أن ترى ما لا ترى

١

«هل من الممكن أن ترى شيئًا دون أن تعلم أنك تراه؟» هذا السؤال ليس لي، إنه الجملة الأولى التي بدأ بها محرر مجلة العلوم الأمريكية مقالًا بعنوان «نظر الأعمى: أن ترى دون أن تعلم» Blindsight: Seeing without knowing it. يتساءل المقال: «لكن ماذا عن أن ترى شيئًا وأنت تظنُّ أنك أعمى بالكامل؟ ماذا عن التفافك حول عقبات لا تراها ولا تتوقعها حتى؟» بصراحةٍ بالنسبة لحالة علمية فهي محملة بعمق أدبي ما، محملة حتى بالرموز والدلالات واحتمالات التأويل. المقال قديم، نُشر عام ٢٠١٠، ويتحدث عن رجل فقد القدرة على استخدام منطقة في عقله تسمى «اللحاء البصري الأولي» primary visual cortex مسئولة عن معالجة الصور التي تأتي من العينين نتيجة لجلطات. بعد هذه الجلطات اختفى البصر بالكامل، لم يكن قادرًا حتى على رؤية الأشياء الكبيرة التي تتحرك مباشرة أمام عينيه السليمتين. لكن العلماء انتبهوا إلى أنه قد يكون لديه ما يسمى ﺑ «نظر الأعمى»، وهي حالة نادرة يكون فيها المريض قادرًا على الاستجابة لمعلومات بصرية لا يملك معرفةً واعيةً بأنه يراها. أخذوه إلى طرقة وطلبوا منه أن يمشي فيها دون عصاته، كان معارضًا في البداية لكنهم أقنعوه في النهاية أن يحاول. كانوا قد وضعوا مجموعة كبيرة من العقبات في طريقه دون أن يخبروه، وكان مدهشًا أنه كان قادرًا على تفاديها كلها، دون أن يدرك أنه يفعل ذلك، وحين أخبروه بما فعله، لم يصدق، أخبرهم أنه كان يسيرُ في خطٍّ مستقيم!

٢

بصراحةٍ هناك تجارب علمية حديثة أخرى قرأتها في كتب ومقالات متنوعة توضح الفكرة من زوايا مختلفة، لكن شرحها هنا سيطول وقد يشوش على ما أردت قوله في الأساس. لكن على كل حال الكلام عن اللاوعي ليس جديدًا، كل ما تفعله هذه التجارب أن تلقي ضوءًا مختلفًا، وتوضح زوايا غير متوقعة للنظر إلى المسألة.

٣

«أن ترى ما لا ترى» الجملة شعرية في المقام الأول، لكنها فيما يخص التجربة التي ذكرتها مجرد ذكر واقع: حقيقة. الشعر مغرم أحيانًا بهذه المفارقات، وربما أيضًا الحكماء القدماء، الصينيون مثلًا، والمتصوفة. أحيانًا تكون مثل هذه المفارقات خاوية من المضمون، قد تغدو على ألسنة البعض مجرد لغو فارغ، مجرد «فذلكة»، وأحيانًا قد يكون استخدام هذه الصياغات موفقًا، وجميلًا. قد يرى البعض في مثل هذه المفارقات تعبيرًا عن التردد، أو عن الانقسام الذي يعيشه الإنسان، وقد يرى في المقابل أنها بلا معنى. لكن من يتأمل أكثر سيجد أنها جزء من تكوين الإنسان اليوم، وجزء من تكوينه في كل العصور.

٤

بعد اكتشاف مفهوم اللاوعي من قِبَل فرويد، أكدت السريالية على دور اللاوعي، ونبَّهت إلى أهميته، ومارست ألعابها الشعرية والأدبية لاكتشاف كنوزه؛ منها مثلًا الكتابة التلقائية، أحبُّ أن أعرِّف الكتابة التلقائية بشكل مختصر بعبارة واحدة: «أغمض وعيك ثم ابدأ الكتابة.» محاولة الاسترسال في الكتابة على الورقة البيضاء دون التفكير في معنى ما تكتبه. السريالية أيضًا ركزت على دور الأحلام، باعتبارها مصادر مهمة للكتابة، باعتبارها أعمالًا فنية من تأليف لاوعي الإنسان. باختصار حاولت السريالية أن توازن النظرة العقلانية المفرطة بالتنبيه إلى جزء مهمل من العقل هو اللاوعي.

٥

لكن المسألة ليست مرتبطة بالسريالية ولم تبدأ معها، طوال الوقت كانت الكتابة مرتبطة عند الكثيرين بالوحي، والحدس، والإلهام. الكتابة كثيرًا ما تفاجئ كاتبها، حين ينظر في نصه ولا يعرف من أي جزء منه جاءت. الكتابة هنا ليست مجرد تعبير عن الذات، وليست مجرد بيان يتم إلقاؤه، أو حتى إثبات موهبة يقدمه الكاتب. الكتابة هنا هي نوع مختلف من المعرفة، نوعٌ من المعرفةِ قادرٌ — كهذا الرجل الأعمى الذي لا يعرف أنه يرى — على أن يقودنا دون أن ندري، وأن يساعدنا على السير في الحياة دون أن نعلم ذلك، حتى ونحن نؤكد أننا فقط نكتب/نقرأ، وأنه ليس في الأمر الكثير من الأسرار. لسببٍ ما أتذكر الآن أرشميدس الذي أرهقه التفكير في معضلته، فوجد حلها وهو مسترخٍ في حوض الاستحمام. فجأةً، يخرج عاريًا، يقفز فرحًا: «يوريكا، يوريكا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤