رحلة إكسبرس من إسكندرية وإستامبول

مع المستر أتول

(١) رحلة بتراب الفلوس

قالوا: عاشر السعيد تسعد.

و«السعادة» كلمة حفيت أقلام الباحثين في تحديدها والتعريف بها.

فأنت تقرأ لهم المقالة أو الكتاب الضخم ولا تخرج بنتيجة يحسن الوقوف عندها.

وفي كتاب «سر تقدم الإنكليز السكسونيين» الذي ترجمه المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا عن المسيو أدمون ديمولين فصل عن السعادة في نحو ٢٠ صفحة، قرأته غير مرة، فكان كل ما أدركته منه «أن السعادة هي حصولك على شيء ترغب فيه أو وصولك إلى حالة ترجوها مهما كانت هذه الحالة أو ذاك الشيء.»

زيد من الناس، تساعده أحواله على السفر كل سنة إلى أوروبا فيرى هذا العمل شيئًا عاديًّا بسيطًا.

ولكن عمرًا مثل الصحافي العجوز يحلم بمثل هذه السفرة ولا يتحقق حلمه إلا مرة كل ثلاث سنوات أو أربع؛ فيراها «السعادة» المجسمة.

ومنذ شهرين قرأت أن جمعية الشبان المسيحية قررت القيام برحلة إلى «إستامبول» بثمن بخس، دراهم معدودة هي ثمانية جنيهات وخمسمائة مليم لا غير، للسفر ذهابًا وإيابًا وإقامة عشرة أيام في العاصمة القديمة لخلفاء بني عثمان.

فقلت: وماذا يمنع من انتهاز هذه الفرصة ومشاركة هؤلاء الشبان في رحلتهم المباركة السعيدة الموفقة؟

خاطبتهم في الموضوع فقالوا: لا بد أن تكون عضوًا في الجمعية.

– وما شروط العضوية؟

– دفع خمسين قرشًا اشتراكًا لمدة ستة أشهر.

فدفعتها مع العربون و«حطيت في بطني بطيخة صيفي»، وتأهبت للرحلة آملًا أن أجد في هذا «المشوار» البسيط شيئًا من حكايات أو روايات أو ملاحظات أوافي به زبائن «الهامش» ترويحًا لخواطرهم في هذا الحر المضني المهلك.

وقصدت الإسكندرية مساء يوم السبت «٢٣ يوليو سنة ١٩٣٢» فإذا بها حمام من الرطوبة والعرق البارد لا يخففه نسيم البحر ولا أشعة الشمس.

ورأيت الدنيا «كلها» مجتمعة في الثغر؛ فالبارات والقهوات، والكازينات والفنادق تعج بالشيوخ والنواب والعمد والأعيان وكتاب الصحف ممن أتوا زرافات لوداع رئيس الحكومة.

وكانت فرصة لربح مشروع أو غير مشروع؛ فالعربات الفرد بضعف أجرتها والفنادق بزيادة ٣٠ في المائة.

والرحلة تبدأ غدًا الإثنين — ٢٥ يوليو سنة ١٩٣٢ — الساعة الثالثة بعد الظهر على الباخرة التركية «إيجه».

ويصل المسافرون إلى إستامبول يوم ٢٨ الساعة الثالثة بعد الظهر مَارِّين في طريقهم بثغر «بيريه» ثم «أزمير» حيث تكون لدى الركب ست ساعات للفرجة على «بيريه» و«أثينا» ﻓ «أزمير».

ويقضي الشبان في إستامبول عشرة أيام كاملة، منها خمسة أيام في الفندق يزورون خلالها الآثار والأطلال، وخمسة أيام يمضونها في «كمب» جمعية الشباب المسيحية على شاطئ بحر مرمرة.

ويبرحون إستامبول يوم ٩ أغسطس على الباخرة «أزمير» في طريقهم إلى الإسكندرية معرجين على «أزمير» و«بيريه»، ويصلون إلى الإسكندرية يوم ١٣ أغسطس الساعة العاشرة صباحًا.

ولا بد للنزول في «بيريه» ذهابًا وإيابًا من التأشير على «الباسبورت».

واليونان يقدرون الصحافة، فكان التأشير على باسبورت الفقير إلى رحمة الله «مجانًا لوجه الله» مع الشكر والامتنان.

وأبى الأتراك أن يعترفوا للصحافيين بهذا الحق، وقال لي الموظف الخاص بالتأشير إن الكل لديهم سواء في المعاملة.

(٢) دك يدك دكًّا

سألني أحد الشبان من أعضاء الركب المبارك: هل تنام معنا على الدك؟

قلت: لقد علمنا الآباء أن شرط المرافقة الموافقة، وأنا معكم «على قلبها لطولون» ولكن ما هو الدك يا صاح؟

قال: هو سطح الوابور أو الباخرة يا حضرة الصاح.

قلت: «على السطح كده على طول» الأرض مهاد والسماء غطاء؟

قال: تقريبًا، فنحن جماعة «اسبورت فينو» وإذا كان بنو العباس «على سن ورمح» يجلسون على الكراسي، فنحن كذلك ننام على الكراسي، ولكن كراسي «الشيزلونج» القماش نحملها معنا ومعها البطاطين الخفافي. والله بالسر عليم.

قلت: وما رأيك في من لا يطيق أن يحمل نفسه، ولا يحب أن يحمل عصا ولا مزودًا ولا أكثر من بذلة واحدة في شنطة؟

قال: «ذنبك على جنبك.»

وانتهى الأمر بأن رجوته أن يشتري لي هذا «العزال» المبارك وما أحتاج إليه من زاد وميرة.

وقضيت ليلي «أهلوس» في الدك والنوم على الدك وأصل الدك وفصله، فعمدت إلى القواميس أسائلها عن هذه الكلمة فإذا هي مسروقة أو منحوتة عن لغتنا العربية الشريفة.

والدك في اللغة الهدم.

قال الله — تعالى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً.

وفي لسان العرب:

الدكك: الهضاب المفسحة.

والدك: شبيه بالتل. والدكة: بناء بسطح أعلاه.

قال الجوهري: الدكة والدكان: الذي يُقْعَدُ عليه.

والدكة ما استوى من الرمل.

ودك الرجل فهو مدكوك؛ إذا دكته الحمى وأصابه المرض.

ودكته الحمى دكًّا إذا أضعفته.

وأمة مدكة: قوية على العمل.

وتداك عليه القوم: إذا ازدحموا.

وفي «معلمة أولاد البلد» أن فتواتنا العتر «سباع البرمبة» يرقصون في الزفف، وقد حمل كل منهم دكة بأسنانه أو أحد أطراف أصابعه، فإذا جد الجد وحمي وطيس النضال تضاربوا بالدكك بدلًا من الكراسي والهراوات والدناقل والشوم.

وممن اشتهروا بالضرب بالدكك قديمًا وحديثًا: إبراهيم عطية فتوة الحسينية، وخليفته أحمد عرابي ابن أخته، وعبده الجباس فتوة عابدين وحارة السقايين، وكانت له إتاوات على أهل الحي كلهم، ومنهم المرحوم علي شريف باشا وكان يُدْفَعُ له جنيهان كل شهر، ثم سيد الحداد وعمره الآن ١٢٠ سنة، وقد تاب وأناب، ومحمود الحكيم ولم ينقذ البلد من شره إلا نفيه إلى الخارج، ورزق الحشاش، وجرجس بن تهتهة، وميخائيل العجوز؛ فتوات الدرب الواسع والدرب الإبراهيمي.

والبقية الباقية منهم الآن: عبده الفيشاوي، وعزيزة الفحلة، وأحمد البيومي، والأسيوطي — قاهر أحمد عرابي في واقعة القبيسي المشهورة — وبيومي الشرقاوي. ومن يليهم من أنصاف الأبطال من فتوات الزهار والجلادين، كفانا الله شرهم أجمعين.

وكما تطور سلاح الجيوش، فكذلك تطور سلاح فتواتنا وصار يتبع الركب منهم عربة لوري وعليها ألف زجاجة «اسباتس» حشوها الرمال يتقاذفون بها لتهشيم الرءوس وخطف الأرواح.

وبعد: فقد علمت يا سيدي القارئ العزيز معنى الدك والدكك وكيف ينداك الرجال. فاسأل لنا السلامة من النوم على الدك.

(٣) رفاق الطريق

كثير من الإخوان المصريين يتخوفون من السياحة ويقدرون لنفقتها أضعاف الأضعاف.

وكثير يقدرون عليها، ويأبون إلا السفر «لوكس» أو «جراند لوكس» سواء في الطيارات أو البواخر أو قطارات سكك الحديد أو السيارات أو الفنادق، في حين أنهم من أهل الطبقة الوسطى في شئونهم كلها، ولكنهم يأبون في السياحة إلا أن يكونوا من أهل الدرجة الأولى والأولى الممتازة.

وكثير لا يسافرون إلا محملين بأثقال من الملابس: نصف دستة بذل غير البالطو والاسموكن وثلاث دست من القمصان، وبقية أنواع الملابس الداخلية والمناديل.

فهم بتلك الأوهام وهذه الأثقال يحرمون أنفسهم مما تمتع به ابن بطوطة وابن جبير وابن سعيد من سياحات بديعة مع كل ما كان يتكبدون من المتاعب في سبيلها.

وأصبحت السياحة الآن من أبسط الأمور وأهونها، وكلما ارتقت أمة في المدنية تألفت فيها الجمعيات والشركات والنقابات للسياحة والسفر وتهوينهما على الصغار والكبار؛ بل وعلى الصعاليك والمفاليك.

وقد أدرك فريق من الشبان المصريين هذه الحقائق، فاقتحموا البواخر وغزوا بلاد العمار بأقل النفقات، غير مبالين بركوب «الدك» والدرجة الثالثة أو الرابعة في القطارات والنوم في أمثال «لوكاندة كتكوت» للتمتع بالفرجة على «الدنيا التمام» ومشاهدة الحضارة الحقيقية ودور العلم ومتاحف الصور والآثار والمناظر الطبيعية من جبال وبحار وأنهار وبحيرات.

فلما دعت جمعية الشبان المسيحية إلى رحلتها إلى إستامبول، أقبل عليها الراغبون العارفون فائدة هذه الرحلة. وبلغ عدد المسافرين نحو ٤٠ شخصًا مختلفي الأعمار والطبقات والمهن.
  • فمن فلسطين: الأساتذة: حبيب خوري المفتش بالمعارف، ومحمد نجيب الخياط المدرس في نابلس، ويوسف إسطفان الموظف في الحقانية بالقدس.
  • ومن أسيوط: الأساتذة المحامون: فخري لوقا الزق، وسليم جورجي دوس، وفهمي مسعود حنا، وروبرت حبيب ملاخ، وكامل زكي، وحبيب رزق.
  • ومن موظفي جمعية الشبان المسيحية بمصر والإسكندرية: المستر أتول وزوجته وأولاده، وحنا فام، وجون موستراكس، وعيسى إلياس جواني، والمس سيتال — التايبست — والمس ميكى.
  • ومن موظفي مصالح الحكومة الأفندية: ألفريد ضاهر سباعي، ومحمد عبد الله زين الدين، ومحمد حسن هاشم بالجمارك، ومحمد عبد الهادي بالداخلية، وفؤاد خليل كنعان بالزراعة، وعوض فرج، وإبراهيم عبد الملك، وساويرس سعد بالمواصلات — سكة الحديد.
  • ومن أساتذة المدارس الثانوية: رياض دوس، ونقولا يوسف.
  • ومن رجال الأعمال: سليم جندي بشاي التاجر بالإسكندرية والسيدة زوجته، وإبراهيم عبد الهادي مشعل مدير ورشة ساقية مشعل، وقدري عبد الرازق من ذوي الأملاك، وأسعد عبد المنجلي خريج الزراعة العليا وصاحب محلج قطن ومزارع، وأنطون حموي، والمستر بنتاليدس، والخواجا إميل كالبارو، والأستاذ حنا رزق خريج مدرسة المعلمين العليا وسكرتير قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية، ومدموازيل رومانو.
  • ومن طلبة المدارس: ألبير تادرس وعلي أبو الوفا.
  • وصحبهم إلى أثينا: الأستاذ نمر شنودة الموظف في وزارة الحقانية.
  • وأخيرًا: الصحافي العجوز.

والأكثرية من الجماعة ركبوا البحر غير مرة، وفي مقدمتهم المستر أتول، وقد قطع المحيط الأطلنتيكي ١٣ مرة. ومنهم من سافر إلى السند والهند وبلاد تركب الأفيال. ومن اقتصر على سواحل البحر الأبيض أو موانئ سوريا وفلسطين. وقليل منهم من لم يبرح مصر قبل هذه المرة، فاحتمى بجمعية الشبان حتى لا يتوه في بلاد الناس.

وقد نزل الجميع على الدك — أو بالعربي: في الدرجة الرابعة — ما عدا وفد أسيوط المبارك؛ فقد شرف أفراده الدرجة الثانية ومعهم مدام أتول ومدام سليم جندي بشاي.

(٤) مساهرة النجوم على الدك

ما وافت الساعة الأولى بعد ظهر يوم الإثنين ٢٥ يوليو سنة ١٩٣٢ حتى أخذ أعضاء الركب يفدون إلى الباخرة «إيجه» التركية أفرادًا وجماعات ومعهم — من بعض خيرك — حقائب مختلفة وأكياس من الورق وسبتات وكراسي قماش. وزادها بعضهم فحملوا معهم أَسِرَّة من القماش!

وقبل أن يتحرك الوابور بساعة انتظم الجماعة ففردوا الكراسي وخلع أكثرهم البذل والجزم ولبسوا البيجامات والصنادل الخفافي، ووضعوا إلى جانبهم أكياس الأطعمة والحلوى والفاكهة. ولولا الكراسي الطويلة لظننت نفسك في سوق الخضار بالعتبة الخضراء أو دكان «لاباس» أو «فلوران» أو «مانوسا كيس»؛ بل كانت هناك أكوام البطيخ تخيل لك أنك في سوق الجملة بشارع «الملكة نازلي».

وأينما مِلْتَ على هذا وذاك رأيت ما لا يُحْصَى ولا يُعَدُّ؛ فالعنب والتين مع وفد فلسطين، و«الكبيبة الشامي» و«البسبوسة» لدى الأخ فؤاد كنعان — وقد ذكرني بسماط المرحوم والده — و«السندويش» في حقيبة الأستاذ نمر شنودة، و«الكفته» في رغفان أنطون حموي، وأصناف الزيتون والجبن وسردين العلب والمربى في أكياس إبراهيم أفندي عبد الملك وإخوانه. وهكذا تجد مع كل فرد ما لا يُحْصَى ولا يُعَدُّ.

ولبثت هذه الموائد الأرضية «شغالة من الساعة الرابعة حتى الخامسة» ثم تكوف الجماعات للمسامرة والمناقشة والحديث العذب.

وتوسط أحدهم حلقة وأخذ يغنينا: اللي حبك يا هناه في نعيمه …

وقرأ أحدهم مقال عمك الدكتور طه حسين في «السياسة» الذي كتبه يومئذ بعنوان «مصادرة» ونقد فيه الحكومة لمصادرتها تاريخ بغداد، ثم طوى الصحيفة ودار الحديث حول أسلوب طه وبلاغة ترجيعاته وكياسته في نقده وما يجري في البلد.

وما ألطف مجلس السيد إبراهيم عبد الهادي مشعل، المهندس الميكانيكي خريج مدارس إنكلترا ومدير ورشة سواقي مشعل؛ حماسة رائعة في وصف العمال المصريين وما يلاقيه من بلادة بعضهم وخمولهم في ورشته، ونقد مر لبنات مصر اللائي «بوظهن» التعليم وأخرجهن من دائرة الحياء والقيام بالواجب نحو الزوج والولد. ثم آراء فلسفية دينية غريبة.

جلس الكل يتحدثون ويتسامرون فرحين مستبشرين يمنون أنفسهم بنوم هنئ على سطح الدك بين الماء والسماء تزينها النجوم الزاهرة، ناسين أنه عند صفو الليالي يحدث الكدر.

فلما بدأ الليل يرخي سدوله، رفع عمال الباخرة «التندات» حتى لا يكون هناك حجاب أو شبه حجاب بيننا وبين السماء. ورقد كل واحد على كرسيه، ونام البعض أرضًا، متدثرين بالبطاطين المختلفة الأشكال والألوان.

قال أحدهم: سلي النجوم أيا شرلوت عن سهري.

فأجاب الآخر: «بس إن سمعتك خالتك شارلوت يا حبيبي!»

وأخذ ثالث يقارن بين نجوم السماء ونجوم هوليود، وأيها «اللي تضرب الثانية على عينها.»

وأخذ رابع يتغزل ويتشبب بأقوال الشعراء.

ولكن هذا الغزل لم يلبث حتى أخمدت نيرانه قوة الرياح وتلاطم الأمواج وتلاعبها بالباخرة الفتية.

وأدركت حالًا معنى: دك يدك دكًّا. وقلت: «الباب اللي يجيك منه الريح سده واستريح.»

ولم تَمْضِ عشر دقائق حتى عرفت بخبرتي كيف أنتقل بالكرسي والبطانية والشبشب والطاقية إلى غرفة دافئة بعيدة عن مياه الأمواج وصفير الرياح.

(٥) بين كريت وأثينا

ليلة في العمر — ربنا ما يوريك زيها — من ليلة الإثنين الساعة العاشرة مساءً حتى الساعة الثانية بعد ظهر يوم الإثنين لم يتمتع أحد بنوم، ولم يَرْتَحْ أحد من القيء.

فلما استفاقوا ظنوا أنفسهم خارجين من مستشفى الحميات في العباسية، ومنهم من لم يقدر على النهوض عن كرسيه أو فرشه.

لا تستثن واحدًا من ركاب البريمو أو السكوندو أو الترسو أو حضرة «الدك» المحترم.

سألت «الدكيين الأشراف»: كيف حالكم؟

أجابوا: لقد ظننا أننا لا نخرج من البحر سالمين؛ فالبطاطين لم تنفع، والله أكبر على الأمواج ترفعنا وتخفضنا ومياهها تقذف علينا كأنها نازلة من عل.

وشهد الذين ركبوا البحر في أخطر نواحيه أنهم لم يروا مثل هذه الليلة الليلاء والمصيبة الدهماء.

وقال أحدهم: احمدوا ربنا على كدا؛ فإنه في الساعة الثالثة بعد نصف الليل كدنا نصطدم بباخرة أخرى، ولكن الله سلم.

وقال آخر: أبشركم بناء على بلاغ رسمي من سعادة القومندان أن الخطر قد زال والبحر هدأ والجو راق.

وكان الجوع قد عمل في الأحشاء عمله فعمد الجميع إلى الأكل، وتبادلنا الزيارة مع الإخوان ركاب الدرجة الثانية.

ثم عقد المستر أتول جلسة على الدك لتعارف الأعضاء؛ فيسمي هذا فيقف ويذكر اسم بلده وصناعته، ويجيب الجميع: تشرفنا. ولم يَخْلُ هذا التعارف من نكات وفكاهات.

ثم أخذ يملي التعليمات في كيفية استعادة الباسبورات من ضابط الباخرة وتقديمها إلى عمال المرفأ في «بيريه» والطواف في المدينة وزيارة أهم آثار «أثينا» ومتاحفها في سيارات أعدها فرع الشبان في أثينا، والغداء على حساب الجمعية — من ضمن الثمانية جنيهات والنصف — وأن الحال سيكون كذلك عند الذهاب إلى مدينة «أزمير» وزيارتها.

قال: أما في العودة؛ فإن زيارة كل من المدينتين ستكون على حساب كل فرد.

وأبى السيد إبراهيم مشعل أن ينفض الجمع قبل أن يذوقوا بعض ما يحمله من البطيخ البرلسي والحجازي، وحمله بنفسه وشققه بنفسه كذلك مقدمًا منه للإخوان مرة وثانية وثالثة لمن أراد.

وانتهزت الفرصة فتجولت في أنحاء الباخرة، فرأيت النظافة تامة والنظام شاملًا والعمال يؤدون أعمالهم متنقلين من هنا إلى هناك في هدوء وسكون ورشاقة وخطوات متزنة، فلم أحسدهم بل غبطتهم وسألت الله أن يرينا قريبًا أسطولًا مصريًّا تجاريًّا أهليًّا يمكنا معه أن نكون وإخواننا الأتراك في مستوى واحد.

وأدرك الإخوان «الدكيون» أنه يستحيل عليهم أن يعودوا إلى النوم على الدك ولو هدأت الرياح وانخفضت درجة البرودة، فانتقلوا بكراسيهم وبطاطينهم إلى سطح الدرجة الثانية، وهو سطح مسقوف بالحديد مسور منار بالكهرباء.

واستيقظنا فجرًا على أحسن حال من صحة وعافية، فرحين مستبشرين، وقد زال عن «الدكيين» عناء الليلة الأولى السوداء، وأقبلوا على الحمامات يغتسلون، وأخرجوا «أمواس جيلت» والصبانات فحلقوا لأنفسهم.

ثم أقبلنا جميعًا على الطعام فاستعضنا ما فاتنا ساعات الكرب، وأخذنا نمر بالجزر الواقعة في مدخل الأرخبيل فتتراءى لنا جبالها المختلفة الارتفاع.

وأنا أكتب هذه الرسالة ضحى يوم الأربعاء ٢٧ يوليو لأبعث بها إليكم من «بيريه» أو «أثينا»، أملًا أن أتبعها من «أزمير» برسالة عن جولتنا في الست «أثينا» هانم أخت إيريس في الرضاع.

(٦) يوم في أثينا

يوم ٢٧ يوليو: هذا يوم أثينا.

ولا بد للنزول إلى البر من ترتيب وتمهيد.

سأل الرئيس أتول: هل أنتم مستعدون؟

أجاب الرفاق: على أتم استعداد.

قال: والعفش؟

قلت في سري: الله ينكد على العفش ونهاره!

وأجاب البعض: وماذا نفعل به؟

قال الرئيس: ليحمل كل واحد أمتعته ويتبعني.

وبعد دقائق أخذ الجميع يسيرون طابورًا إلى المخزن ويرصون الحقائب والأوعية والبطاطين والكراسي، وأودعوها أمانة بحراسة فتًى تركي ململم الأطراف حلو المباسم اسمه صالح.

وقضينا ساعة في التمتع بمنظر الشاطئ الأخضر وبيوته ذات السقوف الحمراء.

ولم نجد شيئًا من العناء في النزول أو المرور بباب الجمرك، وكان في انتظارنا بالمرفأ المستر لونسدايل سكرتير جمعية الشبان المسيحية في أثينا واثنان من السكرتارين المحليين.

وقدمنا المستر أتول إلى المستقبلين واحدًا واحدًا.

ولم نلبث دقائق حتى أُحْضِرَتْ السيارات، وهي سيارات أنيقة واسعة تسع كل واحدة منها الشوفير وستة ركاب.

سرعلتي مارش! إيلزيه! ور … ور … ور …

انطلقت السيارات بسرعة البرق تقطع الشوارع البديعة المرصوفة فاجتازت «بيريه» كلها ومنها إلى أثينا. فلم نكد نحس بالانتقال من مدينة إلى أخرى لولا فضاء غير طويل المدى انتشرت على جانبيه البيوت الريفية والحدائق، وانبسطت وراءها المروج الزاهية.

ولم نلبث أن دخلنا أثينا، وأخذ الشوفير يشير إلى قصور وعمارات وحدائق: هذه سراي ولي العهد القديمة. هذه البورصة. هذه قنصلية أمريكا. هذه الجامعة. هذه المكتبة. هذا ميدان الألعاب الرياضية. هذه … هذه …

مشاهد لا تزيد ولا تنقص عما يمكنك أن تراه وأنت جالس في قاعة جوزي بالاس أو المتربول أو روكسي أو غيرها من صالات السينما.

ولكن لا تكد خاطرك في هذا الحر الشديد، وصحتك بالدنيا.

هذه هي السياحة العصرية: سياحة الجماعات، وسياحة المقاولات.

فالأمريكي الذي يلف الدنيا، والإنكليزي الذي يتجول في أنحاء البحر الأبيض المتوسط لا يرى أكثر مما رأينا.

وإذ أردت المثال، فتصور سائحًا يقضي نهاره في القاهرة ويزور المتحف المصري وخان الخليلي والأهرام في يوم واحد ويعود إلى بلاده ويكتب مقالة مسهبة أو بحثًا في ما رآه بالقاهرة مدينة الأحلام الساحرة!

«ما علينا»، وقفت السيارات أمام مطعم من درجة الكورسال والنيل وبولونيا ولكنه يمتاز عليها باتساعه وحديقته وجهازات أنواره الفنية، وقد مُدَّتْ في آخره موائد خُصِّصَتْ لجماعتنا وجلس معنا مندوبو الشبان في أثينا.

وأديرت الأطعمة والفاكهة، ولم يكد أحدنا يبلع ريقه حتى ركض المستر أتول وتبعه الجميع إلى السيارات، فتمم عليهم، وذهبنا إلى الأكروبول فزرنا أقسامه ونواحيه المختلفة.

وبَوَّز أخونا إبراهيم عبد الهادي مشعل وهز رأسه متأففًا.

– جرى إيه يا سي مشعل؟

– ما فيش حاجة، بس شوية الأحجار دي فيها إيه من الفن والفائدة؟ ماذا ترون من الحلاوة أو اللذة؟ أليس أفيد من ذلك أن نشاهد معملًا للجزم أو بيوتًا للعمال؟ فضكم يا ناس من الهجص والَّا بس عاملين إنكم تفهموا في الفنون بالكذب!

والكوداك لا بد منه في هذه المواقف.

ثم السيارات مسرعة بلا هوادة، لا فنجان قهوة في إحدى القهوات الطيبة، ولا وقفة بباب البوستة لإلقاء خطاب.

وبكل نفس استوقفنا الشوفير وألقيت برسائلي الماضية إلى «الأهرام».

ومع ذلك سجل بعض الإخوان الزيارة بتفصيل وإسهاب، وعدنا سراعًا خفافًا إلى الباخرة، ونقل كل واحد عزاله، وأراد البعض أن يعود إلى سطح الدرجة الثانية، فَأُبْلِغُوا أن هناك أوامر بمنع هذا الامتياز الموقت.

وعقد المستر أتول جلسة حدثنا فيها عن إستامبول وكنوزها الأثرية وقال إن أزمير لم تكن في البروجرام، ولكن البروجرام قد عُدِّلَ وسنرسو غدًا على هذه المدينة للتجول فيها ساعات.

وكان الأكل والشرب جماعات، وقد أُضِيفَ إليه كثير من فاكهة أثينا وجبن بيريه مما ابتاعه الإخوان على عجل.

ثم النوم على الدك مع شيء من المداراة والاحتياط حتى الصباح الباكر.

(٧) يوم في أزمير

يوم ٢٨ يوليو سنة ١٩٣٢: يوم أزمير.

وقد اعتاد أكثر الإخوان الدك، ومع شدة البرد؛ فقد حاولوا أن يكتموا المصاب ويعلنوا أنهم قضوا الليلة على ما يرام. ما علينا، أين الفطور يا رئيس الشلة؟

– على العين والرأس. وأخرج من أسفاطه الأوراق الملفوفة والعلب المقفلة، وكان المناخ مغريًا، وكان الأكل والشرب هنيئًا مريئًا.

– ماذا تعلم يا حضرة الرئيس أتول عن أزمير؟

– أنا لا أعلم عنها شيئًا، وليس فيها جمعية للشبان، فإذا نزلنا نبحث عن ترجمان، ونتفرج عليها جماعة، ثم نتناول الطعام في أحد المطاعم. وبعد ذلك تضربون في مناكبها مع المحافظة على موعد العودة إلى الباخرة. والآن عليكم بتخزين العفش.

وأصبحت المسألة هينة، فلم تمض دقائق حتى كان حضرة العفش مرتبًا في المخزن في حراسة الفتى صالح.

والسفينة لا ترسو في أزمير إلى جانب الرصيف؛ بل لا بد من «فلايك» للانتقال إلى البر. وقاول الرئيس أتول ومعاونوه بعض البحارة، فنقلونا.

وأسرع الرئيس فاتفق مع دليل مصري اسمه أحمد على الطواف بنا في المدينة ساعتين مشيًا على الأقدام.

ولكن الترتيب لم ينفع؛ فوقت الدليل ضيق والمدينة واسعة ولكل من الشبان وجهة نظر، فلم نلبث حتى انقطع الخيط ولم يَبْقَ مع الخبير إلا عشرة من الأعضاء، أما الباقون فقد تفرقوا جماعات.

وكان نصيبي مع خمسة آخرين اجتزنا الساحات الكبرى ورأينا المنشآت الحديثة التي حلت محل الأحياء التي أُحْرِقَتْ أيام الحرب وهي شوارع لا يقل عرضها عن ٢٥ مترًا تتخللها الحدائق وتقوم على جوانبها العمارات الشاهقة، واخترقنا الأسواق القديمة، ومتعنا النظر بالشيش الأزميرلي البديعة، والسجاجيد الأزميرلي التي تفتن اللب بدقة صناعتها وألوانها الداكنة، ومواجير اللبن الخاثر الذي يثير اللعاب. ثم ركبنا عربة فرأينا كثيرًا من الأحياء الوطنية والجوامع حتى وصلنا إلى تمثال الغازي الذي كشف عنه عصمت باشا بالأمس.

وتمثال «أبو كمال» على شكل تمثال «أبو صباع» وقد أُقِيمَ على الشاطئ وأحاطت به حديقة صغيرة بديعة.

واشتغل الكوداك وأُخِذَتْ لنا إلى جانبه صور مختلفة، ثم جلسنا في إحدى القهوات انتظارًا للإخوان. ولم تمض ساعة حتى تجمعنا حول الرئيس أتول، ومن شارع إلى آخر أدخلنا إلى مطعم متوسط قالوا لنا إن اسمه مطعم سليمان.

سأل صاحبنا إبراهيم مشعل: سليمان دا مين؟

وكان بقربه الأستاذ حنا رزق سكرتير الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية، فقال على الفور: هو سيدنا سليمان الحكيم ابن سيدنا داود، ثم أخذ في الشرح.

فقاطعه مشعل محتجا: أبدًا، أنت ما تعرفش حاجة، الترك ما لهم ومال سيدنا سليمان بتاعك دا يا جدع.

فتدخل الأستاذ فهمي مسعود المحامي وقال: الأرجح أنهم يقصدون سلطانهم سليمان القانوني.

وهذا الرأي لم يعجب كذلك الأخ مشعل، ولاحظت أنه يريد سليمانًا ميكانيكيًّا، فقلت له: يمكن بقى عمك الحاج سليمان صاحب التياترو النقالي المشهور أبو صديقه ولهلوبه. فَسُرَّ صاحبنا لأن التياترو فن …

والتهم الإخوان ما قُدَّمَ إليهم من مكرونة وسمك بالبطاطس وعنب. وطاروا إلى الشوارع للفرجة، والتمتع بمحاسن المدينة القديمة والجديدة.

وركبت مع البعض «ترامًا» سار بنا مسافة طويلة في شارع واقع على الشاطئ أعجبنا بما حواه من «الفيلات» ذات الطابقين المطلة على البحر.

وفي الساعة الثالثة تمامًا بعد الظهر كنا على الرصيف وركبنا الفلك تحت إرشاد الرئيس أتول، وعدنا إلى السفينة.

(٨) من أزمير إلى إستامبول

كانت إزاحة الستار عن تمثال الغازي مصطفى كمال في أزمير يوم ٢٧ يوليو فرصة سعيدة موفقة لركب الشبان المصريين، فكانوا أول أبناء الوطن الذين شهدوا هذا الأثر الوطني واحتفظوا بصورته الفتوغرافية.

وكان من حسن حظهم أيضًا أن يركب الباخرة «إيجه» معهم عصمت باشا رئيس الوزارة التركية، وتوفيق رشدي بك وزير الخارجية، ومن يتبعهما من رجال الدولة وكبار الموظفين والسكرتاريين.

ففي الساعة الثالثة بعد الظهر اصطف قرقول شرف من الجند وموسيقاهم على رصيف الميناء وازدحمت الشوارع الموصلة إلى المرفأ وشرفات المساكن المطلة عليها بالجماهير، وخرج بعضهم في مراكب شراعية وسفن ساحلية صغيرة مزدانة بالأعلام وصعد مئات إلى الباخرة «إيجة» لوداع دولة الرئيس.

فلما وصل إلى الميناء صدحت الموسيقى بالنشيد الوطني وتعالت الأصوات بالهتاف وصفق المودعون، وأدى الجنود التحية العسكرية.

وتجلت ديموقراطية الرئيس في وداعه لكبار الموظفين والأعيان؛ فكان يعانق بعضهم، ويقبل البعض، كما كان الكثيرون يقبلون يده.

وتأخرت الباخرة عن موعد سفرها نحو ساعة، لخطأ فني كاد يصدمها بباخرة أمريكية راسية في الميناء. ولكن الله سلم.

وازدحمت درجات الباخرة الثلاث بالركاب، وكان نصيب «الدك» منهم أكثر، فانقلب إلى «دك أعظم» وصار منه «دك أعلى» و«دك أسفل»؛ إذ فُتِحَتْ المخازن وانقلبت غرفًا للنوم.

والزبائن الجدد أتراك كلهم، بينهم عدد كبير من الجند وطلبة المدارس العسكرية، ولا يحمل أحدهم كرسيًّا من الكراسي القماش طويلة أو قصيرة؛ بل لكل منهم حصيرته أو سجادته، ومنهم من يحمل الألحفة والبطاطين والمخدات وأصناف الأكل والفاكهة.

وحدث ولا حرج عن الأدب والأخلاق والاحتشام في الملابس وظرف الأطفال، فلا عويل ولا بكاء، ولا … ولا …

ومع ازدحام الدك بهذه الخلائق؛ فقد كان فرح ركبنا بهم عظيمًا وشاركناهم نومهم وتبادلنا معهم الطعام والشراب. وتعارفنا بعدد كبير من طلبة المدارس الحربية الذين يجيدون اللغتين الفرنسوية والإنكليزية.

وفي الساعة الحادية عشرة مساءً تشرف بعض المصريين من أعضاء «الشبان» وغيرهم بمقابلة دولة رئيس الحكومة فرحب بهم كثيرًا.

وفي الساعة الرابعة صباحًا ولجنا مدخل الدردنيل، فكان لعدد الفتوغرافية عملها في التقاط المناظر. وأبى بعض الإخوان إلا أن يستوحي الشعر من هذه المشاهد البديعة وطفق ينظم … ومن الإخوان من أخذ يدون مذكرات تاريخية وجغرافية.

وكان الأكل قد بدأ يشح عند البعض فعمدوا إلى قروض لا تُرَدُّ من الخبز والجبن والسردين والمربى والفاكهة.

وقضيت نحو ربع ساعة في حديث لطيف مع صاحب المعالي توفيق رشدي بك وزير الخارجية فأدلى إلي ببيانات عن الإصلاح الاجتماعي والعمراني، ومنه إنشاء عشر مدن في الأناضول مما راح ضحية الحرب، وإقامة عشرة ملاجئ لإرضاع الأطفال في أزمير، وتأسيس جامعة عصرية في أنقرة تم منها إنشاء كلية الحقوق، واستدعاء خبير سويسري في التعليم فحص حال المدارس التركية ووضع تقريرًا فنيًّا بما رآه من طرق الإصلاح.

ومما قاله لي: لا تظنوا وأنتم في تركيا أنكم غرباء عن بلادكم فنحن إخوان وعندنا كثيرون من المصريين كما عندكم كثير من الأتراك.

ثم قال: إذا أردت أن تعرف حقيقة تركيا فإنني أدعوك لزيارة الأناضول، وستجد كل معاونة من الحكومة في هذه الزيارة.

وتشرفت بعد ذلك بمقابلة صاحب الدولة عصمت باشا وحييته باسم «الأهرام» فأبدى سروره العظيم بزيارة الشبان إستامبول وقال: إن المدة التي عزمتم على قضائها عندنا قصيرة، ونرجو أن يكون لبلادنا نصيب من زيارة عدد أكبر من المصريين كل سنة.

وكلما سارت الباخرة مسافة تجلت الطبيعة وأزينت الشواطئ بحللها السندسية.

ومدخل البوسفور مشهور بجماله، وليس في وسعي الإحاطة بوصفه وتعريفه.

(٩) الوصول إلى إستامبول

يوم الجمعة ٢٩ يوليو الساعة الثانية بعد الظهر.

ساعة من ألذ الساعات.

المناظر الطبيعية أولًا، والتخلص من العفش ثانيًا؛ فقد صدرت أوامر الرئيس أتول إلى الركب بأن يضموا الشنط الكبيرة والكراسي كلها في محل واحد، ولا يحملوا معهم إلا شنط اليد.

يا ما انت كريم يا رب!

إذن زال العناء بمفارقة الدك الأعظم ونقل تلك الأثقال ثانيًا وتفرقنا في جوانب السفينة للتمتع بقباب الجوامع والشواطئ الخضراء وزرقة السماء مختلطة بزرقة البحر.

ولم نكد ندنو من البر حتى ظهرت السفن الصغيرة مزينة بالأعلام وفيها العشرات من الخلق، وقد خرجوا لاستقبال رئيس الحكومة ورجاله. واصطف العساكر وكبار المستقبلين على رصيف الميناء، وهبطت إلينا طيارة حربية صغيرة وأخذت تحوم حول السفينة محيية مسلمة فيقابلها الركب بالتصفيق والهتاف والتلويح بالمناديل والقبعات والكاسكيتات.

وعدنا فمتعنا العيون باستقبال رئيس الحكومة وتعرفنا شيئًا من معاني الديموقراطية الحقيقية ومحبة الأهالي لحكامهم.

وعاد المستر أتول، فأصدر الأوامر بالنزول من المركب إلى الجمرك.

كانوا يقولون لنا في مصر: اسألوا الله السلامة من جمارك تركيا.

– ليه يا جماعة؟

– لشدة رجالها في التفتيش وبهدلة العفش وتقليب الملابس وأخذ جمرك على الليفة والصابونة وعلبة الدواء.

ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث بالمرة؛ حتى إنهم كادوا لا يفتحون الحقائب، وإذا فتحها أحد أصحابها ألقوا عليها نظرة سريعة بدون بحث ولا تفتيش ولا تنقيب.

وكان المستر أتول قد قال لنا شفاهًا وتحريرًا في بدء البروجرام إننا سننزل في فندق من الدرجة الثانية في حي بيريه.

وقابلنا على الرصيف رئيس جمعية الشبان في إستامبول، وجهز بالاشتراك مع المستر أتول السيارات فحملتنا إلى الفندق.

وتبعنا العفش المبارك والكراسي كلها على عربة نقل.

وتبين أن الفندق لا يتسع للوفد المبارك، فَأُرْسِلَ فريق إلى نادي جمعية الشبان في بيريه.

وانفصل سليم جندي بشاي وزوجته عن الوفد ونزلا في فندق بيرا بالاس. ونزلت مدام أتول والآنستان الأمريكيتان في فندق قريب.

وأُضِيفَ إلى كل غرفة من غرف الفندق سرير «علاوة حرب»؛ فالغرفة ذات السرير جُعِلَتْ لسريرين أو ثلاثة أسرة، وذات السريرين لثلاثة أو أربعة.

وجاء دور الترتيب، فبذل الرئيس أتول جهده في توزيع الركب وتقسيم الغرف على الأعضاء الكرام.

ونزل كثير إلى المدينة.

وأول ما لاحظناه إقفال جميع المحال التجارية لمناسبة يوم الجمعة.

وبعد تناول العشاء قصد البعض السهر، ولم يبالوا باتساع المدينة وتشعب أطرافها وانقسامها إلى حي وطني وحي أوروبي، والتواء طرقها بين علو وانخفاض بل ركبوا عربات الترام وهم يقولون: مطرح ما تودي تودي.

وتمتع كلٌّ بما أراد حيث هدته أقدامه والترامويات.

(١٠) اليوم الأول في إستامبول

السبت ٢٠ يوليو سنة ١٩٣٢، اليوم الأول من أيام إستامبول تناولت البروجرام الذي كنت محتفظًا به من مصر، فنبهني أحد الزملاء إلى أن هناك بروجرامًا جديدًا وقدم إلي نسخة منه.

وفي هذا البروجرام أن الجماعة يقضون النهار كله في اللف والبرم.

وخرجنا صباحًا لتنفيذ البروجرام المحترم، ووقفنا على بعد خطوات من الفندق، ولمحت على الرصيف المقابل مكتبة، ولا يصح أن تكون هناك مكتبة ولا أدنو منها وأطيل النظر في محتوياتها، ولو كانت بلغة لا أفهمها؛ ففي الصور والتجليد وغلافات الكتب ما يغري باللطلعة دقائق.

وهكذا كان، فكفت هذه الدقائق لإضاعة نصف النهار والفرجة على ما تقرر مشاهدته. وعبثًا بحثت عن الجماعة في الشوارع والحارات المتشعبة فكأنهم «فص ملح وداب».

وليست هذه أول فرصة ضاعت علي في الحياة من التلكؤ والنوم.

ولكن لا بأس ففي شوارع بيريه العامرة بالفنادق والمكاتب ومخازن المودات وفتريناتها المليئة بالفتيات؛ مجال طويل عريض لصرف نصف هذا النهار.

وكان أول ما لفت نظري سفارة اتحاد السوفيت، «فحطيت ديلي في اسناني ورمحت» خوفًا من أن يراني أحد ممن يكتبون التقارير، وسألته اللطف بعقول الإخوان محمود حسني العرابي وعصام الدين ناصف، وإلهامي أمين.

وبعد خطوات رأيت كنيسة بديعة مشيدة بالقرميد الأحمر، فدخلتها وأنا لا أدري أكاثوليكية هي أم أرثوذكسية. ولم أكد أدنو من الهيكل المقدس حتى أدركت أنها كاثوليكية، فقضيت بها بضع دقائق.

وسرت على بركة الله. فإذا بي أمام القنصلية المصرية، فكانت فرصة سعيدة غير منتظرة، وقابلت المأمور الأستاذ سامي سميكه — نجل صديقي المرحوم رزق الله سميكه بك — وبينا أنا أتناول معه القهوة دخل علينا الصديق العزيز الأديب الأستاذ أحمد رمزي الملحق بسفارة مصر في أنقرة، وبعد التحيات المباركات علمت منه أن السفارة الآن «مصيفة» وأنه يقيم مع زملائه ضيوفًا على القنصلية، وعرفني إلى بقية موظفي القنصلية الذين يشرفون مصر في أنحاء أوروبا بأدبهم وكياستهم ومنهم الكاتب الفاضل الأستاذ يحيى حقي.

ومن القنصلية سرت في شوارع الأندية والفنادق، وتناولت الأبيرتيف عند طوقتليان.

وعدت إلى الفندق، وبعد الغداء سألت الإخوان عما شاهدوا ورأوا فقالوا: رأينا كثيرًا؛ حصن غلاطة، وكوبري غلاطة، وجامع السلطان أحمد، والمسلات، وصهاريج المياه الأثرية. فقلت: راح عليك نصف عمرك.

وفي الساعة الثالثة خرجنا من الفندق لزيارة السليمانية فرأينا جامع سليمان القانوني، أهم وأفخر جامع في إستامبول بعد أجيا صوفيا.

وكان دليلنا «بكير بك» موفقًا في الابتعاد عن الشرح الفني والهندسي مكتفيًا بالروايات التاريخية.

ومما رواه لنا أن روسكلانا زوجة سليمان القانوني كانت سلافية واشتاقت إلى زوجها لما خرج إلى فتح الممالك الأوروبية فأرسلت إليه تستدعيه، فأطاع أمرها وحضر إليها، ولولا هذه الدعوة لغير خريطة العالم بفتوحاته وغزواته لممالك أوروبا.

قال: ويرى بعض الباحثين أن هذه الزوجة لم تكن مشتاقة إلى زوجها بل كانت دعوتها له دسيسة دبرها أعداؤه الخائفون من فتوحاته. وإذا صح هذا الرأي كان من الأدلة التاريخية على فساد أو مصائب تزوج كبار السياسيين والعظماء بنساء أجنبيات.

ومررنا في خروجنا من الجامع بدار الإفتاء وأرانا الدليل أمامها قطعة من الحجر المصقول، قال إنهم كانوا ينفذون عليها أحكام قطع يد السارق وجدع أنف الزانية.

ورأينا في طريقنا دكاكين النحاسين، ودخلنا إلى سوق مسقوف ليس له أول يُعْرَفُ ولا آخر يُدْرَكُ يمكنك أن تقول إنه يجمع الحمزاوي والغورية والتربيعة والحسينية والصاغة معًا وفيه ما في هذه الأسواق كلها من أشياء قديمة وحديثة.

ثم كان العشاء وسماع قطع موسيقية على البيانو، والانصراف جماعات إلى سهرات مختلفة.

(١١) ثاني أيام إستامبول

الأحد ٢١ يوليو، اليوم الثاني من أيام إستامبول التمام.

في البروجرام أن الأعضاء أحرار قبل الظهر، فقررت أن أجازف بنفسي للفرجة بمفردي على ما فاتني في اليوم السابق.

ولكن الظروف هيأت لي ما لم يكن في الحسبان؛ فقد عرف إخواني أمس الأستاذ ويتمور العالم الأمريكي الأثري المكلف تنظيف حيطان مسجد أجيا صوفيا والكشف عما تحتها من صور مسيحية بيزنطية قديمة، فدعاهم إلى زيارة ثانية للمسجد اليوم.

ولهذا الرجل شهرة عالمية في دوائر الفنون والآثار والتاريخ، وقال بعض الزملاء إنه قضى زمنًا في مصر.

فبعد الفطور أسرعنا إلى الترام ودخلنا الجامع، وكان صاحبنا في الانتظار، فرحب بنا هاشًّا باشًّا.

والمستر ويتمور من نوع المرحومين ماريت وماسبيرو وفان برخم وهرتز وأحمد كمال وعلي بهجت، والأحياء أمثال فيت وبراشيا وكريزول واللادي ديفونشير والأساتذة حسين راشد ويوسف أحمد وحسن الهواري ومحمد أحمد ومحمود عكوش؛ على تباين الدرجة والعلم، و«التشبيه مع الفارق».

فأنت إذا لم تكن مهندسًا لا يمكن أن تفهم عبد القوي بك أحمد في شرح مناسيب مياه الخزان وتصريفها. وإذا لم تكن طبيبًا لا تفهم ما يحدثك به الدكتور نجيب بك محفوظ في «الولادة العسرة» مثلًا.

وهكذا حال ويتمور وأمثاله، قد تفهم منهم شيئًا من التاريخ أو الأدب، ولكن متى «دخلوا في الغويط» ووصف العقود والنقوش والمقارنة بين المذاهب المختلفة في البناء، فسيبك منهم، وإلا فأنت دعي حب وصبابة بلا معنى.

فلما اجتمع الإخوان بالمستر ويتمور أخرج بعضهم النوتات وشرعوا في التدوين، ولكن أكثرهم لم يلبثوا حتى تفرقوا، وأظن أن من بقوا حوله اختشوا العيبة فتركوه يرن وهم لا يدركون كثيرًا من بحثه الفني.

أما أنا فلم أكد أصل إلى مدخل الجامع حتى أخذت أتفقد ما فيه معجبًا بالفن والعظمة والنقوش والخشب والحديد … إلخ.

ثم انطلقت مع أحد الزملاء إلى جامع السلطان أحمد، وقال لي الزميل — أفاده الله — إن الأتراك أرادوا أن يقلدوا بهذا الجامع أجيا صوفيا فلم يفلحوا. وقد أعجبتني فيه مجموعات القيشاني، وذكرتني بقيشاني الجامع الأزرق بمصر.

ومن هناك سرحت النظر في الحدائق التي يقولون إنها مغروسة على بقايا الهيبودروم الشهير، ثم المسلتين المصرية والرومانية.

ولمحت قهوة متواضعة تقرب في شكلها من قهوة العجوزة بالجيزة، فذكرتني بالحبايب. وتشرفت بتناول القهوة التركية فيها تحت أغصان بنت الدوالي وظلال الجامعين الكبيرين ومقبرة السلطان أحمد.

ومن هناك أخذتها مع صاحبي «موتورجل» إلى إدارة جريدة «جمهورية».

وصاحبي مكاتب رياضي لجريدة «الجهاد» وكان يقصد مقابلة حمدي أمين بك، وهو مدير مطبعة الحكومة ورئيس اتحاد الفوت بول التركي معًا، فسار معنا أحد محرري «جمهورية» لمقابلة هذا المدير الفني الرياضي.

والمطبعة على ما تبينت أقل كثيرًا من مطبعة «بولاق مصر المحمية» ولم أفهم — طبعًا — ما دار بين صاحبي والرجل من أحاديث عن الأندية والاتحادات … والكئوس و… و…

وعز علي أن أقضي الوقت بلا فائدة، فتشبثت بأحد الموظفين وعلمت منه أن المطبعة تقوم بطبع مطبوعات الحكومة وتطبع للأفراد كذلك، وهي مختصة بالمطبوعات الفنية ومطبوعات وزارة المعارف، أما الجريدة الرسمية فتقوم بطبعها مطبعة حديثة أنشأتها الحكومة في أنقرة.

ومما ذكره محدثي أن الحروف تُجْمَعُ الآن بواسطة الإنترتيب ولا يُجْمِعُ باليد إلا حروف العناوين.

وسألته هل لديهم حروف عربية؟ فقال: نعم، ونحن نطبع بها الآن أعمال جمعية المستشرقين الألمان، وأراني منها مجلدين من تاريخ ابن إياس الذي يُطْبَعُ تحت إشراف المستشرق الألماني ريتر، وكان الأستاذ عبد الله عنان قد كتب عنه في «السياسة».

وأراني كذلك نماذج من المطبوعات الفنية الملونة وذات اللون الواحد، وتدل كلها على مهارة وذوق، ولكنها لم تصل إلى ما يُطْبَعُ في مطبعتنا الأميرية ومطبعة مصلحة المساحة في الجيزة.

وذهب فريق من الزملاء إلى كلية روبرت الأمريكية على البوسفور وأدوا صلاة الأحد في كنيستها.

وبعد الظهر، أقلقوا نومنا، للتأهب في الساعة الثالثة بعد الظهر لنزهة في بحر مرمرة، وزيارة برنكيبو «جزيرة الأمراء».

فنفسنا عن صدورنا، وأدركنا بعض ما في البوسفور والشاطئ الأسيوي من جمال الطبيعة.

أما جزيرة الأمراء فقطعة من الجنة، تُجْمَعُ فيها الماء والخضرة والوجه الحسن والسهل والجبل والقصور البديعة والأكواخ البسيطة متفرقة بين الجبل والوادي.

أوامر الرئيس أتول: ليذهب كل منكم إلى حيث يشاء ويطيب له، على أن تجتمعوا كلكم عند مرسى الباخرة في الساعة السابعة إلا عشر دقائق. قلنا: سمعنا وأطعنا.

ونفر الجميع إلى أنحاء الجزيرة؛ هؤلاء ركبوا الحمير الصغيرة، وأولئك قصدوا البارات المشرفة على البحر، وآخرون ذهبوا للاستحمام.

وصحبت جماعة في عربة إلى الكازينو فتمتعنا باللف صعودًا وهبوطًا في طريق بديعة وسط غابات الصنوبر، وشربنا القهوة والبيرة والليمونادة وتفرجنا على الدانسنج على أنغام موسيقى «نصف جازبند».

ولولا الارتباط بالموعد وسفر الباخرة لقضينا الليلة في هذا الفردوس الأرضي.

وكان للنزهة أثرها في فتح القابلية، فأقبل الإخوان على الشوربة والضلمة الإستامبولي والروزبيف بأيديهم وأسنانهم حتى كفر صاحب اللوكاندة وأعوانه.

وقضيت سهرة بديعة في قهوة هادئة مع الزميل المسيو بسالتي مكاتب «الأهرام» في إستامبول.

(١٢) اليوم الثالث في إستامبول

اليوم الإثنين: أول أغسطس، وثالث أيامنا في إستامبول.

ركبنا الترام من الفندق إلى محطة جامع السلطان أحمد ومعنا دليلنا الخبير الأستاذ وداد بكير بك.

تشبثت به وسألته على البروجرام، فقال: نبدأ بزيارة حصون جوستنيان وكنيسة القديسة إيريني وهي من كنائس القسطنطينية القديمة وعلى مثالها شيدت كتدرائية أجيا صوفيا، وقد حُوِّلَ كل من الكنيستين مسجدًا إسلاميًّا.

أما المشوار ﻓ «زي الزفت»؛ منحدر متعرج كثير التراب قاسي الحجر يكاد يشتعل بقوة الشمس وحرارتها.

وكل ما رأيناه أسوار قديمة لها قيمتها عند علماء التاريخ ورجال الآثار، وعبثًا حاول الأستاذ وداد بكير بك الدليل أن يستوقف الجماعة ليسمعهم شيئًا عن هذه الآثار وعملها في التاريخ.

وخرجنا من الحصون إلى أزقة أضل سبيلًا، ذكرتني بشوارع مصر القديمة وسكك كنيستي أبو سرجة والقديسة بربارة وشظف حياة من يقطنونها من أقباط وإسرائيليين.

ولم يكن يخفف هذه المتاعب إلا وجوه ناضرة تطل علينا من النوافذ. وتوسلنا بالعطش فوقفنا على بعض الأبواب وطلبنا الماء، فأسعفتنا به فتيات حسان وملأن الأكواب والطاسات فشربنا منها، وسرنا إلى كنيسة القديسة إيريني فزرناها، وعند رجال الآثار من الترك واليونان الخبر اليقين عن هندستها وزخرفها.

ومن الكنيسة إلى متحف الآثار القديمة.

ومررنا قبل الوصول إليه بشجرة داخل سور من قضب حديدية، وقد علقت على الشجرة رقعة من الورق قرأ لنا منها الدليل أنه كان في هذه الجهة مقابر للمسيحيين دُفِنَ بينهم شيخ مسلم من الناظرين في النجوم كان قد سأله السلطان سليم الأول عن طالعه فتنبأ بموته بعد ثماني سنوات، فلم يَرْضَ هذا القول السلطان فأمر بقتل هذا الشيخ ودفنه في جبانة النصارى.

وأرانا شجرة أخرى قال إنها مشنقة للانكشارية، وفي ظلالها زُهِقَتْ ألوف النفوس عدلًا وظلمًا.

ثم زرنا المتحف وفي الدور الأول منه مئات من العاديات القديمة وبينها التابوت الذي أُعِدَّ لدفن إسكندر ذي القرنين وهو من الرخام، وقد دُوِّنَ على جانبيه تاريخ الإسكندر في صور بارزة.

ويمتاز هذا المتحف بوفرة ما فيه من التماثيل الرخامية التي تمثل عصورًا مختلفة.

وفي الدور الأعلى عُرِضَتْ مقتنيات السلطان عبد الحميد؛ من بللور وخزف وساعات وطرف فنية أخرى.

ومن هذه التحف جامع صغير من النحاس هدية من حكومة البلغار.

ومجموعة من الصحون السكسونيا هدية من إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني، وعلى كل صحن رسم يمثل بعض مناظر البلاد الألمانية من قصور وأحراش وغياض ورياض ومدن وملوك … إلخ.

ولم نكد نرتاح بعد الغداء حتى أسرعنا إلى الترام ونزلنا في ميدان أجيا صوفيا وسرنا إلى سراي طوب قبو، وهي مجموعة مبان متفرقة بُنِيَتْ في عصور مختلفة تحوي من الزخارف والنقوش ما لم يكن يحلم أحد برؤيته.

وكدت أمتنع عن زيارة هذه السرايات بعد ولوج أول قسم منها؛ فقد دخلنا قاعة قال لنا الدليل إنها قاعة انتظار السفراء قبل مقابلة السلاطين، وكان السفير قديمًا يبقى في الانتظار أربعة أيام أو أكثر ويُقْتَلُ أمامه عدة أشخاص لإرهابه قبل مقابلة السلطان. فاشمأزت نفسي ولكنني عدت فتجلدت وماشيت الإخوان فرأيت كنوزًا تكفي الإشارة إليها أو إحصاؤها للإبانة عن قيمتها ومنها: سجادةٌ طلب الأميرال بيتي شراءها بمبلغ ٣٢ ألف جنيه فلم تقبل الحكومة بيعها، مجموعة سبعمائة صندوق من الخزف، لكل من السلاطين طاقم منها، وتُعَدُّ أكبر وأثمن مجموعة للخزف في العالم، عرش الطاءوس المرصع بالجواهر الثمينة ويُقَدَّرُ ثمنه بأربعة ملايين ونصف مليون جنيه، ياقوتة زنتها أربع أواق ونصف، حلة مراد الرابع، أدوات زينة الإمبراطور كاترينا، خزانة البردة الشريفة، يد يوحنا المعمدان وقسم من جمجمته، سيفا عثمان وأبي بكر — رضي الله عنهما، رداء تيمورلنك … إلخ. إلخ.

وحدث ولا حرج عن قاعات النوم والاستقبال والطعام والموسيقى وقصور الحريم وحمامهن.

وقال لنا الأستاذ الدليل بكير بك إنه في بعض العصور كان يبلغ عدد نساء القصر حوالي الألفين، وكان أجملهن ينزلن إلى الاستحمام جماعة في حوض بالحديقة، ويشرف عليهن السلطان من نافذته فيراهن بدون أن يشاهدنه.

وعاد البعض إلى الفندق وتفرق البعض في القهوات المختلفة.

وفي الساعة السابعة مساءً عُقِدَ أول اجتماع للتعارف في نادي الشبان بإستامبول، وحضره أعضاء النادي والمصريون وخطب فيه غير واحد، ومنهم الأستاذ فخري الزق بالنيابة عن المصريين ونائب رئيس بلدية إستامبول مرحبًا بالمصريين، معتذرًا عن القيام بأداء أية خدمة لهم، معلنًا استعداده لتلبية كل ما يطلبونه.

وقصدت مع الأساتذة سميكة ورمزي وحقي موظفي السفارة والقنصلية المصريتين إلى حديقة تقسيم وهي كازينو بديع على البوسفور. ثم انتقلت مع الأولين إلى فندق البارك وتناولنا العشاء في مطعمه الذي يديره جماعة من الروسيين وتقوم بالخدمة فيه بنات روسيات وشابات في بعضهن شيء من الرشاقة والملاحة، وفي المطعم جوقة موسيقية «لا بأس بها» أطربتنا بأنغامها.

وعدت في منتصف الليل ذاكرًا اليوم كله بالخير لما تمتع به العقل والنظر والمعدة من دروس ومشاهدة وأكل وشرب.

(١٣) رابع يوم في إستامبول

اليوم الثاني من أغسطس والرابع من أيام إستامبول.

الزملاء الثلاثة الذين أنام معهم في الغرفة كلهم نئوم ضحًى.

– جرى إيه يا سي مشعل؟ جرى إيه يا سي عيسى؟ ما تقوموا بقى.

لقد ناديت، ولكن لا حياة لمن تنادي.

ولم أفقه السر في هذه الرقدة إلا بعد أن رأيت الرئيس أتول متدثرًا برنس الحمام وواقفًا منتظرًا دوره للاغتسال. فقال لي: اليوم هدنة قبل الظهر. نم أو اذهب أينما تشاء.

فانتهزت الفرصة للحلاقة، والحلاق إلى جانب باب الفندق.

وهو رجل يستحق التعريف، في أول جلسة بين يديه أنشد موال الكريزة وسواد الزمن وتقلبه بعد العز والغندرة. وأبى أن يترك الموسى قبل أن يقول لي إنه كان مزين سمو الأمير أحمد أفندي نجل السلطان عبد الحميد، وأنه كان يأخذ منه عن كل تصليحة خمسة بنتو ذهب.

– تشرفنا يا مزين البرنسات. والأجرة كام على كدا؟

– عشرون قرشًا.

لا تجزع يا سيدي القارئ، فقروش الجماعة اليوم ملليمات بإضافة بعض بارات؛ فعشرون قرشًا معناها ٢٦ مليمًا، وكانت قبل سقوط الإسترليني كل قرش تركي بملليم مصري.

وقد فُتِحَ بالأمس معرض الصناعات التركية في دار المدارس الثانوية، وهو سوق سنوي يُقَامُ في النصف الأول من شهر أغسطس.

والمصنوعات المعروضة فيه أقل مما عرضناه في سراي الصناعات بالمعرض الزراعي العام. وكل ما هنالك من زيادات في أشغال الكهرمان والسجاد والقيشاني والمستحضرات الطبية.

وقادتني قدماي إلى غرفة رُصَّتْ في مدخلها قطع من جذوع الشجر وفي أركانها أثاث مختلف.

وكانت هناك فتاتان حدثتني إحداهما بالفرنسية فعلمت منها أن معروضات هذا القسم تظهر في المعرض لأول مرة هذه السنة، وهي تمثل منتجات خشب الأثاث. وقد فكر أصحابها في أن يصنعوا منها بيوتًا خشبية وكل ما فيها من الأثاث ليسكنها أهالي القرى والمزارع وغيرهم ممن يتعذر عليهم بناء بيوتهم من الأحجار.

فأطلت من الاستفهامات، وانتقلنا من ذلك إلى حديث عن التربية والتعليم في تركيا ونهضة المرأة.

وبعد الظهر تفرجنا جماعة على متحف الانكشارية.

قال مرشدنا الأستاذ بكير بك: إن هذا المتحف هو المتحف الثاني من نوعه في العالم، بعد متحف الإنفاليد الفرنسوي.

وبعد أن قص علينا تاريخ الانكشارية ونشأتهم وما بلغوه من صولة ودولة، قال إن المتحف كان كنيسة لا يزال من آثارها صورة صليب في قبة الهيكل وكرسي الاعتراف السري.

والمتحف جدير بالفرجة لوفرة ما فيه من أنواع المدافع والسيوف والبنادق والخرائط وصور القواد والغزاة ناهيك بالشخصيات؛ ومنها صورة أول فارس تركي دخل أوروبا، وأول راجل، وعشرات من الانكشارية يمثلون القضاة والمفتين والأعيان والأطباء والبلياتشو، ثم بانورامات متعددة لمواقع حربية مثل حصار فينا وإستامبول في أيام الحرب الأخيرة، وصور أصلية من بعض المعاهدات.

ومن المتحف «مشوار جامد» في أزقة طالعة نازلة متعرجة ملتوية وأسواق عامرة بالصناعات حتى وصلنا إلى جامع رستم باشا.

قال الأستاذ بكير بك: هذا الجامع هو أحد الجوامع الاثنين والأربعين التي وضع تصميماتها المهندس الشهير سنان باشا «وعند أستاذنا الخبير يوسف أحمد تاريخه وتفصيل أعماله.»

وقد عُرِفَ الجامع باسم رستم باشا كبير وزراء السلطان سليمان القانوني، فهو الذي أمر بإقامته وأنفق على عمارته.

وهو يُعَدُّ من أجمل مساجد تركيا بالفسيفساء التي تكسو جدرانه كلها.

وكان وصولنا إليه ساعة العصر، وكان أحد المقرئين يرتل آيات القرآن إثر الصلاة، فصلى المسلمون من رفاقنا العصر، وبعد أن أتم تلاوته بدأ مرشدنا في تعريفاته.

وعلمنا أن المقرئ وهو إمام الجامع من أهالي سعرت — الأناضول — ويأتم به المؤمنون وإن كانوا لا يفهمون العربية، ولا يأخذ راتبًا من الحكومة بل يعيش مما يتصدق عليه المصلون به.

وركبنا القوارب من إستامبول إلى غلاطة، ثم صعدنا إلى بيريه فتفرق الرفاق أفرادًا وجماعات للطواف في أنحاء المدينة، وتناول الطعام في النادي والسهر في المدينة.

وهكذا انقضى النهار ونصف الليل على أحسن حال في مشاهد ودروس طيبة نافعة.

(١٤) اليوم الخامس في إستامبول

اليوم الأربعاء، الثالث من أغسطس والخامس من أيام إستامبول.

أول يوم حملنا فيه الطعام معنا إلى الخارج.

كل واحد «باكتة» ملفوفة ﺑ «الدوبارة».

قال مدير الفندق: «كل منكم وبخته، وما يطلع له من أكل.»

وركبنا ترامًا خاصًّا فاجتزنا حي غلاطة وكبريه الجديد مارين بميدان السلطان أحمد فميدان بايزيد حيث كانت وزارة الحربية، وهو ميدان بديع تتوسطه حديقة وعلى جوانبه القهوات الظريفة وفي صدره بوابة كبرى.

وبعد انتقال الحكومة إلى أنقرة تسلمت وزارة المعارف بناء الحربية ونقلت إليه بعض كليات الجامعة.

وسار بنا الترام الخاص مجتازًا أواسط إستامبول — المدينة القديمة — إلى يدي قوله — الحصون السبعة — الواقعة في الطرف الجنوبي الغربي من المدينة.

وفي هذه الحصون كان يُسْجَنُ المجرمون السياسيون ويُعْدَمُون ثم تُجَزُّ رءوسهم وتُقَدَّمُ إلى السلطان دليلًا على التخلص من أصحابها، أما الجثث فتُلْقَى في بحر مرمرة من بئر مفتوحة في السجن تحت آلة الإعدام.

وفي هذه الحصون أيضًا كان يُسْجَنُ المجرمون السياسيون من الأجانب، وقد سُجِنَ فيها سفير لروسيا ١٨ سنة وسفير لفرنسا أربع سنوات.

وفيها قتل الانكشارية السلطان عثمان الثاني.

والتقاليد المرعية تحرم سقوط دم السلطان على الأرض.

فجر الجماعة سلطانهم مربوطًا بحبل في يد أحد فرسانهم من ساحة اليهبودروم — ميدان السلطان أحمد — إلى السجن، وكان السلطان قوي البنية ضخم الجثة فبقي الانكشارية يومين وهم يخنقونه حتى أذن الله بخروج روحه من جسده. هكذا روى مرشدنا.

ويرجع بناء السور إلى أيام تيودوروس الكبير سنة ٤١٨. وبنى قسطنطين الثاني الباب المعروف باسم الباب الذهبي وحصنين من الحصون السبعة سنة ٢٨٠ وبنى محمد الفاتح الحصون الخمسة الباقية سنة ١٤٦٠.

وركبنا الترام فعاد بنا إلى ساحة بايزيد ومنها إلى شاهزاده وهو الميدان الذي يقضي فيه الأتراك ليالي شهر رمضان المبارك في اللهو والسرور.

ومن شاهزاده إلى قعرية جامع، وكان في الأصل كنيسة تعد من أقدم الكنائس، بناها المسيحيون الذين هربوا من ظلم نيرون الوثني سنة ١٢٠ وأعاد بناءها تيودوروس الكبير سنة ٤١٢ ثم وسعها تيودوروس ميتوهيت — حاكم القسطنطينية — وحلاها بالصور النفيسة.

وحولها السلطان محمد الفاتح جامعًا سنة ١٤٥٣ بعد أن طمس صورها بطبقة من الجبس.

وفي سنة ١٨٩٠ حدثت زلزلة أسقطت مئذنة الجامع وهزت أركانه فأوقعت طبقة من الجبس وظهرت الرسوم المسيحية.

وركبنا كل أربعة عربة مهشمة يقودها حصان واحد قاصدين جامع أيوب. والمسافة طويلة أتعبت الراكبين، ولكن المستر أتول والآنستين الأمريكيتين وبعض الشبان المصريين أبوا إلا أن يقطعوا المشوار موتورجل.

وتفرجنا على سور أدرنة قبو — باب أدرنة — الذي دخل منه محمد الفاتح القسطنطينية ورفع عليه العلم العثماني.

ومررنا بمدفن أبي أيوب الأنصاري وجامعه المشهور.

وكان أبو أيوب الأنصاري أتى القسطنطينية غازيًا وقضى ثلاثة أشهر محاولًا فتح الحصون فلم يقو عليها، ومات خارج الأسوار ودُفِنَ هناك.

وفي جامع أيوب كان يُتَوَّجُ سلاطين آل عثمان ويُقَلَّدُونَ سيف السلطان عثمان الأول.

ويزور القبر الفتيات في اليوم السابق لزواجهن، وكذلك يزوره الصبيان قبيل ختانهم متبركين.

وفي ساحة أيوب حمام أليف يدنو من الزائرين ويلتقط ما ينثرونه له من حب وبر.

وفي جهة أيوب مدافن إستامبول وتبلغ مساحتها على ما قاله لنا دليلنا وداد بك بكير ستة كيلو مترات مربعة، وهي على سفح جبل صعدناه راجلين غير مبالين بالتعب والحر.

وفي قمة الجبل قهوة بسيطة معروفة باسم «بييير لوتي» الكاتب الفرنسوي المشهور؛ لأنه كان يكثر من التردد عليها للتمتع بمناظر الأستانة من جهة نهاية القرن الذهبي.

وبلغنا هذه القهوة «عدمانين العافية» يستوي في ذلك الكبار والصغار والسيدة المصرية الوحيدة — قرينة سليم جندي بشاي أفندي — التي صاحبتنا في هذه الرحلة.

وبعد الاستراحة أخرجنا ما حملناه من أطعمة وتفرقنا في القهوة فأكلنا وشربنا القهوة ولعب بعضنا الطاولة. وفاز الغالبون بالرهان وهو قطعتان من الملبن يدفع ثمنهما المغلوب ويتلذذ بأكلهما الغالب.

والنزول أسهل من الصعود، وتفقدنا مسجد أبي أيوب وعدنا في مراكب شراعية إلى بيريه.

وتفرق الأعضاء في المدينة.

وفي الساعة السابعة اجتمعنا في نادي الشبان — فرع بيريه — وتعرفنا إلى أعضائه الكرام.

وتبادل اثنان منهما واثنان منا خطب الترحيب والتسليم والعواطف الأخوية.

وفصل خطيبهم التركي تاريخ النهضة التركية الحاضرة وما تم فيها وما ينتظر إتمامه من إصلاحات علمية واجتماعية.

ثم عدنا إلى الفندق فتناولنا العشاء ولم يَقْوَ أكثرنا على السهر لما نالنا من التعب؛ فناموا.

(١٥) يوم في البوسفور

يوم الخميس ٤ أغسطس، اليوم السادس من أيام إستامبول، وهو يوم وداع مدينة السلاطين والمساجد ذات القباب ومئات المآذن الذهبية.

قلنا: إلى أين يا حضرة الرئيس أتول اليوم؟

قال: اليوم يوم البوسفور.

البوسفور! هذه المنطقة التي شهدت أهم مواقع التاريخ المتوسط والتاريخ الحديث وارتبطت بها سياسة العالم من أيام محمد الفاتح إلى الآن.

ما لنا والتاريخ، فحديثه طويل، ولا بد عن شهادة مدرسة المعلمين العليا والجامعة لكتابة سطور «على الهامش» في هذا العلم المتشعب الأطراف. فلنتركه للكتب والأساتذة.

من الفندق إلى التونل، ومن التونل إلى الباخرة، فاجتازت بنا هذا المضيق الواسع، متنقلة من محطة إلى أخرى.

مناظر ترد الروح، وتخطف البصر. قصور بديعة، ومنازل بسيطة غارقة كلها في الحدائق بين الجبل والبحر والسماء، وهنا وهناك ترى الحمامات البحرية وقد اختلط فيها النساء والرجال، ناهيك بالفنادق، وأبدعها فندق طوقاتليان في طرابيه.

ونزلنا في المحطة التي قبل الأخيرة من جهة البحر الأسود، وفيها كازينو على مدرج جبلي لا تشبع العين من التأمل فيما حواليه من المناظر البحرية والساحلية والجبلية.

أوامر الرئيس أتول: عندنا ساعة ونصف ساعة. ارتاحوا في القهوة أو انزلوا البحر للاستحمام.

فأسرع البعض إلى الكابينات وخلعوا ملابسهم وتمتعوا بالاغتسال واللعب في البحر اللازوردي.

وانضممت إلى فرقة غير المستحمين، وجاء «الجارسون» وهو روسي الأصل.

– عندك طاولة؟ يوك — لا.

– عندك دومينو؟ يوك.

– عندك ورق لعب؟ يوك.

– عندك شيشة؟ يوك.

– بلاش. عندك إيه مشروبات؟ سندويش، بيره، قهوة، كازوزه.

وتناول كل ما لذ له.

ثم أتت السفينة فتناولنا ما حملنا من أكل: عيش، جبن، زيتون، دجاج، بيض، خوخ.

ونزلنا إلى الشاطئ الأسيوي، ثم جاءت باخرة أخرى فانتقلنا بها إلى الشاطئ الأوروبي.

وكنت متفائلًا، أتخيل أن النهار سيُقْضَى في نزهات بحرية.

ولكن بروجرام المستر أتول لا يمكن أن يخلو من شيء من العنف والتعب، وتنفيذًا لهذا البروجرام نزلنا في محطة روماللي حصار.

– على فين يا مستر أتول؟

– نصعد الآن إلى القلعة القديمة.

وهات يا صاعدًا جبلًا.

طرق ملتوية مرصوفة أرضها بالحجر الصلد القاسي.

– يا ناس على مهلكم، المشي في الجبال مش كده.

– أبدًا لا بد من السرعة، وقتنا ضيق.

وبعونه — تعالى — وتيسيره وصلنا إلى تلك البروج المشيدة والآثار القديمة المجردة من المدافع؛ ونحن على آخر نفس.

وتمتعنا للمرة الثانية بنظرات ألقيناها على شواطئ البسفور الساحرة.

وعدنا إلى المشي مسافات طويلة في طرق قاسية نحو ثلث ساعة فوصلنا إلى كلية روبرت الأمريكية المنشأة لستين سنة مضت، وقد تلقى العلم فيها ألوف من أبناء الشرق الأدنى وتخرجوا في فروع الهندسة والأدب والصناعة والعلم.

زيارة كان لا بد منها. وتنقلنا في عماراتها المختلفة وطاف علينا الأساتذة بأكواب «الليمونادة» وقطع البسكويت، وحدثونا طويلًا عن المعهد وطلبته، وحملونا بعدد من البرامج والبيانات المختلفة.

ثم ودعنا القوم قاصدين البلد، حيث قصر ساكنة الجنان السيدة والدة الخديو السابق وأم المحسنين.

قال لنا الطالب الفلسطيني الذي صحبنا من الكلية: لا تخافوا؛ فالطريق طويلة ولكنها معبدة، ونحن نازلون والنزول أسهل من الصعود.

وهكذا كان؛ فإن المناظر البديعة شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا قد خففت المشاق وسهلتها حتى بلغنا المحطة. وركبنا الترام فسار بنا محاذيًا الشاطئ حتى بلغ أطراف المدينة فضواحيها، واجتاز شوارع مختلفة الاتساع وسط سرايات أكثرها قديم مسور إلى أن وصلنا كبري غلاطه ومنه إلى الفندق.

وكانت لدينا ساعة تفرقنا فيها بالمدينة ثم عدنا فاجتمعنا في الفندق الساعة الخامسة والدقيقة العاشرة.

ونزلنا جماعة إلى الباخرة فأقلتنا إلى محطة السعادية على بحر مرمرة من جهة آسيا، وهو المكان الذي يخيم فيه أعضاء جمعية الشبان المسيحية بإستامبول فاستقبلونا جماعة وهم في ملابس البحر وساروا معنا إلى المخيم.

(١٦) كامب السعادية

كامب السعادية، أو معسكر السعادية أو مخيم السعادية — سَمِّهِ كما تشاء بأحد هذه الأسماء أو ما يرادفها — هو المكان الذي قضينا فيه أيامنا الأربعة بلياليها الخمس الأخيرة في إستامبول.

وكامب السعادية هو مصيف أعضاء جمعيتي الشبان في دار السعادة وأصدقائهم وعائلاتهم.

منبسط من الأرض على شاطئ بحر مرمرة من الجهة الأسيوية في مفتتح خط حيدر باشا وأنقرة وبيروت ومصر. فأنت يمكنك أن تصل إليه من محطة مصر متنقلًا بين قطار سكة الحديد والسيارة بدون أن تركب البحر.

ولا يبعد كامب السعادية عن محطة حيدر باشا أكثر من نصف ساعة في قطارات بديعة تقف على محطات كلها حدائق وقصور تشرف على البحر من جهة وتطل عليها الجبال من جهة أخرى.

يملك أرض الكامب محامٍ تركيٌّ معروف، وقد أَجَّرَه اتحاد الشبان لمدة طويلة مضى منها حتى الآن عشر سنوات، وجهزوه بكل ما يلزم لحياة الخيام والرياضة البدنية؛ ففيه غرفة خشبية كبرى للطعام، ومطبخ، وجهاز كهربائي للإنارة، وزيران لماء الشرب ومغاسل نظيفة ودورة ماء يطلقون عليها اسم «ونتر بالاس» وميادين واسعة لأنواع مختلفة للألعاب ومخزن للأمانات وجراجات للنوم ورصيف للنزول إلى البحر للعوم ومراكب للتجدذيف.

وقد أُعِدَّ المخيم لنزول ٧٥ شخصًا سواء من الأعضاء الذكور أو للعائلات بمن فيها من نساء وأولاد.

ويدفع الشخص من الأعضاء جنيهًا تركيًّا — ١٣ قرشًا — في اليوم للأكل والشرب والنوم والألعاب، ويُضَافُ إلى ذلك ٢٠ في المائة لغير الأعضاء. أما العائلات فتدفع جنيهين تركيين — ٢٦ قرشًا — عن كل شخص.

وقد خُصِّصَ للعائلات في هذه السنة المدة الواقعة بين ١٢ أغسطس و٢٦ منه.

ولم يكن الإقبال على المخيم في السنة الحاضرة عظيمًا؛ فلم يتجاوز عدد المخيمين ٤٠ عضوًا معظمهم من الأتراك بين ترك وأرمن ويونان ويهود، وإلى جانبهم أقلية من بلغار وروس وإنكليز وأمريكيين وكلدان وفرس: منهم الرجل البالغ الخمسين والصبي الذي لا يتجاوز الخامسة عشرة.

ويتولى أمر الكامب وإدارته الأستاذ علي إلهامي بك مدير قسم الألعاب في اتحاد الشبان بإستامبول: رجل جمع الله فيه الصحة والشباب ومتانة العضلات والذوق والأدب والخفة والنشاط، يشرف على الأعمال كلها ويراقب المخيمين ويعلم السباحة ويغني ويرقص و«يضرب بيانو كمان ويدندن.»

وساعات المخيم كلها محصاة، ولكل ساعة عمل من منتصف الساعة السابعة صباحًا حتى منتصف العاشرة مساء.

ويستيقظ المخيمون على صوت البوق ويسرعون إلى حركات «الجمناستيك» وغسل الوجوه فتحية العلم، فتناول الفطور، فتنظيف المعسكر، فالاجتماع نصف ساعة حلقات للمحادثة فتُلْقَى دروس في إنقاذ المشرفين على الغرق والإسعافات الطبية والأشغال اليدوية والتجذيف والرياضة البدنية ودرس الطبيعة لمدة ساعة، فالراحة ساعة، فالاستحمام في البحر، فالغداء.

وبعد تناول الطعام يستريح الأعضاء بالنوم أو المحادثة ثم يعودون إلى الألعاب الرياضية فالاستحمام في البحر أو السباحة فترتيب الخيام ثم إنزال العلم فالعشاء.

وبعد العشاء تُعْقَدُ حلقات مختلفة لمحادثات حول كومة النيران وعرض صور سينما أو تمثيل أو ألعاب أو مطالعة في غرفة الأكل.

ثم الدخول إلى الفراش في الساعة التاسعة والنوم الساعة التاسعة والنصف.

وقد روعيت النظافة والتدبير الصحي في كل شيء في المخيم؛ ﻓ «زيرا» الماء من الفخار مغطيان بشاش أبيض فوقه غطاء محكم من الخشب ولكل منهما حنفية سفلية تُمْلَأُ منها «الكيزان».

والطبخ تقوم به طاهية أرمنية بارعة، وأصنافه وإن كانت قليلة ولكنها طيبة ووافرة.

وأدوات الأكل والشرب كلها من الصاج الأبيض. ومفارش الموائد من المشمع الأبيض كذلك.

ولا تمر ساعة حتى تسمع دوي الصور معلنًا اليقظة أو الدعوة إلى عمل أو لعب أو طعام أو نوم.

وحدث ما شئت عن الغناء والأناشيد؛ فأنت أينما سرت لا تسمع إلا المغاني، ولا يناديك أحد إلا بالمغاني، ولا يهتف لك جماعة إلا بالمغاني.

ويكاد أكثر الأعضاء يعيشون عرايا لا تسترهم إلا وزرة أو لباس يغطي نصف البطن وأعلى الفخذين.

(١٧) بين السعاديين

«أهلًا وسهلًا بالضيوف الكرام.»

كتب السعاديون هذه الجملة بخط جميل كبير الحروف على رقعة من الورق الأبيض الصقيل وألصقوها على بوابة المخيم.

ولم يكتفوا باستقبالنا على المرفأ ومدخل المخيم بل سار فريق كبير منهم أمامنا ينشد ويرتل معلنًا فرحه بزيارتنا.

فلما بلغنا وسط المخيم أحاطت بنا جماعات منهم تحدثنا بالعربية والفرنسوية والإنكليزية.

والمتكلمون بالعربية منهم أتراك وسوريون وماردينيون ممن يتلقون علومهم في المدارس التركية وكلية بيروت الأمريكية.

ثم طافوا بنا في أنحاء المخيم يفرجوننا على أقسامه وغرف إدارته ومكتب السكرتارية والكتبخانة وغيرها.

وسأل بعضنا عن العفش المبارك وموعد وصوله؟

فهز السعاديون رءوسهم وقالوا: «يجي على مهله الليلة أو غدًا»، فما حاجتكم به؟

فرد بعضنا: إننا نحتاج إلى ما فيه من أغطية وبطاطين وبيجامات وأدوات حلاقة وتنظيف وغيرها.

أجابوا: هذا كله لا لزوم له ولا ضرورة ملحة عاجلة، ويمكنكم أن تناموا بملابسكم كلها، وإذا كان الجو دافئًا فاخلعوا عنكم «الجاكتات» والبنطالونات وتمتعوا بهواء السعادية الجاف المنشط — كذا.

وكنت أول من هضم هذا القول على مضض، ولو أنه ليس معي ألحفة ولا أغطية ولا بطاطين.

وفي منتصف الساعة السابعة نفخ الشاب الروسي بابوف في الصور، واجتمع السعاديون والمصريون حول العلم وحيوه.

وبعد نصف ساعة عاد بابوف إلى تبويقه، فسارعنا إلى قاعة المائدة وأكلنا وشربنا هنيئًا مريئًا.

وعدنا إلى التمشي والمحادثة في أرض المخيم، فسمعنا صوت نفير سيارة ودوي عجلاتها.

ولم نلبث حتى رأينا عربة «لوري» تحمل العفش، فقوبلت بالتصفيق والهتاف.

وأنزل المقاول الحمولة وأحصاها المستر أتول ومعاونوه، ولم ينتقل المقاول إلا بعد أن تناول كل منا متاعه من شنط وأسفاط وأغطية وكراس قماشية.

ودُعِينَا إلى النوم، وأرشدونا إلى حجرة، وهي عبارة عن جراجات من الخشب مغطاة بسقف جمالون من الصاج المضلع أُحِيطَ النصف الأسفل منها بالخشب وتُرِكَ النصف الأعلى مكشوفًا، ويبقى هكذا إذا كان الطقس ملائمًا، فإذا نزل المطر واشتدت الرياح غُطِّيَ بأستار من القماش الصفيق.

ويبلغ طول كل مأوى أربعة أمتار وعرضه نحو ثلاثة أمتار، وقد أُعِدَّ لنوم ثمانية أشخاص على ثمانية أسرة في صفين متقابلين كل صف فيه سريران فوقهما سريران آخران على مثال عربات النوم في البواخر وقطارات سكك الحديد.

ورغبة في التعارف تقرر أن ينام في كل مأوى أربعة من السعاديين ومعهم أربعة من المصريين.

قلت: وما رأيكم في من ليس معه أغطية ولا توافقه النومة في هذه الجراجات مع سبعة أشخاص؟ وبزيادة علينا زنقة القبر قريبًا!

فأسرع إليَّ الأستاذ علي إلهامي بك رئيس المخيم وقال: لك ما تريد يا سيدي فأنا أهبك ما عندي من أغطية. وأردف القول بالعمل؛ فركض وعاد يحمل حرامين من الصوف الخشن، ثم قال: أما النوم فيمكنك أن تبيت في مأوى طبيب المخيم.

ثم نادى الطبيب الدكتور غياث بك وهو شاب رشيق ذكي.

وعرفني إليه، فقبل الرجل أن أنام في مأواه. وهو يمتاز على غيره بأنه لا يشتمل إلا على أربعة أسرة؛ اثنان علويان واثنان سفليان، وأمامهما منضدة وخزانة مُلِئَتْ بالأدوية المختلفة وجهازات الإسعاف وإلى جانبها ميزان.

فاشترطت أن يغطي المأوى بالستائر، فلم يمانع الدكتور ولو كان الطقس حارًّا؛ إكرامًا لخاطر الصحافي العجوز.

ولم نلبث حتى جيء إلينا بالزميل الظريف إبراهيم عبد الهادي مشعل وكان مريضًا متعبًا، ففحصه الدكتور وأمر أن يبيت معنا فاختص كل منا بأحد السريرين السفليين.

ورقد الدكتور على أحد السريرين العلويين، وجاء شخص آخر من السعاديين فنام في السرير الآخر الذي يعلوني.

ونفخ الروسي بابوف في الصور فاحتل كل منا فراشه، وتعرفت إلى جاري العلوي فإذا به يوناني تعلم في روسيا — قبل الحرب — ويشتغل الآن في البنك العثماني بإستامبول.

وفي منتصف الساعة العاشرة تمامًا أطفئت الأنوار وخمدت الأصوات وران النعاس على الأجفان.

وفي منتصف الساعة السابعة صباحًا دَوَّى صوت البوق، فنهض النائمون.

ورمى جاري اليوناني بنفسه إلى الأرض فأيقظني، ورأيته عاريًا عريًا تامًّا، ووقف أمامي يمسح جسمه بفوطه مبللة بالماء.

وبعد أن غسلت وجهي ورأسي أسرعت إلى غرفة الطعام بالبيجامة.

وعدت إلى المأوى فوجدته مزدحمًا بزبائن المستوصف: هذا مصاب بكدمة وذاك بجرح وثالث بكسر ورابع يريد غيارًا وخامسًا يطلب مسهلًا.

(١٨) أول أيام السعادية

يوم الجمعة ٥ أغسطس: اليوم الأول من أيام السعادية.

تنبيهات الرئيس أتول ساعة الفطور: نحن وإن كنا ضيوفًا على أهل السعادية؛ فإن علينا واجبات هي مشاطرتهم خدمة المائدة وخدمة الكامب.

فصاح الشبان من جماعتنا مرحبين بالدعوة للخدمة، ورد عليهم شباب السعادية منشدين، ثم اشترك الفريقان في الهتاف والنشيد.

ولما هدأت ثائرتهم توسط الأستاذ علي إلهامي بك الغرفة وقال: إننا نتناول الأكل هنا على خمس موائد، فعلى جماعة كل مائدة العمل يومًا في الكامب بتنظيف الحوش و«الونتر بالاس» وغرفة المائدة وغرف النوم، أما المائدة فخدمتها مقسمة على أهلها؛ فيقوم بعضهم كل يوم — مناوبة — بتقديم الطعام وبعد الأكل يغسلون الأطباق وينظفون المفرش، ويُسْمَحُ لمن يؤدون هذه الخدمة بتناول الطعام مع إخوانهم إذا كان هناك محل لجلوسهم أو يأكلون بعد انتهاء الإخوان، ويقوم السابقون بخدمة اللاحقين.

وحملق في بعض الإخوان فقلت: إن هناك بابًا واسعًا للمستثنيات ومواد للتأجيل، فإذا حُكِمَ علينا وعليكم بالتنفيذ فهو تمرين للمستقبل، ونحن في زمن إِحَنٍ سياسية، وربما أدت بنا لفتة أو كلمة من أمثال «إبراهيم الفلاح» إلى سجن الأجانب أو التخشيبة أو قره ميدان؛ فلنتمرن ولنتدرب، وهذه الأعمال خير درس للشباب.

ولم أَحْتَجْ إلى سؤال أحد عن البروجرام؛ لأنه طُبِعَ بالمكتاب في نسخة تركية وأخرى إنكليزية عُلِّقَتَا في غرفة المائدة، فتبينت أنه ليس هناك غير الألعاب والتمرينات والدروس الرياضية.

فتركت الجماعة في ملاهيهم وعمدت إلى مكتب السكرتارية وكتبت بعض الهوامش وأسرعت بها إلى محطة سكة الحديد في السعادية قاصدًا محطة حيدر باشا للفرجة وتسجيل بعض الخطابات، والتأكد من قيام البريد في اليوم التالي.

ومع أهمية محطة حيدر باشا وامتلاء أرصفتها بعربات الأكل والنوم التابعة لشركة القطارات الدولية الأوروبية؛ فإنها أقل من محطة الإسكندرية الجديدة سواء في سعتها أو نظامها الهندسي.

وبعد الغداء استعد الأعضاء لحفلة الكامب السنوية؛ فصفوا الكراسي والمقاعد — ومنها كراسينا القماش — على الشاطئ، ووفد العشرات من الضيوف بين أتراك وأجانب يتقدمهم المستر شيرل سفير أمريكا في تركيا.

وقام السعاديون بألعاب رياضية وحركات في البر والبحر، ثم طافوا على الضيوف بأكواب الليمونادة وأطباق الكيك.

وألقى السفير الأمريكي خطبة أبان فيها فضل الألعاب الرياضية وشغفه بها منذ صباه، وحث الجميع على مزاولتها، ثم أشار إلى رحلة قصيرة له في مصر وزيارة آثار الأقصر، وذكر محبته مصر وأهلها وعلاقته الطيبة بسفرائنا وقناصلنا في تركيا.

وقدم إليه الرئيس أتول بعض المصريين فأبى إلا أن يتعرف إلى الجميع ويصافحهم واحدًا واحدًا.

ثم كانت تحية العلم، فتناول العشاء، فجلسة دولية حول كومة الحطب المتأججة النيران، وُضِعَ لها بروجرام يتضمن كلمات قليلة يلقيها كل فرد بلغته ثم تُتَرْجَمُ إلى التركية والإنكليزية.

فخطب المصري والطلياني — كالبرو — والفلسطيني — خوري — والأمريكي والبلغاري والتركي والفارسي وغيرهم داعين إلى التآخي والعمل لتقوية روح السلام بين أبناء الأمم المختلفة.

ودعا بعض الإخوان الصديق إبراهيم عبد الهادي مشعل للنوم معهم فحل محله إنكليزي في نحو الستين من عمره ولكنه في همة الشبان ومرحهم وصحتهم، دقيق العود في لين وتثن، من أنصار «نصف العري» ظننته في بادئ الأمر تركيًّا، ثم علمت أنه من «الأشراف المعقولين» ويشتغل بتدريس اللغة الإنكليزية في جامعة إستامبول، وقد استفدت منه معلومات طيبة عن حالة التربية والتعليم في تركيا.

وكفى اليوم الذي قضيناه في المخيم والليلة التي قضيناها في «المأوى» لتوثيق عرى الود مع السعاديين الكرام، وأدركنا نفسياتهم وسمو أخلاقهم وحلاوة معاشرة الأكثرية منهم.

وذكر لي الدكتور غياث أن في نيته الحضور إلى مصر في الشتاء للنظر في نهضتها العلمية وإلقاء محاضرة بالجمعية الطبية في «السرطان»، ويأمل أن يجد في القاهرة «بنت حلال» يتخذها زوجًا له.

وبعد أن أيقنت أن الشاب بابوف «من غير السوفيت» صاحبته، فحدثني طويلًا عن نهضة الطباعة في تركيا، وقال لي إن في إستامبول معرضًا خاصًّا للمطبوعات. وقدم لي نماذج من مطبوعات مطبعة والده.

ويضيق المجال بوصف من عرفناهم من رجال وشبان وفتيان وصبيان، وأخصهم الصبي «جيم» الاسكوتش الذي تعلق بنا وأبى إلا أن يأتي معنا إلى مصر ليرى الأهرام والإسفنكس.

(١٩) في ياكاجيك ويالوى

أكل وشرب، وخدمة على المائدة، وغسيل الأطباق والأكواب، ولهو ولعب، وسباحة وتجذيف، وتنظيف الكامب، وسهرة حول الموقد.

هذا كل ما في السعادية.

فبعد تناول الفطور صباح السبت ٦ أغسطس — وهو اليوم الثاني من أيام السعادية — تسللت من المخيم إلى «البلاج» الذي لا يبعد عن مصيف الشبان أكثر من سبع دقائق موتورجل.

و «بلاج السعادية» بلاج أنيق، مختصر مفيد، يكاد يكون حوضًا للسباحة، صُفَّتْ على شاطئة الرملي كابينات التواليت وغرف للدوش بعضها للنساء والبعض للرجال.

ويقوم على البلاج كازينو بديع يمتلئ عصر كل يوم، وعلى الأخص يومي الجمعة والأحد بالمئات من أهل الطبقة العليا من المصيفين وغيرهم من أهل إستامبول الذين يأتون إلى السعادية بحرًا للتمتع بزينة ربات الحجال وسماع الموسيقى وتناول المشروبات والحلوى.

وفي طرف الكازينو من جهة الشارع فندق صغير، نزل فيه من جماعتنا سليم جندي بشاي أفندي والسيدة زوجته.

وكان في البلاج ساعة وصولي إليه نحو العشرة من المستحمين بين رجال ونساء ما لبثوا حتى بلغوا العشرين، وكلهم في ملابس الحمام البديعة الألوان، فتناولت قهوتي بينهم وقضيت ثلاث ساعات متنعمًا بالطبيعة الباسمة بكل ما فيها من بحر ساج وشمس ساطعة وأجسام بلورية وهب الله أصحابها الصحة والقدرة على التلذذ بكل شيء، ثم عدت إلى المصيف، وبعد الغداء أحضر لنا الأستاذ علي إلهامي بك عربة أوتوبيس ركبناها فاجتازت بنا طرقًا ممهدة وطرقًا يجري تمهيدها ثم صعدت بنا الجبال حتى وصلت إلى قرية «ياكاجيك» وهي قرية قريبة الشبه بحصرون وبشرى وأهدن من بلاد شمال لبنان.

وقال الإخوان إنهم يريدون السير مسافة أخرى ليتمكنوا من الإشراف على البحر والجزائر من عل. وتخلفت عنهم في القرية، وتناولت الشاي العنبري في قهوتها المتواضعة، وحلقت ذقني عند حلاقها القروي.

ثم كانت العودة، فتحية العلم، ثم تناول العشاء، فالمسامرة والنوم.

ولا ننس في كل حركة تبويق الروسي بابوف، والهتاف والأناشيد والأغاني بأصوات منكرة وغير منكرة.

وكان يوم الأحد ٧ أغسطس يوم «يالوى» — أو يالوفا كما ينطقها أصحابها، وتحقيقها عند أستاذنا شيخ العروبة.

فبكرنا في الذهاب إلى مرسى السعادية وركبنا السفينة فسارت بنا تتهادى في بحر مرمرة حتى وصلنا إلى برنكيبو — جزيرة الأمراء — فكحلنا العين بجمالها الشائق، وأخذت السفينة تتنقل بنا من مرسى إلى آخر حتى وصلنا إلى يالوى.

ويالوى محطة حمامات، بينها وبين البحر مسافة تُقْطَعُ بالسيارة العادية الحافلة.

ولهذه الحمامات تاريخ قديم؛ فقد عرفها الفينيقيون، وأدرك فضلها الرومان والبيزنطيون فاستشفوا بمائها، وقووا أجسامهم بينابيعها الساخنة.

والظاهر أن مشاغل الأتراك الحربية والسياسية ألهتهم عن النظر إلى هذه الحمامات وإدخال المحسنات العصرية إليها كما فعل الفرنسويون والألمان والطليان في حمامات بلادهم؛ حتى كانت سنة ١٩٢٩ فاهتمت شركة الملاحة «سير سفاين» بأمر يالوى؛ فعمرتها وأنشأت فيها الفنادق والبيوت ومشارب الماء، وجهزت الحمام بكل حديث من آلات التدليك والتمسيد والفرك والرش والاغتسال في الأحواض وتسليط الماء إلى أجزاء مختلفة من الجسم بحسب تعليمات الأطباء.

وحمامات «يالوى» صغيرة بالنسبة إلى مونتي كاتيني وفيشي وبادن بادن واكس لايبان وكيسنجن. ولكن فيها الماء الشافي لكثير من الأمراض.

وإذا لم يكن للأتراك من عمل بعد الحرب غير «يالوى» فكفاهم به فخرًا ودليلًا على القدرة على الإنشاء والتعمير والهندسة والتخطيط.

فإذا تركت الحمامات فأنت في فردوس أرضي تعاونت على تجميله وتزيينه يد الطبيعية ويد الإنسان؛ فجبال مشجرة خضراء تجتازها صعودًا وهبوطًا في طرق معبدة، تنساب وسطها الغدران حيث تحلو الخلوة للعشاق وأمثال العشاق.

وكما عني القوم بالحمامات فكذلك عنوا بالفنادق؛ فهي في نظافتها وترتيبها لا تقل جمالًا عن فنادق سويسرا.

والحديث عن «يالوى» يطول، وشرح مميزات مياهها ومباهج مناظرها ليس من اختصاص الصحافي العجوز.

وإذا كان كل ما في «يالوى» عجيبًا غريبًا فأغرب ما فيها وأعجب إهمال القائمين بها أمر الإعلان عنها والكلام والدعاية لها وحث أبناء الشرق الأدنى عامة والمصريين خاصة على الاستفادة بمياهها والتنعم بالحياة فيها أيام الصيف.

(٢٠) يوم «يالوى» ووداع السعادية

كان يوم «يالوى» من أبهج الأيام وأزهاها.

وقفت السيارة الحافلة بنا على مدخل المدينة الشابة، فنزلنا وانتظرنا حتى أتى الفوج الثاني من جماعتنا في سيارة أخرى، وسرنا جميعًا إلى الحمام، وخلع الكثير من الرفاق ملابسهم ونزلوا إلى حوض مكشوف ساخن الماء فاغتسلوا في ضحك ولعب ومداعبة، بينما كنا جالسين على كراس أمام موائد صُفَّتْ إلى أحد جوانب الحوض.

وكان فتيان السعادية الكرام قد حملوا ما لزمنا من أكل خفيف وفاكهة. ولما أتم الزملاء استحمامهم وزع علينا الطعام فأكلنا، وطلب كل منا ما أراد من بوفيه الحمام؛ فشرب هذا الشاي وذاك القهوة وثالث الليمونادة.

وخرجنا من الحمام فجسنا الجبال والأودية ومررنا بمنابع المياه المعدنية الساخنة، وشربنا من سبيلها الذي تولت أمره فتاتان هما خير إعلان عن جمال بنات تركيا ولباسهن، وكانت سخونة المياه داعية إلى إطالة الوقفة للارتشاف والتمتع بالمحاسن الثلاثة.

وقطعنا مسافة طويلة حتى بلغنا أحد مرتفعات المدينة من الجهة الشرقية، ثم عدنا إلى المدينة فشاهدنا صاحب الدولة عصمت باشا سائرًا في الطريق من داره إلى دار صاحب الفخامة الغازي مصطفى كمال باشا.

فقصد إليه مقدمنا الأستاذ علي إلهامي بك وحياه وأخبره أننا وفد المصريين فأبدى ارتياحه، وتصاعد الهتاف بالتركية والعربية والإنكليزية بتحيته.

والظاهر أن هذه الضجة وصلت إلى سمع الغازي فخرج إلى شرفة منزله الأنيق، ولم نر بدًّا من السير إليه وتحيته بالهتاف.

واستأنفنا السير إلى الجهة الغربية في المدينة حتى بلغنا أعلى قمم الجبال، وقد أنشأ فيها الجماعة شبه منظرة مستديرة جهزوها بالمقاعد للاستراحة واستجلاء مباهج المدينة بما فيها من قصور بديعة ومعاهد صحية وفنادق وغيرها.

وعدنا أدراجنا فركبنا الأتوبيسات، فالسفينة؛ عائدين إلى السعادية مارين بجزيرة الأمراء وأخواتها.

وفي اليوم التالي وهو الثامن من أغسطس والرابع من أيام السعادية، خرج بنا المقدم علي إلهامي بك في نزهة خلوية في ناحية جاملجو، فوصلنا إليها بعد سير بالقطار والترام، وقضينا النهار في الجبال متمتعين بالجلوس في قهوة كبرى تشرف من عل على سواحل الشاطئ الشرقي وجزء من بحر مرمرة.

وجمع بعض الإخوان بين هذه النزهة وقضاء ساعات في إستامبول وأبى البعض إلا أن يمضوا النهار كله في المدينة متزودين من مساجدها وسراياها وشراء ما يلزمهم للأكل في السفينة.

فلما عاد الجميع إلى السعادية عقد الرئيس أتول جلسة ألقى فيها تعليماته وأوامره، وخلاصتها أن الاستيقاظ في اليوم الثاني يكون في الساعة الخامسة، ويجهز كل واحد ما يحمله من حقائب وأغطية وسلال ويبقيها على باب مأواه في الساعة السادسة صباحًا حيث يأتي المتعهد لنقلها في «لنش» خاص إلى السفينة «أزمير».

وسأل بعضنا عن الأكل في السفينة، فهدأ الرئيس أتول روعنا وقال: إن السعاديين دبروا كل شيء، فأعدوا ما يكفي لتموين الركب حتى الوصول إلى أزمير، وفي أزمير وفي بيريه يمكنكم أن تبتاعوا أفرادًا وجماعات ما يوصلكم إلى الإسكندرية. فتصاعد الهتاف والدعاء للسعاديين الكرام!

ومد السماط. فلاحظت نظرات غريبة تُوَجَّه إلى الصحافي العجوز، وقال أحد الرفاق: بزياده زَوَغَان بقى؟

قلت: إيه السيرة بس، أنا مش فاهم؟

قالوا: إنك لم تُؤَدِّ واجبك للكامب عامة ولا للمائدة خاصة كما فعل إخوانك كلهم من محامين ومدرسين وموظفين وطلبة.

قلت: وهل نسيتم باب المستثنيات في كتاب «النحو الواضح» ومواد الإعفاء بحكم السن، وتعريفكم إلى ألوف القراء على الهامش؟

وفي خلال ذلك كنا قد تناولنا الحساء اللذيذ والضولمة الشهية وما يتبعها، ولم يَبْقَ إلا البطيخ، فقصدت المطبخ وحملت لهم إحدى عشرة شقة بطيخ على صينية.

ولم أَكَدْ أصل إلى المائدة حتى خطف الرفاق الشقق.

وظننت أني خلصت بهذه العملية الهينة من الفرض السعادي، ولكن السادة الكرام أبوا إلا أن أشارك الرفاق في تنظيف المائدة.

وهكذا كان. وشرع رفيقان مصريان في الغسل والتنظيف بحركة آلية بديعة، وجلست إلى جانبهما باهتًا لأرى ما يكون نصيبي من العمل، فإذا به عملية التجفيف؛ أي تنشيف الكيزان والسلاطين والأطباق والملاعق والشوك، بعد غمسها في الماء الفاتر بفوطة، وتمت المهمة على أحسن حال وسط الأغاني والأناشيد.

فودعتهم بقولي: صحيح آخر خدمة الغز علقة!

(٢١) من إستامبول إلى القاهرة

كانت ليلة الثلاثاء ٩ أغسطس آخر ليالينا الزاهرة في السعادية فكان لا بد من سهرة لطيفة تبادلنا فيها والسعاديين خطب الوداع وبسطوا لنا دفاتر مذكراتهم وكناشاتهم؛ فقيدنا فيها أسماءنا وعنواناتنا كما أعطونا أسماءهم وعنواناتهم للمراسلة وتوثيق عرى الصداقة.

وبكر الفتى بابوف الروسي فأيقظنا في الساعة الخامسة صباحًا ببوقه، ولم تَمْضِ نصف ساعة حتى كان كل منا قد حزم عفشه ورتب حقائبه، وأسرعنا إلى غرفة الطعام على عجل.

أوامر الرئيس أتول: لينقل كل منكم عفشه إلى ساحة السعادية القريبة من البحر على شرط أن تبقوا معكم حقائب اليد تخفيفًا للعبء ومصاريف النقل.

وحضر لنش العفش وأحصى المقاول الحقائب والأسفاط والكراسي وشرع في نقلها.

ووقف جماعتنا «مبلمين»، ولاحظ السعاديون ضيق الوقت فهجموا على العفش المبارك وأسرعوا إلى نقله مع ما أعدوه لنا من طعام.

وسرنا إلى مرسى السعادية ورافقنا فريق من السعاديين وتبعنا البعض في فلايك، وأعادوا التوديع والهتاف.

وركبنا السفينة إلى إستامبول، واجتزنا أرصفة المينا فرأينا عشرات من أعضاء جمعية الشبان في إستامبول وبيريه واقفين في انتظارنا للوداع.

ولم نكد نستقر في الباخرة أزمير حتى لحقنا العفش والطعام، وباغتني رجل تظهر على سيمائه علامات الشباب ولكن شعره الأبيض يدل على «نحو الستين» وحياني باسمي، وأخذ يسألني عن كثير من الزملاء والرصفاء الصحافيين، القدماء والحديثين، والموتى والأحياء، فلم يسعني إلا أن أسأله عن الاسم الشريف فقال إن اسمه حسين فريد صدقي، وإنه زميل قديم كان يراسل صحيفة «لسان العرب» لصاحبيها أمين ونجيب الحداد من القاهرة لخمس وثلاثين سنة، وأنه اشتغل مخبرًا ومراسلًا لصحف كثيرة منها «المؤيد» و«الوطن» و«مصر»، ثم سافر إلى تركيا، ويشتغل الآن بالتجارة، ولكنه لم يقطع صلته بالصحافة وعلاقته بالأدباء؛ ولذلك يأسف لأنه لم يرني إلا في آخر ساعة، إذ كان يمكنه أن يخدمني وإخواني بما يجب عليه لمواطنيه.

ثم أسرع فعرفني إلى وكيل شركة «سير سفاين» صاحبة الباخرتين أزمير وإيجه وحمامات يالوى، فأبلغته شكر إخواني على ما لاقوه من عناية رجال الباخرة إيجه بهم، وتهنئتي الخاصة للشركة بما بلغته أعمالها من نجاح، فقدمني إلى قومندان الباخرة وأوصاه بي وبإخواني المصريين خيرًا.

وكان أهم حادث ساعة سفر السفينة أن ودعنا المستر أتول للبقاء في إستامبول شهرًا للنزهة والراحة، وتولى القيادة خلفًا له الأستاذ المصري حنا فام خريج جامعة يال الأمريكية وسكرتير جمعية الشبان المسيحية في الإسكندرية.

وازدحم الدك بفروعه العليا والوسطى والسفلى بالركاب الأتراك، وعلمنا منهم أن تنقلهم بين أزمير وإستامبول مثل تنقلنا بين القاهرة والإسكندرية إما للأعمال وقضاء الحاجات وإما للنزهة والزيارات العائلية.

وأصبحنا زبائن «الدك»، فاتخذ كل جماعة منا المركز الملائم له، وابتعد «الصحافي العجوز» عن الدكين الأعلى والأوسط.

وعني الرئيس بالنيابة حنا فام بمعاونة الفتى الكشاف علي أبي الوفا بتوزيع الطعام والفاكهة حتى وصلنا إلى أزمير.

وتفرقنا في أزمير، فذهب بعضنا إلى الأطراف والسواحل واكتفى البعض بالتجوال في الشوارع والأسواق والجلوس في القهوات وتناول الطعام في المطاعم الوطنية.

وهكذا كانت الحال عند وصولنا إلى بيريه، فقد ركبنا الترام فالمترو إلى العاصمة اليونانية، وساعدنا الوقت على تبين محاسن المدينة الجديدة، وساحاتها الكبرى وشوارعها المنتظمة وفنادقها الفخمة وقهواتها البديعة ومتاجرها الأنيقة إلى غير ذلك مما لم يتيسر لنا التمتع به في المرة الأولى.

وكان البحر بين بيريه والإسكندرية كما كان بين إستامبول وبيريه على ما يُرَام من هدوء؛ فلم يشعر أحد بتعب أو عناء.

وانقضى اليومان على أحسن حال.

في الليلة الأخيرة عقدنا حفلة كان خطيبها الأستاذ فخري لوقا الزق المحامي المعروف في أسيوط، وانْتُدِبَ لترجمة خطبته فقرة فقرة الأستاذ حنا فام بالإنكليزية، والمسيو موستراكس باليونانية، وأنطون أفندي حموي بالفرنسوية، فأبدع بعبارته في التعبير عما تمتع به الإخوان في رحلتهم وما نالوه من شرف التعارف وعرفوه من عواطف بعضهم السامية، وقال إنه يرجو أن تكون هذه الرحلة سنوية.

فقال أحدهم: بشرط ألا تكون على «الدك».

فأجاب الرئيس حنا فام: ولكننا لا نسافر إلا على «الدك».

– وليه ما يكونش في الثالثة أو الثانية؟

– لأن السفر على الدك سبورت، أما الثالثة فهي «فقر».

والأستاذ فام صعب المراس ليس ممن يسهل مجادلتهم.

وهكذا تمت الرحلة. ووصلنا إلى الإسكندرية في الموعد المعين وهو صبيحة يوم السبت ١٣ أغسطس.

(٢٢) مسك الختام

سيل جارف من أسئلة واستفهامات واستجوابات وتحقيقات.

– هل كانت الرحلة موفقة؟

– ما الفرق بين حال إستامبول اليوم وحالها في عهد السلطنة؟

– كيف حال الأزمة المالية في تركيا؟

– ما رأيكم في إستامبول إجمالًا؟

إلى غير ذلك من أسئلة لم تَزِدْ أجوبتي عنها أكثر من هز الكتفين وقولي: الله أعلم.

أما الرحلة فكانت موفقة، وقد أعطانا الرئيس أتول أكثر مما أخذ، وأبان لنا معنى التضحية العملية وقيادة الجماهير والتوفيق بين أربعين شخصًا متبايني الأعمار والصناعات والأخلاق، وعرفنا كيف يكون تدبير الرحلات واستخدام كل ساعة من ساعات النهار في نزهة خلوية أو تفقد عمارة أثرية.

وأما الفرق بين حال إستامبول أيام السلطان عبد الحميد وحالها اليوم؛ فليس يعلمه ولا يدريه إلا من شاهدوها في ذاك العهد الماضي فرأوا فيها السلطنة ومجدها وركبة الخليفة في صلاة الجمعة ودولة الأجناد والخصيان، ونالهم رشاش من فيض عبد الحميد وأعوانه، أو مسهم ضر من وشايات الجواسيس والعيوان والرقباء.

فالباقون من كُتَّاب هذه الحقبة من أمثال الأستاذ أحمد فؤاد صاحب الصاعقة والأستاذ خليل المويلحي هم القادرون دون غيرهم على التعريف بالحالين والتمييز بين العهدين إذا وفقهم الله لزيارة دار السعادة القديمة بعد الانقلاب الدستوري وزوال دولة السفطاء أرباب الطيلسانات والعمم البيضاء والخضراء.

وأنا أبعد الناس عن فهم المسألة المالية، وكل ما عرفته عن شئون تركيا الاقتصادية أنه على أثر وصولي إلى إستامبول زرت رئيس تحرير جريدة «جمهوريت» الفرنسوية، فدار بيننا الحديث الآتي:

قال: كيف حالكم المالية؟

قلت: زي الزفت؛ لأن القطن وهو عماد الثروة منيل على عينه.

قال: ونحن كذلك فإن الغلال وهي عماد حياتنا أتت بأقل من مصاريف زراعتها وجنيها.

وقد تجلى لنا سوء الحالة الاقتصادية من نظرات خاطفة على الأسواق؛ فإن الحركة فيها تكاد تكون أقرب إلى الموت منها إلى الحياة.

وإذا كانت «السيارة» ميزان الثروة فاعلم أن السيارات في إستامبول لا تعدو — على ما لاحظت — جزءًا من مائة من عددها في القاهرة، وقل أن تلمح فيها السيارات اللوكس والجران لوكس مما يتراوح ثمنه بين ألف جنيه وخمسمائة جنيه.

ولم يكن في وقتنا متسع لتعرف ما أريد الوقوف عليه من شئون أدبية واجتماعية، وإصلاحات حديثة، والاختلاط بطبقات الشعب وجماعات الذهنيين والمشتغلين بالطباعة والوراقة والتمثيل والتربية والتعليم، ودراسة دخائل العائلة التركية، ونهضة المرأة. إلى غير ذلك من شئون يجب بحثها لتكوين فكرة عامة أو خاصة عن البلاد وأهلها.

وكل ما تركته الزيارة في نفسي أن إستامبول بلد الجوامع والمساجد، والقسم الوطني منها ليس فيه شيء من مباهج القاهرة ولا أحيائها الوطنية العامرة، بل يكاد كله يماثل أحياء مصر القديمة وفم الخليج، أما القسم الإفرنجي — حي بيريه وغلطة — فأشبه بمدينة القاهرة لثلاثين سنة خلت.

وشوارع إستامبول — في الحيين الوطني والإفرنجي — ضيقة، والعمارات الكبيرة المتعددة الطبقات نادرة وأقل منها ذات المصاعد والجهازات الصحية.

ولو أننا أطلنا الإقامة ودرسنا الحالة مدققين، فربما كان لنا غير هذا الرأي.

ولكن هذه الملاحظات السطحية لا تمنعنا من المجاهرة بتقصير الأتراك في الإعلان عن بلادهم، وتسهيل السياحة فيها، وإعداد الفنادق بدرجاتها والبانسيونات لمن يريدون قضاء فصل الصيف على ضفاف البوسفور وشواطئ بحر مرمرة وجزائر الأمراء، والتمتع بالفرجة على المساجد والمتاحف المليئة بالذخائر الثمينة ومخلفات السلاطين.

وأدرك شهر زاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وبزيادة بقى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤