أزمة الخليج والنظام العالمي الجديد
من الضروري، إذا شئنا أن نتصوَّر قِيَم النظام العالمي الجديد الذي لا يزال غير مُحدَّد المَعالم رغم كثرة الكلام عنه، أن نعود إلى الوراء لمعرفة الأسس التي كان يقوم عليها النظام القديم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى سنة ١٩٨٩م، التي شهدت بداية مرحلة جديدة في العلاقات بين الكتلتَين الغربية والشرقية أدَّت إلى ظهور تغييرٍ أساسي في خريطة العالم مهَّد الطريق أمام ضرورة قيام نظامٍ جديد يختلف عمَّا عرفناه في نصف القرن الماضي؛ فخلال نصف القرن هذا كان الصراع يتركَّز بين المُعسكرَين، الشيوعي والرأسمالي تبعًا لأيديولوجية كلِّ مُعسكر وعملِه على استقطاب الدول الأخرى بكلِّ الوسائل وعلى أوسع نطاقٍ لنشْر أيديولوجيته وسحْب البساط مِن تحت أقدام الطرف الآخر، فكان التنافُس والصراع بينهما يقوم على فكرةٍ محورية تُحدد سلوكهما بشكلٍ مباشر كدولٍ عُظمى وبما ينعكس بشكلٍ غير مباشر على الدول الصغرى.
وتبعًا لذلك، اتبع كلٌّ من المُعسكرين سياسة الردع، بحيث كان وضعهما أشبه برجُلين من رعاة البقر يلتقيان في مبارزةٍ ومصير كلٍّ منهما يتوقَّف على من يسبق الآخر في إطلاق النار. وإذا كان كلٌّ مِن الطرفَين لم يستخدم ما لدَيه من صواريخ وأسلحة نووية ضد الطرف الآخر، فلم يكن ذلك قائمًا على أساس التفاهُم السلمي، بل من منطق التخويف المُتبادل. وقد أدَّت هذه السياسة إلى قيام تنافُس رهيب في التسلُّح وتطوير معدَّات الدمار والقتل تحت مُسمَّى التنافُس في التقدُّم العلمي، وقد أدَّى هذا الصراع إلى تسابُق دول العالم الثالث ودخولها في حلبة السباق على التسلُّح بأسلحة انتفت الحاجةُ إليها في المُعسكرَين، لأن كل فترة زمنية في الصراع بينهما كانت تُفرز أسلحةً جديدة أقوى مِن التي سبقتها، وهكذا فإن الأسلحة القديمة، تكون من نصيب الدول الأخرى وخاصة في العالم الثالث الذي كان يسعی بدأَبٍ إلى شراء وتكديس السلاح على حِساب التنمية والتقدُّم وخدمة الأهداف الإنسانية، وتحمَّل عبء صراع الأقوياء مُضطرا. بل إن هذا العبء كان يُعاني منه المعسكر الشرقي نفسه لأنه كان فوق طاقته، وربما كان هذا العبء العسكري في سياسة الردع، من أهم ما كان يُعاني منه في السنوات الأخيرة.
•••
وهناك سمة أُخرى من سمات النظام العالمي الذي كان سائدًا من قبل، وهي غياب الديمقراطية في جو التنافس والتخويف المُتبادَل والتسليح المُستمر والمُتصاعد. ولقد كان من الطبيعي أن تكون الديمقراطية مفتقَدة في الكتلة الشرقية، وما حدث حتى الآن في المعسكر الشرقي ومنذ ١٩٨٩م يُثبت مدى الحنين إليها بعد أن كان السعيُ نحوها يواجَهُ بالقمع بقوة هائلة وبقبضة حديدية. أما المعسكر الغربي فكان يَدَّعِي أنه حارس الديمقراطية في العالم، لكن الحقيقة تؤكد أن الغرب لم يكن ممارسًا للديمقراطية إلَّا في حدوده فقط. وحتى هذا الأمر يمكن أن تقوم حوله علامات استفهام في أحيانٍ كثيرة، وهو في علاقاته مع العالم الثالث كان بعيدًا كل البُعد عن الممارسة الديمقراطية. وكلنا نعلم المدى الذي كان فيه الغرب يُشجع الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية وفي آسيا والشرق الأوسط لتأمين مصالحه الحيوية، وأقرب دليل إلينا هو قيامه بدعم نظام صدام حسين وتسليحه وتزويده بأسباب القوة العسكرية، وهو دور أسهمت فيه الكتلة الشرقية أيضًا؛ ولعل ذلك كان من أسباب ودوافع النكبة التي وقعت في أغسطس (آب) الماضي.
•••
وهناك سمة ثالثة كانت قائمة بين المعسكرَين، هي تراجُع الأهداف والقيم الحضارية، لأن التنافُس بينهما أدَّى إلى الاهتمام بالمشاكل والمكاسب الجزئية، وتجاهل المشكلات ذات الطابع الكوني التي تُهم وتخدم الإنسان. فهذا النوع من الاهتمام لم يكن له مجال، لأن كل ما كان يَعنيهم هو المنافسة القائمة. ومن أهم النتائج المُترتبة على ذلك، أن العالم لم يستفِد من التقدُّم العلمي في التنمية ولا في مجال تحقيق أهداف إنسانية شاملة، ولو لم يكن التنافس الذي كان سائدًا على ما هو عليه، لكان قد تحقق للإنسانية إنجازات أعظم بكثيرٍ مما تحقَّق فعلًا.
•••
في ضوء هذا التحديد للنظام العالمي الذي كان سائدًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى عام ١٩٨٩م، في إطار الصراع والتنافُس بين المعسكرين، يُمكننا — عن طريق التضاد — أن نستشفَّ بعض المعالم الهامة للنظام العالمي الجديد. ومن المُهم أن نُشير إلى أن هذا النظام لم يأخُذ شكله، ولم تتحدَّد معالمه بعد، رغم وجود نوعٍ من الاتفاق على تحقيقه. فقد حدث تراجُع هائل في أهمية الأيديولوجية بوصفها محورًا للصراع أو التنافُس العالمي، وبدأت تختفي بالتدريج فكرة انقسام العالم إلى مُعسكرين يسعى كل منهما إلى فرض أيديولوجيته على العالم، وترتبت على ذلك ثلاثُ نتائج هامة، حددت معالم أساسية للنظام العالمي الجديد:
- الأولى: هي انحسار المواجهة المسلحة، والتفكير جدِّيًّا في نزع السلاح الاستراتيجي والتقليدي بخطوات متدرجة، وتخليص العالم من مَوقف التوتُّر الدائم والوقوف على شفا محرقةٍ نووية شاملة.
- والثانية: هي الاتجاه إلى الاعتراف بضرورة الديمقراطية والتعدُّدية بوصفِها جزءًا لا يتجزَّأ من حقوق الإنسان، لا يرتبط بأيديولوجية مُعينة، والاتجاه إلى الاعتراف بأنها مطلب إنساني عام مثل الأمان والحرية والسعادة. وما حصل أخيرًا في الصومال ومالي وأثيوبيا في أفريقيا يؤكد على هذا المطلب، تمامًا مثلما يجري العمل على تحقيقه في الدول الشرقية وأنحاء أخرى من العالم، إلا في العالم العربي — للأسف الشديد — ويبدو أن هذا الميكروب الجميل لم يصِل إلينا بعد.
- أما النتيجة الثالثة: التي تترتب على تراجُع الصراع الأيديولوجي بين المعسكرَين، فهي الاهتمام بالمشكلات الكبرى التي تمسُّ حياة الإنسان من حيث هو إنسان، لا مِن حيث هو رأسمالي أو اشتراكي؛ فقد أصبحنا على وعي بأن هناك مشكلاتٍ تُهدد الحياة البشرية على مستوى الكوكب الأرضي كله، وبأن حلَّ هذه المشكلات يقتضي تضافرًا بين الجميع، وتعاونًا تذوب فيه المنافسات الضيقة، وتبدو معه الصراعات الأيديولوجية ضيقةَ الأفق. والأمثلة على ذلك معروفة للجميع؛ فالأخطار التي تُهدد البيئة الطبيعية، والأمراض المُستعصية، ولا سيما وباء الإيدز والسرطان، ومشكلات الجوع والفقر، وانتشار تعاطي المخدرات وإنتاجها وتداولها؛ كل هذه المشكلات تستدعي تجاوز الخلافات المذهبية لأن تهديدها موجَّه إلى الجميع.
هذه بعض المعالم التي يمكن استخلاصها لِما نُسميه بالنظام العالمي الجديد، وهو نظام لم يتشكَّل بعد، ولا بد أن نتضافر جميعًا من أجل تثبيت السمات الإيجابية فيه. ذلك لأن هناك سِمات أخرى سلبية لهذا النظام، بدأت تظهر بسرعة، ويمكن أن تعوق نمو النظام الجديد الذي بدأ بانهيار المعسكر الشرقي، إذ إن المعسكر الآخر ظلَّ كما هو، وستكون لديه القدرة على الاستفراد بالعالم كله، مما يُشكل خوفًا من إمكانية الهيمنة الأمريكية. ومن الممكن التصدي لهذه الهيمنة بفكرة تعدُّد المراكز الإقليمية القوية اقتصاديًّا، وهناك مؤشرات ناجحة على ذلك. فقد اتجهت أوروبا إلى تكوين كُتلتها الموحَّدة التي يمكن أن تصبح كتلة جبارة، بالإضافة إلى كتلة أمريكا الشمالية، واليابان مع الشرق الأقصى، ومجموعة الدول الآسيوية الصاعدة في التنمية الاقتصادية (النمور الأربعة). لكن الشرق الأوسط سيحتاج إلى وقتٍ طويل قبل أن يستطيع أن يكون مركزًا قويًّا، خاصة بعد أن أعادنا العدوان العراقي على الكويت عشرات السنين إلى الوراء، ومن المؤكد أن قيام هذه المراكز العالمية الكبرى كفيل بتخفيف الهيمنة الأمريكية على العالم كله.
•••
والآن، وبعد، أن حددنا المعالم الرئيسية للنظام العالمي الجديد، الذي نؤكد مرة أخرى أنه لا زال أملًا منشودًا، وأن قصر المدة التي ظهر فيها، لا تسمح بأي تحديدٍ دقيق لسماته التي يمكن أن يُكتب لها البقا؛ بعد هذا كله نتساءل: ما هو تأثير تلك الأزمة الطاحنة التي أثارها العراق بعدوانه على الكويت، في هذا النظام الوليد؟
لقد أدَّى العدوان العراقي إلى تبديد الآمال التي ظهرت في السنتَين الأخيرتَين بالاتجاه نحو تحقيق أكبر قدرٍ من الإيجابية في خدمة البشرية، مع أن ما تحقَّق مع بداية التحوُّل العالمي نحو النظام الجديد، يُعادل ما تحقق في الخمسين سنة الماضية، إلى أن جاءت أزمة الخليج لتقضي على هذه الآمال بعد أن تسبَّبت، بوعيٍ أو بغير وعي، في إيقاف التحول الذي كان قد بدأ نحو إيجاد نظامٍ أكثر إيجابيةً للإنسان. فقد شكَّل العدوان العراقي تراجعًا أساسيًّا عن كل ما تم إنجازه، وشكَّل نكسةً كبرى للآمال الإنسانية العريضة منذ اللحظة التي اتفق فيها الكبار على نزع السلاح وحل المشاكل العالمية سلميًّا. وهذا الخوف من التراجُع عن التحوُّل الذي كان قد بدأ، هو الذي شكَّل سببًا من أسباب ردود الفعل العنيفة التي اتخذها العالم مُتحدًا، بالوقوف ضد العراق، سواء كان من الدول التي تسير في الفلك الأمريكي، أو من الدول المُستقلة بمواقفها ومصالحها، وحتى من الاتحاد السوفياتي ذاته، الذي لا يمكن أن يُقال إنه ذيل لأمريكا مهما كانت متاعِبه ومشاكله الداخلية.
إن الغزو العراقي، أوقف المسيرة البشرية نحو إقامة نظامٍ أكثر إنسانية، وترتَّب عليه عودة انتعاش صناعة السلاح في العالم كله، وأدى إلى تبادل التهنئة بين تجار السلاح وأصحاب المصانع العسكرية، وذلك بفضل صدام حسين ونظامه، الذي أوجد حالة من الرعب ربما يكون قد بُولغ في أسبابها كثيرًا حين قيل إن العراق يملك رابع جيش في العالم ويمتلك الكثير من أسلحة الدمار الكيماوية والبيولوجية والصاروخية، مما أسهم في عدم تحوُّل المصانع العالمية إلى الإنتاج المدني الذي يخدم الحياة بدلًا من أن يعمل على إبادتها.
وحسبنا أن نتأمَّل الأضرار الهائلة التي لحقت بالبيئة الطبيعية من جرَّاء تلك الجريمة التي ارتكبها النظام العراقي بحرْق آبار النفط الكويتية. فقد أجمع العالم كله على خطورتها الشديدة على البيئة ونشر التلوث وتأثيره على المُستقبل والأجيال القادمة، في الوقت الذي كان العالم فيه قد اتفق على الحفاظ على البيئة بمنع إنتاج الكيماويات والسموم والمواد الضارة بالبيئة، وقد انهار كل هذا فجأة نتيجة لغزو العراق لدولة الكويت. أما عن التحول نحو الديمقراطية، فمن المؤسف أن العرب كانوا يسيرون عكس التيار الذي بدأ في الكتلة الشرقية منذ سنتين، والدليل على ذلك أن نصفهم أحاط صدام حسين بالتمجيد والتهليل، وكأننا نريد أن نثبت للعالم أننا نحن المتخلفون، في الوقت الذي كان فيه النظام الديكتاتوري العراقي يُعد نفسه ليكون نموذجًا شاملًا للعالم العربي كله، وكان يُخطط للسيطرة على منابع النفط في السعودية والخليج ليفرض نفسه كقوة ديكتاتورية غاشمة لمُحاربة الديمقراطية في العالم العربي.
لقد ترتَّبت على الأزمة التي خلقها النظام العراقي في الخليج عودة الانقسامات وإثارة الأطماع والبحث عن النفوذ في العالم العربي، مما أصاب عملية البحث عن نظام أمني عربي بنكسةٍ كبيرة وتراجع هائل، بعد فترة الآمال العريضة التي مررنا، بها في السنتين الأخيرتين، مما سيُعيق مساهمتنا في بناء النظام العالمي الجديد الذي لا يزال في مرحلةٍ جنينية. ومع ذلك فإن مُهمتنا في المرحلة الراهنة هي ألا نيئس، وأن نُسهم بدورنا في تشكيل معالم هذا النظام بصورة إيجابية، ونعمل على المشاركة فيه وعدم انفراد أمريكا بوضع أُسسه، والإسهام في هذا النظام بما يخدم مصالحنا ومصالح الإنسانية كلها.