أين الخلل؟
أعترف للقارئ بأنني أسفتُ أسفًا شديدًا حين سمعتُ نبأ بدء الحرب البرية التي نشبت حين رفض العراق الإنذار النهائي بالانسحاب من الكويت، ولكن سبب أسفي كان مختلفًا كل الاختلاف عن تلك الأسباب التي يُنادي بها أناس يتصوَّرون أنَّ تدمير العراق جريمة ولكن تدمير الكويت عمل قومي وحدوي، وأن الجيش العراقي، بعد كل ما ارتكبه في الكويت من فظائع مخيفة، ومن حُب للتدمير في ذاته ومن انتقامٍ ينمُّ عن كراهية بشِعة لشعبٍ سانده وأحبَّه وتعاطف معه، هو جيش عربي وطني يمكن أن يكون في المستقبل رصيدًا للأمة العربية. لم تكن تلك الأسباب المغلوطة هي التي دعتني إلى الشعور بالأسف لقيام الحرب البرية، وإنما كان السبب هو أن السرعة التي قامت بها هذه الحرب قد فوَّتت فرصةً هائلة لفضح ذلك الزعيم الذي تغنَّى بمدحه أكثر من نصف الشعب العربي، والذي ما زال يدافع بطريقٍ مباشر أحيانًا، وغير مباشر في معظم الأحيان، عدد من صفوة مُفكري بلادنا.
إن النتائج التي يمكن استخلاصها من قبول العراق للمبادرة التي طرحتها القيادة السوفيتية قُبيل نشوب المعركة كانت نتائج ذات دلالة عميقة، تفضح طبيعة الفكر المُنهار الذي انتشر في طول الأمة العربية وعرضِها منذ بداية هذه الأزمة. وأنا لا أستطيع أن أترك الحديث عن موضوع الفِكر العربي في علاقته بهذه الأزمة، بل أعدُّه من أعظم الموضوعات أهميةً، لسببٍ واضح هو أنَّ التقلُّبات السياسية والعسكرية تخرُج من أيدي مثقفي هذه الأمة، ولأن أسلوب تفكيرنا هو العنصر الدائم، وهو الذي سيظلُّ مُتحكمًا في مستقبلنا، على حين أن الأوضاع السياسية والعسكرية تتغيَّر من يومٍ إلى يوم، فالخطورة الكبرى تكمُن في أن هناك قطاعات واسعة منَّا تُفكر بطريقة يمكن أن تؤدي، بعد زوال صدام حسين ونظامه، إلى تكرار الظاهرة، وإلى قيام صدَّام الثاني وصدَّام الثالث … إلخ. من أجل ذلك كان تركيزي على طريقة مُواجهة العقل العربي لهذه الأزمة.
لقد فضح قبول العراق للمبادرة السوفيتية أمورًا كثيرة ينبغي أن يتأمَّلها مُفكرونا المؤيدون لصدام أو المشفقون عليه.
فهو أولا قد كشف عن تلك الازدواجية المُخجلة التي جعلت صدام يُخاطب شعبه بلغةِ التحدي والصمود والشجاعة في مواجهة الأعداء، في نفس الوقت الذي كان فيه وزير خارجيته يتفاوض مع السوفيت على قبول الانسحاب غير المشروط. ومرةً أخرى تُصفق الجماهير العربية لقائدٍ يحتقر شعبه وأُمته ويخدعهما علنا وبلا خجَل.
وهو ثانيًا قد أكد لتلك الجماهير المتشنجة في عمان والرباط والخرطوم، صحَّة ما كنَّا نقوله في مصر منذ البداية، وهو أن كل إشارات الرئيس العراقي إلى القضية الفلسطينية إنما هي عملية خداع وتمويه قصد بها حشد الشارع العربي لصالحه، بعد أن أصبح هذا الشارع هو رصيده الأكبر. فقد تنازل صدام، في المبادرة السوفيتية عن ذلك «الربط» المزعوم بالقضية الفلسطينية، وكان ذلك أول بندٍ ضحَّى به عن طِيب خاطر. ومن المؤسف حقًّا أن الحرب البرية قد أتت مسرعة لكي تُغطي على هذه الفضيحة، ولكي تُعيد إلى صدام صورة الشهيد أو البطل وسط جماهير عربية كانت ستكشف خداعه، وتتنبَّه إلى ما كانت عليه من غفلةٍ طوال الشهور السابقة، لو أن الحرب تأخَّرت، أو لو ظلَّت المبادرة السلمية تُمارس تأثيرها في هدم صورته. على أن المشكلة الحقيقية في رأيي هي مشكلة مَوقف المثقفين؛ فالجماهير في بلادنا ما زالت في حاجةٍ إلى توجيهٍ وتوعية من الصفوة، ولكن ما عُذر مُثقفينا الكبار حين يخضعون لهذا المنطق المغلوط؟
إن ردود فعل الفئة المُثقفة التي اختارت مساندة الموقف العراقي، بدرجةٍ أو بأخرى، تُثير في النفس قدرًا هائلًا من التساؤلات الممزوجة بالدهشة والألم.
ولكي نبدأ من واقع ملموس قريب العهد، وحتى لا نضيع في خضمِّ المعارك الكلامية التي احتدمت، واتخذت أشكالًا مُتعددة ومُتباينة، منذ بداية الغزو العراقي للكويت، دعونا نتناول العدد الأخير من جريدة «الأهالي بتاريخ ۲۰ فبراير» بوصفه نموذجًا لردود الفعل هذه، ولنُحلِّل مضمون هذا العدد بأكبر قدرٍ من الموضوعية يُتاح للمرء في مثل هذه الظروف العصيبة.
-
أولًا: أصبحت النغمة العامة هي نغمة
الخوف على شعب العراق من أهوال
الحرب الجوية لقوات التحالُف،
وخاصة القوات الأمريكية. وهذه
بالطبع نغمة جديدة، تختلف عن
نغمات أخرى سابقة كانت تُشيد
بالصمود العراقي، وتُلمح أحيانًا
إلى «خيبة» القوات المواجهة لجيش
العراق، وربما ذهبت في بعض
الأوقات إلى حدِّ توقُّع انتصارٍ
نهائي، عسكري أو سياسي أو كليهما
معًا، للطرف العراقي. لقد تغيَّرت
النغمة من التغني بالبطولات إلى
استدرار العطف والمطالبة بالرحمة،
دون أن يشير أحد، من قريبٍ أو من بعيد، إلى أن
لُغة الخطاب قد طرأ عليها تغيُّر أساسي، آخذًا بيدِ
القارئ المسكين وسط هذا التخبُّط
الفكري الشامل الذي يُعاني منه العالم
العربي في هذه الأيام
الحالكة.
وحين يُصبح التركيز منصبًّا على ضرورة حماية الشعب العراقي من عملية الإفناء التي تقوم بها الطائرات المُغيرة والقوات المهاجمة، بدلًا من التركيز على بطولات جيش صدام وقُدرته على إلحاق الهزيمة بجيوش العالم، فإن الحديث يصبح بغير شكٍّ أكثر واقعية، وإن كنا نتمنَّى أن تكون هذه الواقعية قد ظهرت منذ وقتٍ مُبكر، لكي تستبق الكارثة الراهنة بدلًا من أن تنتظر حلولها ثم تبدأ في التعبير عن نفسها بعد فوات الأوان. ولكن المشكلة الحقيقية تكمُن في أن هذا التعاطف مع نكبة الشعب العراقي يتَّخذ في كثيرٍ مِن الأحيان شكل مزايدةٍ لا معنى لها، إذ تُعرَض المسألة وكأن الرأي العام في مصر، وفي العالم العربي عامة، ينقسِم إلى فريقَين؛ فريق يسعد بتحطيم شعب العراق ومرافقه ومُدنه ومنشآته ويشمت في الكارثة التي حلَّت بهذا البلد الشقيق، وفريق آخر هو وحدَه الحريص على سلامة هذا الشعب.
هذا الطرح يحتاج، في رأيي، إلى مراجعة جِذرية؛ فليس بين مُعارضي الغزو العراقي، بل ليس بين من رفضوا ممارسات النظام العراقي قبل سنوات طويلة من غزو الكويت — ومنهم كاتب هذه السطور — ليس بينهم من لا يُدمي قلبَه الحزنُ منذ اليوم الأول لذلك القصف الجوي المُرعب الذي تعرَّض له شعب شقيق عزيز. ولكن المشكلة تكمُن في أن هذه الفئة الأخيرة كانت على وعي، منذ اللحظة الأولى، بأن مثل هذه الفاجعة لا بد أن تحدُث إذا استمرَّ النظام العراقي في إصراره على احتلال الكويت، رافضًا مختلف الوساطات المحلية والعالمية. ومن هنا كانوا في دعوتهم حاكم العراق إلى الانسحاب، يدعونه في الواقع إلى انقاذ شعبه وبلده من هلاك مُحقق. أما الفئة الأولى، التي تنادي اليوم بحماية شعب العراق من أهوال القصف الجوي، فقد كان من بينها من شجَّعوا النظام العراقي على التمادي في الطريق المؤدي إلى الهلاك. ولو كان الرأي العام العربي قد وقف بالإجماع وبصلابة وحزم، ضد الغزو العراقي للكويت — وهو عمل مشين بجميع المقاييس — لَما تمادى النظام العراقي في العناد الذي أوصل شعبَه إلى هذه المرحلة المُحزنة.
وهكذا فإن التضادَّ الحقيقيَّ ليس تضادًّا بين شامتِين في شعب العراق وعاطفين عليه، بل هو تضادٌّ بين من أرادوا تجنُّب الكارثة في الوقت الذي كان فيه تجنُّبها مُمكنًا، ومَن شجعوا على استفحال الكارثة بتعاطُفهم الظاهر أو الخفي مع المعتدي، وبتحويلهم للقضية الأصلية والحاسمة، وهي احتلال الكويت، إلى مسارِب ملتوية، كوجود القوات الأجنبية في المنطقة بأعدادٍ كبيرة — وكلها أمور كان التخلُّص منها يغدو أيسرَ بكثيرٍ لو أن السببَ الأصليَّ قد أزيل منذ وقتٍ مبكر. والآن وبعد أن وصلَت الأمور إلى هذا الحد، فهل كان مِن الممكن تجنُّب النكبة التي حلَّت بالشعب العراقي؟ إن البعض يتحدثون عن تجاوز القوات المتحالفة لهدفها الأصلي، وهو تحرير الكويت، إلى هدفٍ آخر شرير، هو تدمير العراق وتقطيع أوصاله. وعلى الرغم ممَّا يعتصِرني من ألَم كلما رأيتُ مدنيًّا عراقيًّا يتألَّم أو جدارًا عراقيًّا ينهدِم، فإني لا أملك إلا أن أعجب لقِصَر نظر أصحاب هذا الرأي؛ فأنا من المؤمنين بالفعل بأن الحرب هي الحرب، وما دامت الأمور قد وصلت إلى مرحلة القتال المسلح فلن تقدِر أية قوة على منع أي طرفٍ من استخدام كلِّ ما يملك من أجل تدمير الخصم، لا في ساحة القتال المباشرة وحدَها، بل في مَرافقه الأساسية وخطوط امدادِه ومصانعه ومنشآته. إن كل طرف في الحرب يستخدِم ما لدَيه من عناصر القوة. ومن العبث أن يقول البعض منَّا للأمريكيين في هذه الأيام: اقتصروا على تحرير الكويت، واتركوا أرض العراق وشعبَه في سلام؛ فمنطق الحرب — وهي أبشع وأحط سلوكٍ بشري — لا يعرف هذا التمييز. ولو كانت لدى العراق قُدرة عسكرية على تحطيم جميع المدن والمنشآت السعودية مثلًا لما تردَّد في ذلك، وهو على أية حال قد حاول، في حدود إمكاناته، ولكن بما أن إمكانات خصومه أضخم بما لا يُقاس، فقد كان من الطبيعي أن يكون الدمار الذي يترتَّب على ضرباتهم أفدح بكثير.
إن القضية كلها تنحصر في الوصول أو عدم الوصول إلى خيار الحرب. ولو كان أولئك الذين يُطالبون اليوم بتخفيف القصف الجوي أو إيقاف الحرب، قد اختاروا منذ البدء أن يقِفوا وقفةً صريحة ضدَّ الممارسات الإجرامية التي كان من المُحتَّم أن تُشعل نيران الحرب، ولو كانوا قد حذَّروا النظام العراقي من مخاطر العناد الذي ظلَّ يُلازمه حتى اللحظة الأخيرة، لكان موقفهم هذا مُجديًا بحقٍّ. أما أن نأتي بعد وقوع الكارثة، ونُطالب بحربٍ مُهذبة أو محدودة لا تنسف البنية الأساسية لبلدٍ اختار بنفسه طريق الحرب، فإن هذا لا يعدو أن يكون قصورًا في التفكير، إنْ لم أقُل نفاقًا. إن خيار الحرب بطبيعتِه بشِع، لا إنساني، واللوم كله يقع على من دفع العالم إليه. ومِن هنا فإن القاتل الحقيقي لهؤلاء الضحايا التُّعساء هو النظام الذي يَحكمهم، والمُتواطئ مع هذه الجريمة هو كلُّ مَن شجَّع هذا النظام على التمادي في الظُّلم الفادح الذي أوقعه بشعب الكويت، وبشعبه، وبالأمة العربية جمعاء.
ولو كان مُثقفونا جميعًا يقفون بحزمٍ ضد الطغيان والاستبداد، كما وقف مُثقفو أوروبا ضد ديكتاتورية هتلر وموسوليني وفرانكو، لأدركوا أن شعب العراق قد أصابه من الكوارث بسبب دموية نظام الحُكم ذاته، في السنوات العشر الأخيرة، أضعاف ما أصابه من الغارات الأمريكية. ولو كانوا قد تصدَّوا بحزمٍ لهذا النظام في الوقت المناسب، لَما وجد الأمريكان أو غيرهم فرصةً لهدم العراق كما يفعلون الآن.
-
ثانيًا: ما زلنا نتحدث عن عدد «الأهالي» الأخير بوصفه نموذجًا
لذلك النوع من التفكير الذي ساعد،
في رأيي، على استفحال الكارثة؛ فقد
جاء العدد بعد إعلان المبادرة
العراقية الأولى (مبادرة ١٥
فبراير) التي نصَّت للمرة الأولى
على كلمة «الانسحاب» وانصبَّ اهتمام
جميع من تناولوا هذا الموضوع —
وهم من صفوة كتَّاب مصر ومُفكريها —
على التنديد برفض الدول الغربية
والدول العربية المُشتركة معها في
التحالُف لهذه المبادرة، مع أنها
تنطوي على عناصر إيجابية كفيلة
بوضع حدٍّ للمذبحة.
أما أنا فقد أثارت فيَّ هذه المبادرة أفكارًا من نوع مُغاير تمامًا. فإذا كانت كلمة «الانسحاب» قد وردت في هذه المبادرة الأخيرة، فعلامَ إذن كان هذا البلاء كله؟ ولو كانت هذه الكلمة قد قِيلت قبل ١٥ يناير، ألَم يكن ذلك كفيلًا بأن يوفِّر على شعب العراق تلك الكوارث الفادحة التي ألمَّت به؟ بل ما فائدة هذه المغامرة أصلًا، إذا كان صاحبها قد تعهَّد بأن يعود مرةً أخرى إلى ما كان عليه قبلَها، بعد أن ترك جراحًا غائرةً في قلب كلِّ عربي، وبعد أن أفقدَ هذه الأمة العربية المنكوبة حصيلةَ جُهدها وعرَقها طوال عشرات السنين؟ من الذي كسب من ذلك الكابوس المُزعج الذي ألمَّ بنا منذ الثاني من أغسطس، سوى أعدائنا؟
كنت أنتظر أن أرى، وسط ألوف الأسطر وعشرات المقالات، جملةً واحدةً تُندد بهذا العبث الصبياني الذي تذهب ضحيته أُمَّة بأسرها. كنتُ أتوقَّع أن تؤدي كلمة «الانسحاب» إلى قيام أصحاب الضمائر وأصحاب الفكر السديد بمُراجعة كلِّ مواقفهم السابقة؛ فها هو ذا نظام حُكم غاشم يلعب مع حاضر أُمته ومستقبلها لعبة «الاستغماية»، ويأتي بعد العذاب والعناء وآلام الشهداء ليقول لنا «وضحكت عليكم! لنعُد مرةً أخرى إلى البداية». كنتُ أتصور أن هذا العبث الذي تكرَّر مرتَين في مدى شهور قلائل، مرة مع إيران بعد أزمة الكويت مباشرة، ومرة في هذا الشهر بعد أن تأكد النظام العراقي من المصير المُظلم الذي كان أصغرُ طفلٍ عربي يعرِفه ويتحدَّث عنه منذ اللحظة الأولى؛ كنت أتصوَّر أن هذا كلَّه سيُحرك في عقول مُثقفينا وكتَّابنا الكبار رغبةً صادقة في العمل على بحث الأسباب العميقة لهذا التلاعُب الفجِّ بمصير أمةٍ كاملة، واقتراح الحلول التي تحُول دون تكراره، وتضعُ حدًّا لتلك التجارب العابثة وتلك المغامرات الطائشة التي ندفع ثمنَها غاليًا دون أن يخسر المغامرون شيئًا. كنت أعتقد أن ورود كلمة «الانسحاب» الذي يعني اعترافًا بأن كلَّ ما قيل من قبلُ عن الحقوق التاريخية والمحافظة رقم ١٩ وبقاء الكويت إلى الأبد جزءًا لا يتجزأ من «الوطن الأم» إنما كان صفعاتٍ وإهانات موجهة إلى عقولنا. كنت أعتقد أن هذه اللطمة ستُثير واحدًا على الأقل من هؤلاء الكتَّاب لكي يُعرب عن سخطه على هذا العبث الصبياني الذي تكرَّر مرتَين في مدى شهورٍ قلائل، والذي سيزرع بين شعوبنا حقدًا وكراهية لا تمحوه السنون، والذي سيوقف إمكانات نموِّنا عقودًا طويلة من الزمان.
ولكنَّني لم أجِد من هذا الذي أتوقَّعه سطرًا واحدًا وسط ألوف السطور التي جادت بها قرائح كُتَّابنا ومُفكرينا في «الأهالي».
-
ثالثًا: وتعود قضية الربط فتفرِض نفسها
بقوة على صفحات الجريدة التي
نتَّخذها نموذجًا لهذا النمط الفكري
الذي نَختبره؛ ففي مقال للدكتورة
نوال السعداوي تؤكد أنها أفحمت
المندوبة الإسرائيلية في اجتماعٍ
عام حين ألحَّت هذه الأخيرة على
ضرورة انسحاب العراق من الكويت،
فردَّت عليها بالسؤال الحاسم: ولماذا
لا تنسحبون أنتُم من فلسطين؟
وعندئذٍ لم تجِد المندوبة
الإسرائيلية ما تردُّ به. ومع ذلك
فلتسمح لي الدكتورة الفاضلة بأن
أضع نفسي موضع هذه المندوبة،
وأتولَّى الرد عنها، فأقول: نحن لا
ننسحب من فلسطين لأننا أعداؤكم
التاريخيون، ولأن بيننا وبين
الفلسطينيين صِراع بقاء أو فناء
على أرضٍ واحدة. فكيف تتوقَّعين منَّا
نفس السلوك الذي تتوقَّعينه من بلدٍ
عربي تجاه بلدٍ عربي آخر
شقيق؟
إن قضية الربط بين الاحتلال العراقي للكويت والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين قد أصبحت متداولةً على كلِّ لسان. وعلى الرغم من إدراك الجميع أن النظام العراقي لم يدخُل الكويت من أجل فلسطين، وإنَّما غزاها من أجل أطماع مادية خالصة، فإنَّ الدعاية العراقية استخدمت هذا السلاح بعد فترةٍ من بدء الغزو لهدفٍ مزدوج: هو أولا استمالة الشارع العربي عن طريق إثارة أعز القضايا إلى نفسه، وثانيًا إطالة أمد احتلاله للكويت بالقدْر الذي يحتاج إليه حل مشكلة معقدة، قديمة العهد، كالمشكلة الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين أخذ الجميع يُردِّدون تلك الحجة المشهورة التي تقول إن العالم يكيل بمكيالين، فيتمسَّك بتطبيق قرارات الأمم المتحدة في حالة الكويت، ويتجاهل هذه القرارات في حالة فلسطين.
هذه الحجَّة التي يُرددها الجميع شرقًا وغربًا، وأنصارًا وخصومًا، تؤدي في رأيي إلى عكس الهدف المقصود منها. ولولا أن الناس لم يعتادوا إمعان التفكير فيما يقولون لما ظلَّ أحدٌ يُردد هذه الحجة المُتهافتة. ولكي أوضِّح ما أعني دعونا نتأمَّل المثال التالي: لو حكم قاضٍ بالإعدام على قاتل، وبالسجن ستة أشهرٍ على نشالٍ لَما جاز لأحدٍ الحديث عن تطبيق معيارَين. أما لو حكَم على قاتلٍ بالإعدام، وعلى قاتل آخَر مثله، وفي ظروف مشابهة، بالسجن خمس سنوات، فعندئذٍ نتحدَّث عن تطبيق معيارَين، ونستنكِر منه ذلك؛ فعلامَ يدلُّ هذا المثَل؟ إنَّ أحدًا لا يستطيع، ولا يجوز له، أن يتحدَّث عن تطبيق معيارَين إلَّا في حالة الجرائم المُتشابهة. وبعبارة أخرى، فإن من يَنتقدون الهيئات الدولية لتطبيقِها معيارَين مختلفَين في حالتي الكويت وفلسطين، لن يكون لانتقادهم معنًى إلَّا إذا كانوا يُسلِّمون بأن الجريمة في الحالتَين واحدة، وبأن ما ارتكبه العراق في حق الكويت مُماثل لما ارتكبته إسرائيل في حق فلسطين؛ أي إن من المستحيل على أحدٍ أن يستخدم هذه الحجة ما لم يكن يفترِض مُقدَّمًا أن الكويت قد وقع عليها من العراق ظلم مُماثل لذلك الذي وقع على فلسطين من إسرائيل، وأن الهيئات الدولية تتعامل مع الحالتَين، برغم هذا التماثُل، بطريقتين مختلفتين.
فإذا أدركنا أن أول من ابتدع هذه الحجَّة هو النظام العراقي نفسه، وأن المُتشنجين من أنصاره في عمان والخرطوم والرباط قد تلقَّفوها منه، وأن العدوى قد انتقلت إلى صاحبة المقال الأخير وإلى كثيرٍ غيرها من كتاب الجريدة المذكورة، تَبيَّن لنا كيف أنَّ أنصار الغزو يُوجِّهون إليه أفدح الاتهامات الاتهامات — وهو أنه لا يفترِق عن احتلال إسرائيل لفلسطين — في الوقت الذي يتصوَّرون فيه أنهم يُدافعون عنه ويُفحمون خصومه. وكم سيسخر منَّا العالم حين نُطالبه بألا يُفرِّق في المعاملة بين خصمنا التاريخي وبين شقيقنا الذي يُفترض أنه يقف معنا في خندقٍ واحدٍ مُواجِه لهذا الخصم! ولو كنَّا نُفكر جيدًا في معنى ما نقول لتمسَّكنا بالشرعية في حالة الكويت بدلًا من أن نربطها بشرعية القضية الفلسطينية، وذلك لسببين: أولهما ألا نُضيف إلى الكارثة القديمة كارثة جديدة، وثانيهما أن يُصبح دعم الشرعية الدولية في إحدى الحالات سندًا لإصرارنا عليها في الحالة الأخرى، وإلا فماذا يكون مَوقفنا لو أن المجتمع الدولي خاطبنا قائلًا: أتحتجون على تطبيقنا لمعيارين؟ حسنا، سنمتنع عن مساندة القضية الكويتية بدَورها، حتى لا تكون هناك تفرقة بين الحالتين!
إن القضية الفلسطينية هي بغير شكٍّ قضية الجميع، ولا مجال هنا للمزايدة، ولكن القول بأن حلَّها لا يكون إلا باختطاف بلدٍ عربي مُسالم ليظلَّ رهينةً إلى أن تُحَل القضية الكبرى، ليس إلا سخرية من عقولنا واستهتارًا بقيمِنا الإنسانية؛ فتكرار الظلم لا يُقيم العدل، وما كان أجدرَنا بأن نتمسَّك بتأييد مبدأ الشرعية في أية حالة يصبح فيها هذا المبدأ متاحًا، حتى يكون في ذلك سند نَرتكز عليه في مُطالبتنا بانسحاب إسرائيل من كلِّ أرضٍ محتلة.
•••
هذه، على أية حال، نماذج قليلة، اخترتُها من صحيفة واحدة، وفيها، ما يكشف عن أخطاء فكرية فادحة، لو وقع فيها رجل الشارع لكان له عُذره، أما أن يقع فيها صفوة الكتَّاب والمُفكرين فإن في هذا الدليل على أن الخلل أوسع من أن يكون منحصرًا في تلافيف مُخ صدام حسين.
لقد كان آخر ما نُشر لي في الصحف المصرية، قبل رحلةٍ إلى الخارج دامت عدة أسابيع، مقالًا بنفس الجريدة التي اتَّخذتها اليوم نموذجًا للتحليل، بعنوان هل مات اليسار؟ وكنتُ في هذا المقال أدافع عن بقاء اليسار كفِكر ومبدأ، على الرغم من كل ما يبدو في عالَمنا الراهن من تباعُد عنه وانهيار لمقوماته. وعلى الرغم من أنني كنتُ وما زلت مؤمنًا بأن اليسار، كمبدأ، سيظلُّ حيًّا، فإنني بالقطع لم أكن أقصد «هذا» اليسار!
۷ / ۳ / ۱۹۹۱م