وصفُ الغيوم: العالم كمرآة – الذات كعالم

١

يقدِّم «دافنشي» في كتابه «نظرية التصوير» نصائحَ مهمةً وثاقبةً للفنانين، يستلهمها من خبرته العملية الطويلة، ومن موهبته الكبيرة. استوقفتني منها نصيحة وَصَفَها بأنها «نصيحة ذات نفع كبير للفنان؛ إذ تساعد على تفتيح مَلَكَاته، وإِطْلَاعه على عديد من الابتكارات، رغم أنها تبدو قليلة القيمة، بل ومثيرة للسخرية.» ونصيحته كما ترجمها «عادل السيوي» ضمن كتاب دافنشي المسمى ﺑ «نظرية التصوير» هي أن «تتأمل — أيها المصوِّر — الجدرانَ الملطخة، والأحجار المختلطة، فإذا كنتَ تبحث عن تصوُّرٍ لموقعٍ ما، يمكنك أن ترى فيها صورًا وأشكالًا لبلدانٍ متنوعة، تزيِّنها الجبال، وتجري فيها الأنهار، وسترى الأحجار، والأشجار، والسهول الواسعة، والتلال على اختلاف أشكالها، كما يمكنكَ أيضًا أن ترى معارك مختلفة، وأفعالًا سريعةً تقوم بها مخلوقات غريبة الأشكال، وستشاهد العديد من الوجوه والملابس وأشياءَ أخرى كثيرة لا يمكن حصرُها هنا. ويمكنكَ أن تختصر هذه الأشكال في بناء متكامل، وأشكال قيِّمة. ومن يتعامل مع تلك الجدران والأحجار، يشبه من يُنصت إلى أصوات الأجراس، فيسمع في دقَّاتها كل اسم أو حرف أو كلمة يمكن أن يتخيلها.»

والنصيحة تشبه نصائح مماثلة قدَّمها السرياليون الذين أتوا بعد دافنشي بسنوات طويلة للفنانين والشعراء. حاول السرياليون — مستفيدين من «فرويد» ومتأثرين بمنهجيته — أن يعيدوا الاعتبار لِلَاوَعْيِ الإنسان، الذي تمَّ إقصاؤه من وجهة نظرهم لصالح الوعي. وكان هدفهم الذي أعلنوه هو محاولة تجاوز التناقضات بين الوعي واللاوعي، وبين الذَّات والعالم، ومن خلال هذا التجاوز كانوا يطمحون إلى الوصول إلى طريقة مختلفة وأكثر عمقًا للنظر إلى الذات وإلى العالم. وقبل السرياليين بقرونٍ أدرك «ليوناردو»، الذي كان كثيرٌ من نصائحه يؤكد على الجهد والعمل والنظر والتفكير، أهميةَ استعمال جوانب متنوعة من الذات في سبيل تطوير الفنان لنفسه، فجاءت هذه النصيحة في المقابل لتؤكِّد على العفوية، على النظر الهادئ إلى جدار مُلَطَّخ، وانتظار الأشكال حتى تظهر إلى الوجود.

٢

مجموعة من الأرقام المرتَّبة أمامك بعدها مساحة فارغة، تنظر إلى الأرقام لفترة ثم تكونُ في أوقات كثيرة قادرًا على معرفة الرقم الذي تحتاج لوضعه في المساحة الخالية. قابلتنا مثل هذه الألغاز كثيرًا؛ صغارًا وكبارًا. أحيانًا تكون هناك أشكال، أو حروف، أو كلمات، بدلًا من الأرقام، لكن الفكرة واحدة. أنت قادر على التعرف على الأنماط الكامنة في العالم من حولك.

حين تتعرَّف على العَلاقات التي تربط مجموعة من الأحداث، أو الأصوات، أو الأشكال، أو الحركات، وحين تتعرَّف على انتظامٍ ما كامنٍ فيما قد يظهر في البداية عشوائيًّا، تفعل ذلك من خلال التعرف على الأنماط Patterns. النمط يتعرَّف على الانتظام في العالم، يتعرَّف على العلاقات بين الأشياء. في اللحظة التي تتعرَّف فيها على نمطٍ ما، تتحول مجموعاتٌ من النقاط المتباعدة، أو الأحداث المتفرقة لتكوِّن أمرًا أكبر.

عقولنا مدرَّبة للتعرف على الأنماط في العالم، لدرجة أنها تراها أحيانًا حين لا تكون موجودة، بالضبط كما قال «ليوناردو دافنشي»: انظر إلى حائطٍ ملطَّخٍ لفترة كافية وسترى فيه عالمًا، ومخلوقات، وأشياء، وحركات. بينما أنت جالسٌ أمام هذا الحائط المتسخ، أو بينما تنظر إلى النجوم، أو وأنت تشاهدُ لهب شمعة يتراقص أمامك في الظلام، تتراءى لك رُؤًى ومشاهد، تعبِّرُ عما في داخلك أكثر مما تعبِّرُ عما تشاهده.

٣

البشر كائنات ذكية، نَهِمَة للمعرفة؛ ولذلك يُعَدُّ التعرُّف على الأنماط أمرًا شديد الأهمية في تعاملنا مع العالم. وكلما كُنَّا أقدر على التعرُّف على الأنماط في أشكالٍ ومستوياتٍ مختلفة، كُنَّا أقدرَ على التنبؤ والتحكم. وفي مقالٍ رائع عنوانه «فن الأدب وعلم الأدب» نُشِرَ في مارس ٢٠٠٨ في مجلة The American Scholar، يجادل «براين بويد Brian Boyd» أن الفنَّ والأدبَ أشكالٌ من اللعب المعرِفيِّ مع النمط. وهذا اللعب — ككلِّ أشكال اللعب الأخرى — له وظيفةٌ مهمة؛ فاللعب بشكل عام يساعد على تطوير المهارة وصقلها.

وكأنَّ المقال يقول إن الفنون والآداب — من خلال هذ اللعب المنظَّم مع العالم — تساعدنا على التعرُّف على العالم بشكل متجدد، وعلى فَهْمِهِ بشكل أفضل، وعلى توسيع مداركنا، وتساعدنا على التعرُّفِ على أنماطٍ جديدةٍ من المعرفة، وتقبُّلِها. وهو يعتبر هذا تفسيرًا لانتشار الفنون والآداب في الجنس البشري بالكامل، مهما اختلف المكان، والزمان، والثقافة، والعِرْق.

٤

يقول «محمود درويش» في قصيدته «وصف الغيوم»:

أَمشي على جَبَلٍ وأنظُرُ من عَلٍ
نحوَ الغيومِ، وقدْ تدلَّتْ من مَدَارِ اللازَوَرْدِ
خفيفةً وشفيفةً
كالقطنِ تحلجُهُ الرياحُ
كفكرةٍ بيضاءَ عن معنى الوجود
لعلَّ آلهةً تنقِّحُ قصَّةَ التكوينِ
«لا شكلٌ نهائيٌّ لهذا الكون …
لا تاريخَ للأشكالِ …»
أَنظُرُ من عَلٍ، وأرى انبثاقَ الشكلِ
من عَبَثيَّةِ اللَّاشكلِ
ريشُ الطَّيرِ يَنْبُتُ في قُرونِ الأُيَّلِ البيضاءِ
وَجْهُ الكائنِ البشريِّ يطلعُ مِنْ
جناحِ الطائرِ المائيِّ …
ترسُمُنا الغيومُ على وَتيرَتِها
وتختلِطُ الوجوهُ مع الرؤى
لمْ يكتمِلْ شيءٌ ولا أَحد، فبعدَ هنيهةٍ
ستصيرُ صورتُكَ الجديدةُ صُورَةَ النَّمِرِ
الجريحِ بصولجانِ الريح …

ما الذي يقوله درويش في هذه القصيدة؟ هل هي مجرَّد لعب مع الصور البصرية للغيوم؟ أو لعل صور القصيدة هي مجرَّد معادلات موضوعية لمشاعرَ ما لم يُفْصِحْ عنها بشكل مباشر. أو لعله يشير إلى بعض تأمُّلاته عن العالم — باعتباره متغيرًا ومتقلبًا على الدوام — من خلال ما يبدو كوصفٍ بسيطٍ للغيوم. هل يتحدث درويش هنا عن السُّحب؟ أم عن العالم؟ أم عن ذاته؟ أم عن كلِّ هذه الأشياء؟ ربما يكون الحديث عن أمرٍ مختلفٍ تمامًا. القصيدة هنا تحتمل التأويلات، وكما قد يشاهد الشاعر العالَم فيرى ذاته، قد يطالع القارئ القصيدة فيرى نفسه، فيختار التأويل أو التأويلات التي تتواصل معه بشكلٍ أكبر.

إنها قصيدةٌ تحمل حسَّ اللَّعبِ الذي تحدَّثنا عنه، قصيدةٌ لا تقولُ خُطبًا، ولا تلخِّصُ مقالًا، لكنها تحمل فكرة. لا تصرخُ لكنها تعبِّر عن مشاعر، والأهمُّ أنها تحملُ حسَّ اللعب، تحمل الدهشة والجِدَّة، كحالِ القصائد الجيدة دائمًا. القصيدةُ أيضًا تعبِّر عن الحالة التي وصفها دافنشي؛ النظر إلى غيوم درويش هنا يشبه النظر إلى حائط دافنشي، نشاهد في الحالتين «انبثاقَ الشكلِ … من عَبَثيَّة اللَّاشكلِ»:

رسَّامونَ مجهولونَ ما زالوا أمامَك
يلعبون، ويرسمونَ المُطْلَقَ الأبديَّ
أبيضَ، كالغيومِ على جدارِ الكونِ …
والشعراءُ يبنونَ المنازلَ بالغيومِ
ويذهبون …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤