت الانفعالات القصيرة النظر اشتعالًا، وتملَّقت المشاعر العفوية للجماهير غير الواعية، وصوَّرت مُفرقعات صدام الفاشلة بأنها خطوات حاسِمة نحو النصر. وحينما جدَّ الجد، وبدأت الخسائر تتراكَم على العراق المغلوب على أمره، تغيَّرت اللهجة واستدارت دورة كاملة، وأصبح الشعار الجديد ارحموا شعب العراق وجيشه، دون أية إشارة إلى الحماقات التي أدَّت إلى الكارثة، ودون أي تنديدٍ بأسلوب الحُكم الذي لا تتولَّد عنه إلَّا مثل هذه المصائب. هذه، في رأيي، خيانة من المُثقف لرسالته. وتكتمِل أركان هذه الخيانة بالمُكابرة والإصرار على الخطأ، إذ يعني هذا الموقف أن المُثقف يعمل من أجل استمرار الأوضاع التي تؤدي إلى تكرار الكارثة. بل إن تصرُّف المُثقف لن يكون عندئذٍ مُختلفًا عن تصرُّف الحاكم المُستبد الذي يتمسَّك بالحُكم حتى بعد أن هدم بيدَيه كل شيء، والذي يعلم أن مصلحة بلاده تقتضي ابتعادَه الفوري عن موقعه. فالمُثقف يعرِف حقَّ المعرفة أن مُستقبل الأمة العربية يتوقَّف على مدى وعيِها بخطورة هذا النوع من الحُكام، وأن أعداءنا يتفوَّقون علينا لأنهم لا يستسلمون لانفعالاتهم المؤقتة، وإنما يحسبون، حساب النتائج البعيدة قبل القريبة، ومع ذلك فإنه يُكابر لأنه لا يريد التخلي عن موقعه، وليذهب الوعي السليم إلى الجحيم!
ولنضرِب مثلًا آخر فمِن المُثقفين أعداد لا حصر لها تُحدد موقفها من الأزمة كلها على أساس تجارب شخصية محدودة، كأن يُحدثك أحدُهم عن استعلاء موظف كويتي على المُتعاملين معه، أو عن بضعة شباب خليجيين يجلسون في أيام الحرب أمام «البارات». بل إنني ناقشتُ عددًا غير قليل من المُثقفين العرب المُقيمين في بلادٍ غربية، ووجدتُ موقفهم من الصراع الدائر مرتبطًا أوثق الارتباط بتلك المرارة التي يُعانونها في بلد المهجر، وبالمكانة المُتدنية التي يشعر كل عربي مهاجر إلى الغرب بأنه يحتلُّها، مهما علا شأنه. هذه تجارب قد تكون كلها حقيقية، ولكن اتخاذ موقف كامل من أزمة مصيرية كهذه بناءً على خبرات شخصية من هذا النوع يكشِف عن سقوطٍ فكري مُخيف فالمُثقف يختلف عن عامة الناس في قُدرته على الفصل بين التجارب الشخصية والمشاكل العامة، وعلى التمييز بين المشاعر الخاصة وبين المسائل المُتعلقة بالمبدأ. ولو اختزل المُثقف مجتمعاتٍ بأكملها إلى سلوك عدد من أبنائها الذين هم في نظره مُنحرفون، لَما كان جديرًا بحمل أمانة الثقافة بل إنني سأذهب إلى أبعد من ذلك، وأفترض أن شعوب الخليج كلها سيئة الخلق، وهو فرض مضحك، ومع ذلك فإني أتساءل: منذ متى كانت الشعوب تستحقُّ أن تحتفظ بهويتها أو تُبتلَع من جيرانها بناءً على طريقتها في السلوك؟ وهل نملك نحن مفاتيح الفضيلة حتى نحكم على الشعوب بالبقاء أو الفناء؟ وهل النظام العراقي الذي التهم أحد جيرانه — وكان على وشك الاستدارة إلى الآخرين — هل هو حقًّا جدير بالبقاء وفقًا لهذه المقاييس الأخلاقية نفسها؟
إن هذا اللون من التفكير، الذي قد يُغتفر للعامة، هو في حقيقته فضيحة معنوية وعقلية لعددٍ لا يُستهان به من مُثقفي البلاد العربية المُساندة للعدوان، وهو دليل آخر على أن هؤلاء المُثقفين لم يرتفعوا كثيرًا عن مستوى رجل الشارع في بلادهم. وحين نراهم، حتى يومِنا هذا، يُرددون مثل هذه الآراء المهلهلة، ويرفضون مراجعة أنفسهم، فعندئذٍ تُصبح صورة المستقبل أمامنا غير مبشرة بالخير.
لقد كان الجرم المشين الذي ارتكبه النظام العراقي في حق الأمة العربية كلها، لا في حق الكويت وحدَها، ضربةَ فأسٍ غاشمة شقَّت الشعوب العربية نصفَين. ولكنَّ هذه الفأس قد شجَّت الرأس العربية، والعقول العربية، إلى شطرَين. وأخشى أن أقول إن هذه الجريمة قد كشفت عن مدى سلامة أو اختلال عقول النخبة المُثقفة في بلادنا، وعن مدى أمانتها أو خيانتها في الوقت ذاته.
ومن المؤسِف أنَّ رموزًا كثيرة قد تهاوت، سواء من السلفيين الدينيين أو من السلفيين اليساريين (إذ إن في اليسار فئة لا تقلُّ سلفيةً عن أشد أفراد الجماعات الدينية المُتطرفة تزمتًا). ومِن المُخجل أن الخطاب الصدامي قد مسَّ وترًا حساسًا في نفوس الكثيرين ممَّن كنَّا نظنُّهم أعمق وعيًا من أن يُصدقوا أن أعظم من خدم مصالح الغرب هو «البطل» المُتصدي لمصالح الغرب، وأن الظالم الأكبر لبلدِه هو المُطالب بالعدالة في بلاد الآخرين، وأن أكبر مُبدِّد لثروة بلده في شراء الأسلحة وإقامة المهرجانات هو الثائر على سوء توزيع الثروة، وأن أكبر دجَّال مُعادٍ لجميع القيم الدينية هو المجاهد الإسلامي الكبير، وأن المُحطم الأكبر لبناء الوحدة بين الشعوب العربية إنما كان يستهدف، في كل أفعالِه، إقامة الوحدة الشاملة.
واليوم، بعد أن انكشف هذا كله، فهل سمِعنا صوتًا واحدًا من هؤلاء يقول لقد أخطأت؟ هل ظهرت أية بادرة توحي بأن وقت المكابرة قد انتهى، وبأنه قد آن أوان مواجهة أنفسِنا، ومواجهة شعوبنا، بالأسباب العميقة التي تولَّدت عنها المأساة؟ أخشى أن أقول أن هذا النقد الذاتي لن يحدُث، وأن علينا أن نُواصل طريقَنا مُخلِّفين وراءنا فئةً كاملة من الرموز التي انبهرنا بها طويلًا، والتي فضح صديقها الطاغية كلَّ ما كانت تُخفيه من زَيف أخلاقي وتخلُّفٍ عقلي.
١٤ / ٣ / ١٩٩١م