أزمة الخليج ومُستقبل الديمقراطية

كان الاعتقاد السائد، قبل أزمة الخليج، هو أن الديمقراطية مطلب أساسي للشعوب كلها، وأن الأنظمة العربية هي التي تقِف عقبةً دون تحقيق هذا المطلب. ولمَّا كانت النخبة المُثقفة تُعِد نفسها ناطقةً بلسان الشعوب، لا الحكومات، فقد أخذت على عاتقها مهمة الدعوة إلى الديمقراطية بوصفِها حلًّا لأهم المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وامتلأت الأدبيات الثقافية العربية، فضلًا عن وسائل الإعلام الجماهيرية، بالكتابات المُرتكزة على هذه الفكرة التي تبدو بديهيةً واضحة بذاتها، وهي أن الديمقراطية هي الهدف الأول لكل تحركٍ شعبي، وأن الحكومات هي التي تقمع هذا التحرك لأنها تَعُد الديمقراطية خطرًا على بقائها.

وكان ممَّا يُعزز هذا الاعتقاد، أن الشعوب العربية كانت هي ضحايا التشريعات والممارسات غير الديمقراطية للأنظمة، وأن المُثقفين كانوا هم الذين يتحمَّلون النصيب الأكبر من هذه التضحيات؛ ففي أحسن الأحوال تُسلَب حريتهم في النقد والمعارضة، وفي أسوئها تُمارَس ضدهم شتى صنوف الاضطهاد والتعذيب. وهكذا كانت للشعوب، وللنخبة المُثقفة بوجهٍ خاص، مصلحة حقيقية في الديمقراطية؛ فإلى جانب إسهامها في حل المشكلات الكبرى للمجتمع، فإن الأخذ بها كفيل بأن يمنع القمع ويُهيئ جوًّا تأمن فيه الشعوب على نفسها من عدوان السلطة.

كان هذا التحليل يبدو أمرًا مسلمًا به قبل أزمة الثاني من أغسطس، ولم يكن يخطر ببال أحدٍ أن يطرحه للمناقشة أو التساؤل؛ ولكن الغزو العراقي للكويت كان تكذيبًا صارخًا لهذه البديهية المزعومة، مثلما كان تكذيبًا لبديهياتٍ أخرى عديدة ظلَّ الفكر العربي يُسلم بها أمدًا طويلًا. فمنذ اللحظة الأولى انشطر العالم العربي نصفَين: نصف مُعارض للغزو ونصف مؤيد له.

وعلينا أن نتنبه جيدًا إلى ما حدث في الأيام القليلة الأولى بعد الغزو؛ ذلك لأنه قد ظهرت في وقتٍ لاحق آراء واسعة الانتشار تُفسر موقف التأييد الصريح أو الضِّمني للغزو العراقي من خلال مبدأ التصدي للتدخُّل الأجنبي. ووفقًا لهذا التفسير فإن القوى الشعبية العربية ساندت صدام حسين، لا لأنها تُقر بمبدأ الغزو، أو تتجاهل الطبيعة القمعية للنظام العراقي، بل لأنها شعرت بخطورة النتائج المُترتبة على استدعاء القوات الأجنبية، والأمريكية بوجهٍ خاص، للتدخُّل في حلِّ هذه الأزمة. ويمضي التفسير فيقول إن الخطأ الأول، وهو الغزو، لا ينبغي أن يُعالج بخطأ أفدح منه، وهو استدعاء جيوش الدول الكبرى إلى المنطقة، بما يُمثله من انتكاسة خطيرة للحركة الوطنية العربية.

غير أن هذا التفسير، في واقع الأمر قد اختلق اختلاقًا في مرحلة لاحقة لكي يُبرر موقفًا لا يمكن الدفاع عنه؛ فحقيقة الأمر أن المواقف كانت قد تحدَّدت بوضوح منذ الأيام الأولى للغزو، وقبل أن تطأ قدم جندي أجنبي واحد أرض المملكة السعودية؛ فمنذ اللحظة الأولى كان هناك تأييد شعبي واسع النطاق، تدعمه كتاباتٌ وأقوال صريحة للمثقفين العرب، في الأردن والسودان واليمن وكثير من أرجاء المغرب العربي، بل وفي مصر ذاتها. وترجع أهمية هذه الحقيقة إلى أنها تكشف عن أن نصف العالم العربي كان منذ اللحظة الأولى للأزمة يعتقِد أن ممَّا يُحقق طموحاته ويُقربه من تحقيق أهدافه أن يتوحَّد مع النظام العراقي ويُسانده في جريمة الغزو.

وهنا نصِل إلى الحقيقة الأساسية التي نودُّ تأكيدها، وهي أن قطاعات واسعة من الشعب العربي قد تنازلت، بمحض اختيارها، عن المبدأ الديمقراطي أو جعلت له مكانة ثانوية في تفكيرها؛ فالمسألة هنا لم تعُد مسألة حكومات تقمع الرغبة «الطبيعية» لشعوبها في الديمقراطية، وإنما هي توجُّه طوعي، إرادي، من الشعوب نفسها نحو نظامٍ يهين الديمقراطية عملًا وممارسةً ومبدأ في كل لحظة من لحظات حكمه. ومن المفارقات أن بعض أنظمة الحكم العربية، التي وقفت موقفًا مُضادًّا للعراق في الأزمة الأخيرة، كانت هي التي تولَّت تنبيه شعوبها إلى الخطر الذي يُمثله النظام العراقي على حقوق الإنسان. وهذا أمر لم يكن يخلو من النفاق، لأن الممارسات غير الديمقراطية نصيب مُشترك بين مُعظم الأنظمة العربية، مع اختلافات كبيرة كمًّا ونوعًا بطبيعة الحال. ولكن المهم أن هذا يمثل انقلابًا في الأدوار، ويشكل تغييرًا جوهريًّا للصورة التي اعتدنا التسليم بها، وهي أن الشعوب تتَّجه بطبيعتها إلى المطالبة بالديمقراطية، ولا يمنعها من تحقيق ذلك سوى أنظمة حكمها.

وبطبيعة الحال فإن تنازُل الشعوب، في الأزمة الراهنة، عن الديمقراطية كان يتم دائمًا لحساب أهدافٍ أخرى مثل تحقيق الوحدة العربية عن طريق إذابة الكيانات الصغرى في كياناتٍ أكبر، ووضع الثروة البترولية في يدِ دولة عربية كبيرة تستطيع أن تستخدِمها في تحقيق توزيعٍ أكثر عدلًا للثروة، وفي التصدي للغرب، ومواجهة الغطرسة الإسرائيلية بقوةٍ عربية مُتفوقة. ولكن هذه الأهداف ذاتها تنطوي على تجاهُل مؤسفٍ للمبدأ الديمقراطي؛ إذ يتم الدفاع عن مبدأ الوحدة العربية وكأنه لا يتحقَّق إلا بغزو القوي للضعيف بطريقةٍ بربرية، وضمِّ شعبٍ إلى آخر رغمًا عن إرادته. بل يذهب البعض، من أجل تبرير هذا الضمِّ القسري، إلى حدِّ حرمان الكيان الأصغر من صِفته كشعب (انظر مقالًا للدكتور فوزي منصور بعنوان «عن الكويت والعراق والمغول» – جريدة الأهالي ١٠ / ٤ / ١٩٩١م). وهكذا يختفي وراء قناع الوحدة العربية موقف فاشي سافر يجد له مُدافِعين مُتحمِّسين بين النخبة العربية المثقفة، وينطبق هذا القول نفسه على مبدأ التوزيع العادل للثروة، والتصدي للغرب ولإسرائيل، إذ يتم الدفاع عن هذه المبادئ لحساب نظامٍ لم ينجح طوال تاريخه إلا في الاحتفاظ بكرسي الحكم.

والواقع أن مبدأ التنازل عن الديمقراطية من أجل أي هدفٍ آخر، هو في ذاته مبدأ شديد الخطورة. ومن حسن الحظ أن المسلك العراقي في الأزمة الأخيرة، بكل ما ينطوي عليه من انتهاكٍ صارخ لكافة القوانين الدولية والأعراف الأخلاقية، قد نبَّهنا إلى خطورة القيام بمثل هذا التنازل، وإلى أن التهاون في المبدأ الديمقراطي يؤدي حتمًا إلى تهاون في مبادئ أساسية أخرى. ومع ذلك فإن النظرة المُتعمقة إلى الموضوع تُقنعنا بأن فكرة التنازُل عن الديمقراطية من أجل أهدافٍ أخرى، لم تبدأ في الظهور في عالمنا العربي مع أزمة الخليج، بل يبدو أنَّ لها جذورًا أبعدَ وأعمق في التاريخ العربي المعاصر.

ولنضرب لذلك مثلًا: ففي الستينيات كانت أيديولوجية «الاشتراكية العربية»، ذات التأثير الواسع على العقل العربي في تلك المرحلة، تقول بإمكان الاستغناء عن الديمقراطية السياسية أو إرجائها من أجل ما يُسمَّى «الديمقراطية الاجتماعية». ومن أجل دعم هذا الموقف اختُرعت مجموعة من المُبررات، كالقول إن الديمقراطية السياسية يستحيل تحقُّقها بغير عدل اجتماعي (وهو ما يعني — في حالة بلاد العالم الثالث — إرجاء الموضوع كلِّه إلى أجلٍ غير محدد)، وكالقول إن أُسس الديمقراطية السياسية لا تصلح إلا للمُجتمعات الرأسمالية … إلخ. ونتيجة لذلك، ظهر جيل كامل من المُفكرين يستخفُّ بالمبدأ الديمقراطي ذاته، أو يجعل له مكانةً متأخرة في سُلَّم أولوياته. والأهم من ذلك أنه يضع تضادًّا زائفًا بين الديمقراطية وبين أهداف كالتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، ويتصوَّر أنَّ الديمقراطية لا تُصبح مُمكنةً إلا بعد أن تتحقَّق هذه الأهداف. ومن الواضح أن هذا الاتجاه الفكري قد وقع في خطأ أساسي، فلم يُدرك أن الديمقراطية هي الإطار أو الوعاء الذي ينبغي أن تصب فيه كل محاولات التنمية والنهوض بالمجتمع، وأن التنازل عنها معناه إهدار كل هذه الجهود.

هذا مثال واحد لحالات التنازُل الطوعي عن الديمقراطية مِن أجل أهدافٍ يُعتقَد أنها أهم منها. وفي استطاعة المرء أن يأتي بأمثلةٍ أخرى عديدة؛ منها محاربة كافة الحريات، بحجَّة أنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، ومنها ذلك الاتجاه الشائع لدى فئةٍ واسعة من المُثقفين العرب، الذين يوجِّهون نقدًا حادًّا إلى التجارب الديمقراطية المحدودة التي عرفها العالم العربي قبل أواسط هذا القرن، ويتَّهمونها بالفشل، ويُهاجمون مبادئ كالتعدُّدية والحزبية، ويصِفونها بأنها ليبرالية مُستمدَّة من الغرب. كذلك فإن حركات إسلامية كثيرة، لها جذور شعبية عميقة، تلتقِط هذا الخيط فتربط بين الديمقراطية وبين الحضارة الغربية المسيحية على نحوٍ يبدو معه وكأن الحديث عن الديمقراطية في مجتمعاتنا يعني اقتلاع هذه المُجتمعات من جذورها وضياع تُراثها في محاكاةٍ جوفاء لمجتمعاتٍ غريبة عنا.

هذه الأمثلة كلها تدلُّ على أن لدَينا في العالم العربي سوابق لا يُمكن تجاهلها، لنقد الديمقراطية من حيث المبدأ، وهو نقد لا ينبع من الأنظمة الحاكمة وحدَها، وإنما تشارك فيه تيارات ثقافية هامة، ممَّا يُثبت أن انتهاك الديمقراطية في أزمة الخليج لم يكن مفاجئًا، وأن للموضوع خلفية هامة، بدونها لن نستطيع أن نفهم ذلك التأييد الواسع لجريمة النظام العراقي بين أوساطٍ ثقافية وشعبية عربية تنتمي إلى اليمين واليسار معًا.

وعلى ذلك فلا بدَّ لنا من إعادة تشخيص الأزمة الأخيرة في ضوء تلك الحقيقة الأساسية التي نحاول أن نُركز عليها في هذه الورقة. فالتشخيص الظاهري يقول إن الافتقار التام إلى أي شكلٍ من أشكال الديمقراطية في نظام صدام هو الذي ولَّد الأزمة، لأن الحاكم يستبدُّ برأيه ولا يجد حوله من يُصحح له مساره. وهذا تشخيص صحيح، ولكنه لا يتناول إلا الوجه الظاهري للأحداث، أما الوجه الأكثر خفاء وعمقًا فهو أن هذا الدكتاتور إنما هو الصورة المكتملة لتيارٍ قوي، له جذور شعبية، يستخفُّ بالديمقراطية ويجعل لها مكانةً متأخرة في سُلم أولوياته؛ هذا التيار هو الذي جعل أعدادًا هائلة من المثقفين العرب، ضمير الأمة وعقلها، تتسابق إلى مهرجانات صدام ومؤتمراته وندواته واحتفالاته التي لا تنتهي، وهي على وعيٍ تامٍّ بطبيعة هذا النظام وبالطريقة الدموية التي يحكُم بها شعبه، وبأن المشاركة في أي نشاطٍ من أنشطته تعني — على أحسن الفروض — السكوت على دكتاتورية النظام. وهذا التيار هو الذي جعل بلدان الخليج — وأنا لا أقصد هنا الحكومات وحدَها، وإنما الشعوب أيضًا — تساند النظام العراقي ماديًّا ومعنويًّا طوال حربه مع إيران، ولا تكتشف وحشيتَه ودمويتَه. إلا عندما استدار إليها وجعلها هي الضحية التالية. إن النظام هو النظام، ودكتاتوريته هي هي منذ اللحظة الأولى لاستيلائه على الحُكم. ولا جدال في أن هذا الاكتشاف المتأخر، الذي لا يتم إلا بعد الاكتواء بنار الاحتلال أو التهديد به، يدل على أن الدوافع الديمقراطية لم يكن لها الدور الأساسي في الصراع الأخير بين الخليج وبين النظام العراقي، وعلى أن دكتاتورية هذا النظام كانت مقبولةً طالما أنها تُمارَس على الآخرين.

هذه هي صورة الحاضر، وهي تنطوي على أهم بذور المُستقبل؛ فقد بدا في وقت احتدام الأزمة، أن جميع الأطراف ستتعلَّم منها درسًا بليغًا، بعد أن جربت — بأصعب الطرق — حجم الكوارث التي يمكن أن يؤدي إليها الاستخفاف بالديمقراطية. ومع ذلك يبدو حتى هذه اللحظة أن الأطراف المَعنية مباشرة، أعني الدول الخليجية، لم تستوعِب الدرس استيعابًا تامًّا، وأن إرادة التغيير لم تتمكن من أن تفرِض نفسها بوضوح بعد أن تمَّت هزيمة العدوان المُسلح. ويبدو أن زوال شبح التهديد العراقي لعدة سنوات، وربما عقود، مقبلة، قد أقنع أنظمة هذه الدول بأن كلَّ شيءٍ أصبح على ما يُرام، وبأن مِن الممكن مواصلة أساليب الحكم القديمة وكأن شيئًا لم يحدُث. وإذا كنا نجد بوادر تدل على الحيوية، وتتمثَّل في ذلك الخلاف الصحِّي بين الحكومة والمعارضة في الكويت، فما ذلك إلا لأن الكويت هي البلد الخليجي الوحيد الذي يملك تجربةً سابقة في اتجاه الديمقراطية، أما بقية البلدان فلا تظهر فيها حتى الآن بوادرُ تدل على أنها تنوي الإفادة من دروس الأزمة.

•••

ولكن، دعونا نتجاوز إطار الرؤية العامة للموضوع، ونتأمَّل مُستقبل الديمقراطية في إطار أكثر عينية، وأفضل وسيلة لذلك هي أن نُحلل العناصر التي تشكل جوهر الديمقراطية، لنرى مدى إمكان تحقُّق كلٍّ منها في المستقبل المنظور. ولعلَّ هناك ما يُشبه الاتفاق على أن أهم عناصر الديمقراطية هي:

  • أولًا: الحريات الأساسية، وعلى رأسها حرية التعبير.
  • ثانيًا: المشاركة السياسية، من خلال شكلٍ من أشكال التمثيل النيابي.
  • ثالثًا: وجود آليات سلمية وعقلانية لتغيير الجهاز الحاكم.

قد تكون هناك عناصر أخرى هامة، كسيادة القانون واحترام الدستور، ولكنَّنا سنُركز على هذه العناصر الثلاثة لأنها تُلقي أضواءً هامة على المشكلة التي نحن بصددِها. ومن المُهم أن نُدرك أن الديمقراطية الحقيقية لا تكتمِل إلا إذا تحقَّق الشرطان الآتيان:

  • (١)

    ترابُط هذه العناصر جميعًا، بمعنى أن الديمقراطية الحقَّة لا تكتمل إلا إذا تحقَّقت العناصر جميعًا، أما الاعتقاد بأن بعضها يُمكن أن يتحقَّق دون البعض الآخر فإنه يُشوِّه طبيعة الديمقراطية ويُزيفها.

  • (٢)

    والشرط الثاني هو أن العنصرَين الأولَين لا بدَّ أن يُمهِّدا لتحقيق العنصر الثالث، بمعنى أن حرية التعبير والمشاركة السياسية ينبغي أن يكونا هما الأساس الذي يسمح بتحقيق ذلك التغيير السلمي والعقلاني للجهاز الحاكم؛ فالتعبير بوصفه مؤشرًا لاتجاه الرأي العام، ينبغي أن يكون قادرًا على ممارسة تأثيره على عملية الحُكم ذاتها. والمشاركة السياسية ينبغي أن تكون حرةً إلى الحد الذي يسمح بالكشف عن النبض الشعبي الحقيقي، واختبار مدى قدرة الجهاز الحاكم على التمشِّي مع رغبات أغلبية المجتمع.

وينبغي في هذه الحالة أن يُنظَر إلى عملية الحكم على أنها «تجربة» قد تُصيب وقد تخطئ. فإذا كان إخفاق هذه التجربة واضحًا، استطاع العنصران الآخران للديمقراطية أن يُخففا من تأثير هذا الإخفاق، عن طريق إدخال تعديلٍ جذري على هذه التجربة، واستبدال الجهاز الحاكم بآخر يُمكن أن تكون لدَيه رؤية جديدة، أو نسق مختلف من الأفكار.

ونستطيع أن نقول إنَّ العنصرَين الأولَين للديمقراطية مُتحققان، ولكن بصورة جزئية ومنقوصة، في عددٍ محدود من البلاد العربية، بينما تفتقر إليها بقية هذه البلاد. ولا تبدو في الأفق أية علامة تدلُّ على أن هذا الوضع سيتغيَّر في المستقبل المنظور.

على أن المشكلة الحقيقية تكمُن في العنصر الثالث، الذي يبدو تحقُّقه مستحيلًا في العالم العربي بأسرِه؛ فالوضع الحالي للأجهزة الحاكمة يرتكز على مبدأ غير مُعلن، ولكنه مُطبَّق بدقةٍ تامة، هو أن الحكم عملية دائمة، وأن القاعدة هي أن تظلَّ الفئة الحاكمة في موقعها، أما التغيير — الذي لا يحدُث إلا لضرورات قهرية تتحقَّق غالبًا بالعنف — فهو الاستثناء. ونظرًا إلى أن العنصرَين الأولَين — حرية التعبير والمشاركة السياسية — غير مكفولَين في معظم الحالات، فإن الشروط الضرورية لتحقيق هذا العنصر الثالث غير متوافرة.

ولكن حتى في الحالات التي يتوافر فيها هذان العنصران، استطاعت الأجهزة الحاكمة أن تفصلهما فصلًا يكاد يكون تامًّا عن العنصر الثالث، وهو وضع تكاد تنفرد به «ديمقراطية» العالم العربي؛ ففي حالة مصر مثلًا توجَد درجة لا بأس بها من حُرية التعبير، وشكل من أشكال المشاركة السياسية. ولكنَّ هذَين العنصرَين لا يكاد يكون لهما تأثير على الممارسة الفعلية لعملية الحُكم. ففي استطاعة الناس أن يقولوا ما يشاءون، ولكن ما يقولونه لا يُشكل قوةً ضاغطة تُغير مسار الحاكم أو سياساته الهامة على الأقل. وبالمثل فإن التمثيل النيابي مُخطَّط على نحوٍ يؤدي إلى استمرار الجهاز الحاكم في السلطة — وهو فنٌّ أتقنته الحكومات العربية منذ وقتٍ طويل — ويفتقر تمامًا إلى القدرة على تغيير هذا الجهاز، أو حتى على اختيار قياداته.

وفي هذا الصدد، يُمكن القول إن أزمة الخليج ستمارس تأثيرها المستقبلي في اتجاهَين مُتضادَّين: ذلك لأن الشعور بالخطر، الذي هدَّد بزعزعة الأنظمة العربية من جذورها على نحوٍ لم تعرِف له نظيرًا منذ عشرات السنين، يمكن أن يؤدي إلى زيادة تشبُّث هذه الأنظمة بمواقِعها، وقيامها بابتكار آلياتٍ أشدَّ صرامة، تساعدها على تجنُّب تكرار هذا الخطر في المستقبل.

غير أن هناك اتجاهًا آخر مضادًّا؛ إذ إن نسبةً لا يستهان بها من الشعوب العربية قد خرجت من المِحنة برغبةٍ عارمة في التغيير، وبإحساسٍ جارف بأن الأوضاع القديمة لا يجوز لها أن تستمر، وبوعيٍ أوضح بأن فقدان الديمقراطية مسئول عن الكوارث التي عانَينا منها في السنوات الأخيرة، والتي سيستمرُّ تأثيرها معنا عشرات السنين. هذا الوعي بضرورة الديمقراطية باعتبارها خير ضمانٍ ضد المغامرات الجنونية والقرارات الفردية الطائشة، تسانده اعتبارات إقليمية ودولية لا يُمكن تجاهلها.

فعلى الصعيد الإقليمي، هناك حاجة مُلحَّة إلى نظام للأمن العربي يُجنبنا التعرُّض لتهديدات المُغامرين، ويضمن لمنطقتنا حدًّا معقولًا من الاستقرار. وإذا كان الجانب الأكبر من التفكير في هذا النظام ينصبُّ حتى الآن على نوع التحالفات التي يُمكن الدخول فيها من أجل تحقيقه، ومقدار القوة العسكرية اللازمة لمساندته، فإن الضمان الحقيقي لأمن العالم العربي لن يكون إلا بالديمقراطية. فالأمن الذي تكفُله الديمقراطية هو «الأمن من المنبع» إن جاز هذا التعبير، وهو أمن يقوم على مبدأ الوقاية، على حين أن الأمن المُرتكز على ضماناتٍ عسكرية يقوم على مبدأ العلاج. ومن المؤسف أن المحادثات الحالية بين الدول العربية حول نظام أمني إقليمي تكاد تُغفل هذا العنصر إغفالًا تامًّا، مما يعني أن جذور المشاكل الأمنية ستظلُّ ضاربةً في التربة العربية لوقتٍ طويل في المستقبل.

أما على الصعيد الدولي، فإن السنتَين الأخيرتَين قد شهدتا اعترافًا غير مسبوق «بعالمية» المبدأ الديمقراطي وإنسانيته، بعد أن كان المُثقفون، في اليمين واليسار معًا، يقصرون هذا المبدأ على ثقافة الغرب الرأسمالي الليبرالي. وأخذ العالم كلُّه يشهد تحوُّلات جذرية نحو الديمقراطية، أبرزها بالطبع ما حدث في بلدان الكتلة الشرقية الأوروبية، وإن كانت لها امتدادات هامة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وهكذا فإن العرب سيجدون حولهم عالَمًا يتحرك بسرعة في اتجاه الديمقراطية، ويتَّجه بالتدريج، ولكن بصورةٍ لا تُخطئها العين، إلى التخلِّي عن أنظمة الحُكم الأوتوقراطية والدكتاتورية والقبلية. ولا بد أن يكون لهذا التيار العالمي الجارف انعكاساته علينا، وإلَّا ظللنا جزيرةً منعزلةً من الاستبداد وسط عالمٍ ينفض عن نفسه الأغلال.

وهكذا فإن الصورة في المستقبل مزدوجة الدلالة: أحد جوانبها هو ما كشفت عنه الأزمة الأخيرة من انعدام الحساسية بضرورة الديمقراطية وأولويتها، ومن استعدادٍ لمُهادَنة الأنظمة الدكتاتورية بل والدفاع عنها، على مستوى قطاعٍ هامٍّ من الشعب العربي وقادته الفكريين، والجانب الآخر هو ذلك الاعتراف المُتزايد بأن ضرورات البقاء ذاتها تؤكِّد الحاجة إلى تغيير الأساليب الاستبدادية في الحكم والاعتراف بقيمة «الإنسان» الذي كاد أن يُصبح منسيًّا في هذه المنطقة من العالم.

وليس في وسع المرء، في هذه الفترة التي تعقب الأزمة مباشرة، أن يُحدد أي الجانبَين سيُكتَب له الانتصار. وكل ما يُمكن التنبُّؤ به هو أن أمامَنا فترة صراع طويلة، تقتضي من أنصار الديمقراطية حشد كلِّ طاقاتهم، وتقتضي من خصومها أو المُتهاونين فيها إدراك أن المسألة لم تعُد ترَفًا، وإنما هي الشرط الذي لا غناءَ عنه إن شِئنا أن يكون لنا مكانٌ في ذلك العالم الأكثر إنسانية، الذي يُتوقَّع له أن يسود في القرن الحادي والعشرين.

بحث أُلقي في ندوة «حرب الخليج ومستقبل الشرق الأوسط» نظَّمها مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، القاهرة، ٢٦–۲۸ / ٤ / ۱۹۹۱م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥