معركة بلا مجد
ردًّا على د. فوزي منصور
علمتني تجاربي الطويلة في المعارك الفكرية — وما أكثرها — أن الطرف الذي يلجأ إلى السباب والتجريح الشخصي هو الطرف الذي يشعر بأن قضيته خاسرة. وفي ضوء هذه الحقيقة ينبغي أن يُنظر إلى مقال الدكتور فوزي منصور (الأهالي ۲۰ / ۳ / ۱۹۹۱م) الذي حشد فيه من قاموس الشتائم ما جعلني أُشفق عليه لا سيما وأنه صديق، لأنه ما كان ليلجأ إلى هذا الأسلوب لو لم يكُن واقِعًا في مأزقٍ حقيقي. ومن الغريب أنه اتَّهمني بتجاوز حدود أدَب الحوار في مقال «أين الخلل»، مع أن هذا مقال لم يُعالج إلَّا قضايا ومواقفَ عامة، ولم يُوجِّه لأحدٍ بشخصه، كلمةً نابية واحدة، على حين أن مقال الصديق كان كلُّه موجَّهًا إليَّ شخصيًّا، وكان من أوله لآخِره مرصَّعًا بأحجارٍ كريمة من أمثال الأنبياء المُزيَّفين – مُروِّجي الأوهام والأكاذيب – الكذب على التاريخ وخداع الشعوب – البراعة في إساءة استخدام المنطق. وأخيرًا وليس آخرًا: البذاءة.
حسنًا، سأتجاوز عن هذا كله، أولًا لأن الدكتور فوزي صديق، وعالم، وأستاذ جامعي، وباحث مرموق وثانيًا، لأن بين أوراقي رسائل كتبَها الدكتور نفسه وأبدى فيها أعظم التقدير لآرائي العلمية والفكرية، وللدور الثقافي الذي أقوم به في مصر والكويت. لهذَين السببَين كان من المُستحيل أن يتَّخذ الحوار بين أستاذَين جامعيَّين مثلنا شكل السباب المُتبادل، وكل ما في الأمر أنني سأُمارس مرةً أخرى عادتي المرذولة في القيام بدور المُعلم (وهي عادة تُثير أعصاب بعض الناس) وأسال الزميل الجامعي الكريم:
-
لنفرِض أنني كتبتُ أسوأ مقالٍ في تاريخ البشرية، فهل مما يتفق مع المنهج العلمي أن تُصدر على صاحبه حكمًا كاملًا شاملًا، بناء على هذا المقال الواحد، وتتجاهل عشرات الكتب والأبحاث التي كنتَ أنت ذاتك في طليعة من يُشيدون بها؟
-
ولنفرض أن تعريفي للحرب بأنها أبشع وأحط سلوك بشري لم يُعجبك (بحجَّة أنه لا يعمل حسابًا لحروب التحرير، وهي حُجة واهية لأن السياق كان مُتعلقًا بذلك النوع من الحروب الذي تُمثله حرب الخليج، وهي قطعًا ليست من حروب التحرير) فهل يُجيز لك المنهج العلمي والأخلاق العلمية، أن تصف هذا التعريف، الذي يُوافق عليه تسعة وتسعون في المائة من البشر، بأنه «بذيء»؟ هل كان المطلوب، لكي أُصبح أقلَّ بذاءة، أن أصف الحرب بأنها أعذب وأرق سلوك بشري؟
-
هل من أصول المنهج العلمي أن يرفض المرء جميع الشواهد المحلية والعالمية التي تؤكد بشاعة مسلك الجيش العراقي في الكويت، مؤكدًا أنها مجرد «ترديد لِما تبثُّه أبواق الإعلام الخليجية والأمريكية»؟ ولنفرض أن هذا الإعلام قد بالغ بنسبة تسعين في المائة، ألن تكون العشرة في المائة المُتبقية كافية لإقناعنا بأننا هنا إزاء جيشٍ تسمَّم بأفكار صدَّام وتشبَّع بوحشيته وعامَلَ جيرانه من العرب وكأنهم كانوا ألدَّ أعدائه مُنذ فجر التاريخ؟
إن القضية التي طرحتُها في مقالاتي السابقة حول أزمة الخليج هي قضية الطريقة التي يواجِه بهل العقل العربي أزمةً من أزماته الكبرى. وهذه قضية جوهرية لأنها كفيلة بأن تحسِم سؤالًا أساسيًّا هو: هل نحن على استعدادٍ لاستيعاب دروس المحنة الأخيرة، أم أن العوامل التي ولَّدت هذه المحنة ما زالت مُتأصلةً فينا، تُهدِّد «بإعادة إنتاجها» مراتٍ ومرات؟
سأُحاول أن أناقش بعض القضايا التي أثارها الدكتور فوزي منصور، ملتزمًا حدود الحوار الموضوعي، وسأتوخَّى الإيجاز بقدْر إمكاني؛ فمِن المُستحيل أن أطمع أكثر ممَّا ينبغي في كرم «الأهالي»، وكفاها تضحيةً أنها تُفسح، مِن آنٍ لآخَر مكانًا في صفحاتها الهامة لكاتبٍ مغمور مثلى.
إن قضية الدمار غير المُتكافئ، الذي ألحقته الحرب بالعراق، قد شغلت الحيِّز الأكبر من مقال الدكتور فوزي منصور. ولستُ أدري لماذا أرهق نفسه ببذل كلِّ هذا الجهد لكي يُثبت لنا في النهاية أن هذه الحرب غير المُتكافئة قد تحوَّلَت، بعد مرحلة معينة، إلى عملية إعدام. هذا أمر لا يختلف عليه اثنان، ولهذا السبب بالذات كان ينبغي أن يكون كفاح القوى الوطنية المُخلصة مُركَّزًا على تجنُّب وقوع الحرب منذ البدء، فلا ينتظر د. فوزي ومَن يسيرون في دربه حتى تقعَ الكارثة ثم يقولون: «إن من معايير ارتقاء الإنسان وضْع ضوابط لمدى الْتجائه إلى العنف.» أية ضوابط يا سيدي، بعد أن تبدأ آلة الحرب الجهنمية في الدوران؟ ألم يكن التضافر من أجل منع الكارثة بانسحاب العراق، هدفًا أكثرَ قابليةً للتنفيذ من أن نقول للدول الكبرى: حاربوا، ولكن بالذوق!
إن البعض يقول إن أمريكا كانت ستُحارب حتمًا، مهما فعل صدام. ولكن تأمَّلوا ذلك الصف الطويل من الشخصيات العالمية التي وقفت بباب صدام تستجديه أن ينطق بكلمة «الانسحاب» فأبى واستكبر. تأمَّلوا الأمين العام للأمم المتحدة وهو يجلس مُنتظرًا مقابلة «زعيم الكون» ستَّ ساعات كاملة بعد الموعد المُحدَّد لاستقباله، في إهانة مُتعمدة، خلال الساعات الأخيرة مِن اليوم الأخير. ألم يكن ذلك كله مسلك زعيم لا تُهمه الحرب، ويستفزُّ أعداءه كيما يشنُّوها عليه؟
سأفترِض أن أمريكا كانت تريد الحرب بأي ثمن، ألم يكن مَوقفنا كقوى وطنية مُعادية للنفوذ الأمريكي، سيُصبح أفضلَ بكثيرٍ لو أن صدام تضافر معنا في إزالة الأسباب المؤدية إلى تحرُّشها بنا؟ وسأفترِض أنه كانت هناك، منذ البدء، مؤامرة أمريكية تستهدِف جرَّ العراق إلى الحرب (وهي نظرية واسعة الانتشار)، بل سأفترِض أن قرار الحرب كان قد اتُّخِذ منذ أغسطس، وأنه كانت هناك، على حدِّ تعبير الدكتور فوزي، خطوات محسوبة بعناية لتوصيل الأمور إلى نقطة اللاعودة التي تؤدي بالضرورة إلى الحرب. ومع ذلك فلا بد أن نتساءل: ألم يكن ممَّا يُساعد القوى الوطنية الرافضة للتدخُّل الأمريكي أن يُبطل صدام حُجة الأمريكيين وينسحب، لا سيما وأن العمل الذي يُراد منه التراجُع عنه كان عملًا مشينًا بجميع المقاييس؟ وحتى لو رفضت أمريكا الانسحاب في المقابل، وتجاهلت تمامًا تلك القوى الشعبية الهائلة التي كانت في تلك المرحلة تُمارس ضغوطًا هائلة على حكوماتها (وهو فرض يصعب تصديقه)، ألم يكن ذلك كفيلًا بأن يُعطينا نحن مشروعيةً أفضل في مواجهة أمريكا، ويُحدث شرخًا عميقًا في الجبهة الموالية لها؟
لهذا السبب قلت، وما زلت أقول، إن خصوم التدخُّل الأمريكي قد ساروا، منذ بدء النزاع، في الاتجاه الخطأ، ووجَّهوا رسائلهم إلى العنوان الخطأ، وكان ينبغي أن يتوجَّهوا بخطابهم منذ بدء الأزمة إلى صدام حسين قائلِين: اخرج يا صدام من الكويت حتى تسحب البساط من تحت أعدائنا ولا تُعطِهم الذريعة التي ينتظرونها بفارغ الصبر! أما القول بأن هذا الطلب كان سيجرح كرامته، فيعني أننا وضعنا كرامة هذا الدكتاتور فوق مصير أمةٍ بأكملها!
هذا يقودنا إلى القضية الثانية التي دافع عنها الدكتور فوزي منصور، ومعه الكثيرون، وهي أن المشكلة كان ينبغي أن تُحَل بوصفها قضية عربية-عربية، دون تدخُّل أجنبي. هذا الإجراء العربي البحت كان مُتصوَّرًا قبل الغزو، أما بعده فإن المسألة لم تعُد عربية-عربية، بل أصبحت منذ ٢ أغسطس مشكلةً ذات أبعادٍ دولية.
فمن الجانب العربي، كان احتلال العراق للكويت يُمثل استخفافًا بكل ما هو عربي؛ فاحتلال دولةٍ عربية لدولة عربية أخرى وسعيُها إلى طمس هويتها، وممارساتها الوحشية مع شعبٍ شقيق، هو سلوك خرج عن كلِّ عُرف سائد طوال التاريخ العربي الحديث، يكشف عن احتقارٍ مُطلق لكل القِيَم والتقاليد العربية.
أما من الجانب العالمي، فإن إخلال العراق بالتوازُن البترولي عن طريق استيلائه على نفط الكويت ووصوله إلى حدود البترول السعودي، كان لا بُد أن يؤدي إلى تدويل الأزمة، وإقحام الدول الصناعية الكبرى في القضية. وهذه حقيقة يعرفها أي مبتدئ في السياسة، وقد تكون مؤلِمة لنا كعرَب، غير أنها جزءٌ من واقع العالم الذي نعيش فيه.
وأخيرًا، فلا جدال في أن بلدًا كالعراق، كان يملك رابع جيش في العالم، ويسودُه نظام لا يعترف إلا بمنطق القوة، لم يكن ليخضع لأي حلٍّ عربي ما دام العرب لا يملكون من القوة العسكرية ما يردع طموحات الزعيم العراقي.
وعلى أية حال فإن ضخامة القوة العسكرية العراقية ليست في نظري مَدعاة للفخر، لسببٍ بسيط هو أنني ممَّن يرَون ان مقياس الرقي الحضاري يكمُن في مستوى التعليم والثقافة والعِلم، لا في الاحتفاظ بجيشٍ لا يتناسب عددًا وعدة مع حجم بلاده وإمكاناتها، يُراد منه أن يُناطح العالم بأسره. ولستُ ممَّن يعتقدون أن العراق كان دولة مُتحدية للغرب، كما كرَّر الدكتور فوزي منصور وغيره، لأن التحدي الحقيقي للغرب إنما يكون بالنهوض العلمي والثقافي والاجتماعي والسياسي للمجتمع، لا بتربية وحشٍ عسكري في بلدٍ تتدهور ثقافته ويتراجع فكره ويعجز عن إنتاج معظم احتياجاته، وتزداد عبودية الناس فيه للحاكم يومًا بعدَ يوم.
إن العراق لم يكُن نموذجًا لأيِّ نموٍّ متوازن، بل خلق منه نظامه كائنًا مفتولَ العضلات، متخلف العقل. ونظرة واحدة إلى المواسم الثقافية العراقية تُقنعنا بأنَّ هذا البلد قد أهمل ثقافته الحقيقية وبلغ في عبادة الفرد مستوًى يُنافس كوريا الشمالية، حيث ينمو الزرع ويسقط المطر بفضل حِكمة الرئيس كيم إيل سونج. ومن المؤسِف أن القوة العسكرية العراقية كانت تُهدد بفرْض هذا النموذج الشرير على العالَم العربي كلِّه. صحيح أن في بلادنا العربية نماذج أُخرى سيئة كثيرة، ولكن هل هذا هو البديل؟ وهل كافحت شعوبُنا، ومازالت، على مدى عشرات السنين لكي تسقُط في النهاية بين براثن دكتاتور يُريد أن يفرض مشروعه الهمجي علينا جميعًا؟ لقد كان خطر الوقوع في أبشع أنواع الفاشية يُهددنا جميعًا، ومع ذلك لم نستمع إلى صيحة تحذيرٍ واحدة من هذا الخطر، لا في صحافتنا اليمينية ولا اليسارية.
إن الحديث في هذه المشاكل المُعقدة يطول، وما أجدرنا جميعًا بأن نعي خطورة اللحظة ونرتفع في نقاشِنا إلى مستوى المسئولية؛ فالوضع الراهن يحتاج إلى إسهامِنا جميعًا في تحليله وكشف أبعاده والتنبُّؤ باحتمالاته، وهو يحتاج بوجهٍ خاصٍّ إلى جهود العلماء مِن أمثالك يا دكتور فوزي منصور، بشرط ألا تنفعِل في حوارك أكثر ممَّا ينبغي، لأن الانفعال ضارٌّ جدًّا بالصحة، وأنصحك بالإقلاع عنه.
١٧ / ٤ / ١٩٩١م