مرثية للتنوير
في الوقت الذي انكشفت فيه ألاعيب الطاغية، بعد أن دمَّر بلاده وخرب وطنًا آخر كان ملاذَه وسندَه طوال حُكمه، في هذا الوقت على وجه التحديد قامت مظاهرات الطلاب في الجامعات المصرية. كان المخدوعون الآخرون قد سكتوا بعد أن أذهلَتْهم المفاجأة؛ فقد صوَّرت لهم دعاية الطاغية أنه مُنتصر حتمًا، وأنه سيروي الصحاري الواسعة بدماء أعدائه. وتفنَّنت الأجهزة الإجرامية في ابتداع التشبيهات والمجازات الدموية التي تكشف عن نفسية مُبتكريها أكثر مما تُخيف سامِعيها. وحين جاءت ساعة المواجهة التي كان الطاغية يستعجِلها حتى يسحقَ أعداءه، انهار صرح الأكاذيب في ساعاتٍ معدودات، وتشتَّتت القوة الباغية التي لم تخدم يومًا قضيةً شريفة، وبدأت الحلقات تتراكم في سلسلة التنازلات: انسحاب؟ أمهلوني ثلاثة أسابيع … سأُقلل المدة إن شئتم … سأنسحب في يومَين. الكويت؟ من قال إنها المحافظة رقم ١٩، أو «الكاظمية»؟ من قال إن لنا فيها حقوقًا تاريخية؟ سأتركها لأهلها، وأعترف باستقلالها، وأسحب ادِّعاءاتي بشأنها. فلسطين؟ لم أعُد أريد «ربطًا» بينها وبين قضيتي في الخليج، وها أنا ذا أمحو اسمَها محوًا تامًّا من مبادرتي، وأُعلن بملء الفم أنني لم أستخدِم هذا الاسم الشريف من قبل إلَّا لكي أزيد عدد الهاتِفين لي في شوارع العواصم العربية، أما الآن، فعلى الفلسطينيين أن يتولَّوا قضيتهم بأنفسهم!
كان التنازُل قاسيًا على المخدوعين، على مئات الألوف من المواطنين العرب السُّذَّج الذين تعلقوا بأملٍ كاذب، فتصوَّروا أن الطاغية سيُوحِّد العرب، ويواجِه أعداءهم بالسيف، ويستعيد لهم حقوقهم المسلوبة، ثم تبيَّن لهم أن البطل دجَّال تاريخي عظيم يلعق وعوده عند أول بادرةٍ خطرة، ويتخلَّى عن أشرف القضايا لكي ينجو بجلده — وكم كلفنا هذا «الجلد» المُدنس من تضحيات!
صمت المخدوعون في عمان والرباط وتونس والخرطوم وصنعاء، وبدأت الخديعة تتكشَّف لهم، وأضيفت صدمة أخرى إلى تلك السلسلة الطويلة من الصدمات التي يُعانيها العقل العربي حين ينحرِف باندفاعٍ غير محسوب وراء الطغاة مُتوهمًا أن خلاصَه في أيديهم، فإذا بهم يتخلَّون عنه، ويُمرغون كرامته في الوحل، ويكشفون — بعد فوات الأوان — عن سماتٍ ما كان ينبغي أن تؤهِّلهم حتى لقيادة قطيعٍ من الماعز.
وسط هذه الفضيحة الشاملة، وبعد أن كشفَها أشد الناس تحمسًا للطاغية في كافة أرجاء العالم العربي، بدأت جماعات غير قليلة في الجامعات المصرية تتحرَّك تأييدًا للوَهم الذي انقشع، وللصنَم الذي حطَّم نفسه بيدَيه. ووجدتُ نفسي أُفكر مليًّا في هذا الذي يحدُث؛ فهؤلاء الشباب المِثاليُّون، الذين سيظهر منهم قادة بلدِهم في المستقبل، يتركون أنفسهم فريسة لأبشع ألوان التضليل، دون أن يُفكر أحدٌ منهم في حقيقة ما يفعل.
كان ما آلَمني حقًّا هو أن أعدادًا غير قليلة من شبابِنا، ومجموعات لا يُستهان بها من تلك القيادات التي يتأثر بها هؤلاء الشباب، قد ألغت عقولها أو استخدمتها بطريقةٍ آلية عقيمة؛ فحيثما يكون الأمريكان، ينبغي أن نكون نحن في الطرَف المضاد … هذه خلاصة الكارثة العقلية التي وقع فيها الناشئون والمُخضرمون معًا. ولمَّا كانت النزاعات والخلافات والصراعات تنبُع كلها من العقل، فقد أحسستُ بالفزع والجزع على مُستقبل هذه الأجيال إذا كانت فيها فئات غير قليلة تستخدِم عقلها، أو تُعطل استخدامه، على هذا النحو الفج.
العالم كله أدرك أن الواقع أعقد من أن يختزل إلى تلك الثنائيَّات العتيقة، ونحن لم نُدرك بعد.
العالم كله، منذ الربع الأول من هذا القرن، يعلم أن الفاشية أبشع النظم البشرية قاطبة، وأن أي عداءٍ آخر ينبغي أن يحتلَّ مكانه بعد عدائنا للفاشية وليس قبله، بينما البعض من أجيالنا الجديدة التي تتأثر بأجيالٍ مُخضرمة مُتحجرة، تكاد تنسى فاشية نظام صدام نسيانًا تامًّا، وتقبل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أن تقِف معه في خندقٍ واحد.
العالم كله يعلم أن أسلوب التدخُّل العسكري المباشر للدول الكبرى قد عفا عليه الزمن، وأن هذه الدول قد ابتدعت أساليبَ أخرى أشدَّ خفاءً وأقل كلفةً لفرْض نفوذِها على ما تشاء من المناطق … ويعلم أن أسلوب التدخُّل العسكري المباشر — الذي لم يُطبق في بلادنا حتى في الوقت الذي كانت فيه حدَّة الصراع بين المُعسكرين الأيديولوجيين على أشدِّها — لم يعُد له الآن أي معنًى بعد أن ساد العلاقات الدولية تفاهُم يُذيب أخطار جميع الخلافات. أما نحن، فما زلنا نُفكر بالعقلية التآمُرية الاستعمارية الإمبريالية الكومبرادورية … إلى آخِر هذا المصطلح العقيم الذي تخلَّى عنه مُبتدعوه منذ وقتٍ ليس بالقصير.
العالم كله يُدرك أنَّ إسرائيل مِن مخلوقات الحرب الباردة، وأن ذوبان ثلوج هذه الحرب الباردة لا بُد أن ينعكس سلبًا على هذا الكيان، ولا بُد أن يُقضى على الكثير الأسباب التي جعلت مِن إسرائيل طفل الغرب المُدلل … أما نحن فنتصوَّر أن خلاصَنا من إسرائيل لن يتم إلا بالخُطَب البلاغية التي تهدد بحرق نصفها، أو بالمفرقعات الاستعراضية التي نزلت عليها بردًا وسلامًا، لقاء ما نالته عليها مِن مكافآت سخية.
العالَم كله يحسب، ويُدقق، ويشد خيوط العقل حتى نهايتها، ونحن نستسلِم للانفعال المؤقت، ولا نرى إلا النتائج القريبة المباشرة، ونعجز عن رؤية أي شيءٍ يبعُد عن أطراف أنوفِنا، ونُهلل «للنصر» الوقتي والوهمي، عاجِزين عن استشعار الهزائم التي تنتظرنا من جراء اندفاعِنا وضيق أفقِنا.
لقد نالتنا من أحداث أغسطس الماضي كوارث لا حدَّ لها في مواردنا وأموالنا وأرواح أبنائنا. ولكن الكوارث التي حلَّت بالعقول أفدح، لأن الخسائر المادية سرعان ما تُعوَّض، أما القصور العقلي فيظلُّ معَنا أمدًا طويلًا. وإذا كان نصف العالم العربي قد فقد القُدرة على الرؤية السليمة، وإذا كان أصحاب قضيَّتنا الكبرى قد وقفوا حتى اللحظةَ الأخيرة يُهلِّلون ويُكبرون لِمن ألحقَ بقضيتهم أفدح الأضرار، وإذا كان العُذر الوحيد الذي يُقدَّم إلينا عن هذه الرؤية القاصرة هو أنهم أُناس يائسون مُحبطون، فإن المرء لا يملك إلا أن يتشاءم، ويشعر بأن العالم العربي عاجز عن أن يتعلَّم الدرس، حتى لو كان هذا الدرس كارثة.
إن عقول الأجيال الجديدة التي وقفت تُصفق للطاغية وترى فيه أملًا للعروبة وبطلًا للوحدة المنشودة، لا بد أن تُفرِز لنا في المستقبل «صدَّامين» لا حصرَ لهم وذلك لسببَين جوهريَّين: أوَّلهما أنها أثبتت قصورها حين استسلمَت لكل ما يحشو أدمغتها به جهاز دعايته الفج، الذي ظلَّ يكذِب حتى النهاية، وما زال يتحدَّث عن «النصر» إلى اليوم. وثانيهما أنها لا تضع كرامة الإنسان وحُرياته وحقوقه ضمن أولوياتها المُفضلة، بل تُعطي مكان الصدارة للشعارات الفضفاضة الجوفاء وللقوالب المحفوظة المُتخلفة عن أيديولوجيات غيَّرت الآن جلدها، إن لم نقُل إنها غيرت قلبَها. ولو حدَّثتها عما لحِق بالإنسان العراقي، في عهد الطاغية، من تشويهٍ نفسي وبدني لا دواء له، ولو حدثتها عما حلَّ بشعب الكويت على يد الطاغية وزبانيته من كوارث جعلت العربي يحتضِن الأمريكي لأنه خلَّصه من أخيه العربي؛ لقالت لك. كلامًا كثيرًا، يبدأ عادةً بعبارة «أيًّا كان رأيُنا في احتلال الكويت فإن …» أو «أيًّا كان رأينا في صدَّام حسين فإن …»
والمُصيبة كلها تكمُن في «أيًّا كان» هذه. فإذا بلغ بنا الاستخفاف بأبشع المُمارسات حدًّا يجعلنا نتعجَّل استبعادَها والمرور عليها مرَّ الكرام، وإذا عجزنا عن إدراك أن القضية بأسرِها إنما تكمُن في هذا الذي نُخفف مِن وقعِه على نفوسِنا حين نجعله مسبوقًا بكلِّ هذا القدر مِن عدم الاكتراث، الذي تُعبر عنه كلمة «أيًّا كان» فقُل على وعيِنا السلام!
هل كان الطاغية هو الذي دمَّر عقولنا إلى هذا الحد مثلما دمَّر أوطاننا وبيوتنا وخرَّب مرافقنا ودفع بمئات الألوف من شبابنا إلى الهلاك بلا معنًى، وبلا قضية، أم أن الدَّمار كان في العقول من قبل، وكل ما فعلَه الطاغية أنه كشف، بأفعاله الجنونية، عما كان مستورًا، وعما نحرص على إخفائه حتى لا نُفتضح.
لا أدرى، ولكن كل ما أعلمه هو أن «مائة عام من التنوير» لم تستطع بعدُ أن تُغير الجوهر الحقيقي لعقولٍ كثيرة، وما زال الطريق أمامنا طويلًا، بل ربما كان علينا أن نبدأ الطريق مرةً أخرى من خطواته الأولى.
إبريل ۱۹۹۱م