هيكل ووهم الحل العربي

من الصعب أن يُحدد المرء دوافع أولئك المُثقفين العرب الذين يتجاهلون الحقائق الواضحة، ويُغرقون في التفلسُف والتنظير، فينتهي بهم الأمر — عمليًّا — إلى اتخاذ مواقف تتستَّر على العدوان وتُقدم له شتَّى أنواع التبريرات، حتى لو كانوا يستنكرونه من باب أداء الواجب وتبرئة الذمة. فلقد استمع الكثيرون إلى تحليلات قدَّمها إدوارد سعيد وكلوفيس مقصود على شاشة التليفزيون البريطاني، وظهر واضحًا أن المُثقف يستطيع، إذا شاء، أن يتجاهل القضايا الأساسية والعاجلة، وأن يُغرِق قُراءَه أو مُستمعيه في قضايا أخرى لا علاقة لها بالأزمة الساخنة التي تُهدد المنطقة كلها بحريقٍ يلتهمُ كل شيء. وكان آخر من انضم إلى هذه القافلة من المُثقفين هو محمد حسنين هيكل.

لقد سكت هيكل عن الإدلاء برأيه في هذه الأزمة طويلًا، وكان سكوته يدعو حقًّا إلى الارتياب، لأن القضية كانت أخطر بكثيرٍ من أن يسكُت عنها أشهر الصحافيين العرب طوال أسابيعها الستة الأولى والحاسمة. وحين تكلَّم أخيرًا، اختار أن يكتُب في صحيفة بريطانية، لا في صحيفةٍ عربية، وهو أمر يدعو إلى المزيد من الاستغراب، وخاصة إذا تأمَّلناه في ضوء مضمون مقالِه المنشور في جريدة «التايمز» اللندنية بتاريخ ١٢ سبتمبر (أيلول) الجاري.

إن ارجاع الأزمة الراهنة كلها إلى اختلالٍ أساسي في العلاقة بين العرب والغرب — وهي نغمة تتكرَّر لدى معظم هؤلاء المثقفين — هو بالضبط ما يُريده صدَّام حسين، وهو بالضبط ما يُساعده على تمييع الموقف وصرف الأنظار عن جريمته الأصلية تجاه شعب الكويت. وليس معنى ذلك أنَّنا نُنكر وجود هذا الاختلال، بل إن أي مُثقف عربي لدَيه حدٌّ أدنى من الوعي يعلَم تمامًا أن هناك أزمة حقيقية بين العرب والغرب، لها جذور تاريخية عميقة، على المستوى الثقافي والسياسي والاقتصادي؛ ولكن القول بأن هذه الأزمة هي التي تكمُن من وراء المواجهة الحالية هو الذي يُشكل مغالطةً كبرى، قد تكون مقصودةً أو غير مقصودة، ولكنها في النهاية تُقدم لديكتاتور العراق عذرًا لا يحلم به.

والقول بأن الأزمة الراهنة صراع من أجل توزيع أكثر عدلًا للثروة العربية يُمثل في واقع الأمر خدعةً سافرة؛ ذلك لأنه يفترض أن صدام حسين يقِف في صفِّ العرب «الفقراء» ضد أغنياء الخليج، أو — على حدِّ تعبير هيكل — يُمثل شعوب «المدن» العربية التي لم تظفر من الغنيمة البترولية بشيء، على حين أن «عرب الصحراء» هم الذين ظفروا بكل شيء. وهذه كلها افتراضات يستغرب المرء كيف يُسلِّم بها مُحلل صحافي على مستوى هيكل. أما التعلُّق بأمَل «الحل العربي» لأزمة الخليج، فهو من الوجهة النظرية أُمنية لجميع العرب، وربما للعالم كله، ولكن الواقع العملي يسير في اتجاهٍ آخر؛ فقد بذل زعماء عرَب كثيرون محاولاتٍ للوصول إلى حدٍّ أدنى من التفاهُم مع صدام حسين، باءت كلها بالفشل. ويبدو أن كبار المُثقفين في تركيزهم المُفرِط على ما هو مُعقَّد ونسيانهم للحقائق البسيطة، قد غاب عن أذهانهم أن صدام حسين كان يستطيع تجنُّب كل هذه الأزمات الخطرة، ويُخلص المنطقة من كل هذا الحشد العسكري الأجنبي، لو عالج مشكلته مع الكويت بطريقةٍ أفضل من الغزو البربري، أو أبدى استعدادًا للتفاهُم على أسس عادلة بعد ارتكابه لجريمته البشعة. فما هي إذن احتمالات نجاح هذا الحلِّ العربي في المُستقبل، إذا كان قد أخفق حتى الآن في انتزاع أي تنازُل من حاكم العراق؟

ومِن جهة أخرى، فإن أيَّ حلٍّ عربي صِرف، في ضوء الانقسام الحاد الراهن بين الدول العربية، ونوع التوازُن الحالي لقواها العسكرية، لا بد أن يتضمَّن كثيرًا من التنازُلات، وهو أمر غير مقبول على الإطلاق في ضوء بشاعة الاحتلال ورفض العالم المُتحضر كله، وليس الغرب وحدَه، لجميع النتائج المُترتبة عليه. وربما كان الأهم من ذلك كله هو ذلك التناقض الأساسي الذي تنطوي عليه الدعوة إلى إيجاد حلٍّ عربي خالص للأزمة الراهنة. فمجرد قبول صدام حسين بفكرة التفاوض مع العرب من أجل حلِّ الأزمة، يعني أنه لا يزال يحتفظ بقدْر من الاحترام لمبدأ التضامُن العربي الذي يستبعد التدخل الأجنبي في الشئون العربية. غير أن غزوه للكويت قد أثبت أنه يحتقر هذا المبدأ احتقارًا شديدًا، فكيف يمكن أن تنتهي أزمة على أساس مبدأ كان انتهاكه هو السبب في قيامِها منذ البدء؟

في ضوء هذا كلِّه، يبدو واضحًا أنه لا توجَد فرصة حقيقية لأي حلٍّ عربي إلَّا إذا جاء على أساس خلفيةٍ مزدوجة؛ أول جوانبها هو الرفض القاطع الذي أبداه الرأي العام العالمي، مُمثلًا في الأمم المتحدة، لذلك الانتهاك العراقي الفظِّ لجميع القوانين الدولية، وما ترتَّب على هذا الرفض من فرْض عقوباتٍ اقتصادية رادِعة. والجانب الثاني هو الحشد العسكري الضخم للقوات العربية والدولية على الحدود الكويتية السعودية؛ فمع حاكمٍ مثل صدام حسين، يستحيل أن ينجح حلٌّ عربي إلا إذا كان هذان العاملان يُمارسان تأثيرهما بوضوح في خلفية عملية التفاوض. والنتيجة المنطقية أنه لا يوجَد أي تناقُض بين الحلِّ العربي وتحرُّك العالم ضد صدام حسين، بل يبدو، على عكس ما يقول هيكل، أن هذا الحلَّ العربي لا أمَلَ فيه إلا إذا كان مصحوبًا بمثل هذا الضغط الدولي العنيف.

وهذه حقيقة لا بد أن يحزن لها أي وطني عربي، ولكن لا مفرَّ من الاعتراف بأن تصرفات صدام المعادية تمامًا لمبدأ التضامُن العربي كان لا بد أن تؤدي إلى إدخال العناصر اللاعربية في المنطقة. وعلى أولئك الذين يُلحُّون من أجل استبعاد القوات الدولية، والأمريكية بوجهٍ خاصٍّ من المنطقة، أن يُوجِّهوا ضغطهم ضد صدام حسين وحدَه، لأن انسحابه من الكويت هو أسهل الطرُق لإعادة هذه القوات الدولية إلى بلادها.

ومرة أخرى أقول إن مشكلة هيكل هي أنه قبِل جميع المُسلَّمات التي يطرحها جهاز الدعاية العراقي، برغم ما فيها من سطحيةٍ وتناقُض صارخ؛ فهو يُسلِّم ضمنًا بأن النظام العراقي يقِف في صف فقراء العرب، ويُحارب معركةً كبرى من أجل توزيعٍ أعدل للثروة العربية، وينسى أن العراق دولةٌ بترولية كبرى. ولا يسأل نفسه عن الطريقة التي وزَّع بها صدام ثروة العراق الضخمة على مواطنيه. وهو يُردِّد حُجة «الحدود التي رسمها الاستعمار البريطاني»، مع أن اللجوء إلى هذه الحجة، في الظروف الراهنة، معناه السماح لأيِّ مغامر بإعادة رسم هذه الحدود على أي نحوٍ يُحقق أطماعه الخاصة.

وهنا يفترض هيكل أن صدام حسين إنما هو «روبن هود» عربي يسعى إلى إقامة العدل الاجتماعي وإشاعة احترام حقوق الإنسان في كلِّ أرجاء العالم العربي. فإلى أي مستوًى من انعدام البصيرة يُمكن أن ينحدِر المُثقف العربي في مواجهة أزمةٍ واضحة المعالم كهذه؟

إن التعليل الأرجح لموقف هيكل، من وجهة نظري الخاصة، هو أنه لم يتطوَّر ذهنيًّا في اتجاه رفض الدكتاتورية طوال الأعوام العشرين الماضية، وأنه ما زال يبحث عن «زعيم أوحد» يضع له الفلسفات ويبتكِر النظريات لتبرير تصرفاته. ولست أهدف من ذلك على الإطلاق إلى تشبيه صدام حسين بعبد الناصر، لأنني — مع كل تحفُّظاتي على العهد الناصري — أعدُّ هذا التشبيه جريمةً كبرى. وكل ما أريد أن أقوله هو أن المُثقف الذي بنى أمجاده على الدعاية لأسلوبٍ مُعين في الحكم، ما زال يبحث عمَّن يرى فيه تجسيدًا لهذا الأسلوب، لكي يضع تحت تصرُّفه قُدراته الذهنية، التي لم يكن أحدٌ يجرؤ على مناقشتها حين لم يكن مسموحًا لأحدٍ بأن يُواجهه. ويبدو أنه نسي أن الظروف في أيامنا هذه، قد تغيَّرت كثيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥