دروس حرب الخليج

المسألة الذهنية أولًا
(حديث في جريدة «الحياة»، مع حازم صاغية)
شكلت الحرب الأخيرة امتحانًا لعددٍ من الأفكار التي سادت الثقافة السياسية العربية طويلًا، أمام مُنعطَفٍ جديدٍ كالذي نعيشه. هل تعتقد أننا تعلَّمنا أو على وشكِ أن نتعلم دروسًا جديدة؟

أنا أتصوَّر فعلًا أن الدروس التي تعلَّمناها مِن هذه الكارثة أو الأزمة، دروس ضئيلة جدًّا، وأن النتيجة الحقيقية، إذا أرَدنا، على المستوى العربي، هي عملية فرز حصلت، بمعنى أنها حدَّدت لنا مَن هي الفئة التي تُفكر تفكيرًا سليمًا ومَن هي الفئة التي تُفكر تفكيرًا معوجًّا، ومَن هي الفئة التي كنَّا نعتقِد أن تفكيرها صحيح وسليم وأنها تُفكر باستنارة بينما يَتضح أنها في داخلها تحمِل قدرًا هائلًا ممَّا يُخالف ذلك.

فأهم ما أسفرت عنه الأزمة أنها كشفت لنا بوضوح هذه التقسيمات التي كنَّا نجهلها في البداية. إن كل فئاتنا كما تعلم تُحب الشعارات وكانت تتوارى وراء كمٍّ كبير من الشعارات، فعندما جاءت هذه الأزمة بتداعياتها استطعنا فعلًا أن نُحدد موقف كل مثقف عربي وكل نظامٍ سياسي. لكن أن تقول لي إننا استوعبنا الدروس، فأخشى أن أقول لك إني لستُ متفائلًا بهذه النتيجة. يبدو لي أن قدرة الإنسان العربي على التعلم في هذه المرحلة مِن التاريخ بطيئة جدًّا. والدليل على ذلك أن الكثير الأنظمة العربية تريد أن تعود إلى سيرتها الأولى القديمة بعد الأزمة وكأن شيئًا لم يكن، بل الأعجب أننا نسمع من مصادر كثيرة من الأخبار، وهي على الأرجح مصادر موثوق بها، أن الدول الأجنبية التي أسهمت بدورٍ كبير في الحرب وعلى رأسها أمريكا، هي التي تُريد أن تُغير، بينما ننتظر نحن أن يُفرَض علينا هذا التغيير الديمقراطي من الخارج أو أن نُنصح بقوةٍ … وطبعًا أنت تعلم عندما تنصح دولةٌ كبرى فما معنى هذا النصح.

•••

ترد الحقيقة الأساسية التي تذكرها إلى مسألةٍ أخرى: من جهة، الدول الكبرى تنصحنا أو «تفرض علينا» التحديث والديمقراطية والعصرية، ومن جهةٍ أخرى يتحوَّل عددٌ كبير من المُثقفين العرب ممَّن كانوا عصريين وعقلانيين ومُتنوِّرين، فجأة بين ليلةٍ وضحاها، إلى مُنظرين لصدَّام حسين ومُدافعين عن عملية غزوه. ألا تعتقد أن هناك نوعًا من خيانة العقلانيين لعقلانيتهم وخيانة الحداثيين لحداثيتهم؟ فكيف يمكن فجأة لفلان الفلاني وهو مثلًا بروفيسور بجامعة كذا في الولايات المتحدة كتب عشرة كُتب عن الحداثة والعقلانية والديمقراطية والمؤسسات، أن يتحول إلى مؤيدٍ ومبشِّر لصدام لمجرد كراهيته للغرب؟

طبعًا السؤال الذي تسأله له جوانب متعددة، لكن إذا كنتَ تقصد الفئة التي تعيش في أوروبا على وجه التحديد، فإني رأيتُ صنوفًا منها عديدة في المرتَين اللتَين سافرتُ فيهما خلال هذه الأزمة، وما من مُثقف عربي يعيش في الغرب إلا وجدتُه متعاطفًا مع صدام حسين بلا استثناء. والغالبية الساحقة كانت تؤيد ما حدث؛ على سبيل المثال أنا في مرة من المرات تناقشت مع واحدٍ من هؤلاء، وظلَّ يمتدِح صدام وما فعله بالغرب. كان ذلك قبل الحرب. وبعد أكثر من نصف ساعة سألته: أنت تقول إنَّ صدام صامد أمام الغرب ويُلقِّنه دروسًا وأنه نموذج لدولةٍ من العالم الثالث تقاوم القوى العظمى، وهذا يُعطينا أملًا … إلخ. لكن، ما هي القضية التي يُدافع عنها صدام؟ سألته هذا السؤال فلَم يستطع أن يُجيب. المشكلة أنه اتضح لي أنه لم يُفكر في هذا السؤال من قبلُ. هذه هي الكارثة الكبرى: مُثقف عربي عاش في الغرب طوال هذه المدة ومُعجب كل هذا الإعجاب بصدام حسين، ولم يخطر بباله أن يتساءل: من أجل ماذا يُحارب صدام حسين؟ هذا يعني بعبارة أخرى، أن الإعجاب راجع إلى أنه يحارب، وهو نفس نوع الإعجاب الذي تجِده مثلًا عند المراهقين عندما يسمعون أن اللص الكبير استطاع بمُفرده أن يصمد بمدفعه الرشاش أمام ٢٠٠ من قوات الشرطة مثلًا، أو أمام ٢٠٠ شخص أيًّا كانوا، نفس نوع الإعجاب من دون أن يتوقف المرء عند حقيقة أن هذا الذي صمد هو في نهاية الأمر لص.

•••

ما هو في رأيك «سر» حالة المُثقفين هذه؟

السرُّ كما أتصوَّر هو أن كل المثقفين العرب الذين يعيشون في الغرب يُعانون من مشاكل في حياتهم مهما كانت درجة التكيُّف. يُعانون من مشاكل في بيئتهم. هم لا يستطيعون العودة إلى بلادهم الأصلية، لكنهم في نفس الوقت يجدون أنفسهم مُضطرين إلى أن يعيشوا في المجتمع الغربي الذي يُظهر لهم صنوفًا عديدة من التمييز ومن الإذلال، مِن المعاملة كمواطنين من الدرجة الثانية … إلخ، ولا بد، مهما كان مركز المثقف العربي في هذه البلاد، أن يشعر، ولو على فترات، أن هناك تمييزًا ضده؛ فهو يُحوِّل الأزمات الشخصية في هذه الحالة إلى فلسفة، إلى نظرة شاملة إلى الحياة. طبعًا هذا قصور فكري شديد. نفس الشيء شهدناه في وقتٍ سابق مع الحملة العنيفة جدًّا التي وجَّهها العرب والمُغتربون منهم بالذات ضد الاستشراق. كل هذا الهجوم انطلق من مجموعة مُثقفين عرب بدأته قلَّة منهم ثم تناقلَه الأكثرون وأصبح سمةً مُميِّزة لكل مثقفٍ عربي يشتغل أو يعيش في الغرب في ميدان الإنسانيات. العربي بهذا ينقل تكيُّفه وعدم ارتياحه في المجتمع إلى رؤيةٍ وحكمٍ شامل.

•••

يُبين هذا الوصف الذي نُقدمه جانبًا أساسيًّا مِن الموضوع، ولكن ماذا عن مثقفين لا يمكن على الإطلاق القول بأن الغرب مارس التمييز ضدهم، بل احترم كفاءاتهم، ونشر أعمالهم وترجمها، هذا حتى لا نقول إن واقع الهجرة نفسه يدلُّ على أنَّ الغرب مُتسامح قياسًا بمُجتمعاتنا التي غادرها المُثقفون؟ ثم ماذا عن المُثقفين المُقيمين في مجتمعاتنا العربية نفسها؟

نحن نتكلَّم عن فئة هي فئة المُثقفين الذين يعيشون في الغرب، أمَّا الذين في الداخل فلهم أوضاع أخرى.

•••

ألا تُوجَد في تقديرك قواسم مشتركة بين الاثنين؟ طبعًا حالة الهجرة إلى الغرب حادة أكثر، لكنَّ هناك أسبابًا تاريخية ومجتمعية مشتركة كامنة في التجربة العربية نفسها؛ في إحباطاتها وإخفاقها وعيوبها. يعني مثلًا أن نشتم الاستشراق ونتكاسل عن إنتاج عملٍ مُفيد في معرفة مجتمعاتنا وفي وصفها.

طبعًا أنا أقبل هذا الكلام … طبعًا واضح … لكن أنا أيضًا أتصور أنه من الأفضل التمييز مع الإقرار بالعوامل المشتركة ذات التأثير. لكن الذي حدث أنه في داخل البلاد العربية كان هناك مُثقفون استطاعوا أن يقفوا الموقف السليم، أي أنهم فصلوا بين كل الإحباطات العامة التي يُعاني منها المُثقف بشكلٍ عام وبين رؤيتهم للأحداث، وفعلًا احتفظ هؤلاء بالمسافة. لكن، أنا أريد أن أتوقَّف قليلًا عند المُثقفين العرب الذين يعيشون في الغرب؛ فبرغم أن المجتمع الغربي متسامح ويُعطيهم حقوقهم، والدليل على ذلك أنهم مُستمرون في قول ما يُريدونه، لكن لا يُمكن أن يخلو الأمر من منغصات … من جارك … من زميلك … من تلميذك في الجامعة، مثلًا مِن آنٍ لآخر يُحس العربي أنه لا يستطيع أن يجعل ابنته تسلك في المجتمع الغربي كما تسلك البنات الغربيَّات. مثل هذه المُنغصات التي تتراكم يومًا بعد يوم وتؤدِّي إلى جعله مندمجًا في هذا المجتمع وغير مندمج تحمِل صاحبها على التفكير بالانتقام من هذا المجتمع، وهو ما يفعله في مثل هذه الأزمات. لكن إذا جئنا إلى المثقفين العرب في داخل البلدان العربية فأتصوَّر أن المسألة تختلف؛ المهاجرون فئة لها ما يُميزها، لكن نحن هنا في الداخل لدَينا مشكلة قد تكون أفدح … المُثقفون العرب الذين أيَّدوا الرئيس صدام حسين، لديهم مشكلة السير بالأزرار … بمعنى أن معظمهم تربوا على قِيَم ومبادئ فكرية من الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وحتى لو لم يكونوا قد عاصروها، فإنهم تشبعوا بها، وسلوكهم الحالي امتداد لِما كانوا قد تعلَّموه عن الفترة السابقة. الأزرار تتمثل في أن تبحث أين تقف أمريكا، ولا بد أن تكون أنت في الاتجاه المضاد آليًّا، وأنت مغمض العينين … صدام ضد أمريكا، إذن نحن معه. هذا تفكير جيل كامل، تربَّى على بقايا الماركسية والتيارات التقدمية عمومًا. وربما كان هذا النوع من التفكير صحيحًا قبل ٢٠ سنة مثلًا، وربما يظلُّ صحيحًا حتى هذه اللحظة مع زعماء آخرين غير صدام حسين … لكنهم لم يستطيعوا أن يُدركوا ما هو نوعي وما هو مُميز في هذا الصراع المزعوم بين صدام حسين وأمريكا. فإذا جاز أن الغرب تصدَّى لصدام حسين بكلِّ هذا العُنف فهو صراع بين قوًى عاتية وصنيعة هذه القوى، ليس بينها وبين عدوٍّ حقيقي.

•••

هذه الطريقة في الحُكم على الأمور التي وصفتُها بالبحث عن مُناقَضة أمريكا، أليست فيها بقايا العقل الإطلاقي، بحيث تغيب الحالات العينية والموضعية، ودراسة كلٍّ منها على حدة؟ فالشيطان سيئ بالمُطلق وهكذا «الغرب» الذي يصير إعادة إنتاجٍ للشيطان. أُعطيك بلدًا مثل بلدي لبنان؛ الحضور الاقتصادي الغربي والثقافي الغربي في لبنان هو ما صنعه وصنع تميُّزه السابق. هل لبنان نُهب مِن الغرب؟ طبعًا لا … إن إطلاق هذه التعميمات يبدو سمةً من سِمات الثقافة العربية.

طبعًا لا تنسَ أن عندنا لا زالت ذكريات الاستعمار حيةً في أذهاننا، وإنشاء إسرائيل والارتباط بالغرب، والتخلُّف الموجود بشكلٍ عام، وهذه العوامل يُعتبر الاستعمار أو الغرب بشكلٍ عامٍّ مسئولًا عنها. بلا شك تعمل رواسب قوية جدًّا في أذهان هؤلاء الناس، ولكن أنا لا أريد أن أجعل الحوار يأخذ شكل: هل الغرب حسن أو سيئ، لأنه لو فرضنا أننا قلنا إن الغرب في بعض الحالات ليس سيئًا بالدرجة التي يتصوَّرها هؤلاء الإطلاقيون، فربما استمسكوا علينا أننا نُدافع عن الغرب … أنت تعرف أسلوب المناقشة الآن وهو أسلوب هابط؛ الناس يتصيَّدون كلمة خارج سياقِها ويبدءون الضرب على الوتر. لكن ما أُفضله هو أن نطرُق المناقشة على مستوى ما إذا كان صدام حسين فعلًا عدوًّا للغرب، وهل فعلًا يُعتبر زعيمًا عربيًّا استطاع أن يتصدَّى للغرب. إذا سألنا على هذا المستوى سنجِدُ أن صدام حسين أكبر مَن خدم الغرب في التاريخ العربي الحديث، برغم كل هذه المعركة وكل هذا الصراع وكل هذا الدمار، والسبب بسيط؛ فإذا كان الغرب، كما يرى أصحاب هذه الآراء، لا يُريد للعرب نهضة، وإذا كان يُريد أن يظلَّ العرب مُتخلِّفين بشكلٍ دائم وإسرائيل متفوقة عليهم بشكلٍ دائم و… و… إلخ، فإن صدام حسين كان أعظم أداةٍ في يد الغرب لتحقيق هذا العمل.

فمن الحرب مع إيران إلى الحرب الأخيرة كُتب على هذه المنطقة أن يتوقَّف نموُّها وتتوقف مشاريعها في التنمية والنهوض؛ فالبترول الذي كان مِن الممكن أن يجعل من هذه المنطقة بلادًا مُزدهرة ومُصنعة ومكتفية بنفسها، صار مطلوبًا أن يُبدد أولًا بأول. والكاسب من هذا هو إسرائيل، والأداة المُثلى لتطبيق هذا هو صدام حسين. لذلك فمسألة أن هناك صراعًا وأن هذا هو البطل العربي الذي تصدَّى للغرب وﻟ ٣٠ دولة هي أسطورة … والمشكلة أن كبار المُثقفين فكَّروا بشكلٍ مباشرٍ وشكلي جدًّا.

•••

يبدو أحيانًا أن المثقفين الذين تحدثت عنهم كأنهم أقبلوا على الحداثة والعصرنة والعقلانية ليس بهدف الانخراط في العصر، ليس بهدف التصالُح مع العصر، أقبلوا إذا صح التعبير تكتيكيًّا لكي يمتلكوا سرَّ قوة الغرب ولكي يُقاوموا الغرب، يعني أنهم أقبلوا على هذه الحداثة ليس لذاتها بل بفرضية سياسية جدًّا وقصيرة النظر. لم يكن هناك أفق تاريخي لحداثيتهم. ربما هذا ما يُفسر أنك تكون أمام شخصٍ عاقل وعقلاني ومُتزن وفجأة تجِده هو نفسه في عِداد أية حركةٍ ديماجوجية أو جماهيرية كما لو أنه فقد عقله …

أتصوَّر أن القضية هي أن عناصر التحديث والعصرنة لم تكتمل عند الكثيرين من المُثقفين العرب. فهم تصوروا أيضًا أن العصرنة هي مجموعة من الإجراءات التي يقوم بها المُجتمع، وليست تغييرًا داخليًّا. الدليل على ذلك أننا طوال تاريخنا مرت علينا مجموعة من الحكام الديكتاتوريين، وليس صدام طبعًا الحالة الوحيدة، وهذه المجموعة أيَّدها عدد كبير من المُثقفين وهم من كبار دعاة التحديث. لم يذكروا أن الديكتاتورية في حدِّ ذاتها مُخالفة تمامًا لروح أي إنسانٍ حديث … يعني مبدأ الديكتاتورية ذاته عبارة عن عودة إلى عصور وسطی، عصور مُظلمة، عصور الحكم، المطلق … إلخ، وفيها ارتداد إلى الفترة التي كان فيها الطابع الشخصي هو المُسيطر؛ علمًا بأن أهم ما يميز العصر الحديث هو اللاشخصية في الأمور العامة. الأمور العامة تسير بطريقةٍ غير شخصية، لكن العودة إلى شخصنة الأمور كالتعلُّق بالحاكم ومُخاطبته الناس كرعية، فهي ارتداد إلى عصور قبَلية ورعوية وزراعية و… و… إلخ. أنا مثلًا، وإن كان هذا رأيي، أعرف أن الغالبية الساحقة مِن العرب لا تُؤيِّدني فيه، أعتبر أن الشعبية الساحقة لجمال عبد الناصر في العالم العربي هي جُزء من هذه الظاهرة، لأنه أيضًا جمال عبد الناصر كان كبير العائلة، كان هو الفرد المُطلق. صحيح أنهم يقولون إن تصرفاته كانت وطنية، لكن القضية ليست في أن نكتفي بالتصرُّفات؛ أسلوب الحكم الفردي المُطلَق يُمكن أن يجرَّ لكوارث مهما كان الحاكم وطنيًّا، المسألة ليست مسألة نوايا، والدليل على ذلك كارثة سنة ٦٧م. إنه خطر نابع من تصرف حاكم واحد برأيه الخاص، وبقصورٍ شديد في التفكير وقعنا في هذه الكارثة التي لا زلنا نُعاني منها حتى اليوم. طبعًا أنا لا أقارن جمال عبد الناصر بصدَّام حسين، بلا شك هناك فوارق أساسية؛ عبد الناصر كانت نواياه وطنية، لكن هذا نواياه شيطانية.

•••

هناك مسألة تبدو أيضًا بديهية في الفكر السياسي الغربي، وتبدو غريبةً دائمًا عن الفكر السياسي العربي، وهي حقيقة أو واقعة الدولة. أنا لا أعرف في العالم غير العرب مَن يستعمل محلَّ المصطلح السياسي الدستوري، مُصطلح «الوطن العربي» وذلك برغم نشأة الدول الحديثة وتفتُّت معظم السلطنات والإمبراطوريات مع الحرب العالمية الأولى.

هذه الواقعة، أي الدولة الحديثة، لا تزال غريبة عن العالم العربي. حتى التحديثيون يتكلمون عن التحديث من دون الحديث عن المسرح المادي لهذا التحديث … المكان لا يزال غامضًا، ربما كان أمةً عربية أو إسلامية أو ربما كان بلدهم نفسه.

•••

هذه المشكلة كانت لتبقى نظريةً لولا أنَّنا رأينا المُستبدِّين مثل صدام حسين يستعملونها من خلال شعار إرجاع الفرع إلى الأصل أو مُقاتلة إسرائيل كيفما اتفق.

الذين يتحدثون عن الوطن العربي وعن الأمة العربية، طبعًا يكون هدفهم تأكيد فكرة الوحدة وإزالة الحواجز الجغرافية والسياسية بين أرجاء هذه المنطقة. أنا أذكر مثلًا في الكويت أنني كنت في بعض الأحيان أقول في محاضرة أو ندوة «العالم العربي» فتكون النتيجة أن يرد أحد المُعقبين بأنه لا يُقر استخدامي لكلمة «العالم العربي» وأن الأفضل أن تكون «الوطن العربي» لأننا وطن واحد؛ إذ القول بالعالم العربي اعتراف بتقسيمات. لكن الكارثة هي أنَّ كل مَن كانوا حريصين على استخدام هذا المصطلح لم يُخصِّصوا ولو جزءًا بسيطًا مِن جهدهم وتفكيرهم ووقتهم لكى يُحددوا لأنفسهم ماذا سيكون عليه شكل هذا الوطن؟ المضمون ما هو؟ وهنا ندخل في النقطة التي تُشير إليها؛ فلكي تجعل من هذه الفكرة الغامضة شيئًا مُحدَّد المعالم يُمكنه أن يجدَ له مكانًا في هذا العصر، عليك على الأقل أن تملأ هذا الإطار بمحتوًى … كيف تُريدها أن تكون؟ ما شكلها؟ ما نظامها؟ هل ستكون دولة ديمقراطية، أم تعددية، أم دولة رأي واحد، أم اشتراكية أم رأسمالية أم إسلامية … إلخ، إلخ. كل هذه التفاصيل لم يكترِث أحد بها، لأنه لو كان فكَّر فيها لتبيَّنت له الصعوبات، لتبيَّنت له العقبات التي ظهرت فعلًا.

على سبيل المثال كلهم افترضوا أن الشعوب العربية تريد أن تتوحَّد، وأن العقبة هي الحكَّام فقط، ثُم تبيَّن لهم مع الأزمة الأخيرة أن ما بين الشعوب العربية وبعضها ألعنُ ألف مرةٍ مما بين الحُكام. الحُكام قد يختلفون ويشتمون بعضهم لبضع سنواتٍ إلى أن ينعقد مؤتمر قمة. أما الشعوب فتبيَّن أن العلاقات بينها تتصف بالكوارث. المسألة بالفعل أن الموضوع كان شعارات غامضة، فضفاضة جدًّا من دون أن يحاول أحد أن ينزل إلى عالَم الواقع ويُفكر في: ماذا يحدُث لهذه الشعارات لو حاولنا أن نُطبقها عمليًّا. وهذا تفكير بدائي، لا يُمكن أن نُسمِّيه تفكيرًا عصريًّا بأي حال.

•••

تقود مسألة غياب فكرة الدولة في الفكر السياسي العربي إلى مقارنات مغلوطة مع أوروبا. مثلًا الوحدة الأوروبية … المُقترحة لآخر ۱۹۹۲م جاءت بعد تكريس الدول والمُجتمعات كدُوَلٍ ومجتمعات. فإذا ما تم تجاوزها فالتجاوز يحصل بعد التكريس، وهي ثانيًا إذا حصلت فالأمر لا يكون مَحوًا وتذويبًا للخصوصيات.

الأمر مُتدرِّج جدًّا وفي ميادين مُعيَّنة.

•••

في المقابل الشيء الذي نلاحظه في العالم العربي، وخصوصًا عند أبناء الكيانات الصغرى، أن شعار الوحدة شعار يُخيف، لأنه لم يُتَح أصلًا لهذه الكيانات أن تشعر بنفسها؛ فإلی أي حدٍّ ترى أن من الممكن تطوير وبلورة فكر عربي مُتسامح وديمقراطي ومطمئن للأقليات، ليس فقط المَذهبية والعرقية والدينية، بل أيضًا للكيانات الصغرى؟
عدم وجود هذا الفكر يجعل مُطالبة الدول الخليجية بالمشاركة في مشاريع تنموية عربية فيما التشكيك قائم بكياناتها، مُطالبة مُخيفة.
والطمأنة شرطها إدراك واقع الدولة المُعاصرة وأننا دول أعضاء في أمم متحدة، وهناك شرعية دولية يُحتَكم لها … ألا ترانا بَعيدين جدًّا عن هذا؟

ظهرت في الآونة الأخيرة طبعًا الفكرة التي تقول إن الحدود التي بيننا حدود صنَعَها الاستعمار … وأنها حدود مُصطنعة، وكذا وكذا …

وردَّد هذه الفكرة عددٌ كبير من الكُتَّاب، وكان على رأسهم مثلًا محمد حسنين هيكل، وبالتالي فكسر هذه الحدود كما فعل صدام حسين مع الكويت أمر مشروع، بل بالعكس قيل إن ذلك فِعل وطني. أنا شخصيًّا أتصوَّر أن سؤالك يجب أن يكون الجواب عليه من الداخل، أي يجب أن يكون هناك كفاح على مستوى كلِّ مجتمع في داخله لإقامة المؤسسات الديمقراطية الحقيقية. لو أننا نجحنا في صُنع الدولة النموذج في العالم العربي، في الوصول ولو حتى إلى دولةٍ واحدة تكون نموذجًا حقيقيًّا غير مُزيف، أتصور أنه كان مِن الممكن في هذه الحالة أن تُفكر بعض الدول المجاورة في أشكالٍ صحية وسليمة مِن الاندماج معك. قد يكون اندماجًا جزئيًّا كما يفعل الأوروبيون، لكن المشكلة أنه لم يحدث في حالة واحدة أن ظهر هذا النموذج المُقنع. لقد بدا لبعض الناس في وقتٍ من الأوقات أن الدولة الناصرية هي النموذج، ولكنها كانت مليئةً بالعيوب، وعندما حدثت تجربة الوحدة بين مصر وسورية في سنة ١٩٥٨م، أقول لك بكل صراحة إننا كنَّا كمصريين ننظُر إلى بعضنا مع إعلان الوحدة بمُنتهى الدهشة، وأنا شخصيًّا توقعتُ أنه عندما ينتقل الضباط المصريون إلى سورية ويُمارسون عليها الممارسات التي كانت تتمُّ في بلادنا، مِن المؤكد أن تحصل مصائب، وهذا بالفعل ما حدث، وعندما حدث أصبح الجميع يتكلَّمون عن مؤامرة الانفصال وكارثة الانفصال. قد تكون هناك مؤامرة … ولكنَّ هناك أسبابًا موضوعية جعلت هذه المؤامرة تنجح؛ فلو لم تكن هناك مثل هذه الأسباب لَما استطاع المتآمرون أن يُحققوا أهدافهم بهذه السرعة. تجربة الوحدة عندنا لم تكن تزيد عن مجموعة من الشعارات الجوفاء. لم يفكر أحد في المُحتوى، في المضمون، ماذا سيحدث في الداخل. أتصور أن علينا أن نُراجع هذا كله من جديد، كل الندوات والمؤتمرات والاجتماعات التي دأب المُثقفون العرب على عقدِها مرارا في كلِّ عامٍ حول موضوع الوحدة العربية والقومية العربية وكذا وكذا وكذا، لا بد من إعادة النظر فيها من جديد، والتفكير على أرضية الواقع ونسيان الشعارات كفانا ما لَحِقنا من جراء الشعارات.

•••

إعادة النظر التي تُطالب بها، ألا تسري أيضًا على الطريقة التي طرحت فيها مسألة الصراع العربي-الإسرائيلي، أقصد الطريقة الديماجوجية القطعية، وهو أيضًا ما استخدمه صدام من دون أن يكون ذلك مفاجئًا أو مصادفًا؟

أنا لا أستطيع أن أنظر إلى صدام حسين على أن له دورًا اساسيًّا في الصراع العربي الإسرائيلي. هو لم يفعل شيئًا طوال تاريخه في هذا الموضوع. حتى في المرحلة التي قذف فيها بعض الصواريخ العراقية إلى قلب إسرائيل، هذه كان مفهومًا أنها ليست جزءًا من الصراع العربي-الإسرائيلي، وإنما كانت محاولةً لاصطياد الدول العربية وجرِّها إلى صفِّه. الرسالة كانت موجهةً إلى الدول العربية، وليس إلى إسرائيل. صدام نموذج طبعًا للتهويش وللضجيج، وعندما جاء قبل الحرب أو قبل الغزو مباشرةً وأعلن أنه سيحرق نصف إسرائيل بأسلحته وبالكيماويات وغيرها، لم تكن الرسالة موجهةً إلى إسرائيل، وإنما إلى الشارع العربي لإثارة خيالِه؛ ولذلك أنا بالعكس لا أعتبر أن صدام واحد مِن الزعماء العرب الذين كان لهم أي دور في عملية المواجهة مع إسرائيل، لكنَّ براعته في أنه كان يفهم مدى حساسية النفس العربية لهذا الموضوع، واستخدمها حسب الحُكم الظاهري، واستخدمها بذكاء، لكن ذكاءه كان يرجِع أساسًا إلى الغباء العربي. فلأن هناك غباءً عربيًّا بدا أن تصرُّف صدام ذكي، لكن لو كان هناك وعي كافٍ لتغيَّر الوضع. والظاهرة التي تلفِت النظر جدًّا أنه قد يلتمس المرء العُذر للجماهير الفلسطينية في الأراضي المُحتلة وانقيادها لبعض الشعارات الصدَّامية نظرًا للإحباط والعيش في مُخيمات، خصوصًا أن هؤلاء لم يَجدوا أي صوتٍ يستمع إليهم في العالم كله … إلخ. لكن ماذا تقول عن القيادات، وخصوصًا قيادات الانتفاضة، وهي التي كنَّا نضرب بها المَثل في الوعي السياسي العربي؟ كانوا يُديرون مواجهتهم لإسرائيل بقدْرٍ كبير من البراعة ومِن الذكاء وبُعد النظر … عندما نجد هذه القيادات تتصرَّف على نفس مُستوى الجماهير المُحبطة اللاواعية القصيرة النظر بشكلٍ عفوي ومباشر، ومن دون أي تفكير بعيد النظر، يُصبح الأمر مُلفتًا ويدعو إلى التأمُّل.

•••

ربما بدت الفضيحة أكبر مع الطرح الذي ساد لمسألة التنمية؛ إذ لم ينتبه أحد مثلًا إلى أن العراق هو أيضًا بلد غني، ولا إلى الطريقة التي عُومل بها فقراء العمال المصريين!

حتى فَهمنا لفكرة توزيع الثروات فَهم سوقي إلى حد كبير، فهو يُرضي الجماهير العربية التي طلعت تهتف لمثل هذه الشعارات دون أن تجد من يُنبهها إلى الخطأ الكبير. افرض أنك أخذت ثروة البترول كلها ووزَّعتها بالتساوي على البلاد العربية، فلن تحلَّ أي مشكلة، المُهم أن تكون عندك سياسة معينة للتنمية في مختلف القطاعات وتسير بشكل متوازٍ، أي يكون عندك مشروع كامل يمتدُّ ليس فقط للاقتصاد، وإنما للتنظيم السياسي والتعليم والثقافة والحضارة بشكلٍ عام وفي العلاقات الاجتماعية … إلخ، فإذا لم يُوجَد مثل هذا المشروع الشامل لا قيمة لأي أموال تتلقَّاها، وهناك أمثلة عديدة عن دول تلقَّت أموالًا ضخمة جدًّا ولم تحل أية مشكلة مِن مشاكلها.

جريدة الحياة ٤ / ٤ / ١٩٩١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥