أسئلة الفأر في المتاهة

١

فأرٌ يُوضع في المتاهة للمرة الأولى، يتحسَّس طريقه بتشكُّك، يشمشم هنا وهناك، في الجو رائحةُ قطعةٍ من الجُبن أو الشوكولاتة يريد أن يصل لها، في المتاهة أبوابٌ، عليه أن يتعرف كيف يفتحها ليصل إلى هدفه. مع الوقت يصبح الفأر متآلفًا مع المتاهة، في المرات التالية يسير إلى هدفه بسرعة أكبر، يفتح الأبواب بالطريقة التي تَعَلَّمَهَا في المرات السابقة ليصل. في هذه المتاهة يتحول السلوك الذي تَعَلَّمَهُ الفأر مع الوقت إلى روتين؛ سلوك مألوف تُعَزِّزه المكافأة التي تنتظره في النهاية. من كثرة ما قرأنا عن هذه التجربة لسنا في حاجة إلى التكلُّم عنها كثيرًا.

غرض التجربة هو معرفة كيف يعمل العقل؛ في البداية يبذل الفأر مجهودًا عقليًّا كبيرًا لاستكشاف المتاهة، ثم مع الوقت يتحول سلوكه إلى سلوكٍ روتينيٍّ يبذل فيه قدرًا محدودًا من الطاقة الذهنية. شاهد العلماء في هذه التجربة سلوكَ الفأر وهو يتغيَّر وفقًا للبيئة ويتحول إلى روتين من خلال عمليةٍ من ثلاث مراحل تتكرر بشكل تلقائي: محفِّز، عادة، مكافأة. دورة تلقائية يخلقها العقل بشكل تلقائي.

٢

الفأر هنا حبيس المتاهة، ويتم التحكم فيه بواسطة غرائزه نفسها. أيُّ فأرٍ جائعٍ بما يكفي سيتبع رائحة الطعام. الفارق بين هذا الفأر وفأرٍ خارج المتاهة أن الفأر خارج المتاهة متاحة له خيارات أكبر، وفرص أكبر، وربما مخاطر أكبر كذلك. الفأر في الخارج لا يعرف الحوائط بالطريقة التي يعرفها فأر المتاهة، يعرف طبيعةً غير مُرَوَّضَةٍ. نظريًّا — على الأقل — الفأر في الخارج أكثر حريةً، ويتحكم في تصرفاته بشكل أكبر. الفأر داخل المتاهة على النقيض، يختار بين بدائل محدَّدة توضع أمامه، لكنه في النهاية خيار زائف؛ لأننا نعلم مسبقًا أنه — باعتباره فأرًا تم تجويعه — سيختار الطريق الوحيد الذي يوصله للطعام.

٣

ما نعلمه عن العالم اليوم أكثر بكثير ممَّا كان يعلمه أسلافنا عنه. تقدَّم العلم وتطوَّرت وسائل الاتصالات التي سهَّلت الوصول إلى المعلومات، وهو ما يُفترَض أن يؤدي تلقائيًّا إلى زيادة وعينا، وزيادة رشادة اختياراتنا، وهذا صحيح جزئيًّا في بعض المجالات، لكن «جون ديوي» يشير في كتابه «الحرية والثقافة» إلى أنه نتيجة لتقدم الصناعة وانتشار التخصُّص، صار العامل لا يعلم أكثر من شذرة صغيرة عمَّا يصنعه، ويؤدي وجود عدد كبير من المعلومات المتناثرة إلى حدوث أثرٍ تشويشيٍّ أحيانًا؛ ونتيجة لذلك صار الإنسان المعاصر يعرف أقل فأقل عن الأمور الأكثر ارتباطًا بحياته. وفي سياق مختلف يشير «جون كنث جالبريث» في كتابه «اقتصاد الاحتيال البريء» إلى دور الدعاية التي تمارسها الشركات الكبيرة في التأثير على سلوك المستهلك، والتشويش عليه، وإقناعه في كثير من الأحيان بشراء واستهلاك ما لا يحتاجه.

٤

يولد الإنسان مِنَّا في مجتمع ما، يعلِّمه هذا المجتمع الكثير عن نفسه وعن الحياة والكون، يعلِّمه الكثير عن كيفية التصرف. في كثير من الأحيان تكون مخالَفة المجتمع أو مراجعة أفكاره التي يتبناها أمرًا محفوفًا بالمخاطر. المثال الأشهر في هذا السياق هو «جاليليو» حين دافع عن كون الأرض كوكبًا يدور حول الشمس، متابعًا في ذلك رؤية «كوبرنيكوس» للكون، ومخالفًا رؤية معاصريه الذين كانوا يؤمنون بثبات ومركزية الأرض، وهو الاعتقاد الذي أدَّى إلى محاكمته، ووضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله، وإجباره على التراجع عن أفكاره.

٥

افترِضْ أن هذا الفأر أدرك بالضبط حقيقة وضعه، بوصفه فأرًا يسير في الطرق الضيقة لمتاهة صناعية يتم التحكم بها وبه من الخارج، هل على الفأر أن يقرر بالضرورة أنه يريد الخروج من المتاهة؟ هو لا يعرف شكل الحياة خارج المتاهة، ربما حتى غير قادر على تصورها؛ قد تكون أسوأ من الحياة التي يعيشها، هو يحصل على الغذاء في متاهته، يُحِسُّ بالألفة معها بشكل ما؛ لأنه لم يعرف غيرها، هل عليه أن يخرج من هذه المتاهة؟

٦

المتاهة ليست بالضرورة خارجنا، أحيانًا تكون أجزاءٌ منها في داخلنا، تتحكَّم في تصرُّفاتنا وأفكارنا، ربما كعمًى اختياريٍّ للألوان، يختار فيه عقلنا ألَّا يرى سوى ألوان بعينها، ويتجاهل ألوانًا أخرى؛ فقط لأنها لا تناسب ما تعلَّمه. كلٌّ منا يمتلك سقفًا يعلو على هذه الحقائق الصغيرة المتناثرة التي تحيط بنا، سقفًا من القناعات يخيِّط واقعنا ليجعله متماسكًا في عيوننا، سقفًا يحمينا ويحجب عنَّا السماء الحقيقية؛ السماء غير المروَّضة.

٧

افترِضْ أن الفأر أدرك فعلًا من خلال حدسٍ ما طبيعةَ وضعه بالضبط، وقرَّر أنه يريد الخروج؛ كيف له أن يخرج من هذه المتاهة؟ بالنسبة لفأرٍ عاشَ حياته بالكامل داخل متاهة، الحوائط ليست حوائط، الحوائط هي العالم، وما دام لا يراها كحوائط، قد لا يكون قادرًا على القفز من فوقها أو تجاوُزها إلى ما بعدها. ما الذي يُفترض بفأرٍ وُلِدَ في المتاهة أن يفعله إذن؟ ربما يحتاج بشكلٍ مبدئيٍّ أن يرى الحوائط كحوائط.

٨

افترض أن الفأر خرج من متاهته ليجد متاهةً أخرى أكبر في انتظاره، هل يمكن فعلًا الخروج من كلِّ المتاهات؟ هل نرغب في الخروج من كلِّ المتاهات؟

٩

لا أقول هنا إن الحرية الفردية غير موجودة، أو إنَّ الفرد مُسيَّر على الدوام، لكني أقول إننا قد لا نكون دائمًا أحرارًا في اتخاذِ قراراتنا التي نظنُّ أننا نتخذها، قد تحكمنا حوائط غير مرئية، ووسائل تحكُّمٍ لا نشعر بها. أحيانًا يفيد ذلك في تسهيل سيرنا في الحياة، وأحيانًا ما يكونُ مُضِرًّا للغاية، لكن ما دام لا يعي الفأر أنه في متاهة، قد يعيش فيها طوال حياته دون أن يدرك أنه عمليًّا لا يأخذ أيَّ قرارات حقيقية. قد ينشأ الفرد منا، ويتزوج، ويربي الأولاد، ويموت، دون أن يأخذ أيَّ موقفٍ حقيقي، أو قرارٍ مصيري، يكتشف أنه — كما يقول «إليوت» في مسرحيته «لمُّ شمل العائلة» — من الأشخاص الذين «لم يحدث لهم أيُّ شيء، على الأكثر تأثُّرٌ مستمرٌّ بأحداث خارجية.» ربما فقط لأنه خائف، أو لأنه لا يستطيع أن يرى الحوائط، أو لأنه اختار ألَّا يراها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤