محنة العقل في أزمة الكويت

بقدر ما كشفت كارثة الغزو العراقي للكويت عن اختلال في البناء السياسي العربي في مُجمله، فقد كشفت بالمِثل عن اختلالٍ لا يقلُّ فداحة في الوعي العربي، وفي طريقتنا في فهم مشكلاتنا الكبرى وأسلوبنا في البحث عن حلولٍ لها. ولمَّا كانت مِحنة العقل لا تقل خطرًا عن محنة الممارسة السياسية، بل لعلَّ الأُولى سبب رئيسي للثانية، فقد رأيتُ أن أعالج الموقف من هذه الزاوية التي يُهملها الناس عادةً على الرغم من أهميتها الحيوية. وسوف أُخصص حلقات هذا المقال لمجموعةٍ من مظاهر الاختلال الفكري والذهني التي كشفَت عنها الأحداث الأخيرة بوضوحٍ صارخ.

أولا: الخلط بين الأسباب والنتائج

لقد نبَّه الكثيرون من قبلُ إلى أن نسبةً لا يُستهان بها من الرأي العام العربي تخلِط، بصورة مؤسِفة، بين الأسباب والنتائج في مجموعة الأحداث التي فجَّرها غزو العراق للكويت؛ فبعد مضي أيامٍ قلائل على هذا الغزو، تحوَّلت المسألة «بقدرة قادر» مِن انتهاك بلدٍ عربي لسيادة بلدٍ عربي آخر وكرامته وأمنه، بل وهويَّته ذاتها، إلى مشكلة وجود القوات الأجنبية والأمريكية على وجه التحديد، في الأراضي العربية. وفي غضون هذه الأيام القلائل، كانت مهمة فصائل واسعة، ذات تأثيرٍ لا يُستهان به على الرأي العام العربي، هي أن تمحوَ مِن ذاكرة الناس ما حدثَ من عدوانٍ سافر، وتعزف ليل نهار على نغمة الخطر الذي بات يُهدد الكيان العربي من جرَّاء وجود قواتٍ أجنبية في أراضٍ عربية، وصدَرت بيانات رسمية من أحزاب وجماعات لها وزنها، تضع مشكلة انسحاب القوات الأجنبية، في ترتيب الأولويات، قبل مشكلة الانسحاب العراقي من الكويت. ويبلغ الضياع العقلي ذروته حين يقول المسئول الأكبر عن جريدة حزبية ذات اتجاهٍ إسلامي أنَّ المهم الآن هو معالجة قضية وجود القوات الأمريكية، أما البحث في الأسباب التي أدَّت إلى هذا الوضع فهو «مسألة لم تعُد تُهم إلا المؤرخين». وفي اليوم التالي يتحدَّث المسئول الأكبر عن جريدة يسارية في الموضوع ذاته، فيقوم بتعديلٍ طفيف في المصطلحات، إذ يقول إنَّ مسألة البحث عن السبب الذي أدَّى إلى الوضع الراهن ليست إلا مسألة أكاديمية.

هذا النوع من التفكير، الذي يزداد كلَّ يومٍ انتشارًا في عالَمِنا العربي المنكود، يعزف على عدة أوتار كلٌّ منها أشدُّ نشازًا مِن الآخر؛ فهناك أولًا وتر النسيان، وهو آفة من آفات العقول التي تشغلها الأحداث الساخنة في كل يومٍ على حِدة، ولكنها تعجز عن الربط بين حادث اليوم وحادث الأمس، وتعالج الأمور بطريقة مُفككة، فتنفعل مع أحداث «آخر لحظة» وتنسى تمامًا أحداث اللحظة السابقة، ولا ترى العالَم إلَّا على أنه مجموعة من الأحداث المُنفصلة التي ينبغي أن تشتعل ردود أفعالنا معها أو تنطفئ ساعةً بساعة، دون أية محاولة للبحث عن خطوط مُتصلة وعلاقات مترابطة.

وهناك ثانيًا وتر التمويه، فكيف ننظُر إلى أحداثٍ وقعت منذُ أقلَّ من أسبوعين وتكشف كل يوم عن أخطر النتائج السياسية والعسكرية والاقتصادية، وكيف ننظر إلى اقتلاع شعبٍ من وطنه وإحلال آخرين محلَّه في عملية استيطانٍ وحشيَّة حاقدة؛ كيف ننظُر إلى هذه الأحداث على أنها شيءٌ أصبح ينتمي إلى الماضي الغابر، ولم يعُد يُهم إلا المؤرِّخين على حدِّ تعبير مُمثل اليمين الإسلامي، أو الأكاديميين على حدِّ تعبير مُمثل اليسار العلماني؟

على أن أخطر الأوتار التي يعزف عليها أصحاب هذا الموقف نشازًا هو المُغالطة؛ فحين يُطالبنا البعض بالتغاضي عن الأسباب التي أدَّت إلى الوضع المُشتعل الحالي، وتركيز اهتمامِنا على مشكلة حضور القوات الأجنبية، فإنهم في واقع الأمر يتحدَّثون بمنطق اللصِّ الذي يسرق بيتَك ثم يتوجَّه إليك بالنُّصح قائلًا: ليس المُهم الآن بحثُ موضوع السرقة، وإنما المُهم ألا تلجأ إلى ضابط المباحث، لأنه رجل شرير نكرهه نحن الاثنان معًا!

إن منطق انسوا الأسباب وركِّزوا جهودكم على مواجهة خطر التدخُّل الأجنبي، يسلُبنا الحجةَ الوحيدة التي نعتمد عليها في الردِّ على سياسة الأمر الواقع التي ظلَّت إسرائيل تُحاول فرضها علينا منذ بدءِ صراعنا معها. فمهما حاولت إسرائيل تغيير خريطة المنطقة لصالحها، فإننا نظلُّ نُردد على مسامع العالم أن الوضع المتأزِّم في المنطقة سببه أنَّ هناك شعبًا طُرد من أرضه وحلَّ محله بالقوة شعبٌ آخر. وسيظل تذكير العالَم بالسبب الأصلي للنكبة هو حُجتنا الأساسية وسندنا الأكبر أمام الضمير العالمي. وأقصى أمنيات إسرائيل هي أن يأتي على العرب حينٌ من الدهر يتركون فيه الأسباب الأصلية للمؤرخين أو الأكاديميين، ويقِفون معها على أرضية الأمر الواقع. ولكن من مفارقات هذا الزمن ومن أوضح علامات التدهور العربي، أن القيادات الفلسطينية كانت على رأس المؤيدين لسياسة انسوا الأسباب التي خلقت المشكلة العراقية الكويتية، وانتبهوا فقط إلى الوجود الأمريكي في المنطقة؛ أي أن القيادة الفلسطينية كانت أشد المُتحمسين لذلك المنطق الذي لا بد أن تكون ضحيته الأولى هي القضية الفلسطينية ذاتها!

لقد انطلت الخدعة على الكثيرين، وفي كلِّ يوم تتزايد أعداد المُنضمِّين إلى مظاهراتٍ تهتف بسقوط الوجود الأمريكي، ولا تُفكر في الهتاف بسقوط مَن تسبب في الوجود الأمريكي! ولو كان لدى المُتحمِّسين لهذه المظاهرات بقيةٌ من الوعي، لصبُّوا جام غضبِهم على أولئك الذين أوقعونا في مأزقٍ نعترِف جميعًا بأنه يحمل نُذر الخطر للأمة العربية بأسرها؛ ولو كان لديهم ذرة من النضج العقلي لتوجَّهوا إلى الزعامة العراقية قائلين: إذا كنتم وطنيين حقًّا فجنِّبونا شرَّ التدخُّل الأمريكي، وذلك بأن تنسحبوا وتتفاوضوا على حلولٍ وسطى لا تترُك فرصةً لتدخُّل أية قوة أجنبية. هذا هو الهدف الذي ينبغي أن يعمل من أجله المتظاهرون، أما الهتاف ضد التدخُّل الأمريكي دون إدانةٍ لمن كان يعلَم مقدَّمًا قبل أن يغزو الكويت، أن هذا التدخُّل واقع لا محالة، فهو قصور في الوعي على أحسنِ الفروض، وتواطؤ مشبوهٌ على أسوئِها.

لقد كانت لدى القيادة العراقية، حتى لو سلَّمنا بأن جميع مطالبها من الكويت مشروعة، وسائل عديدة للحصول على هذه المطالب، دون تعريض المنطقة لخطر التدخُّل الأجنبي؛ كانت تستطيع في بادئ الأمر الاستمرار في مفاوضات جدَّة مع إبداء مزيدٍ من الحزم أو حتى توجيه إنذارٍ نهائيٍّ إلى الطرف الآخر وإلى الأمة العربية. وكانت تستطيع، حتى في إطار استخدام القوة، أن تكتفيَ بغزو الأجزاء التي تُطالب بها من أرض الكويت، ثم تشرع بعد ذلك في التفاوُض. وكانت تستطيع، حتى بعد الغزو الكامل، أن تستجيب لنداء الدول العربية والإسلامية وتنسحب، بعد أن تكون قد أثبتت للعالم أنها جادة في مطالبها، وكانت ستحصل عندئذٍ على مُعظم ما تريد؛ ولكن القيادة العراقية اختارت طريق الغزو، وبعدَه طريق الغش من خلال ما يُسمى بالحكومة المؤقتة، وبعدَه طريق النهب من خلال إطلاق القوى المَسعورة لتسرق كلَّ ما يقع تحت أيديها، وبعده طريق الإزالة الكاملة لكيان بلدٍ عربيٍّ ومحوه من الخريطة وإلغاء هويته وخصوصيته … وبعد هذا كلِّه تجد هذه القيادة، بين أساطين الفكر في زمن الانهيار العربي، من يُطالبوننا بأن ننسى أسباب الكارثة ونتركها للمؤرخين والأكاديميين!

إن المحنة الراهنة ترجع أساسًا إلى لجوء العراق إلى القوة العسكرية والمُمارسات الوحشية ضدَّ شعبٍ كان يُسانده بكلِّ قوة، بل بكلِّ تعصُّب، في حربه الطويلة مع إيران. والأهم من ذلك أن العراق رفض، وما زال يرفض بإصرارٍ، مبدأ التفاوض حول إنهاء هذا الاحتلال. ولو كان العراق قد امتنع عن أيٍّ من هذَين المسلكَين المُتعارضَين، مع الاتجاه العام إلى التهدئة والحلِّ الحضاري العقلاني لكافة المشاكل المُعقَّدة في عالم اليوم، لَما استمرت الأزمة أصلًا، ولَما كانت هناك ذريعةٌ لأيِّ تدخُّلٍ أجنبي. وما زال هذا الخيار قائمًا حتى اللحظة الحاضرة.

وعلى فلاسفة المظاهرات المتشنِّجة ومُحرضي المُراهقين المُضلَّلين أن يسألوا أنفسهم: أي الطريقَين أسهل وأضمن للخروج من المأزق الراهن؟ السير في مظاهراتٍ ضد التدخُّل الأجنبي مع تأييد الغزو العراقي والتستُّر عليه، أم الضغط على العراق من أجل سحبِ قواته والجلوس إلى مائدة المفاوضات؟ أي الطريقَين يُنقذنا جميعًا من الدَّمار المُترصِّد بنا، ويسحب البساط من تحت أقدام أية قوة أجنبية تُقحم نفسها في شئون المنطقة؟ وأي الهدفين ينبغي أن يكون له الأولوية، الانسحاب العراقي الذي يترُك القوات الأمريكية مكشوفةً أمام الرأي العام العالمي، ويجعل مسألة إخراجها من المنطقة يسيرةً أمام القوى الوطنية، أم انسحاب تلك القوات الأجنبية دون حلٍّ للقضية التي اتَّخذتها ذريعةً للتدخُّل؟

ثانيًا: عدم الاكتراث بحقوق المواطن وكرامته

على الرغم من كل ما تقوله أجهزة إعلامِنا ويُنادي به كتَّابنا ومُفكرونا عن ضرورة احترام حقوق الإنسان في الوطن العربي، فقد كشفت الأحداث الأخيرة عن حقيقة لا يملك المرء إلَّا أن يعترِف بها آسفًا، وهي أن مبدأ كرامة المواطن والتمسُّك بحقوقه الإنسانية الثابتة، ليس مبدأً متأصلًا في نفوس نسبةٍ لا يُستهان بها من العرب، بل في نفوس قطاع غير قليل من المُثقفين الذين يكتفون باستغلال هذا المبدأ تكتيكيًّا لتحقيق أهدافٍ سياسة مُعينة، ولكنهم مُستعدون في قرارة نفوسهم للتنازل عنه عندَ أول اختبارٍ حقيقي.

لقد بدأت المظاهرات في بلاد عربية مُعينة، تُصفق لصدَّام حسين، حتى من قبل أن يبدأ نشر القوات الأمريكية في السعودية؛ ففي الأيام الأولى للأزمة، حين ظلَّت المملكة تُردِّد أنها لا تزال تنظُر في طلب أمريكا السماح بإنزال قواتها في أراضيها، وقبل نزولِ جنديٍّ واحدٍ من هذه القوات، خرجت مظاهرات كثيرة تؤيد الغزو العراقي في بلدانٍ عربية مُعينة، وبدأت معالِم الموقف الذي اتخذته قيادة منظمة التحرير في التشكُّل، وسمعت بنفسي من بعض المُثقفين المنتمِين إلى اليسار التقليدي آراءً تؤيد الغزو العراقي. وهذه الحقيقة وحدَها تكفي لإثبات نفاقِ كثيرٍ من الجماعات التي تعمل اليوم على تحويل القضية كلِّها إلى قضية صراعٍ ضدَّ التدخُّل الإمبريالي.

المسألة إذن في حقيقتِها هي أن هناك من يؤيدون سياسة صدام حسين وكانوا سيُؤيدونه حتى لو ظلَّت جميع أطراف النزاع عربية خالصة. وهذا التأييد هو الذي يدفعني إلى القول بأنَّ حساسية كثيرٍ من المواطنين العرَب، وضِمنهم فئات هامَّة من المُثقفين، لموضوع حقوقِ المواطن وكرامته، ضعيفة إلى حدٍّ مؤسف.

إن هؤلاء المُثقفين لا يشعرون بأي قدرٍ من السخط حين يرَون أجهزة إعلام دولةٍ كاملة تُكرس وقتَها وجهدها لتمجيد فردٍ واحد، وتُحاول أن تخلق له فلسفةً عميقة ونظرةً شاملة إلى العالم، ورؤية ثاقبةً لمشاكل الكون. ولا يؤذي حساسيتهم أن تظلَّ هذه الأجهزة تُردد أقوال هذا الرجل الواحد ليلَ نهار، وكأنها أصبحت كتابًا مقدسًا جديدًا. وهم لا يَستغربون أن يُكرس هذا الفرد الواحد برامج تليفزيونية لمدةٍ لا تقلُّ عن أسبوعَين؛ من أول ساعات الإرسال حتى نهايتِه، من أجل الاحتفال بعيد ميلادِه في كلِّ عامٍ من أعوام الحرب التي كان جيشُه يخوض فيها أقسى المعارك، دون أدنى احترامٍ لأحزان أُسَر الضحايا والشهداء، الذين يُعدُّون بمئات الألوف. وهؤلاء المُثقفون الُمصفِّقون لا يؤذي مشاعرهم منظر الزعيم وهو يقِف مَزهوًّا أمام أطفالٍ في عُمر الزهور يُردِّدون، كالببغاوات لمدة ساعات، قصائدَ مديحٍ لا يَسمَح لهم عمرُهم بأن يَفهموا منها شيئًا، ولم يكن من الممكن أن يحفظوها عن ظهر قلبٍ لو لم يكونوا قد أضاعوا شهورًا طويلة من طفولتهم الغضة. ولا يشعر هؤلاء المُؤيدون بأنَّ في الأمر أيَّ انتهاكٍ لمبادئ الحقِّ والعدل حين يقوم ابنُ الزعيم بقتْل شابٍّ في مثل عُمره، ويُمارس الزعيم أمام شعبه تمثيلية إقامة العدل على الابن القاتل، وكأن هذا تنازلٌ غيرُ عادي منه، وبعد ذلك يُبرق إليه وزير العدل قائلًا أنت ظالم يا سيادة الرئيس لأنك تقسو على ابنك وعلى نفسك إلى هذ الحد! وتتوالى البرقيات مِن كلِّ الهيئات والأفراد، فيُغيِّر الزعيم رأيَه نزولًا على إرادتهم، ويعفو عن الابن القاتل، ثُم يكافئه بوضعِه في صدارة عددٍ من أهمِّ المراكز الحسَّاسة.

قد تبدو هذه أمثلة جزئية، ولكنها في الحق عظيمة الدلالة؛ فهي تكشف عن نوع النموذج الذي يُريد له هؤلاء المُؤيدون أن يسود. وعلى أيةِ حال فإن الأمثلة الأكبر والأهم مُتضمَّنة في تقارير لجان حقوق الإنسان ومنظمة العفو العالمية. والمشكلة الحقيقية هي أن هذه الانتهاكات لآدمية البشر لا تُثير أدنى حساسيةٍ لدى أولئك الذين يخرجون في مظاهرات التأييد؛ فهل هذا هو النمَط الذي يُراد له أن يسود عالَمنا العربي؟ ولنكن أكثر صراحةً فهناك مُفكرون يُقارنون بين ثورية النظام العراقي ورجعية النظام الكويتي، وهناك جماهير غير قليلة تتأثر بهذا المنطق. والذي لا يُدركه هؤلاء هو أن المُعارضة في الكويت استطاعت أن تعقِد اجتماعاتٍ حدَّدت فيها مواقفها بجرأةٍ وصراحة. صحيح أن الشرطة تدخَّلت وأن البعض قد احتُجز بضعةَ أيام، غير أنهم عادوا بعد ذلك جميعًا إلى أُسرهم، وإلى مواقِعهم في العمل. وسوف أترُك لخيالِكم مهمة تصوُّر ما كان يمكن أن يحدُث للمعارضة لو تجرَّأت على عقد اجتماعاتٍ كهذه في بغداد!

إن الحكم المُطلق الذي يُسخر أجهزة الدولةِ لتمجيد فردٍ، يُفسد الحاكم والمحكوم معًا. فهو يولِّد لدى الحاكم اعتقادًا بعِصمته من الخطأ، ويُضاعف من فداحة الأخطاء التي يقع فيها نتيجة اتخاذه قراراتٍ فردية لا يجرؤ أحدٌ على مناقشتها. ولكن أضراره على المَحكومين أفدح؛ فالدولة في مثل هذا النظام تضمُّ رجلًا واحدًا فقط، وكل من حولَه فئران مذعورون. غير أن كلَّ فأرٍ من هؤلاء يتحوَّل إلى أسدٍ تجاه مَن دونه في المرتبة ويُحوِّلهم إلى فئرانٍ بالقياس إليه، كما حدث أخيرًا مع وزير الإعلام العراقي، الذي فصل جميع رؤساء التحرير في لحظةٍ واحدة لأنهم تخلَّفوا عن حضور أحد المهرجانات. وهكذا يجمع كل مواطنٍ في داخله بين صفاتِ الفأر أمام رؤسائه وصفات الأسد أمام مرءوسيه. ولنا أن نتصوَّر مدى التشوُّه العقلي والنفسي الذي يُصيب مجتمعًا اتخذ تنظيمُه الهيكليُّ هذا الشكلَ الممسوخ.

ولكن الكارثة الحقيقية تكمُن في أولئك المُثقفين وأهل الرأي، الذين لا يُقيمون وزنًا كبيرًا لذلك كله، أو يرَونه ثانويًّا بالقياس إلى ما يُسمونه بالأهداف التاريخية الكبرى، مع أن هذه الأهداف لا تعدو أن تكونَ شعاراتٍ ديماجوجية لم ولن يتحقَّق منها شيء.

إنني لا أُحب التعميم، ولا أميل إلى تعليل ظاهرةٍ كفقدان الحساسية تجاه حقوق الإنسان وكرامة المواطن، من خلال القول بوجودٍ سماتٍ فطرية في شعبٍ ما. والأرجح عندي أن الاستبداد الطويل الأمد الذي خضعت له شعوبُنا في معظم فترات تاريخِها قد ولَّد لدى المواطن شعورًا بأن الظلم وسلب الحقوق وضْع طبيعي، أو على الأقل وضع لا سبيلَ إلى مقاومته. وهكذا فإنه يتنازل عن كثيرٍ من حقوقه، لا تجاهَ الحاكم فحسب بل تجاه المواطنين الآخرين أيضًا، كتنازُله عن حقِّه في الخصوصية وقبوله للإزعاج والضجيج دون أدنى احتجاج. وفي ضوء هذه السِّمة نجد أن عبادة الفرد في مجتمعاتنا ليست مجرد وضعٍ سيئٍ يُفرَض على المجتمع في فترةٍ قاتمة من تاريخه، بل إنها تغدو في كثيرٍ من الأحيان أُمنية عزيزة تتمثَّل في العودة المُتكررة لفكرة المُستبد العادل، والحنين الدائم إلى صلاح الدين جديد يقود العرب بسيفه. ولا بأس، في سبيل ذلك، من التغاضي عن إذلال هذا البطل لمُواطنيه وخرقِه لكلِّ قانونٍ شرعيٍّ وأخلاقي؛ فالبطل مرغوب ومحبوب حتى لو داس على رقاب الجميع.

وقد يبرر بعض المثقفين هذا الوضع العجيب بالقول إن الحركة العامة للتاريخ لا تأبه بالجزئيات، وأن من الخطأ إصدار حُكمٍ بالإدانة الأخلاقية لحاكمٍ يرتكب أخطاءً جزئيةً خلال تغييره لمَجرى التاريخ تغييرًا حاسمًا. غير أن هذا مبدأ شديد الخطورة، لأن أي تغييرٍ في المجرى العام للتاريخ ينبغي في نهاية الأمر أن يصب في تيَّار حياة الفرد، وأن يُترجَم إلى مزيدٍ من الكرامة والسعادة لأكبر عددٍ من أفراد المجتمع، وإلا لَما كان للإنجاز التاريخي معنًى. والأهم من ذلك في الحالة التي نحن بصدَدِها أن البطل المزعوم، الذي تخرج المُظاهرات هاتفةً باسمه، لم يُحقق أي إنجاز تاريخي، بل كان حكمه نكسةً كبرى للعالم العربي المعاصر.

وهكذا يتبيَّن لنا أن مشكلة حقوق الإنسان في العالم العربي لا تقتصر على ما ترتكبه بعض الأنظمة من انتهاكاتٍ صارخة، بل إن لهذه المشكلة وجهًا أعمقَ وأعقدَ هو انتهاك حقوق الإنسان داخل نفس المواطن العربي الفرد، وتغاضي الشعوب ذاتها عن كثيرٍ من الانتهاكات الصارخة، وكأنها أمورٌ ثانوية لا تستحقُّ سخطًا ولا إدانة!

ثالثًا: إثارة القضايا الكبرى في غير توقيتها

من أخطر مظاهر قصور الوعي التي كشفت عنها أزمة الغزو العراقي للكويت، أن فئاتٍ واسعة في العالم العربي بادرت إلى الربط بين هذه الأزمة وبين مجموعةٍ من القضايا الكبرى التي ظلَّت القوى الوطنية العربية تُكافح من أجلِها عشرات السنين، وهي تعلَم تمام العِلم أن المعركة التي تخوضها طويلة الأمد، يستحيل حلُّها بضربةٍ واحدة. فقد ربطت هذه الفئات أزمة احتلال الكويت بمشكلة فلسطين، وبمشكلة إعادة رسم الخريطة العربية اقتصاديًّا وسياسيًّا، وبمشكلة الكفاح الطويل الأمد ضد الإمبريالية العالمية. وما إن لوَّح لهم المُعتدي، بقصد التغطية على عدوانه، بأن هدفه الحقيقي لم يكُن إلَّا حل هذه المشكلات الكبرى حتَّى صدَّقوه، وخرجت مظاهرات في بلدانٍ شتَّی تُصفق لجريمته.

لقد كانت الخدعة واضحةً وضوح الشمس، ومع ذلك لم يُحاول أحد استخدام عقله في كشفها. وكان الموقف مُضحكًا ومبكيًا في آنٍ معًا. فقد أشعل مجنون النار في بنايةٍ مكتظة بالسكَّان، ثم وقف يخطب في هؤلاء السكان قائلًا إن المُهم في هذه اللحظة ليس مكافحة الحريق المُشتعل، وإنما ينبغي مكافحة ظلم أصحاب البِنايات لمُستأجريها، والعمل على تعديل قانون إيجار المساكن، ولوم الدولة على إهمالِها في توصيل الماء والكهرباء إلى المنطقة، فكانت النتيجة أن نَسِي السكَّان واجبهم في إطفاء الحريق، ووقفوا يُصفقون لِمن أشعله!

إن القضايا الكبرى التي تُثار في هذه الأيام وتُربَط قسرًا بمسألة الغزو العراقي للكويت، هي بغير شكٍّ قضايا حيوية، كانت موضوعًا لكفاحنا منذ أمدٍ طويل، وسنظلُّ نكافح من أجلها طوال حياتنا وحياة أبنائنا، وربما أحفادنا. وليس من حقِّ أحدٍ أن يُزايد على غيرِه من المواطنين في أمورٍ مثل التصدِّي للإمبريالية واسترداد الحقوق الفلسطينية وإصلاح الأوضاع العربية سياسيًّا واقتصاديًّا. ولكنَّ المسألة كلَّها تنحصر في أمرَين؛ هل التوقيت المناسب لحلِّ هذه المشكلات هو تلك الجريمة الشائنة التي ارتكبَها العراق في حقِّ أشدِّ البلاد تعاطفًا وتأييدًا له، والتي أثارت عليه سخط العالم كله، وليس الغرب الإمبريالي فقط؟ وهل الشخص المناسِب لقيادة أُمتنا في حلِّ هذه القضايا أو حتى لتحريكها هو رأس النظام الذي ارتكب هذه الجريمة؟ دعونا نتأمَّل هذه القضايا الكبرى واحدةً تلوَ الأخرى كيما نتمكَّن من الإجابة عن هذَين السؤالَين الحيوِيَّين.

(١) القضية الفلسطينية

في رأيي أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قد ارتكبت غلطةَ العمر بتأييدها الصريح لموقف صدام حسين، وتستُّرها المُخجِل، برغم الشَّجب اللفظي، على الغزو العراقي للكويت. وحين أقول ذلك فإني لا أضع في اعتباري الجوانب العملية والنفعية المُتعلقة باحتمال فقدان أكبر مصدرٍ لتمويل المُنظمة، وهو دول الخليج، وتهديد أرزاق مئات الألوف من الفلسطينيين الذين يعملون في منطقة الخليج، على الرغم مِن أن الكثيرين يرَون أن أية حركة تحريرٍ، تُمارس نشاطها في ظروفٍ كتلك التي تعمل فيها المُنظمة الفلسطينية، ينبغي أن تعمل ألف حسابٍ لتلك الاعتبارات المادية العملية. ولكن الخطأ الأكبر في نظري يكمُن في ثلاثة أمور:
  • أولها: أنَّ المنظمة بتستُّرها ودفاعها الضِّمني عن مبدأ احتلال أراضي الغير بالقوة، أو بناءً على أسسٍ تاريخية واهية، وعلى إجراء قوة الاحتلال لعمليات تغييرٍ ديمجرافي (سكاني) جذرية في هذه الأراضي، تؤدي في المدى الطويل إلى إحلال شعبٍ محلَّ شعبٍ آخر، في استعمارٍ استيطانيٍّ لا شُبهة فيه، قد فقدت الحجةَ الكبرى التي تستنِد إليها القضية الفلسطينية في نظر الرأي العام العالمي، وأقرَّت مبدأً يمكن أن تستغلَّه إسرائيل لهدْم الحق الفلسطيني في الأرض والوطن من أساسه.
  • وثانيها: أن القضية الفلسطينية بدأت تفقد سندًا معنويًّا كبيرًا لدى الشعوب العربية التي ترى ألوف الشبَّان الفلسطينيين وهم يهتفون تأييدًا لزعيمٍ استباح لنفسه بلدًا بأكملِه، وأعملَ فيه السلب والنهب والتقتيل على طريقةِ هولاكو، ويصرخون مؤكدِّين أنهم يَفدونه بالروح والدم، وترى الوعي الفلسطيني الذي ظللنا طويلًا نعدُّه نموذجًا عربيًّا متقدمًا، بل نعدُّه الوعيَ الرائد والقائد للحركة الوطنية العربية كلها، ينحدِر إلى هذا المستوى المؤسِف.
  • وثالثها: أن الزعيم الذي يفعلون من أجلِه هذا كلَّه لا يضع فلسطين على جدول أعماله أصلًا، وإن لم يكن يكفُّ عن التغنِّي بها على المستوى الخطابي؛ فقد كانت الأرواح والأموال الهائلة التي أُهدرت في الحرب الإيرانية أبلغَ دليلٍ على أن الزعيم، الذي يفتديه فلسطينيو اليوم بالروح والدم، على استعدادٍ للنضال في أي مكانٍ ما عدا أرض فلسطين. وكان سكوته على صفعة ضرب المُفاعل في بغداد أبلغَ دليلٍ على أنَّ إسرائيل لا تدخل ضِمن بنود كفاحه، وكان هجومه على الكويت والْتهامه إيَّاها، بعد أن أنذر العالم بالقضاء على نصف إسرائيل بالأسلحة الكيماوية، دليلًا على أن البلاغة والفصاحة تفعل في عقولنا فِعل السحر، وعلى أن أصحاب القضية أنفسهم قد خدعتهم الألفاظ البراقة، ولم يُكلفوا أنفسهم عناء المُطالبة بأفعالٍ تُبرِّر تصديقهم لهذه الأقوال.

(٢) إعادة رسم الخريطة السياسية والاقتصادية للعالم العربي

ما مِن شكٍّ في أن الهيكل الحالي للعالم العربي ينطوي على ضروبٍ من التفاوت والتبايُن، لا ينبغي قبولها من وجهة النظر الساعية إلى تحقيق مُستقبل أفضل للشعوب العربية. فهناك تفاوتات هائلة وغير عادلة في الثروة، وفي الحجم السكاني، وهناك تجزئة وتفرقة خلَق بعضَها الاستعمار، وخلقت بعضها الآخر الأنانية والعصبية القبلية أو الطائفية — هذه حقيقةٌ لا سبيل إلى الشكِّ فيها. ولكنَّ الاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني على الإطلاق التسليم بأنَّ في وسع أي مُغامر لا مبدأ له أن يعمل على إلغاء هذا التفاوت بالقوة الغاشمة، وبأشد الأساليب وحشية؛ فلم تقُم وحدة قومية في أي مكانٍ على سطح هذه الأرض بأساليب مُماثلة لتلك التي استخدَمها صدَّام حسين في عملية ضمِّه الخانق للكويت. وعلى كل فلاسفة الوحدة العربية الذين كانوا أقوى مؤيدي الرئيس العراقي من قبل، والذين أشبعُونا مؤتمراتٍ وندواتٍ وكتبًا ومجلات، أن يردُّوا الآن على هذا السؤال الحاسم: هل هذا نموذج للوحدة يُمكن احترامه، ويمكن أن يكون مقدمةً للوحدة العربية الشاملة؟

لقد بدأ النزاع الأخير بين العراق والكويت لأسبابٍ مادية خالصة؛ جزيرة هنا، وبئر بترول هناك، وأموال ضخمة يُراد الحصول عليها على سبيل التعويض. لم تبدأ الأزمة أبدًا على شكل خلافٍ سياسي أو أيديولوجي على الوحدة، ولم يُشِر أحد إلى فكرة الضمِّ أو إلى الحقوق التاريخية، بل كانت القضية كلها قضية أموالٍ وأطماع. وحين قاوَم الطرف الآخر، بدأ الغزو، واختُلِقت مسرحية الحكومة المؤقتة، ثم أُعلنت الوحدة، وأصبحت الكويت جزءًا من العراق، فسار الألوف في الشوارع العربية مُبتهِجين بهذه النواة الأولى للوحدة، التي ستقضي على الكيانات الصغيرة، وعلى الحدود المُصطنعة التي رسمَتْها دول الاستعمار.

أية وحدةٍ هذه، وأي نموذج بائس يُراد لنا أن نقتدي به، إذا كان النظام العراقي لم يجِد كويتيًّا واحدًا يقبَل التعاون معه في حكومته الهزلية، وإذا كان الشعب الكويتي وعلى رأسه المُعارضة التي بنى صدام حسين حساباته على أساس أنها ستستقبِل قواته الغازية بالأحضان، يرفضون جميعًا ذلك الاندماج ويُقاومونه بكل ما أُوتوا من قوة؟ هل يحقُّ للوحدوِيِّين أن يفرحوا بذلك الاندماج الذي قام على السلْب والنهب، والذي أطلق سراح السُّجناء كيما يسرقوا كل ما تطالُه أيديهم، وأغرى القوات الغازية بالأسلاب والغنائم وربما السبايا؟ هل سيكون هذا هو النموذج الذي يُعاد على أساسه رسم الخريطة العربية؟

إن الأوضاع العربية، كما قُلنا، تحتاج إلى إعادة نظرٍ جذرية، ولكن المعركة طويلة، والحركة الوطنية تكتسِب كلَّ يومٍ خبراتٍ جديدة. ولو اتخذْت من الكويت مثلًا لقُلنا إن حوارًا طويلًا ظلَّ يدور بين الحكومة والمُعارضة منذ عشرات السنين، وكان هادئًا حينًا وساخنًا حينًا آخر. غير أن هذه أمور لا تُحسَم في يومٍ وليلة، ولا بد أن يؤدِّي البحث المُستمر والتحرُّك الواعي إلى صِيَغ أفضل. ولكن من المؤكد أن القدرة على التعبير السياسي والفكري، والحرية في الممارسة، كانت في هذا البلد الصغير أفضلَ ألف مرة مما هي عليه في عراق صدام. فهل يسعى الهاتفون للوحدة والمُتحمسون لتعديل الخريطة العربية، إلى ذلك النوع من الضمِّ الذي يقمع بلدًا مستنيرًا من أجل نظامٍ فرديٍّ مُغلق بسبعة أختام؟ وإذا كنَّا نعترف بأن هناك إمكانات هائلة لإعادة توزيع الثروة العربية على نحوٍ أفضل وأجدى نفعًا للجميع، فهل يكون الأسلوب الذي تتمُّ به إعادة التوزيع هذه هو الاعتداء الوحشي والقضاء على نمط حياةِ شعبٍ مُسالم بقسوة وفظاظة وانتقامٍ وكراهية؟

دعونا نُفكر بهدوءٍ في قصة إعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء. لقد تصوَّر الكثيرون، في غمرة الأحداث الأخيرة، أن العراق بلدٌ فقير قدَّم تضحياتٍ كبيرة، بينما الكويت بلدٌ مُتخم بالثروة، لا يقبل التنازل عن شيءٍ لجاره المحتاج. وعلى هذا الأساس صفق هؤلاء للغزو، بوصفه شكلًا من أشكال إعادة العدل إلى نصابه. ولكن الأمر الذي نسِيَه هؤلاء هو أنَّ العراق من أكبرِ البلاد البترولية، وأنه، في تصنيف الدول العربية على أساس الثروة، يدخل قطعًا في فئة الأغنياء، وكلُّ ما في الأمر انه ابتُليَ بنظامٍ بدَّدَ ثروته الطائلة في مغامراتٍ طائشة.

كانت أكبر هذه المغامرات بالطبع هي الحرب العراقية الإيرانية. وإذا كنَّا قد سكتنا طويلًا عن تحديد المسئولية عن هذه الحرب، بدافع الإرهاب الفكري الذي كان سائدًا خلالها، فإن الغزو العراقي للكويت، وفضيحة مبادرة الصلح الأخيرة مع إيران، تُعفينا الآن من السكوت؛ فقد كان صدام هو الذي وقَّع معاهدة الجزائر في عام ١٩٧٥م مع شاه إيران، وتنازل بمُقتضاها عن مواقع استراتيجية لإيران. وعندما قامت الثورة الإيرانية، وتفكك الجيش الإيراني وفقد مصادر تسليحِه وتزويدِه بقطع الغيار، شعر صدام بأن الفرصةَ سانحة لكي يوجِّه ضربته. وحين قِيل له: لقد كنتَ أنت الذي وقَّعت معاهدة ١٩٧٥م بمحض اختيارك، فكيف تُلغيها الآن، وتُعلن الحرب من أجلِها؟ كان ردُّه: لقد وقَّعت عليها لأن جيش الشاه كان قويًّا، أما الآن وقد أصبح جيش الثورة الإيرانية مُهلهلًا، فلماذا لا أستغل ذلك لمصلحتي؟! وكان الفصل الثالث من هذه الدراما الأليمة، هو عودة صدام، منذ أيام قلائل، إلى قبول معاهدة ١٩٧٥م، بحجَّة تأمين الجبهة القديمة والتفرُّغ للجبهة الجديدة. وهذا الفصل الأخير يُمثل، في رأيي، فضيحةً من أكبر فضائح القرن العشرين، ودرسًا بليغًا ينبغي أنْ يُفكر فيه مؤيدو صدام مليًّا:

  • (أ)

    فقد كان ذلك اعترافًا صريحًا بأنَّ حرب السنوات الثماني، بكل ما فيها من دمارٍ بشري ومادي، وخرابٍ اقتصادي ومعنوي، لم يكن لها داعٍ، وكان إعلانًا صريحًا للعراقيين بأنَّ تضحياتهم وتضحيات شُهدائهم ومُشوَّهيهم قد ذهبت عبثًا.

  • (ب)

    وفي الوقت ذاته كان صدام يتخلَّى، بإعلانه هذا، عن كل مَن ساندَه من القومِيين في كافة أرجاء العالم العربي — أولئك الذين ظلُّوا طوال سنوات الحرب يمنعون أي إنسانٍ من التشكيك في دوافع هذه الحرب وجدواها، ويقدِّمون — في بلدان الخليج بالذات — كلَّ مساندة معنوية ومادية للطرَف العربي في هذه الحرب، بغضِّ النظر عن اعتبارات الحقِّ والباطل. ولا جدال في أن هؤلاء قد أُصيبوا اليوم بالذهول وهم يرَون صدام يتنازل للطرف «الفارسي» ويستسلِم أمامه استسلامًا مُهينًا، لكي يستدير للدفاع عن مغامرته الجديدة، ولابتلاع غنيمتِه التي هي، للأسف، غنيمة «عربية»!

  • (جـ)

    ويُقدِّم صدام بهذا الإعلان صورةً نموذجية للدكتاتور الفرد، الذي ينتقل من مغامرةٍ إلى مغامرة دون أن يُحاول ستْر تقلُّباته بأيِّ مبدأٍ حتى لو كان زائفًا؛ فقد بدأت الحرب الإيرانية، في الواقع، حين استشعر خطرًا على نظام حُكمِه من الإعلام الإيراني الذي كان يُحرض العراقيين على قلْب نظام حكمِه بقدْرٍ كبيرٍ من النجاح. ومن وجهة النظر هذه يكون من الخطأ وصْف هذه الحرب بالعُقم وعدم الجدوى، لأنها قد حقَّقت في الواقع هدفًا له عنده الأولوية على كل شيء، وهو المحافظة على نظامه. ولا يُهم، في سبيل ذلك، أن يُقتَل مليون إنسانٍ وتُهدَر مئات المليارات ويُخرَّبَ اقتصادُ منطقة بأكملها لعقودٍ طويلة. وما دامت هذه الحرب قد أدَّت الآنَ مُهمتها، فلا بأس من الشطب عليها بجرَّة قلَمٍ حين تبدأ مغامرةٌ جديدة، لها نفس الهدف، وهو المحافظة على حُكمه، من خلال حلِّ أزمتِه الاقتصادية الخانقة على حساب شعبٍ آخر.

  • (د)

    والفضيحة الكبرى في هذا الإعلان الأخير، هي أنه اعتراف صريح ببُطلان الحجة التي كان يتذرَّع بها في غزو الكويت؛ فقد كان الزعم هو أنه ظلَّ يعاني طويلًا في الدفاع عن «البوابة الشرقية» للعرَب ضدَّ عدوان الفرس، وأنَّ دول الخليج ينبغي أن تُساعده في التغلُّب على مُعاناته. ولكن، ها هو ذا يُسلِّم بكلِّ ما كان «الفرس» يُطالبون به من قبل، ويترك «البوابة الشرقية» على ما كانت عليه قبل الحرب، فعلى أيِّ شيءٍ إذن يُريد أن يتقاضى الثمن؟

  • (هـ)

    وأخيرًا فمن المؤسِف حقًّا أن يتقبَّل المتظاهرون ومن يزوِّدونهم بالتبريرات والحُجج، فكرةَ «تقاضي ثمن الحرب» من صدام حسين، بعد أن رفضوها رفضًا قاطعًا من أنور السادات، مع أن الأخير كان لدَيه، على الأقل، عُذر أقوى للمطالبة بالتعويض؛ فصدام حسين يُريد أن يتقاضى ثمن حرب شنَّها ضد دولةٍ إسلامية لم تبدأه العدوان، على حين أن السادات كان يُطالب العرب بتحمُّل نفقاتِ حروبٍ عديدة شنَّتها مصر ضدَّ عدوِّهم التاريخي. ومع ذلك فقد اكتفى السادات بالتحريض الدعائي ضد بقية الشعوب العربية، وأوهمَ شعبه، على المُستوى الخطابي وحدَه، أنَّ هذه الشعوب تسبَّبت في مُعاناته الاقتصادية، ولم تمُد يدَها إلى مصر رغم أنها خاضت كلَّ هذه الحروب مِن أجلها. أما صدام فقد قرَّر أن يكسر الأبواب، ويفتح الخزائن، كيما يتقاضى ثمن حربٍ مشكوكٍ في دوافعها.

ولو كان هذا المنطق مشروعًا — وأنا لا أعتقد أبدًا أنه كذلك — لكانت مصر أحقَّ بأن تغزو جيرانها، لأن تضحياتها كانت أطولَ مدًى، ومُبرراتها كانت أشرفَ بكثير.

خلاصة القول أن تلك الجموع المتظاهرة، تأييدًا للغزو العراقي، قد خدعت نفسها خدعةً كبرى حين تصوَّرت أن هذا الغزو محاولة من دولةٍ فقيرة لاسترداد حقِّها بالقوة من دولة مُتخمة بالثراء. فحقيقة الأمر أن الدولة الغازية غنية، وأن ثروتها لم توجَّه من أجل إحداث نهضةٍ وطنية شاملة في إطار ديمقراطي إنساني، وإنما بُدِّدت في مغامرات عقيمة هوجاء، لا هدف لها سوى الإبقاء على كرسي الحكم لمُغامر أهدرَ موارد بلاده من أجل أهدافٍ تنتمي إلى ميدان العبث واللامعقول. ومهما وَجَّهتَ إلى بلاد الخليج من اتهاماتٍ بتبديد الثروة النفطية وإنفاقها بطريقةٍ سفيهة — وهي اتهاماتٌ يعترف بها معظم مُثقفي هذه البلاد ذاتها — فإن السفهَ والتبديد مُشترك بين الطرفَين، وكل ما في الأمر أن أحدهما يُبدِّد ثروة بلاده في الاستهلاك وشهوة الامتلاك، والآخر يُبددها في مغامراتٍ عسكرية جنونية، واحتفالاتٍ استعراضية مُكلفة، ومهرجاناتٍ دعائية باذخة، فضلًا عن ممارسة كل أشكال التبديد التقليدية التي اشتهر بها أغنى أغنياء النفط.

خلاصة القول أن الوضع العربي ليس مثاليًّا على الإطلاق، وهو حافل بمظاهر الاختلال التي تصرُخ مُطالبةً إيَّانا بالتغيير. وهذه معركة طويلة، خاضتها القوى الوطنية وستظلُّ تخوضُها عشرات السنين. غير أن الأمر المؤكد هو أن النظام العراقي ليس هو المؤهَّل لإحداث هذا التغيير، بل إنه هو ذاته على رأس الأنظمة التي ينبغي أن تجعل منها الحركة الوطنية العربية هدفًا للتغيير.

(٣) قضية إسرائيل والإمبريالية العالمية

من أقوى الدوافع التي جعلت الجماعات المؤيدة للعراق تتَّخذ هذا الموقف، اعتقادها بأن النظام العراقي هو وحده القادر، بجيشه الضخم المُدرب، على التصدِّي لإسرائيل ومواجهة الإمبريالية العالمية، بدليل أنه هو الوحيد الذي وجَّه رئيسه تهديدًا صريحًا إلى إسرائيل بإفناء نصف سُكانها، وهو الذي أرغم الإمبريالية على أن تحشد في مواجهته أكبر قوة عسكرية لها منذ حرب فيتنام. فإلى أي حدٍّ يصمد هذا الاعتقاد للنقد والتحليل؟

إن إسرائيل لم تُصَب بطلقة رصاص واحدة، حتى اللحظة الراهنة، من ترسانة السلاح العراقية الجبارة. وحتى عندما وجهت إلى النظام العراقي إهانةً كبرى بتدميرها مفاعله النووي في قلب عاصمته، سكت هذا النظام وكأنَّ هذا الأمر لا يَعنيه. أما التهديد بإفناء نصف إسرائيل بالأسلحة الكيماوية، فأغلب الظنِّ أنه كان محاولة لكسب شعبيةٍ واسعةٍ بين الجماهير العربية، تمهيدًا لغزو الكويت الذي كان النظام العراقي يُخطط له منذ وقتٍ ليس بالقصير.

ولقد كانت إسرائيل، ومعها الإمبريالية العالمية، أكبر المُستفيدين من الحرب العراقية الإيرانية، بل إن الكثيرين يؤكدون أنهم شاركوا في التحريض عليها، ثم تصعيدها بتقديم أسلحةٍ لطرفَيها معًا. ولا جدال في أن تبديد الطاقة البشرية والموارد العربية والإسلامية في حرب طاحنة، وإيقاف التنمية بكل أشكالها في هذه المنطقة من العالم إلى أجلٍ غير مُسمَّى، هو أعظم خدمة يمكن تقديمها لأعداء الأمة العربية. فكيف يُصدق المثقفون العرب والجماهير التي تهتف من ورائهم، أن النظام الذي يُحقق للإمبريالية كل هذه الأهداف على حساب نهضتها الحقيقية، هو المؤهَّل لمواجهتها؟

إن وجود القوات الأمريكية بأعدادٍ كبيرة في بلدٍ عربي هو بغير شكٍّ كارثة، ولكن الاعتقاد بأن الإمبريالية العالمية تُهدد أمانينا القومية بهذا الوجود وحدَه إنما هو وهم كبير؛ فقد أعطينا هذه الإمبريالية فرصة التحكُّم في شئوننا بطرُق أخرى عديدة، قبل وقتٍ طويل من السماح لها بالمُرابطة في أرضنا. لقد تركنا الإمبريالية تتمكَّن منَّا منذ أن عجزنا عن تنمية بلادنا تنميةً مستقلة، ومنذ أن اضطهدنا القوى الوطنية المُعادية لها، وكتَمنا أنفاسها، ومنذ أن أخفقنا في إقامة أنظمة حكمٍ ديمقراطية تكفُل للمواطن حُريته وتصون كرامته، ومنذ أن عجزنا عن إنتاج غذائنا بمستوًى يكفينا شرَّ «سؤال اللئيم». إن هيمنة الإمبريالية علينا قائمة بالفعل قبل نزول قواتها بوقت طويل، وما عملية الإنزال هذه إلا شكلٌ واحد من أشكال هيمنةٍ فرضَت نفسها علينا لأسبابٍ عميقة الجذور، كان من أهمها وجود نظم استبدادية تدوس المؤسَّسات بأقدامها من أجل تمجيد فردٍ واحد.

وفي هذه الحالة بدورها، ينبغي أن يُدرك المتظاهرون المُتشنجون أن المعركة طويلة، وأن أهم شروطها هو أن تخوضها بلادنا بعد أن تتحرَّر من الإرهاب الداخلي لطُغاةٍ لا يعرفون من أنواع الكفاح إلا ما يحفظ لهم تسلُّطهم على شعوبهم حتى آخِر لحظةٍ من حياتهم.

الأهرام
٢٥ / ۸ / ۱۹۹۱م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥