نرسيس وغولدموند لهرمان هسة

دائمًا يكتب هسة رحلة حياة، يكون فيها ما يشبه رحلته الخاصة، دائمًا يهتم بالأحداث التي تجري داخل عقول أبطاله أكثر مما يهتم بما يجري خارجها، يصف كرسام أو كنحات. هو مغرم بالفنون، كل الفنون: الكتابة، الموسيقى، الرسم، النحت. مغرم بالحياة. فلسفته الخاصة تظهر دائمًا في كل قصصه، ورواياته التي يقول البعض عنها مُحِقًّا إنها قد تكون مجرد محاولات عديدة لكتابة نفس القصة، لكن هذا لا يقلل من متعتها ولا من تنوعها في نظري، دائمًا أحب صحبة أبطاله. سمى روايته هذه نرسيس وغولدموند — وهما بطلا الرواية الرئيسيان — وتكلم في أغلبها عن غولدموند وهو طبيعي فهو البطل الذي مرَّ بكل الأحداث، اختار نرسيس الذكي العقلاني البارع في التجريد وإعمال الفكر حياة التقشف التي تناسب مواهبه، ودلَّ صديقه الذي فكَّر في البداية أن يتبعه في دربه إلى طريقه الخاص، في الاتجاه المضاد. ومن خلال حركة غولدموند، وتشرده، الحائر والحر، رأى العالمَ — ربما كما رآه هرمان هسة — مليئًا بالغباء والخوف، والغضب، والمرض. لكنه لا يخلو كذلك من الجمال، والمتعة.

في هذه الرواية كان هناك التناقض الذي يظهر دائمًا في كتابات هسة، والمتأثر بالطاوية، والبوذية وفلسفات شرقية أخرى: الحركة من النقيض للنقيض هي الأصل، هذه الثنائية التي تقسم العالم إلى ذكر وأنثى، خير وشر، ين ويانج … يُخرج هسة من هذه الفلسفة سحره الخاص. في الرواية كما ذكرنا هناك نرسيس صاحب الميول العقلية، والذي يسير في طريق الرهبنة، وهناك غولدموند بطبيعته الحسية الفنية، الذي يتعامل بعد أن يتعرف على طريقه الخاص، مع الحياة بحواسه المختلفة، يرى ويتذوق ويحس ويحب، ويتخيل، ويتجول من قرية لقرية، طوال حياته، مستمتعًا بالحرية، والخبرات المختلفة. يتعلم بعد مصادفةِ مشاهدته لتمثالٍ أبهره فنَّ النحت. وتكون الأجزاء التي تصف فيها الرواية مشاهداته في الطبيعة، أو تفكيره في أعماله الفنية قبل وأثناء وبعد عملها ممتعةً بوصفها الجذاب وعمقها في التعبير عن الأفكار والمشاعر والصور. أيضًا الأجزاء التي تصف علاقاته المختلفة مع النساء هي أجزاء ممتعة وكاشفة أيضًا. وبالتأكيد فإن الحوارات التي قامت بين الشخصيتين نرسيس وغولدموند معبرة، وثرية، والتقابل بينهما طول الرواية حتى في الأجزاء التي لا يلتقيان فيها، سرٌّ من أسرار متعة العمل.

يمكنك أن تتساءل بخصوص الرواية أسئلة عدة، منها: هل الأشخاص فيها من لحمٍ ودم، أم أنهم مجرد رموز أو إحالات لمعانٍ ما؟ هل قصد وجود شخصيتين منفصلتين فعلًا أم أنهما فقط يشيران إلى جزأين من أجزاء كل إنسان؟ في كلا الحالين لا بد أن نراعي أن هرمان هسة يضع الكثير من الإحالات في كتابته؛ في هذه الرواية مثلًا، حتى أسماء الشخصيات لها دلالات ما. لكن شرح التأويلات وبسطها ليس التعامل الأفضل مع هذه الرواية في رأيي؛ لأن المعنى والتأويل هنا ليس بأهمية حالة التأمل ذاتها التي يضعك فيها النص. ولو دخلت إلى النص بالشكل السليم، فستجد حتى في الفقرات العابرة ما يدعو للتأمل، ويحتمل النظر والتأويل. الرواية في المجمل ممتعة، ككل ما قرأت لهسة من روايات، لكنها ليست عبقرية مقارنة بروايات أخرى له. وتظل تحفته الأهم هي «لعبة الكرات الزجاجية»، لكنَّ من يقرأ أيًّا من رواياته سيستمتع (لم أحب قصصه القصيرة كثيرًا).

مقتطف

لقد رسمت رسومات كثيرة وأضعتها كلها، ولكن يمكنني أن أخبرك عن سبب رغبتي في تعلم حرفتك. لقد راقبت العديد من الوجوه والأشكال وبعد ذلك رحت أفكر فيها. بعض هذه الأشكال كانت لا تني تغير عليَّ، لكنها لم تمنحني السكينة. لاحظت دائمًا كيف أنه في كل صورة ثمة شكل معين، يتكرر، كيف أن جبينًا يبدو منطبقًا على ركبة، ووركًا مع كتف، وكيف أن جوهر ذلك كله ينطبق وكيان الإنسان ومزاجه، الذي وحده يمكن أن يكون له مثل هذه الركبة، أو الكتف، أو الجبين. وهذا أيضًا لاحظت وجوده، وكنت قد شاهدته ذات ليلة وأنا أساعد امرأة تلد طفلها، ومفاده أن أشدَّ الآلام وأمتع اللمسات يُعبَّر عنهما تقريبًا بطريقة واحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤