العدوان العراقي وثالوث المُغالطة

في النزاع الحالي بين المؤيدين للغزو العراقي للكويت والمُعارضين له، تطفو على السطح مُغالطات عديدة يصعب كشفُها، لأن هذا الكشف يقتضي عقلًا هادئًا قادرًا على التركيز، على حين أن الأزمة الراهنة قد أثارت في الأُمة العربية من الانفعالات الحادة والمشاعر المُلتهبة ما تتضاءل معه القُدرة على التفكير المُتروي والتحليل الرزين. ومن هنا تمرُّ المُغالطات على الكثيرين وكأنها حقائق مؤكدة، وتتسرَّب إلى تفكير الصفوة، ومنهم تسري إلى الجموع الغفيرة فتُحركها في اتجاهاتٍ حائرة مُشتتة لا تخدم أية قضية من قضاياها.

وسوف أختار من هذه المُغالطات ثلاثًا أعتقد أنها أبرز الجميع، لأنها هي التي تتردد في هذه الأيام على ألسنة جميع المتعاطفين الصرحاء، والمُتعاطفين على استحياء، مع الغزو العراقي للكويت.

•••

أولى هذه المُغالطات أنهم يُصورون الانشقاق الذي أحدَثه هذا الغزو في الأمة العربية، بأنه انقسامٌ بين أنصار أمريكا وخصومِها؛ من يُهاجم هذا الغزو عميل للأمريكيين، ومن يُدافع عنه هو وحده المُتصدي للإمبريالية بكلِّ جبروتها. وهذه في رأيي مُغالطة كبرى، مَبنية على تفسيرٍ ميكانيكي ساذج للأحداث، يؤكد أن مَن يتَّخذ موقفًا مماثلًا للموقف الأمريكي في قضيةٍ ما، لا بد أن يكون عميلًا من عملائها. ويكفي لبيان سذاجة هذا الرأي أن نُشير إلى أنَّ قائمة عملاء أمريكا ستضمُّ، في هذه الحالة، دولَ العالم الأول والثاني والثالث، باستثناء حفنةٍ من الأقطار العربية التي خرجت عن الإجماع العالمي، وسيكون الاتحاد السوفياتي والصين وكوبا — الذين صدَّقوا على جميع قرارات الإدانة في مجلس الأمن — كلهم مِن العملاء. وفي مقابل ذلك فإن قائمة خصوم الإمبريالية و«أبطال» التصدي لأمريكا، ستضمُّ، في هذه الحالة، أقطارًا ظلَّت طوال تاريخها الحديث تربطها بأمريكا أوثق الروابط، ولم يُعرَف عنها يومًا أنها قاومت المصالح الأمريكية، كالأردن والسودان (في حكمه العسكري) واليمن وتونس.

ولكي نكشف هذه المُغالطة دعونا نرجع بالموقف الراهن إلى جذوره الأولى؛ فمُنذ اللحظة التي تبيَّنَ فيها أن لدى الأمة العربية مخزونًا هائلًا من النفط يُمكن أن تقوم على أساسه نهضة حضارية شاملة، كانت خطة دول الاستعمار القديم والجديد تتَّجه إلى منع العرب من الانتفاع من ثمار هذه الثروة الطبيعية الهائلة. وكانت هناك وسائل متعددة لتحقيق هذا الهدف، من أهمِّها خلقُ نزاعاتٍ محلية تستنزف ثروات العرب لأمدٍ طويل، وتُرغمهم على تبديد نصيبٍ كبير من ثروتهم في شراء أسلحةٍ لإنعاش اقتصاد الدول الصناعية الكبرى، وتخلق في المنطقة مناخًا من عدم الاستقرار يدفع أصحاب الأموال فيها إلى الهروب بها، وتوظيفها في البلاد الكبرى المُستقرة.

ولن يستطيع أحدٌ أن يُنكر أن أهم حدثَين وقعا خلال السنوات العشر الأخيرة، وساعدا على تحقيق هذا الهدف الذي يعمل من أجلِه الاستعمار القديم والجديد، هما الحرب العراقية الإيرانية، والغزو العراقي الأخير للكويت. وفي كلتا الحالتَين كانت العراق هي الأداة المُستخدَمة في عملية الاستنزاف الكبرى، التي رهنت موارد المنطقة، وستظلُّ ترهنها لعشرات السنين المُقبلة، من أجل مواجهة أزماتٍ هوجاء لا ينتفع منها إلا أعداء العرب.

وعلى كل من كتب باستفاضة عن تلك المؤامرة الأمريكية التي قيل إنها افتضحت بعد نشر نصِّ حديث السفيرة الأمريكية في بغداد مع الرئيس العراقي قبل الغزو مباشرة، عليه أن يسأل نفسه: إذا افترضنا أنه كانت هناك بالفعل مؤامرة أمريكية لتوريط العراق، لماذا ترك العراق نفسه يتورَّط؟ أليس من واجب أية زعامة مُخلصة أن تحسب حسابًا لخطواتها، وتُقدر نتائجها على بلادها وعلى البلاد الشقيقة، وتُدرك طبيعة الفخ المنصوب؟ هل قُدِّر لنا نحن العرب أن نظل ننساق بلا تفكير وراء الخطط التي يُدبرها لنا خصومنا — كما سبق أن فعلنا في يونيو ١٩٦٧م — ثم نوجه اللوم إلى مؤامرات هؤلاء الخصوم، وننسى أننا رضينا بأن نكون الخنجر الذي يُمسك به أعداؤنا ليطعنونا به؟ إن هؤلاء الخصوم يخدمون مصالحهم الخاصة، وليس من حقِّ أحدٍ أن يلومهم على ذلك، ولكن الذي يُلام حقًّا هو ذلك الذي يُدرك أن مصالح هؤلاء الخصوم تتعارَض أساسا مع مصالحه، ومع ذلك يندفع إلى مغامرات يعرف الصغير قبل الكبير أن المُنتفع الوحيد منها هم أعداؤنا التاريخيون، وأنها ستُعيد أُمتنا عشرات السنين إلى الوراء.

إن المُطالبين بالانسحاب الفوري للقوات العراقية من الكويت، هم حقًّا الحريصون على مستقبل الأمة العربية، لأن هذا الانسحاب هو أسهل الطرُق وأضمنها لتفويت الفرصة على أية قوةٍ عُظمى تسعى إلى أن تتَّخذ من الأزمة ذريعةً لتوسيع نفوذها في المنطقة. أما أولئك الذين يصمتون على العدوان الواقع على دولة عربية مُستقلة ذات سيادة، وعلى تشريد أهلها، وتخريب منشآتها، ونهب ثرواتها، ولا يؤرقهم إلا وجود جيوش مُتعددة الجنسيات على حدود الكويت، فإنهم في واقع الأمر يفترضون أن هذا الغزو، وما تلاه من إلغاء لهوية شعب كامل، قد أصبح أمرًا واقعًا. وهذا ما ينبغي أن يرفضه أي عربي شريف؛ فلا هو يقبل أن يصبح مثل هذا الاحتلال الغاشم أمرًا منتهيًا، ولا هو يرضى بأن تشير كل بلاد العالم إلى منطقتنا العربية قائلةً: من هنا تنبع البؤر السوداء التي تلطخ صورة نظام وليد جديد لم نصِل إليه إلا بعد تجارِب مريرة، ومِن هنا تُطل شهوة العدوان، ونزعة السيطرة العسكرية الغاشمة في عالَم أصبح أملُه في المُستقبل معلقًا بنزع السلاح والتوصُّل إلى أساليب حضارية لحلِّ كافة مشاكله!

وحين يتجاوز المرء مستوى الانفعالات السوقية الهوجاء، سيُدرك على الفور أن الحرب الإيرانية وغزو الكويت كانتا أكبر ضربةٍ سُدِّدت إلى تطلُّعات الشعب العربي وكثير من شعوب العالم، نحو مستقبلٍ أفضل، وأعظم خدمة أسديناها بلا أدنى مقابل إلى أعدائنا الإمبرياليين والصهيونيين.

•••

أما المغالطة الثانية فهي تصوير الموقف الراهن، الذي تحتشِد فيه جيوش عربية ودولية ضخمة لمواجهة الغزو العراقي للكويت، كما لو كان صراعًا بين شعب عربي هو العراق، وبين قوًى تتربص بهذا الشعب شرًّا. وما إن يُثير أحد احتمالَ نشوب الحرب، حتى يصرخ أنصار الغزو الغاشم هاتِفين: هل تقبلون تحريض الأجانب على شعبٍ عربي وجيش عربي؟ ألا تعلمون أن الهدف من هذا الحشد الإمبريالي هو إفناء الشعب العراقي وسحق جيشه الذي هو، على أية حال، رصيد وأمل للأمة العربية؟

حسنًا، لنقُل دون أية مواربة إن استنكارنا لغزو الكويت لا يُعادله إلا ذلك الألم الذي يعتصرنا على تلك الورطة التي وقع فيها الشعب والجيش العراقيَّان؛ ففي العراق تجسَّدت عصور مُضيئة من أزهى عصور الحضارة العربية والعالمية، ولا أظنُّ أن عربيًّا واحدًا سيكون سعيدًا يوم يسقط شبر واحد من الأرض العراقية في أيدٍ أجنبية، أو يقع جنديٌّ عراقي واحدٌ صريعًا لسلاح أجنبي.

هذه مسألة لا يصحُّ أن تكون موضوعًا للمزايدة، ولكن ماذا نفعل نحن إذا كنَّا، مع كل حِرصنا على شعب العراق وجيشه، نجد هذا الشعب العزيز علينا جميعًا يُعبَّأ من أجل أهدافٍ عدوانية، ونجد جيشه مبرمجًا بأفكار الغزو التتاري الذي يلتهِم الأرض ومَن عليها؟ ماذا نفعل إذا كانت هناك قيادة تُوجِّه هذا الرصيد العظيم للأمة العربية نحو قتلِ الغير ثم الانتحار آخر الأمر؟

لقد كانت ألمانيا من أعظم بلاد العالم حضارة، وكان الشعب الألماني الذي أنجب بتهوفن وجوته وأينشتين مصدرًا من أعظم مصادر الإشعاع العبقري في عصرنا الحديث، ومع ذلك فإن قيادة زعيم همجي مثل هتلر لهذا الشعب المجيد، قد وجهت هذه الطاقة الحضارية الهائلة في اتجاه الغزو والتخريب والتدمير؛ فلم يكن هناك مفرٌّ مِن أن تُعِد له سائر دول العالم ما استطاعت من قوة، وتعمل على سحق عدوانه. وكان لا بد، في عملية المواجهة هذه، من أن يُصاب الشعب الألماني العظيم بأفدح الأضرار. وفي الوقت الذي لم يكن فيه أحدٌ يستمتع بالدمار الذي لحق بألمانيا، لم يجرؤ أحد على التذمُّر من تدمير الرصيد الحضاري العظيم، بعد أن أصبح موجهًا إلى طريق العدوان والتخريب.

ذلك لأن من الحقائق القاسية لعالمنا أنه حين يُكتَب على شعبٍ أن يخضع لقيادة غاشمة، ويُساندها — طوعًا أو كرهًا — في تحقيق أطماعها العدوانية، ينتهي الأمر بهذا الشعب وجيشه إلى أن يدفَعا ثمن الأهداف الهمجية التي يُساقان إلى تحقيقها. تلك حقيقة لا يملك المرء إلا أن يُقرَّ بها آسفًا. وما أظن إلا أن أشدَّ خصوم الغزو العراقي تطرفًا يتمنَّى من صميم قلبه ألَّا يُراق دمُ إنسانٍ عراقي واحد، وأن تُحَل المشكلة حلًّا سلميًّا، يستأصِل من الجذور لحظةَ الجنون التي حلَّت في الثاني من أغسطس، ويقضي على جميع الآثار البشعة المُترتبة عليها.

•••

أما ثالث المُغالطات، وربما أخطرها جميعًا، فهي تلك التي تُصور الانقسام الحالي للأمة العربية، ما بين مؤيدٍ للغزو العراقي ومُعارض له، كما لو كان انقسامًا بين الحريصين على القضية الفلسطينية والمتهاونين في حقِّها؛ فأنصار العدوان العراقي على الكويت يُصوِّرون أنفسهم وكأنهم هم وحدَهم المكافحون من أجل استرداد الشعب الفلسطيني لحقوقه المُغتصَبة، على حين أن خصوم العدوان هم الذين يسعَون إلى تسليم رأس هذا الشعب إلى الجلاد.

هذه المُغالطة الكبرى ترجع جذورها إلى عامِلَين؛ أولهما أن الرئيس العراقي كان قد هدَّد إسرائيل، قبل غزوه للكويت بأسابيع قليلة، بإحراق نصفها بأسلحته الكيميائية. وثانيهما تلك المبادرة المشهورة التي ربط فيها الرئيس العراقي بين انسحابه من الكويت والانسحاب الإسرائيلي من الأرض المُحتلة بعد عام ١٩٦٧م.

ولا نودُّ أن نتوقَّف طويلًا عند العامل الأول، لأن الأحداث نفسها قد أثبتت أن هذا التهديد لم يكن إلا بلاغة لفظية تستهدِف حشد مشاعر الجماهير العربية العفوية الساذجة في صفِّ النظام العراقي، وذلك كتمهيدٍ نفسي لغزو الكويت. وإذا كانت هذه الخطة المكشوفة قد حقَّقت هدفها، وأخرجت مظاهرات عربية مؤيدة للغزو بعد وقوعه مباشرة قبل وصول جنديٍّ واحدٍ إلى الحدود الكويتية-السعودية فلا أظنُّ أن هذه شهادة يستطيع العقل العربي أن يعتزَّ بها؛ ذلك لأن أحدًا من هؤلاء المتظاهرين ومن قادتهم، لم يخطر بباله أن يتوقَّف لحظةً ويتساءل: إذا كان هذا التهديد الذي صفَّقنا له مُوجَّهًا ضد إسرائيل فلماذا سارت الجيوش العراقية، بعده بشهرٍ واحدٍ، في اتجاه الكويت؟

على أن العامل الثاني، وهو مبادرة الربط بين الانسحاب العراقي والانسحاب الإسرائيلي من الأرض المحتلة بعد ١٩٦٧م، يستحقُّ مزيدًا مِن الاهتمام. ذلك لأن هذه المبادرة، من حيث هي حركة سياسية، أذكى بكثيرٍ من قصة التهديد بتدمير نِصف إسرائيل، وهي القصة التي كان لا بد أن تفتضح بمجرد سير الجيوش العراقية نحو حدود الكويت؛ فمن شأن مبادرة «الربط» هذه — كما أصبحتَ تعرف في الآونة الأخيرة — أن تُثير إعجاب الكثيرين في الشارع العربي، وتُظهر صاحب المبادرة بأنه هو حقًّا الحريص على استرداد الحقوق الفلسطينية، على حين أن خصومه الذين يرفضون الربط بين القضيتَين لا بد أن يكونوا مُتهاونين في حق القضية الفلسطينية، لأنهم يُضيعون الفرصة التاريخية التي أتاحتْها الأزمة الراهنة لحلِّها.

ومن ناحية أخرى فإن عملية «الربط» هذه تنمُّ عن ذكاءٍ أكبر، لأنها تجعل مصير هذا الغزو متوقفًا على حلِّ قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وهي قضية طويلة الأمد، شديدة التعقيد، تمسُّ أطرافًا عديدين غير أطرافها المُباشرين، ولذا فإن الربط بين القضيتَين يُتيح للزعامة العراقية وقتًا طويلًا للتسويف تتمكن خلاله من تثبيت احتلالها للكويت، بينما المفاوضات تتخبَّط وتتعثَّر حول المشكلة الفلسطينية المُعقدة. وعلى هذا النحو يُصبح الاحتلال العراقي للكويت أمرًا واقعًا، وفي الوقت ذاته يظهر المحتلُّ الغاصب، في نظر الرأي العام العربي، بمظهر البطل الحريص على تحقيق أعزِّ أُمنيات الإنسان العربي.

ومع ذلك، وبرغم ما تتَّصف به فكرة «الربط» هذه من براعة ظاهرية، فإنها في حقيقة أمرِها مهزلة مُضحكة، ومأساة مُبكية في آنٍ معًا.

لنبدأ بالأمور الواضحة؛ فبَين القضيتَين اختلاف زمني شديد، لأن قضية غزو الكويت قريبةُ العهد، لا يزيد عمرها عن شهور قلائل، على حين أن قضية الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين مُزمِنة. فهل المطلوب هو أن تظلَّ الكويت رهينةً إلى أن تُحَل مشكلةٌ طويلة الأمد كالمشكلة الفلسطينية؟ إن المنطق الكامِن وراء مطلَب الربط هذا هو: إذا كان العرب قد نُكبوا مرةً في فلسطين، فلن يُخلصهم منها إلا نكبة أخرى في الكويت. وما أشبه سلوك النظام العراقي في هذه «المبادرة» بسلوك شخصٍ اختطف أحدُ الأشقياء شقيقتَه، فقام هو ذاته باختطاف شقيقته الأخرى، ووضع سكينَه على رقبتِها ثم هتف في الجمع المُحتشد: سأذبحها إن لم تردُّوا إليَّ شقيقتي الأولى!

ولننتقل إلى ما هو أوضح؛ فهل كان الغزو العراقي للكويت يستهدِف حقًّا خلق جوٍّ متأزِّم في العالم يساعد على حلِّ القضية الفلسطينية؟ هل دخلت الجيوش العراقية أرض الكويت لغرَضٍ كهذا، أم إنها دخلت من أجل مطالب مادية سافرة، تتعلق بالأرض والديون وآبار النفط؟ ولنفرِض جدلًا أن الكويت كانت قد رضخت للمَطالب العراقية المُسرفة من أول الأمر، فهل كان النظام العراقي سيتذكَّر القضية الفلسطينية بعد أن يحصل على ما يُريد؟ أليس من الواضح أن الإشارة إلى القضية الفلسطينية قد جاءت في وقتٍ لاحق، عندما تبين أن جزءًا من الشارع العربي يتعاطف مع الغزو، وأن حماسة هذا الجزء ستزداد اشتعالًا، وتأييده سيزداد قوة، لو تم الربط بين الانسحاب من الكويت والانسحاب من أرض فلسطين؟ ألا يعني ذلك أنَّ القضية الفلسطينية قد استُخدِمت بعد حدوث الغزو استخدامًا «تكتيكيًّا» يستهدف تعميق الانقسام بين صفوف العرب تمامًا، كما استُخدِمت قبل الغزو من أجل تقديم أملٍ كاذب يُلهب خيال شعب أحاط به اليأس من كلِّ جانب؟

ومع كلِّ ما قُلناه فما زال هناك ما هو أخطر وأفدح؛ ففكرة «الربط» مبنية على أساس أن الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، تكيل بمكيالَين؛ تُندِّد بشدة بالاحتلال العراقي للكويت، بينما تتغاضى منذ عشرات السنين عن الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين. وعلى ذلك فلا بد من مُطالبة هذه الدول بأن تُطبق معيارًا واحدًا في تعامُلها مع المنطقة، وتضغط على إسرائيل بقدْر ما تضغط على العراق، من أجل تحقيق هدف الانسحاب في كلتا الحالتين.

هذه هي «الحجة الدامغة» التي لا يكف المتعاطفون صراحة أو ضمنًا مع الغزو العراقي عن ترديدها في هذه الأيام، والتي تُردِّدها للأسف أعداد لا يُستهان بها من المُثقفين العرب والقيادات الفلسطينية. وهنا تصِل المأساة المُبكية إلى ذروتها، والمهزلة المضحكة إلى حضيضها!

ذلك لأن جميع العقول الكبيرة التي تُردِّد هذه الحجة، إذا كانت تستخدمها لإثبات انعدام العدالة لدى الدول الكبرى في تعامُلها معنا، فإنها لا تنتبِه إلى أن للحجةِ وجهًا آخر هو المُتعلق بطبيعة العدوان في كِلتا الحالتَين؛ فكلُّ من يؤيد هذه الحجة يضع العراق، دون أن يدري، في الكفَّة نفسها التي يضع فيها إسرائيل، ويُساوي بين عدوان دولة عربية شقيقة وبين العدوان الذي ظلَّت إسرائيل تُمارسه علينا طوال عشرات السنين. ومجرد اتِّهامنا للدول الكبرى بأنها تكيل بمكيالَين هو اعتراف منَّا بأنَّ جريمة العراق (شقيقتنا)، مُماثلة لجريمة إسرائيل (عدوتنا التاريخية)، ولذا كان مِن واجب الدول الكبرى أن تُطبق عليهما معيارًا واحدًا!

وهكذا فإن كل هؤلاء السادة الذين يحتلُّون قِممًا عالية في الوعي العربي، يُعلقون آمالهم في هذه الأيام على مُخاطبة الدول الكبرى بمنطِقٍ يقول: لماذا تسكتون على إسرائيل وتُهاجمون صدام «مع أنه لم يفعل أسوأ مما فعلته هي»؟ وليتصوَّر معي القارئ هذا النوع من الدفاع الحار عن النظام العراقي الذي يتم من خلال تشبيه احتلاله بالاحتلال الإسرائيلي! وليتصوَّر القارئ مدى الانهيار العقلي الذي يُمثله تحمُّس الملايين من الجماهير العربية، وضِمنها شريحة كبيرة من الصفوة المُثقفة، لحاكِمٍ عربي تفتدِيه بالروح والدم لأنه ارتكب في شعبٍ عربي ما ارتكبه عدوُّنا في فلسطين، ووقف يشكو من ظُلم العالم في تفرِقته بين الجريمتَين!

تصوَّروا أيها السادة المدافعون أن منطقكم الأعرج هذا يعني أن الدول الكبرى أشدُّ حرصًا منكم على سمعة العرب، لأنها حين طبَّقت معيارَين كانت تعترِف ضمنًا بأن احتلال دولةٍ عربية لدولةٍ أخرى شقيقة هو جريمة أفدح بكثيرٍ من قيام عدوِّ العرب التاريخي باحتلال أرض شعبٍ من شعوبهم؛ ومن ثم فإن الأولى تستحق التنديد، أما الثانية فلا لوم عليها لأنها لا تفعل إلا ما هو مُتوقَّع مِن أيِّ عدو؟

إن الربط بين القضيتَين الكويتية والفلسطينية، بالإضافة إلى كونه تسويفًا مكشوفًا، هو أمر لا يُشرف العرب على الإطلاق، بل إنَّ المُنادين به يُوجِّهون أعظم إهانة إلى الزعيم العربي الذي يستهدفون تكريمَه، ويكشفون بذلك عن قصورٍ عقليٍّ فاضح.

ولكن هل يعني ذلك أن المُطالبين بالانسحاب العراقي الفوري من الكويت جاهلون بالقضية الفلسطينية أو لا يتحمَّسون لإثارتها في الوقت الراهن؟ إن مثل هذا الاستنتاج بعيدٌ عن الصواب كلَّ البُعد؛ فقضية فلسطين هي على الدوام قضية العرب الأولى، والخطر الإسرائيلي لا يُهدد الفلسطينيين وحدَهم، وإنما يُهدد الأمة العربية كلَّها. وإذا كان بعض الفلسطينيين، ومِنهم القياديون، قد انحازوا إلى الطرف الخطأ، فإن هذا لا يعني على الإطلاق التخلي عن القضية ذاتها، لأنَّ القضايا تظلُّ دائمًا مُستقلة عن الأشخاص. وأسوأ ما يُمكن أن يفعله خصوم العدوان العراقي وضحاياه هو أن يستسلموا لروح الانتقام من مؤيديه، لأنهم لو فعلوا ذلك لكانَ موقفهم هو الوجه الآخر لموقف كلِّ مَن تخلَّى عنهم في وقت الشدة.

لقد أثبتت الأزمة الخليجية أن الشعوب العربية تحمل قدرًا هائلًا من المرارة إزاء سلوك الدول الكبرى تجاه قضاياها الرئيسية. وحتى لو كانت تلك المرارة قد شوَّهت الرؤية لدى بعض هذه الشعوب، وجعلتها تتعاطف مع المُعتدي الغاصب، فإن الواقع الصلب هو أنَّ بذور الشر كامِنة، ولا سبيل إلى اقتلاعها إلا بحلولٍ عادلة للقضايا العربية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

بهذا المعنى يكون هناك «ربط» بين الأزمة الراهنة وبين القضية الفلسطينية، ولكن الربط لا يعني على الإطلاق أن المُحتل العراقي قد ارتكب جريمته وفي ذهنه استخدام الكويت ورقةً للضغط على من يُساندون إسرائيل، ولا يعني على الإطلاق أن تظلَّ الكويت رهينة في يدِ المُحتل الغاشم إلى أن تُحَل أهم القضايا العربية، وإنما يعني أن حلَّ الأزمة الكويتية لا ينبغي أن يكون نهايةَ المطاف في نضال القوى الوطنية العربية، بل ينبغي أن يكون نقطة الانطلاق في مواجهةٍ صريحة وأمينة لكلِّ قضايانا المصيرية ومشاكلنا المتوطنة.

صوت الكويت
۱ / ۱۱ / ۱۹۹۰م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥