الذين قالوا: لم نكن نعرف

عدد من كبار المُثقفين العرب ممَّن كانوا يحرقون البخور لحكَّام العراق، ويشاركون بالتأييد والتهليل في مهرجاناته، فاجأهم الغزو العراقي للكويت، ولم يعد في وسعهم تأييد عدوانٍ مفضوح كهذا. فكيف خرجوا من هذا «المطب»؟

قال بعضهم: لقد كان يدافع عن العروبة ضد الغزو الفارسي!

وقال آخرون ببساطة شديدة: لم نكن نعرف!

ولمِن هلَّلوا لبطَل الدفاع عن العرب ضد الفرس أقول: إن الدفاع الحقيقيَّ والفعَّال ضدَّ أي خطرٍ خارجي، وخاصة إذا اتخذ شكلًا عقيديًّا، كذلك الذي يُمثله النظام الإسلامي في إيران، لا يكون أبدًا بالحرب. ولو كان حكام العراق أقاموا نظامًا ديمقراطيًّا مبنيًّا على تنمية اجتماعية واقتصادية حقيقية، وعلى توزيع عادل للثروة (وقد كانت ربع نفقات الحرب العراقية الإيرانية كفيلة بتحقيق الجانب المادي من هذا الهدف) لما استطاعت أية ثورةٍ عقيدية أن تخدش السطح الخارجي للحياة في بلدهم؛ ولكنهم كانوا يعلمون أنهم ليسوا عادلين، ومن ثم ليسوا آمنين، وبالتالي لا يجدون وسيلة للدفاع عن أنفسهم سوى الحرب.

وإذا كان الإنسان العادي عاجزًا عن إدراك هذه الحقيقة، فما عُذر المُثقف الذي يُردِّد بلا تفكير مقولة: لقد صفَّقنا له لأنه كان يُدافع عن بوابتنا الشرقية؟!

أما الذين قالوا لم نكن نعرف! فإنهم ردَّدوا حجةً لا تليق بهم؛ ذلك لأن المُثقف يتميز عن غيره بأمرَين: اتساع في الأفق العقلي، وضمير إنساني حي. أما اتساع الأفق العقلي فإنه يقتضي أن يكون المُثقف مُلمًّا بما يحدث في العالم المحيط به، وخاصة في بلدٍ شقيق، ولو ادَّعى غير ذلك لخرج آليًّا من زُمرة المثقفين. وأما الضمير الإنساني فإنه يدفعه حتمًا إلى استنكار أعمال القمع والإرهاب التي كانت تسود مُمارسات النظام العراقي قبل وقتٍ طويل من عدوانه على الكويت.

لقد أعجبتني شجاعة الدكتورة سعاد الصباح، حين قالت بلا مُواربة: كنتُ على خطأ! ولو كان لدى الباقِين مِن المؤيدين السابقين للنظام العراقي قدْر من هذه الشجاعة لاعترفنا لهم على الأقل بفضيلة يقظَةِ الضمير. أما المُكابرون الذين لا يعتذرون إلَّا بقولهم: ما ذنبنا إذا كان النظام العراقي قد خيَّب ظنَّنا وفاجأنا بما لم نكن نتوقَّع؟ أما هؤلاء، فإنهم يدفعوننا إلى أن نرفع أصابعنا في وجوههم قائلِين: إنكم يا سادة لا تملكون عقل المُثقف الحقيقي، الذي ينبغي أن يكون عارفًا بما كان يُمارسه النظام العراقي، حتى قبل غزوه للكويت، من قمعٍ دموي، ولا تملكون فضيلة الرجوع إلى الحقِّ عندما تُدركون خطأكم!

الربط العربي والربط الإسرائيلي

في مقالي السابق الذي نُشِر في العدد الأول من صوت الكويت، أشرتُ إلى أن لفكرة الربط، بين قضية احتلال العراق للكويت وقضية احتلال إسرائيل للأرض المُحتلة الفلسطينية، وجهًا آخر مضادًّا تمامًا للوجه «القومي» الذي يتخيَّله المدافعون المُتحمسون لها؛ ذلك أن من يُنادي بهذه الفكرة يعترف ضمنًا بأننا إزاء جريمتَين مُتشابهتَين، ومن ثم فإنه يوجِّه للنظام العراقي أبشعَ اتهامٍ يُمكن توجيهه إلى أي نظامٍ عربي، وهو أنه اعتدى على حقوق شعبٍ شقيق بقدْر ما اعتدت إسرائيل على حقوق شعبٍ آخر.

واليوم أودُّ أن أشير إلى جانبٍ آخر من جوانب فكرة «الربط»؛ فإذا كانت منظمة التحرير تتحمَّس لمبدأ الربط على أساس أنه وسيلة لتحريك القضية الفلسطينية، وعلى أساس أن حِرص العالم على تحقيق الانسحاب العراقي مِن الكويت ينبغي أن يُواكبه حرص مُماثل على تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأرض المُحتلة بعد ١٩٦٧م، فإن إسرائيل تتحمَّس بدَورها لمبدأ الربط من زاويتها الخاصَّة؛ ذلك لأن أصواتًا صهيونية كثيرة أخذت ترتفع الآن قائلة: إذا كان الفلسطينيون يتحمَّسون لضمِّ العراق لدولةٍ عربية، فعلى أي أساس يعترِضون على قيامنا بضمِّ أرضهم؟ وإذا كان الإجراء الذي اتخذناه خارجًا عن القانون الدولي، ومبنيًّا على القوة العسكرية التي مارسناها في ٥ يونيو، وعلى سياسة الأمر الواقع، أليس الغزو العراقي للكويت أشد خروجًا على القانون الدولي؟ أليس بدوره مرتكزًا على القوة العسكرية التي مورست في ٢ أغسطس، وما أعقبها من محاولاتٍ لفرض الأمر الواقع؟

وهكذا فبينما يسعى العرب إلى تحقيق مكسبٍ عن طريق الربط بين انسحاب وانسحاب، يسعى الإسرائيليون إلى تحقيق مكسبٍ أكبر عن طريق الربط بين احتلال واحتلال.

ويبقى بعد ذلك أن نُحذر: لا تتفاءلوا كثيرًا بفكرة «الربط»، فما أسهل أن تتحوَّل إلى سلاحٍ يُصوبه أعداؤنا إلى رقابنا، وكفانا الله وإياكم شر «الربط»!

اللغة الصدَّامية وتقلُّباتها

تكشِف لنا متابعة اللغة الصدَّامية المُستخدَمة في صدد أزمة الخليج، والموجَّهة إلى العرب وغير العرب، عن ظواهر عجيبة، سأكتفى بالإشارة إلى البعض منها، مع اعترافي بأن هذا موضوع يحتاج إلى دراسةٍ أوسع وأكثرَ تفصيلًا.

  • (١)

    فقبل الأزمة بوقتٍ طويل كانت اللغة المُستخدَمة هي اللغة «العائلية» المعروفة في اللقاءات العربية الرسمية: نحن والكويت أشقاء … الإخوة الكويتيون … إلخ.

  • (٢)

    وقبل الأزمة مباشرة، وعلى سبيل التمهيد للغزو، استُخدمت — بلا مناسبة، وبلا سبب، وبلا نتيجة — لغةُ التهديد لعدوِّ العرب التقليدي: سنحرق نصف إسرائيل … وكانت الرسالة في واقع الأمر موجهةً إلى الشارع العربي لإثارة حماستِه وكسب تعاطُفه الذي سيُفيد كثيرًا فيما بعدُ، عندما يُوجَّه «الحرق» إلى الكويت لا إلى إسرائيل.

  • (٣)

    وعندما لاحت نُذُر الأزمة، استُخدِمت لغة المصالح المادية: لقد خفضتم أسعار النفط لإضعاف اقتصادنا، وسحبتُم البترول من حقلِنا، ورفضتم أن تمنحونا منفذًا على الخليج … إلخ.

  • (٤)

    ومع بداية العدوان استُخدمت لغة التغطية والتمويه: قامت ثورة داخلية في الكويت، واستدعانا الثوار للتدخُّل.

  • (٥)

    وبعد أن مرَّت أيام دون أن يهتدي المعتدي إلى اسمٍ كويتي واحد يضعه ضِمن حكومة «الثوار» ولم يعُد هناك مَفر من إعلان أسماء ثوَّار «بالتعيين»، استُخدِمت اللغة الوحدوية الاندماجية: لقد طلب الثوَّار انضمام الكويت إلى العراق.

  • (٦)

    وعندما أصبحت قصة «حكومة الثورة»، وكذلك أسماء رجالها، نكتةً من أسخف نِكات التاريخ العربي الحديث، ظهرت اللغة التاريخية: إن للعراق حقوقًا تاريخية في الكويت، فلا بد من تحويلها إلى «المحافظة العراقية رقم ۱۹».

  • (٧)

    وعندما انخدعت الجماهير في بعض الأقطار العربية بدعاوى الغزو وحُججه الزائفة، وظهر واضحًا أن مظاهرات الشوارع العربية يُمكن أن تكون رصيدًا مفيدًا لمساندة العدوان، بدأ استخدام مختلف عناصر اللغة الجماهيرية: ضم العراق للكويت نواةٌ للوحدة العربية الشاملة، استيلاء العراق على نفط الكويت تحقيق لتوازُن الثروة بين العرب الأغنياء والعرب الفقراء، الحدود المصطنعة لا بد أن تُزال، لن نخرج من الكويت إلا إذا خرجت إسرائيل من فلسطين.

  • (٨)

    وحين ضاق الخناق على المُعتدي، وفي الوقت ذاته تحركت لمؤازرته جماعات إسلامية اشتهرت طوال تاريخها بالتخبُّط في الاتجاه، أصبحت اللغة إسلامية: الجيوش الأجنبية تُدنس مقدساتنا، عبد الله المؤمن سليل الرسول يدعوكم إلى الكفاح المُقدس، ظهر لي الرسول في المنام … إلخ.

  • (٩)

    ومع الأجانب استُخدِمت لغة الابتزاز والتهديد: رعاياكم «ضيوف» لدَينا، وإذا حدث لهم أيُّ شيءٍ فإن حكوماتكم هي المسئولة (قارن في أي فيلم سينمائي لُغة خاطف الطفل على الهاتف مع الأب المَذعور: ادفع وإلا ستكون مسئولًا عما يحدُث لابنك)!

  • (١٠)

    ومع إحكام الحصار استُخدمت لغة الرشوة: سأقدم البترول مجانًا لمَن يطلُبه من بلاد العالم الثالث. وفي مرحلةٍ لاحقة: سأبيعه لأي بلدٍ في العالم بنصف الثمن.

  • (١١)

    وفي محاولةٍ لفكِّ صفوف التحالف العالمي استُخدمت لغة التفرقة والتمييز: سأُطلق سراح رهائن فرنسا، لأن موقفها أقرب إلينا من الباقين. وقبل اجتماع القمة الأمريكي السوفياتي: «نحن نتطلَّع إلى الاتحاد السوفياتي ليَقِف موقفًا مُستقلًّا عن أمريكا في هذا الاجتماع»! وبعد فشل هذه المحاولة استُخدمت لغة الشتائم: «لقد أصبح الاتحاد السوفياتي ذيلًا لأمريكا، وجورباتشوف ووزير خارجيته عملاء لها».

  • (١٢)

    لغة الإغراء: سأُطلق سراح جميع الرهائن لو تعهَّدت فرنسا والاتحاد السوفياتي بألَّا يكون هناك حلٌّ عسكري للأزمة.

والأمر الذي يلفت الأنظار في مواجهة هذا التعدُّد الهائل للُّغة الصدَّامية أنَّ الدول الأجنبية كلها، الكبرى منها والصغرى، لم تتأثر بأيٍّ من هذه اللغات، وظلَّت على موقفها الثابت من رفض العدوان، والدعوة إلى الانسحاب، وعودة الشرعية. أما الشعوب العربية فإن نصفها قد تأثر بهذه اللغة الشديدة التقلُّب، وسار معها في تخبُّطها يمينًا ويسارا، دون أن يُدرك التناقُض الصارخ بينها.

وعلى سبيل المثال فإنَّ اللغة الأولى (العائلية) والثانية (تهديد إسرائيل) تتنافى مع جميع اللغات الأخرى التي تدعم العدوان على بلد عربي مجاور. واللغة الثالثة (المصالح المادية) تتعارَض مع الرابعة (قيام ثورة داخلية). ولُغة الحقوق التاريخية تتعارَض مع لُغة المصالح، ولُغة البيع المجاني للبترول تتعارَض مع الشكوى من خفض الكويت لأسعار البترول. واللغة الإسلامية تتناقض مع اللغة القومية العربية (ألم تُلحَّ علينا الحركات الإسلامية السياسية طوال عقودٍ كثيرة بضرورة إحلال الرابطة الإسلامية محلَّ الرابطة القومية العربية؟) التناقُضات كثيرة وصارخة في اللغة الصدَّامية، والمفروض في مَن يقتنع بإحداها ألَّا يقتنع بالأُخرى، ولكن نسبة لا يُستهان بها من شعوبنا العربية تُصدقها كلها، وتتقلَّب معها كيفما تخبَّطت.

مرة أخرى أقول: ما أفدح القصور العقلي العربي الذي كشف عنه عدوان العراق!

الكفاح بالرشوة

زعيم حزب عربي تُدافع جريدتُه — التي أخذَت في السنوات الأخيرة تنحو منحًى إسلاميًّا واضحًا — عن وجهة النظر العراقية، وإن كانت تُمهِّد لدفاعها دائمًا بالمقدمة المألوفة: نستنكِر الغزو وندعو إلى الانسحاب ولكن … هذا الزعيم الذي أطلق لحيتَه البيضاء انسجامًا مع التوجُّه الإسلامي السياسي لحزبه، تعرَّض لهجومٍ صحفي يتهمه بأنه تقاضى من الرئيس العراقي رشوةً متواضعة، هي سيارة مرسيدس ٥٠٠، فكيف دافع عن نفسه؟ قال إن الرئيس العراقي قدَّم أربعين سيارة مُماثلة للمسئولين الحاضرين من أبناء بلدي في المناسبة السعيدة التي اقتضت تقديم هذه الهدية «المُتواضعة» … اتقوا الله، إن الجميع قد أخذوا فلماذا تُهاجمونني؟

دفاع رائع، أليس كذلك؟ كلُّ ما في الأمر أن فكرة «لم أكُن وحدي الذي ارتشيتُ» ليست، بقدْر ما أعلم، من وحي الإسلام، بل هي وحي الشيطان.

والأهم من ذلك أنَّ الزعيم الكبير كان ينبغي أن يُدرك مما حدث كيف بُدِّدت الثروة العراقية؛ فتقديم رشاوى ضخمة كهذه إلى مسئولي بلدٍ واحد، وفي مناسبةٍ واحدة، هو مؤشر واضح للطريقة التي تُنفَق بها الأموال وتُشتَرى الذمم. وأبسط ما كان ينبغي أن يفعله الزعيم الجليل ذو اللحية البيضاء هو أن يُخاطب مُحرري صحيفته قائلًا: قولوا أي شيءٍ عن غزو العراق للكويت ما عدا أنه إعادة لتوزيع الثروة العربية بين الأغنياء والفقراء. فمن هؤلاء الفقراء من لم يصبح فقيرا إلَّا لأنه بعثر أمواله ذات اليمين وذات اليسار، ومَن لم يُصدقني فأمامه سيارتي الفاخرة!

الحدود بين هيكل وداود

أثارت انتباهي ظاهرة صحفية طريفة أدعو القارئ إلى التفكير في دلالتها: ففي مقال هيكل المشهور، والمشئوم، في جريدة التايمز، يعرب عن استخفافه بالحدود القائمة بين الدول العربية، لأنها حدود رسمَها الاستعمار في أول القرن لتحقيق مصالحه. والمعنى الضِّمني بالطبع هو: إذا جاء حاكم عربي وداس هذه الحدود بأقدامِه فلا لومَ عليه ولا تثريب، لأن هذه حدود رُسِمت لصالح الاستعمار.

وفي مقال آخر بجريدة «الأهالي» للأستاذ ضياء الدين داود، القُطب الناصري المعروف، يُحذرنا من الوجود العسكري الأمريكي الذي يستهدِف التلاعُب بالحدود العربية الحالية، ورسم خريطة جديدة تُحقق المصالح الأمريكية في المنطقة.

المقال الأول يُهاجم الحدود الحالية لأنها من صنع الاستعمار، ولا يرى بأسًا من انتهاكها، والمقال الثاني يخاف على الحدود الحالية، ويُحذرنا من مؤامرة إمبريالية تستهدِف انتهاكها.

أطرف ما في الأمر أن الكاتبَين من أقطاب العهد الناصري، أي أن تكوينهما السياسي مُتشابه، كما أنَّ كلًّا منهما مِن المُنحازين بصراحةٍ أو ضمنًا للخط العراقي. ومع ذلك فإنهما يقفان في مسألةٍ واحدة، هي مسألة الحدود العربية، على طرفي نقيض.

صوت الكويت
  ١٦ / ١١ / ١٩٩٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥