نظام عربي … أم لا نظام؟!
يتحدث الجميع عن النظام العربي في هذه الأيام، وهم يؤكدون أن هذا النظام قد لحِقته أضرار بالِغة من جراء الغزو العراقي للكويت؛ الذي هدم كثيرًا من ثوابته المُستقرة.
وهم يرَون أن إطار العلاقات العربية، كما يُحدده ميثاق الجامعة العربية — التي هي المظلة الكبرى والشاملة للعرب — وكما تُحدده مواثيق المجالس العربية الثلاثة المُنبثقة عن الرابطة الكبرى؛ أعني مجلس التعاون العربي، ومجلس التعاون الخليجي، ومجلس التعاون المغاربي (الخاص بالمغرب العربي)، هذا الإطار قد أصابه شرخ كبير يصعب إصلاحه، من جراء عدوان بلدٍ عربي كالعراق على بلد عربي آخر هو الكويت، الذي هو جاره، وسنده في الحرب الإيرانية، وأقرب الشعوب العربية إليه.
إن المسألة تُعرَض وكأن هناك بالفعل نظامًا عربيًّا، وهذا النظام قد تصدَّع، كليًّا أو جزئيًّا، بعد الغزو العراقي للكويت، والجميع يُسلمون بوجود هذا الشيء المُسمى بالنظام العربي، مع اعترافهم بأنه قد أُصيب في الآونة الأخيرة بمرَض خطير؛ فهل هذه القضية التي يُسلم بها الجميع صحيحة؟ وهل هناك بالفعل شيء اسمه النظام العربي؟
إن من واجبنا، لكي نُجيب عن هذا السؤال، أن نسأل أنفسنا: هل يتحدَّد وجود النظام أو عدم وجوده بتلك الهياكل القانونية التي تشكَّلت خلال العقود الماضية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، مثل بنود ميثاق جامعة الدول العربية، وبنود المواثيق الأخرى، أم إنَّ ما يُحدد وجود نظام مُعين هو التزام أعضائه بجوهر المبادئ المنصوص عليها في المواثيق، بحيث يتكوَّن بالتدريج تُراث متراكِم من الممارسات التي تدعم هذا النظام وتُرسخه وتجعله حقيقة متجسدة؟ إن السؤال هنا أشبه ما يكون بالسؤال المُوازي له، على صعيد البناء الداخلي للمجتمع: هل ما يجعل بلدًا ما مُجتمعًا ديمقراطيًّا هو المواد والبنود الديمقراطية التي يشتمل عليها دستوره، أم ذلك التراث من الممارسات التي تخلق تقاليد ديمقراطية راسخة، وتجعل من المواد الدستورية حقيقةً حية مُعاشة؟ إن إنجلترا تُعد تقليديًّا أقدم بلدٍ ديمقراطي في العالم، ومع ذلك لا يوجَد فيها دستور مكتوب، وكان أساس ديمقراطيتها هو الممارسات المُستمرة والمُتسقة، التي تتحوَّل مع الزمن إلى تراثٍ يستحيل الخروج عنه.
فإذا اختبرنا ما يُطلق عليه اسم «النظام العربي» بهذا المِقياس، فما النتائج التي سنتوصَّل إليها؟
إن أي نظامٍ بين مجموعة من الدول، يُراد له أن يستمر، وأن تكون له أرضية صلبة يرتكز عليها، لا بد أن يُبنى على أسسٍ لا شخصية؛ أعني أن يرتكز على حقائق موضوعية مُتعلقة بطبيعة المنطقة والعلاقات بين شعوبها وحقائق الجغرافيا والتاريخ. ولا بدَّ أن تؤسَّس ممارساته كلها على هذه الحقائق الموضوعية، حتى تتوطَّد دعائمها، أو تكون تحوُّلاتها وتقلُّباتها مفهومة ومُقنعة إذا طرأت عليها تغييرات. هذا هو الحدُّ الأدنى الذي ينبغي توافره في أي نظام تُقيمه مجموعة من الدول المتحضرة. غير أنَّ ما يطرأ على النظام العربي من تحوُّلات وما يتحكم في استمرار عناصر مُعينة منه أو تغييرها، هو في أغلب الأحيان عوامل شخصية خالِصة. ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى تلك الحالات المُتكررة التي تشتعل فيها المنازعات بين دولةٍ عربية وأخرى، دون أن يعرف الناس سببًا حقيقيًّا للنزاع سوى الخلاف بين شخصَي الحاكمَين في هذا البلد وذاك. وتتجلَّى المهزلة في حقيقتها حينما تتطوَّر الأمور، ويقتنع الحاكمان بضرورة التلاقي فتذوب كلُّ الخلافات بين أحضانهما وفي حرارة قبلاتهما، ويظل الشعبان حائرَين؛ لماذا كان الخلاف في البداية، ولماذا انتهى الآن؟
الحاكم والنظام العربي
إن وجود حاكمٍ مُعين بذاته وشخصه، على رأس بلد عربي مُعين، هو الذي يُحدد موقف بلدِه من النظام العربي ككل، وعلاقاته بالبلاد العربية الأخرى، وليس على الإطلاق وجود حقائق موضوعية لا علاقة لها بالأشخاص. ولكي تتضح لنا أهمية هذه النقطة، دعونا نُقارن دور أشخاص الحُكام في تحديد العلاقات بين بلدان السوق الأوروبية المُشتركة. صحيح أن وجود المحافظين في الحُكم في بريطانيا، مثلًا، يُحدد عناصر مُعينة في هذه العلاقات، وقد يختلف موقف بريطانيا من هذه العناصر لو جاء العمَّال إلى الحكم — ولكن حتى هذا الاختلاف لا يرجع إلى «شخص» مارجريت تاتشر أو «شخص» نيل كينوك، وإنما يرجع إلى «سياسة» المحافظين أو العمَّال ومبادئهم المعروفة — وفيما عدا هذا النوع من الاختلافات فإن العلاقات بين الدول التي تكوِّن هذا الشكل من أشكال «النظام الأوروبي الغربي» تظلُّ علاقاتٍ موضوعية خالصة لا يؤثر فيها على الإطلاق شخص الحاكم في أي بلدٍ بعينه.
ولكي تكون ممارسات النظام العربي مفهومة ومُتسقة، فلا بد من أن تُبنى على أسسٍ عقلانية، لا على خطواتٍ ارتجالية يستحيل أن تجِد طريقها إلى فهم أي إنسانٍ يعرف كيف يستخدِم عقله. والأمثلة على ذلك لا حصر لها ولا عدد، ولكن يَكفينا أن نُشير إلى ظهور ما يُسمى بمجلس التعاون العربي منذ حوالي عامَين؛ فإذا قلتَ إن هذا تجمُّع من الدول العربية الفقيرة لمواجهة المجموعة الغنية في مجلس التعاون الخليجي، كان ذلك غير صحيح لأن العراق دولة بترولية غنية (وإن كانت قد بدَّدت مواردها وأصبحت في عداد الفقراء بسبب المُغامرات الطائشة التي يُقحمها فيها حاكمها). وإن قلت إن المجلس قد تكوَّن على أساس التقارُب الجغرافي، صدمَتْك حقيقة التباعُد الهائل لليمن عن بقية بلدان المجموعة. وإن قلتَ إنه يجمع بلادًا جمهورية في مواجهة الملَكيَّات والإمارات الوراثية في الخليج، واجهَتْك حقيقة وجود النظام الملكي في الأردن؛ فضلًا عن أن معظم جمهوريات الدول العربية تكاد تكون وراثية! وربما كانت هناك أُسس أخرى كالقول مثلًا إن هذه المجموعة من الدول هي «ما ليس كذلك» أعني أنها هي المجموعة الباقية بعد تجمُّعَين إقليمِيَّين لهما أساس موضوعي هما مجلس التعاون الخليجي من جهة ومجلس التعاون المغاربي (في مجموعة دول شمال أفريقيا) من جهةٍ أخرى. ولكن حتى هذا الأساس، الذي هو (بطبيعته سلبيٌّ لا يصلح لإقامة نظام عربي فرعي عليه) لا يُفيد في تفسير هذا التجمع، لأنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن تنضمَّ سوريا إليه. وعلى أية حالٍ فإن هذه الحالة الأخيرة تستحقُّ أن تكون نموذجًا آخر للتقلُّبات غير الموضوعية في النظام العربي؛ فبعد وحدةٍ وثيقة بين مصر وسوريا في الخمسينيات، يأتي انفصال وتباعد حادٌّ في الستينيات، ثم تقارُب وتضامُن عسكري ناجح في السبعينيات، ثم قطيعة تامَّة في أواخِرها، دامت طوال الثمانينيات، ثم يعود التقارُب في أوائل التسعينيات، وتُصبح سوريا، بعد أحداث العراق الأخيرة، أقربَ إلينا بكثيرٍ من بقية دول مجلس التعاون العربي، الذي هو الحلقة الوسطى في النظام العربي المُوقر!
انعدام الديمقراطية!
ولو شِئنا أن نُحدد أهم العناصر التي تجعل من الصعب الحديث عن «نظام» عربي بالمَعنى الصحيح للكلمة، لقُلنا إنه انعدام الديمقراطية في مختلف أرجاء العالم العربي؛ فالديمقراطية تمنح النظام ثباتًا، واستقرارًا، وأساسًا عقلانيًّا متينًا، وتحميه من أهواء الحكام وتقلُّباتهم وانفعالاتهم الشخصية. وربما كان الأهم من ذلك كله أن الديمقراطية تُحقق للشعوب مشاركةً حقيقية في تشكيل مَعالم ذلك النظام والمحافظة عليه. أما الأوضاع الراهنة للنظام العربي، سواء في هيكله العام المُتمثل في جامعة الدول العربية، أم في تجمُّعاته الإقليمية المختلفة، فتُقيم حاجزًا كثيفًا بين الشعوب العربية كلها وبين ما يدور في أروقة الاجتماعات التي تُحدد مصير هذا النظام.
فقد اكتشفنا في الشهر الأخير، مثلًا، أنه كان هناك نزاع مُميت بين العراق والكويت، وأن هذا النزاع كان بعيدَ الأمد. وصحيح أن العالِمين ببواطن الأمور كانوا يتحدثون في جلساتهم الخاصة عن تفاصيل دقيقة لهذا النزاع، ويُتابعون تطوراته بدقةٍ كاملة، غير أنَّ الكتلة الرئيسية للشعب العربي، وضِمنها شعبا البلدَين المُتنازعَين، لم تكن تعرف عن الموضوع شيئًا، أو لا تعرف عنه إلا القشور؛ إذ كان قادة البلدَين يجتمعون ويتبادلون الأحضان أمام أجهزة الإعلام، ثم تصدُر في النهاية بيانات تؤكد قوة الروابط بين «الأشقاء» … إلخ، على حِين أن ما كان يدور في الجلسات ذاتها كان أمرًا مختلفًا كل الاختلاف. وقد استمعنا في الآونة الأخيرة إلى الرئيس حسني مبارك وهو يتحدَّث عن اجتماعات الرؤساء العرب التي يقومون فيها «بتمزيق» بعضهم البعض. وكان مبعث الغرابة في ذلك هو أن الشعوب العربية لم تكن ترى من هذه الاجتماعات سوى الوجه الباسِم للزعماء، ولم تكن تسمع إلا العبارات الإنشائية الرنَّانة عن التضامن والإخاء بين الأشقاء … إلخ. وأقصى ما يمكن أن توصَف به أبشع الأحداث العربية هو أنها «سحابة صيف» لا بدَّ أن تنقشع.
وهكذا فإن «روح» النظام العربي، بغضِّ النظر عن بنائه الشكلي، كانت خاوية، مُتقلبة، هشَّة، ومضمونها الحقيقي كان مجهولًا لكل الشعوب العربية، وكان الأساس العلني المعروف على السطح الظاهري لهذا البنيان بأكمله، هو مجموعة من التعبيرات البلاغية التي لا تكشف للناس شيئًا عن حقائق الأمور، كالقول «إن الأمة العربية كلها جسد واحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.» وغير ذلك من القوالب اللفظية التي تُقيم حاجزًا كثيفًا بين الشعوب وبين الجوهر الحقيقي لهذا «النظام» وتحُول بينهم وبين المشاركة فيه بفهمٍ ووعي، وتمنعهم من الإسهام في تذليل العقبات التي تعترض مساره.
وهكذا أخذت الشعوب العربية فكرة كونها «أشقاء» قضيةً مُسلَّمًا بها، ولكنها كانت تُصدَم وتقف عاجزة عن الفهم، حين تجد العداء بين هؤلاء «الأشقاء» يفوق في ضراوته، أحيانًا، عداءهم جميعًا لخصومهم التاريخيين، كما حدث في مجازر صبرا وشاتيلا، وفي مذابح المُخيمات الفلسطينية في الأردن عام ١٩٧٠م، وفي الغزو العراقي الأخير للكويت، بكل ما فيه من همجيةٍ لا إنسانية. وفي مثل هذه الحالات، لا تقتصر المشكلة على عدم توافُر الحد الأدنى من العلنية الذي يسمح للجماهير بمتابعة العلاقات العربية بصورةٍ واعية، بل تُصبح عدم توافر الحد الأدنى من التحضُّر، الذي يسمح بإقامة نظامٍ من العلاقات بين الدول على أسسٍ معقولة ومفهومة.
ولعل قدرًا كبيرًا من التعاطف الدولي مع إسرائيل، والتنافُر مع العرب، يرجع إلى هذا العامل الأخير بالذات. فالمجتمع الدولي يفترض في إسرائيل سلوكًا متحضرًا، بنفس المقاييس التي يضعها العالَم للتحضُّر، وقدرات إسرائيل في السيطرة على مصادر الإعلام العالمية تُخفي إلى حدٍّ بعيدٍ ممارساتها غير المُتحضرة في الأراضي المحتلة. أما البلاد العربية فإنَّ العالم ينظر إليها كما لو كان سلوكُها يخرج أصلًا عن مجال التحضر. ونحن بغير شكٍّ نُقدم الأسباب التي يرتكز عليها العالم في هذا الحُكم القاطع، مُتمثلة في تلك المذابح التي تتوالى داخل بلادنا بلا رحمة، وفي مُمارساتٍ شائنة كان آخرها قيام النظام العراقي باتخاذ المدنيين العاملين في بلاده رهائن يَحمي بهم مواقعه الاستراتيجية، وهو ما يعادل (بمقاييس السلوك المُتحضر) قيام لصِّ البنك باختطاف السكرتيرة، ومحاولته الخروج بغنيمته سالمًا بعد اتخاذ جسدِها سترًا واقيًا له. وفي مثل هذه الحالات يُصبح من الصعب أن يتعامل العالم الخارجي مع مجموعة الدول العربية باعتبارها «نظامًا» له أسس مُعينة ومبادئ يمكن فهمها وإقامة هذه المعاملات على أساسها.
حقيقة اللانظام
ولنقارن التحوُّلات التي تطرأ على «نظامنا» العربي، بتلك الأسباب العميقة التي أدَّت إلى التغيير الحاسم في النظام العالمي خلال مرحلة الانتقال الكبرى في عامي ۱۹۸۹م و۱۹۹۰م. سنجد عندئذٍ أن جميع التحوُّلات لها أسباب موضوعية، تنتمي إلى صميم التطورات العلمية والتكنولوجية والاجتماعية التي طرأت على العالم في العقود الأخيرة، والتي تُحتم بناء العلاقات الدولية على أسسٍ جديدة.
مثل هذه المقارنة كفيلة بأن تُقنعنا بأن العفوية والعشوائية والمزاجية والانفعالية التي تتم بها التطوُّرات في علاقاتنا يستحيل معها القول بوجود «نظام» بأيِّ معنًى علمي وعقلاني لهذه الكلمة.
على أية حال، يبدو أن العدوان العراقي الأخير على الكويت، برغم بشاعته، قد كشف حقيقة «اللانظام» العربي بكل وضوح، وربما كانت هذه هي الفائدة الوحيدة التي ستَجنيها الشعوب العربية من هذه الكارثة؛ فقد انهار قناع البلاغة والفصاحة والعبارات الإنشائية، الذي كان يُخفي عنا حقيقة البناء الداخلي، وظهرت على السطح كراهية الفقراء للأغنياء وسعادتهم بمِحنتهم، ووحشيَّة العرب إزاء العرب، وتشوُّهات العقول العربية التي تلوي الحقائق، وتجد أعجب المُبررات لِما يستحيل تبريره.
هذه كلها أمور كان لا بد أن تنكشف، وكل ما آمُله أن يكون انكشافها نهايةً لمرحلة «اللانظام» التي ظللنا نخدع أنفسنا بتسمِيَتها تسميةً عكسية، وبداية لمرحلةٍ نُحاول فيها بناء «نظام» على أُسس عقلانية موضوعية ديمقراطية تسمح بأن يكون لنا مكانٌ على خريطة العالم في القرن الحادي والعشرين.
سبتمبر ۱۹۹۰م