صورة الزعيم في العقل العربي
تمر الثقافة العربية، خلال أزمة الخليج، بمرحلة من التوتر والفرز لا نظيرَ لها في الربع الأخير من القرن العشرين؛ فقد تولَّدت عن الأزمة السياسية والعسكرية أزمة ثقافية لا تقلُّ عنها خطورة، أو لِنقُل إنها كشفت عن بؤَرٍ فاسدة في تلافيف العقل العربي، كانت مُختفية وراء قشرةٍ من المواقف العقلية المَبنية على المُجاملات والتمنِّي والتهويم وخداع الذات. وحين تنقشع غيوم هذه الأزمة — وآمُل ألا تكون غيومًا رعدية — سيكون حسابُنا لأنفسنا عسيرًا، وسيتكشَّف لنا من جوانب التهاون والغفلة في حياتنا العقلية ما يجعل وجوهًا كثيرة تحمرُّ خجلًا.
لقد قارن البعض أزمة الخليج الراهنة بمجموعة الأحداث المُرتبطة بتأميم قناة السويس في عام ١٩٥٦م. غير أن هذا التشبيه في رأيي باطِل كلَّ البطلان، بل إن مجرد التفكير فيه إنما هو مظهر من مظاهر مِحنتنا العقلية العميقة الجذور. وأحسب أن المقارنة الصحيحة هي المقارنة مع أحداث يونيو ١٩٦٧م. ولستُ أودُّ الآن أن أستطرد في سرْد التشابُهات التي ربما فرضت نفسَها على الذهن، كغرور القوة المصحوب بسوء التقدير، والخطأ الفادح في الحسابات، واستدراج الأعداء لصنَّاع القرار إلى مواقف تُورِّطهم وتُورِّط معهم أمةً بأسرها، وانقياد صناع القرار هؤلاء إلى الفخِّ المنصوب وكأنهم مَسلوبو الإرادة والفكر، والوقوع في هوةٍ نظل نُعاني آثارها وخسائرها ونرهن مُستقبلنا من أجلها عشرات السنين.
هذه كلها تشابُهات قد تغري المرء بتتبُّع خيوطها، غير أنني لن أستسلم الآن لهذا الإغراء، وسأقتصر على واحدٍ من هذه التشابُهات يفرض نفسه على ذهني بإلحاح، وهو ذلك الحساب العسير الذي لا بد أنَّنا سنُمارسه على عقولنا بعد أن تنتهي الأزمة الراهنة، مِثلما مارسناه من قبلُ في أعقاب هزيمة ١٩٦٧م.
لقد وصفنا عملية التأمُّل الداخلي والنقد الذاتي التي مارسناها على عقولنا وعلى حضارتنا وعلى أسلوب حياتنا، في أعقاب هزيمة ١٩٦٧م، بأنها عملية تعذيب للنفس وجلدٍ للذات. وأعجبنا هذا الوصف فاتَّخذنا منه وسيلةً لتبرئة الذات والتستُّر على نواقِصها والتكتُّم على البؤر السوداء في عقولنا، مع أن أعظم قدْرٍ من تعذيب الذات لم يكن يكفي لكي نرى حقيقتَنا الشائهة أمام أيةِ مرآةٍ صادقة بعد تلك الهزيمة الحضارية التي قرَّرت في ستِّ ساعاتٍ مصيرَ أُمةٍ كاملة طوال نصف القرن التالي لها على الأقل.
واليوم، ونحن لم نعرِف بعد طريقَنا إلى الخروج من النكسة الثانية، تظهر الأمور واضحةً وضوح الشمس فها هو ذا العالم بأسرِه، يحكُم على ما اقترفَه ذلك الحاكم الذي ينتسِب إلينا بأنه جريمة وغزو وحشي وانتهاك فظٌّ لحقوق الأمم والأفراد. وها هو ذا الغرب والشرق والشمال والجنوب، والعالم الأول والثاني والثالث والدول المتقدمة والمُتخلفة؛ ها هم جميعًا يُعبرون بأوضح العبارات عن استنكارهم واشمئزازهم من ذلك العدوان الهمجي الذي أطفأ — في نظر هذا العالم — شمعةً وليدةً لا يتجاوز عمرُها العام الواحد، شمعة الوفاق والمصالحة والتفاهُم بين أشدِّ المعسكرات تنافرًا؛ تلك الشمعة التي أنارت للبشرية طريقًا جديدًا تحلُّ فيه مشكلاتها بأسلوبٍ حضاري عقلاني، وتكسر فيه رماحها لتُحيلها إلى مناجل تغرس بذرًا وتحصد ثمارًا. ولكن العرب وحدَهم هم الذين يَنقسمون في حُكمهم على ما حدث، وهم وحدَهم الذين تظهر بينهم جموعٌ حاشدة تُصفق وتُهلل لعودة حاكمٍ عربي إلى اتِّباع أبشع أساليب العصور الوسطى في فضِّ خلافاته مع جيرانه الأصغر والأضعف.
في بلادنا العربية وحدَها علَتِ الأصوات، لا من الجماهير غير الواعية فحسب، بل من أعلى شرائح المجتمع فكرًا وثقافة، مؤكدةً أن هولاكو الجديد، لم يبتلِع فريسته، وإنما «حرَّرها»، وأعادها إلى مكانها الطبيعي في بطنِ الوطن الأمِّ. من قلب منطقتنا العربية، دون سائر بقاع الدُّنيا، تَدمى الأكفُّ تصفيقًا لأكبر انشقاقٍ عربي في العصر الحديث، وتنشقُّ الحناجر هتافًا لمن صنع النكبة الكبرى بتلقائيةٍ باردة، لا تكترث بماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبل. ولا يجد المرء مفرًّا أمام هذه الظاهرة الفريدة من أن يطرح على نفسه السؤال الحائر: هل نِصفنا المؤيد للعدوان، هو وحدَه الذي يرى من الأمور مالا يراه العالم كلُّه، ويفهم ما يعجز عن فهمه الجميع (وهو عين ما يؤمِن به المجنون حين يؤكد أنه، من بين سائر البشر، هو وحدَه العاقل) أم أن فينا خللًا أساسيًّا يجعلنا نستمتع بالسقوط في تلك الهوة التي استطاعت شعوب الأرض، منذ اللحظة الأولى، أن تتفاداها وتتناءى عنها؟
في بلادنا العربية وحدَها نجد إنسانًا أسبغنا عليه أعظم الأوصاف: الصحفي الأكبر والمُحلل الأعظم … إلخ، يضع البلد الغاصب في صفِّ المظلومين، ويجعل من الزعيم الذي دفع وطنًا عظيم الثراء إلى الإفلاس نصيرًا للفقراء، ويؤكد أن أفعال النظام الذي انتهك حقوق الإنسان بأكثر مما فعل أيُّ نظامٍ معاصر غيره، هي التي ستُمهد لنظام عربي تُحترم فيه الحقوق والقيم الإنسانية. يفعل هذا كله وهو مطمئن البال، راضٍ عن نفسه أعظم الرضا، ويجد مَن يرحبون بفجاجته هذه وكأنها طوق النجاة الذي سيُنقذ هذه الأمة من الغرق. وفي بلادنا وحدَها يساند السواد الأعظم، ممَّن يلبسون عباءة الدين، أبشع عمليات الاغتصاب والظلم والكذب، وكأنها العدل العميم الذي يوزِّعه المهدي المُنتظر على عالم مُلئَ جورًا.
ما أطول قائمة التفكير المعوج التي كانت متوارية عن الأعيُن قبل أن تُسلط عليها النكبة الأخيرة ضوءًا ساطعًا! وكم سيكون الحساب عسيرًا على أصحاب المواقف المُتشنجة التي تخلع على العدوان الهمجي أنبلَ السمات القومية والإنسانية، وتوظِّف فكرها وثقافتها من أجل إضفاء صورةٍ براقة على أقبح أنماط الحُكم وأبشع ضروب المُمارسات!
إن المسألة، في رأيي، ليست ناجمةً عن سوء النية بقدْر ما هيَ ناجمة عن سوء الحُكم والتقدير، وعن قصورٍ مؤسِف في الوعي، يرجع أساسًا إلى انعدام الممارسة الديمقراطية على مستوى التفكير والتعبير؛ فمن المؤكد أنَّ الحجْر الطويل الأمد على العقل العربي، وصفوف الأسلاك الشائكة التي وُضعت في طريقه، مسئولة إلى حدٍّ بعيدٍ عن ذلك الوضع المأساوي، الذي يتحول فيه المُستبد — على أيدي نفرٍ من قادة الرأي في أُمتنا — إلى بطل، والطاغية إلى أمَل، والذي تبدو فيه سلاسل السجَّان، في عيون البعض، طوقَ نجاة، ويغدو فيه مصَّاص الدماء مسيحًا مستشهدًا.
دعونا نُناقش صورة ذلك الزعيم الذي أثار هذه العاصفة كلها، في أعين المُثقفين العرب، ونتأمل كيف تغيَّرت هذه الصورة بعد الثاني من أغسطس لدى هؤلاء المُثقفين أنفسهم، حتى تتاح لنا فرصة استخلاص أعراض المرَض بصورةٍ أشد وضوحًا. ولنُحدد أبعاد هذه الصورة المُتعددة الأوجه في ضوء التضادِّ بين البطولة والطغيان. عندئذٍ سنجد أمامنا أربع صورٍ ممكنة، تبعًا لنظرة المُثقف إلى الزعيم قبل الغزو وبعده.
هذه الصور الأربع توزَّعت بالفعل على أذهان المُثقفين العرب في رؤيتهم للزعيم العراقي. وكما نرى فإن تقييم الزعيم قد تغيَّر في الأولى من السلب إلى الإيجاب، وفي الثانية من الإيجاب إلى السلب، وفي الثالثة ظلَّ ثابتًا على إيجابيته، وفي الرابعة ظلَّ ثابتًا على سلبيته. وفي رأيي أن الصورة الأخيرة هي وحدَها التي تتمشى مع المعايير الجديرة بالمُثقف، بينما تنطوي الصور الثلاث الأخرى على قدْر لا يُستهان به من تشوُّه الرؤية وزيف الوعي.
هذه هي الصورة التي تسود لدى الغالبية العظمى من مؤيدي العدوان الصدَّامي في أقطارٍ عديدة تمتد على طول العالم العربي وعرضه، وهي بوجهٍ خاص الصورة التي تؤمِن بها نسبة كبيرة من مُثقفي الأرض المحتلة ومن قادة انتفاضتها، كما أنها هي التي تسود بين الجماعات الإسلامية المتعاطفة مع النظام العراقي في مغامرته الأخيرة. ووفقًا لهذه الصورة كان الزعيم العراقي من قبلُ طاغية؛ إذ إن الكثيرين من أصحاب هذا الموقف كانوا من الاستنارة بحيث أدركوا إلى أي مدًى كانت ممارسات الزعيم — تجاه مُعارضيه وتجاه المُنشقين من أعضاء حزبه وأبناء شعبه الساعِين إلى تأكيد هويتهم (كالأكراد وكثير من الشيعة) — خارجةً عن كل معيارٍ إنساني، وكانت تعلَم حق العلم أن العراق في ظلِّ الزعيم كان نموذجًا للدولة الخاضعة لحُكم فردي قمعي تُلغى فيه إرادة الجميع، وعقول الجميع، وشخصية الجميع، باستثناء رجلٍ واحد، وتُكرس فيه موارد المجتمع من أجل تلبية طموحات هذا الرجل وتحقيق أحلامِه وإرضاء غروره. كما أن فئةً أخرى من أصحاب هذا الموقف كانت ترى في علمانية النظام العراقي، وخوضه معركةً طاحنة، كان هو البادئ بها ضد تجربة وليدة لتطبيق الشريعة في الحكم، سببًا كافيًا لاتخاذ موقف العداء الشديد منه، والتنديد به بوصفه طاغية مارقًا.
ولكن هذا الطاغية تحول فجأة، في نظر أصحاب هذا الموقف بجميع فئاتهم، إلى بطلٍ بعد أن غزا الكويت وضمَّها إلى أرضه، واستباح لنفسه كلَّ ما ينتمي فيها إلى عالم الأحياء والجمادات. وبمجرد أن رفع الزعيم شعار الوحدة، لم يُحاول أحد أن يُترجمه إلى معناه الحقيقي، وهو الضم القسري الذي لا يُدانيه إلا الاستعمار في أحلك صوره. وبمجرد أن رفع شعار إعادة توزيع الثروة بين أغنياء العرب وفقرائهم، تبدَّى لهم الطاغية القديم ثائرًا تقدميًّا يرد العدل المفقود إلى جماهير الأمة المظلومة، ولم يسأله أحد عما إذا كان قد أقام العدل — بأيِّ شكلٍ من أشكاله — في وطنه، وألزم نفسه به قبل أن يفرضه على الآخرين، ولم يُحاسبه أحد على ما بدَّد من ثروات بلده الذي كان، لولاه، خليقًا بأن يقِف في الصف الأول بين أغنياء العرب. وبمجرد أن نادى بالجهاد المُقدس (وهو شعار استعاره من أعدائه الذين خاض ضدَّهم حربه السابقة) ونسَب نفسه إلى سلالة الرسل، حتى انشقَّت نفس الحناجر التي كانت تتَّهمه بالعلمانية والفجور، تهليلًا له وتكبيرًا.
تلك هي الصورة السائدة لدى الضحايا، ولدى المخدوعين، ولدى الانتهازيين. أما الضحايا، وهم في المحل الأول دول الخليج، وعلى رأسهم الكويت بالطبع، فقد كان الزعيم في نظرهم بطلًا عربيًّا قوميًّا حين كان يخوض حربه الإيرانية، وكان تمجيد هذا الزعيم في نظر مثقفي هذه الدول — ومواطنيها العاديين على حدٍّ سواء — أمرًا لا يقبل المناقشة. وكانت أية إشارة إلى أسلوبه القمعي في الحُكم، أو إلى نوع التحالُفات والقوى التي تُسانده وتُسلحه في حربه العبثية، تُعَد ضربًا من الخيانة. كان الاندفاع نحو تأييده اندفاعًا لاعقليًّا تحركه روح قبلية تنصر القريب على الغريب، ظالمًا كان أم مظلومًا، دون أن تتوقَّف لحظةً واحدة لتتساءل عن وسائل هذا القريب أو غاياته. ولكن، ما إن وقع عليهم العدوان، حتى تحوَّل البطل في أعيُنهم إلى طاغية (والسؤال الذي يُغري المرء طرحه في هذا الصدد هو: تُرى لو كان البطل قد هاجم بلدًا آخر، أكان سيتحول في نظر الضحايا الحاليين إلى طاغيةٍ بالمثل؟) وكان انقلاب صورة الزعيم مباغتًا، شديد القسوة، مستعصيًا على التصديق.
أما المخدوعون، وما أكثرهم، فلا يختلف أمرهم كثيرًا عن الضحايا؛ إنهم يضمُّون شرائح واسعة من المُثقفين الذين أسلموا عقولهم لجهاز الدعاية الجبار لدى الزعيم «البطل»، واحتجبت أمامهم حقيقته الوحشية، بعد أن نجح في تغطيتها بستارٍ برَّاق تتلألأ فيه أضواء الأمجاد العسكرية. ولم يكن هؤلاء ينتمون إلى البلدان الضحية ذاتها، وإنما كانت منهم نسبة كبيرة من مثقفي الدول التي تتعاطف الآن مع الضحايا، ومن أهمها مصر. هنا أيضًا كانت المفاجأة قاسية، وإن لم تكن بالطبع في قسوة نظيرتها لدى الضحايا المباشرين. وبقدْر ما كان هؤلاء المثقفون أول الأمر مَخدوعين، حاولوا بعد العدوان أن يُكفروا عن غفلتهم بالتطرُّف في مهاجمة «البطل» الذي خيَّب ظنَّهم، وانقلبت صورتهم أمام أنفسهم وأمام الناس بقدْر ما انقلبت صورة معبودهم القديم، وكان الموقف في كِلتا الحالتَين مأساة عقلية.
وأمَّا الانتهازيون فإن مشكلتهم أفدح. ولو شئنا أن نُقارنهم بالفئة السابقة (أي المخدوعين) لقُلنا إن الفارق بينهما هو ذلك الذي يتحدَّث عنه بيت الشعر المشهور:
فإذا كان المخدوعون لا يدرون، فإن الانتهازيين كانوا قطعًا من العارفين، ومن المُحال أن يكون جميع الذين ظلُّوا في كل عامٍ يحجُّون إلى مهرجانات العراق، جاهلين بطبيعة النظام الدموي الذي يُنظمها، أو غير واعِين بما يُقدمه حضورهم (حتى بغير إسهامٍ إيجابي) من تأييد ضمني لذلك النظام — ناهيك عن قصائد المدح التي كانت تسيل من ألسنة الكثيرين.
إن المشكلة الكبرى لهذه الفئة من المثقفين، هي أن الكثير من أفرادها لم ينتقدوا أنفسهم بعد أن أرغمتهم الأحداث على تغيير صورة الزعيم من بطلٍ إلى طاغية؛ فنحن أمة تتشدَّق طوال الوقت بمبدأ النقد الذاتي، ولكنها نادرًا ما تُمارسه بصِدق، بل يبدو أنَّ أكبر العقول عندنا ترى فيه نوعًا من العار، وتخجل من الجهر به، وهكذا تظلُّ هذه العقول تُكابر، وتُبدِّد نصف حياتها الثاني في تبرير الأخطاء التي انغمست فيها بوعي خلال نصفها الأول.
والمثل النموذجي لهذه الفئة هو يوسف إدريس؛ فلن يقتنع مخلوق بأن ذهنًا على مستوى ذهن هذا المثقف الكبير لم يكن واعيًا بطبيعة النظام السائد في العراق، أو لم يسمع عن تلك المواقف المبدئية الصارمة التي كان يتَّخِذها مثقفو أوروبا من الأنظمة الفاشية في الثلاثينيات والأربعينيات، والتي يتخذها مثقفو أمريكا اللاتينية من الدكتاتوريات العسكرية في أيامِنا هذه. ومع ذلك فإن الأديب الكبير حين تنصَّل من مواقفه السابقة تجاه هذا النظام — بعد أن أصبحت فضائحه مدوية — وحين تغيَّرت لدَيه صورة الزعيم الذي طالما ساندَه، من بطل إلى طاغية، تقدَّم بتفسير لهذا كله يُثبت بحقٍّ أن المسافة بين المستوى العقلي والمستوى الأخلاقي يمكن أن تكون شاسعة حتى عند أعظم الكتَّاب وهو يُلخِّص موقفه في عباراتٍ يقول فيها:
«صدام حسين كان في حالة دفاعٍ شرعي عن أرضه وأرض العرَب ضدَّ الاجتياح الخوميني، وكنَّا كلنا معه … بل كانت الخيانة الحقيقية أن يأخُذ أي كاتبٍ أو مُثقف موقفًا ضد صدام حسين وضد بغداد في ذلك الوقت. أما أن يخون هذا الحاكم قضيتنا كلنا، فهذه جريمة لا نُحاسَب نحن عليها. لقد خاننا صدام حسين، والعمل الخياني مُشكلته أنه لا يمكن التنبؤ به … إنَّ أحدًا على وجه البسيطة، حتى المُنجمون وضاربو الودع، لم يكن يتصوَّر أن يفعل صدام حسين هذا!» (يوسف إدريس الأهرام في ۸ / ۱۰ / ۱۹۹۰م)
هكذا تمضي عملية التبرير، ويستبيح العقل الكبير لنفسه أن يُقدِّم حججًا مثل: الزعيم كان في حالة «دفاع شرعي» (!)، وكان في حربِه الإيرانية يُدافع حقًّا عن أرضه وأرض العرب، وكأن محاربة الجيران هي وسيلة الدفاع عن العروبة. إن مثل هذه الحجَّة قد تُقبَل من إنسانٍ عادي، ولكن المُثقف الكبير يعلم حق العِلم أن إرساء دعائم الديمقراطية والعدل القانوني والاجتماعي أقوى أثرًا في الدفاع عن أي شعبٍ من ألف حرب. وهو يقول باستحالة التنبؤ بمسلك الزعيم، مع أن من أوليات الوعي أنَّ هذا النوع من الأنظمة لا يستطيع الاستمرار إلا بالقفز مِن مغامرة إلى مغامرة. ويفصح الكاتب الكبير عن الكثير، حين يؤكِّد أن الزعيم قد «خاننا»، أي أننا كنَّا نعقد عليه أعرض الآمال، ولكنه خيَّب ظنَّنا. ويلخص المُفكر الضخم موقفه بأنه لم يكن يعرِف، وهي نفس الحجة التي تذرَّع بها كل أعوان هتلر في محاكمات نورنبرج … كلِّ ذلك كي لا ينطق بالكلمة البسيطة: لقد أخطأت. تلك الكلمة التي كان جمهوره الكبير يتمنَّى سماعها، لا لكي يُبرئ قائلها فحسب، بل لكي يتَّخذ منه قدوةً ونموذجًا.
وتظل بعد ذلك الصورتان الأخيرتان اللتان يتماثل عنصراهما، وأولاهما صورة البطل/البطل. تلك هي صورة الغفلة الكاملة، التي كان أصحابها يؤمِنون ببطولة الزعيم حتى وهو يسفك دماء الألوف من بني وطنِه بلا محاكمة، ويتصرَّف في مُقدرات بلاده وكأنه ورِثها عن الأجداد الكرام. هؤلاء هم الذين ظلُّوا يؤمنون به وهو يخوض حربًا لا مثيلَ لضراوتها ولا لخسائرها ولا لعُقم النتائج التي انتهت إليها. من هؤلاء ضحايا غسيل كامل للمخِّ لا يترك للإنسان فجوةً صغيرة ينفُذ منها تفكير يتجاوَز نطاق ما تُقدمه الأجهزة الرسمية من مسموعٍ ومرئي ومقروء. ومنهم عروبيون أو قوميون مُتشنجون ممَّن تكفي لتحريكهم شعارات الوحدة، والثورة على الثروة والتصدِّي لعدوان الإمبريالية، ومحو الحدود الجغرافية المُصطنعة، دون أن تكون عقولهم مهيأة للتساؤل عن المضمون الحقيقي لهذه الشعارات، والأسلوب الفعلي الذي تُترجَم به على أرض الواقع.
أصحاب هذه الصورة لا تقبل عقولهم تجزئة الشخصية الواحدة إلى مكوناتٍ متناقضة بحيث يكون ملاكًا في آنٍ وشيطانًا في آنٍ آخر، أو العكس، لأن الإنسان في نظرهم وحدة لا تتجزَّأ؛ فالذي بدأ طاغيةً يستحيل أن يتحول فجأة إلى بطل، والذي كشف سلوكه عن طغيانٍ وحشي يستحيل أن يوصَف بأنه كان بطلًا من قبلُ. وهم لم يكونوا في حاجة إلى الانتظار حتى تقع كارثة اجتياح الكويت لكي يكتشفوا «فجأة» أن الزعيم مُستبد وأن نظامَه يقوم على القمع الدموي وعلى استخدام القوة الفجة بأبشع صورها؛ فقد كانوا يعلمون منذ البدء أن هذا نظام يُمكن أن يرتكب أي نوعٍ من الجرائم الفردية والجماعية، وأن سلوكه في اتجاه الشر متوقَّع دائمًا، ولا ينبغي أن يكون مفاجئًا لأحد.
هؤلاء هم الذين وقفوا بصلابة، منذ اللحظة الأولى، ضد مبدأ الحُكم الفردي المُطلق، لأنه البذرة الممسوخة التي تتولَّد عنها الكوارث كلها، وهم الذين رفضوا، من حيث المبدأ، أي تعامُلٍ مع ذلك النظام، حتى لو اتَّخذ شكل حضور مهرجانٍ ثقافي، لأنهم يعلمون أن المُثقف إذا تهاوَن مع هذه الأنظمة بأدنى صورة فإنه بذلك يَدعمها ويُشجعها على التمادي في جرائمها.
هؤلاء هم الذين لا يجدون أنفسهم اليوم بحاجة إلى أن يتصنَّعوا الدهشة والبراءة أمام العالم، شاكِين من أن الزعيم قد خدَعهم بعد أن صفقوا له وتقبلوا عطاياه، وهم الذين لا تحمرُّ وجوههم خجلًا مُعتذرين بحجَّةٍ لا تليق بأي مُثقف: كيف كان في وسعنا أن نعرف؟
ذلك لأن الأمور كانت واضحة منذ اللحظة الأولى. وإذا كان رجل الشارع قد ارتبك وأحسَّ بالحيرة، فلا عُذر للمثقف الذي ينبغي، بحكم جوهر ثقافته، أن يكون عارفًا، وينبغي أن تزداد معرفته ويسمو ضميره الأخلاقي بقدْر ما يرتفع مستوى ثقافته.
هؤلاء هم الذين أبصروا الحقيقة منذ لحظة بزوغها، وهم — للأسف — قلَّة ضئيلة في عالمنا العربي المنكوب بغياب الضمير والعقل، بقدْر ما هو منكوب بغيابِ الحق والعدل.
شتاء ۱۹۹۰م