لعبة العراق الخطرة
كان الخطر الأكبر الذي ارتكبه النظام العراقي، بالمقاييس الاستراتيجية، هو أنه اقتحم ساحة النفط بعُنف، وبغير استعداد. فلعبة النفط أخطر اللعبات الدولية على الإطلاق، وكل إنسانٍ لديه حسٌّ وطني، في بلدان العالم الثالث، يتمنى، بطبيعة الحال، أن تكون ثروات هذه المنطقة من العالم موجهةً نحو خدمة أهداف التنمية والنهوض فيها، لا نحو خدمة اقتصاد البلاد التي نُسميها الآن مُستغلة، وكنَّا مِن قبل نُسميها استعمارية. غير أنَّ معركة بلاد العالم الثالث من أجل التحكُّم في سلعها الاستراتيجية معركة شديدة الصعوبة والتعقيد، وإذا خاضها أي بلدٍ دون أن يُجري حساباتٍ غاية في الدقة، ويعقد تحالفات غاية في البراعة، ويُنفذ سياسات غاية في الذكاء، فإنه يتعرَّض لردِّ فعل كاسح من العالم الصناعي، الذي يعد البترول شريان حياته.
ومشكلة النظام العراقي أنه دخل هذه المعركة دون أن يقوم بأية حساباتٍ دقيقة، بل إنه لم يقصد أصلًا من المعركة أن تكون حركةً تحريرية تسعى إلى حرمان الدول الكبرى من هيمنتِها المُطلقة على سلعةٍ استراتيجية، وإنما خاضها من أجل أطماع صغيرة، وكحلٍّ وقتيٍّ لمُشكلاتٍ وأزمات خلقتها سياستُه المغامِرة. وهكذا وجد نفسه وسط ملعب الكبار دون أن يُهيئ نفسه لذلك، وتصوَّر أن جوَّ السلام والتهدئة الذي أشاعته العلاقات الجديدة بين المُعسكرَين العالمِيَّين سيُتيح له أن يظفر بغنيمته الجديدة بعد فترةٍ من الضجيج والاحتجاج اللفظي. غير أن جوَّ التهدئة هذا قد انقلب على من مارس هذه اللعبة الخطرة دون استعداد؛ إذ إن الشرق والغرب قد اتَّحدا في إدانته، وفي مُحاصرته بدلًا من أن يتهاونا معه كما كان يتوقَّع في البدء.
وعندما تبيَّن أن اللعبة خطرة بالفعل، وأنها تجاوزت خطوطًا حمراء تضعُها قوًى عاتية في عالمٍ مرتكزٍ على توازُناتٍ دقيقة (وهو عالَم نستنكِر الأسس التي يقوم عليها ولكن لا مفرَّ لأحدٍ من أخذها في الحسبان إذا شاء أن يُفكر تفكيرًا سياسيًّا متزنًا)، لم يجد اللاعب المُتهور ورقةً يواصل بها لعبته سوى ورقة الرهائن. ولأوَّل مرة نجد دولةً كاملة (لا مجرد فردٍ أو منظمة متطرفة) تعترِف بأنها احتجزت رعايا دولٍ أخرى لكي تصدَّ عن نفسها عدوانًا تتوقَّعه نتيجةً لسياستها الخرقاء. وتمرَّغت سُمعتنا كعربٍ في الوحل، إزاء هذا العمل الذي ينطوي، بالمقاييس المُتعارف عليها لدى الرأي العام العالمي، على قدْر كبير من النذالة. صحيح أننا نردُّ على الاحتجاجات العالمية — ولنا كل الحق في هذا الرد — بقولنا: وأين كنتم عندما انتُهكت حقوق الفلسطينيين وشردوا وهُدِّمت بيوتهم؟ غير أن أقصى ما يَعنيه هذا الرد هو: إذا كان احتجاز الرهائن نذالة فلدَيكم أيضًا نذالاتكم الكثيرة؛ وهذا لا يُشكل دفاعًا حقيقيًّا، بل هو في الواقع اعتراف بأن في الأمر خطأً فادحًا، يقِف إلى جوار أخطاء الآخرين التي كنَّا، وما زِلنا، نستنكرها بكل قوة.
وخطورة هذه الورقة التي يعُدُّها النظام العراقي أهم أوراقه الحالية، تكمُن في أنها قابلة للامتداد، مع الوقت، إلى جميع الرعايا الموجودين في الكويت والعراق وضِمنهم مليونان من المصريين.
وأغلب ظني أن الأمور إذا تأزَّمت ووصلت إلى حد المواجهة المسلحة فسوف يكون مصير المصريين العامِلين في العراق أسوأ من مصير الأمريكيين والإنجليز. وعندئذٍ لن تنفع الحجة التي تشير إلى النفاق الأخلاقي للدول الكبرى من أجل تبرير مسلك النظام العراقي، لأن الأمر سيكون متعلقًا بمدنيين ينتمون إلى دولة شقيقة، ولم يكن لهم من هدفٍ سوى تعمير العراق.
ولكنَّ اعتراضي الأكبر على اللعب بورقة الرهائن، سواءً أكانوا غربيين أم مصريين، هو: إذا كان النظام العراقي لم يجِد في نهاية الأمر ما يُدافع به عن نفسه سوى أن يضع المدنيين العُزَّل الأبرياء في المواقع التي يخشى عليها من غارات الأعداء، فلماذا أقحم نفسه أصلًا في هذه اللعبة التي لا يقدِر عليها؟ وأي نوع من التخطيط هذا الذي يبدأ بتحدي العالم كله من خلال العدوان على دولةٍ صغيرة مُسالمة، واقتحام الخطوط الحمراء في عالم النفط المَحفوف بالأخطار، ثم يتمخَّض الجبل فيلد فأرًا، وينتهي الأمر بمن يُريد مصارعة العالَم إلى الاختباء وراء أجساد النساء والأطفال؟
•••
على أنه، إذا كان النظام العراقي قد اقتحم، على المستوى العالمي، ميدانًا لا يقدِر عليه، ولم يُخطط له إلَّا بطريقةٍ ارتجالية تفتقِر إلى الذكاء بقدْر ما تفتقر إلى الإنسانية، فإنه قد فعل ما هو أسوأ من ذلك على المستوى العربي؛ فقد فجر ذلك الغزو نزعاتٍ كان ينبغي أن تظلَّ مكبوتة إلى أن تتلاشى مع الزمَن ومع ارتفاع مستوى الوعي العربي، ولكن هذا الغزو أهاج أقبحَ ما في علاقة العربي بالعربي، وصعَّد إلى السطح ضروبًا من العصبية البغيضة كان الوعي العربي يسعى بكل طاقته إلى الارتفاع فوق مستواها.
ولنضرب لذلك مثلًا ملموسًا: فقد كان هناك تيار لا يُستهان به في مصر يؤكد، في كل المناسبات، أن الفلسطينيين هم أصل الأزمات التي حلَّت بنا، وأننا حاربنا وفقدْنا ألوف الشهداء ومليارات الجنيهات من أجلِهم، مع أنهم هم الذين باعوا أرضهم لليهود، وأصبحوا في بلادنا مليونيرات … إلخ. ولقد كان إسكات هذا التيار، الذي دعمته الفترة الساداتية عمدًا، يحتاج، من القوى الوطنية المُستنيرة، إلى جهدٍ كبير. وبالفعل ظلَّت هذه القوى على مدى عشرات السنين تدافع وتشرح وتوضِّح، إلى أن نجحت في تخفيف حدَّته. وكانت الانتفاضة بغير شكٍّ عاملًا حاسمًا في استعادة تعاطف الشارع المصري مع القضية الفلسطينية، وكشف زيف تلك المزاعم الملفقة.
غير أن موقف القيادة الفلسطينية من أزمة الكويت، والمظاهرات الضخمة التي أبدت فيها الجماهير الفلسطينية، في الداخل والخارج، تحمسًا شديدًا لسلوك صدام حسين (وهو ما أوضحت رأيي فيه تفصيلًا في غير هذا الموضع) قد أعادت هذا التيار إلى الظهور بكل قوة. وبدأ الناس يتداولون قصصًا كثيرة عن مشاركة الفلسطينيين للجنود العراقيين في عمليات النَّهب والاغتصاب، وعن الهوان الذي يُذيقونه للمصريين العائدين عن طريق الأردن … إلخ. وقد يكون الكثير من هذه الروايات مُلفقًا أو مبالغًا فيه، ولكن المُهم أن الظروف تتضافر الآن لعودة موجةٍ شديدة من عدم التعاطف مع الفلسطينيين كشعب، لا في مصر وحدَها، بل في بلادٍ أخرى، قد يكون أقواها تأثيرًا دول الخليج، لأنها هي التي تضطلِع بنصيبٍ كبير في تمويل الفلسطينيين وتوظيفهم. وإذا كان الغزو العراقي للكويت قد سرق الأضواء من الانتفاضة، وأبعد الأنظار عن ممارسات إسرائيل القمعية، وأرسى مبدأً شديد الضرَر بالقضية الفلسطينية، وهو مبدأ احتلال أراضي الغير بالقوة، ومحو هوية مجتمعٍ كامل رغمًا عن إرادة أهله؛ فإن هذا الغزو، بما فجَّره من مشاعر مكبوتة، سيُحدث تأثيرًا يظلُّ ممتدًّا لوقتٍ طويل، في موقف رجل الشارع العادي من الفلسطينيين وقضيتهم.
وينطبق هذا أيضًا على العلاقات بين شعوبٍ عربية كثيرة. فقد اعتدْنا القول إن المشاكل بين العرب تكمُن في الحكومات، وإن الشعوب ذاتها لا تحمِل تجاه بعضها البعض إلا مشاعر الإخاء، ولكني أشكُّ كثيرًا في أنه سيكون من المُمكن التفاهُم لوقتٍ طويل بين الإنسان العادي في مصر أو الخليج أو سوريا، وبين الإنسان العراقي أو الأردني، بعد ما حدث أثناء الاحتلال أو في رحلات الهروب المُفزعة. وإذا كان كثير مِن المنظِّرين يُعللون هذا الانقسام بأنه ثورة الفقراء العرَب على الأغنياء، فكيف نُفسر القسوة التي يتعامل بها الأردنيون، مثلًا، مع مواطنين مصريين أشدَّ منهم فقرًا، دخلوا بلادهم وهم على شفا الموت جوعًا وعطشًا؟
لقد كسر الغزو العراقي قشرة التحضُّر في السلوك العربي، وكشف عن جوانب مُظلمة في العلاقات بين البشَر أنفسهم، وهدم جهودًا ظلَّ قادة التنوير في العالم العربي يبذلونها عشرات السنين، من أجل إذابة العصبية السوداء ومحاولة صهْر العرب في بوتقةٍ واحدة من التحضُّر والتفاهُم والنضال في سبيل أهدافٍ نبيلة مشتركة.
•••
ولكن هذه لم تكن القشرة الوحيدة التي كسرها ذلك الغزو؛ فقد كشفت ردود الفعل عليه عن انقسامات حادة في الجماعات ذات الأيديولوجية الواحدة، يرمز لها بوضوح وسط جماعات اليمين واليسار، ذلك الخلاف الواضح حول ترتيب الأولويات في حلِّ الأزمة الراهنة، وهل يكون التركيز على المُطالبة بانسحاب العراق من الكويت أم على المُطالبة بانسحاب القوات الأجنبية من الأراضي السعودية. غير أنَّ الانقسام الأخطر هو ذلك الذي حدث في التيار الإسلامي؛ فقد انشقَّت جماعات لها وزنُها، يُمثلها محمد سليم العوَّا وعبد الحكيم الشافعي ومحمد حسن درة، فضلًا عن المُسلمين «المُستقلِّين» الذين يُمثلهم فهمي هويدي، انشقَّت عن التيار الرئيسي للإخوان المُسلمين وحزب العمل، واتَّخذت موقفًا يُدين الغزو العراقي إدانةً صريحة، بعد أن عمل التيار الرئيسي على تبرير هذا الغزو، وتمييع القضية، وإن كان بعد ذلك قد بدأ يتراجع وتظهر عليه علامات حيرةٍ لا يُحسَد عليها.
وإذا كان انقسام اليسار مفهومًا، لأن اليساريين على أية حالٍ يعرضون آراءهم بوصفِها اجتهاداتٍ بشرية يجوز فيها الاختلاف، فإن انقسام الإسلاميين ذو دلالةٍ بالغة؛ ذلك لأن كلَّ فريقٍ يدعم رأيه بآيات قرآنية وأحاديث نبوية على نحو يُوحي بأن هذا هو «رأي الإسلام» أو بعبارةٍ أخرى حُكم الله المستمَد من شريعته، ومع ذلك يصِل الطرفان إلى رأيين متناقضَين. ولا يملك أمثالنا إزاء هذا التناقُض إلا أن يستخلصوا منه العِبرة؛ فها هو ذا موقف عملي شديد الخطورة على مُستقبل الأمة الإسلامية كلها، تختلف فيه مواقف أنصار تطبيق الشريعة اختلافًا جذريًّا، مع أن كلَّ طرف قد استند إلى النصوص الإلهية.
أليس هذا نموذجًا للتخبُّط الذي يمكن أن يُصيب المجتمع لو تحقَّقت أُمنية التيار الإسلامي وطُبقت الشريعة في عالمنا العربي كله؟ ألن تظلَّ الانقسامات قائمة، حتى في الأمور الأساسية والمواقف المصيرية، دون أن يتمكن من إزالتها احتكام الجميع إلى نصٍّ إلهي واحد؟
لقد قلنا مرارًا وتكرارًا إن الإنسان هو الذي يوجِّه النصوص، وليست النصوص هي التي توجِّه الإنسان، وإن الاختلافات «البشرية» ستظلُّ على أشدها في ظلِّ «الحاكمية الإلهية»، ما دام كل إنسانٍ يُفسر الحكم الإلهي تبعًا لتكوينه الفكري، ومصالحه وظروفه، وبذلك يعود الخلاف البشري، والضعف البشري، اللذان يريد الإسلاميون تجاوُزهما بتطبيق الشريعة، يعودان إلى الظهور حتَّى في ظلِّ أشد أنواع الحكم الإسلامي تمسكًا بحَرفية النصوص، وها هي ذي المواقف والمآزق الكبرى التي تواجِه أُمتنا في الواقع العملي تُثبت صحَّة ما نقول.
وعلى أية حال، فقد يكون الكشف عن هذه الحقيقة هو الحسنة الوحيدة للجريمة الكبرى التي ارتكبها النظام العراقي بغزوِه للكويت!
۲۹ / ۸ / ۱۹۹۰م